أزمة الحداثة السياسيّة من منظور ليو شتراوس: في موجات الحداثة الثلاث

29 أيار 2018
 
"إنّ أزمة الحداثة، إذن، هي في المقام الأول،أزمة الفلسفة السياسيّة الحديثة".
-ليو شتراوس، الموجات الثلاث للحداثة.
تكتنف الكتابة عن ليو شتراوس (1889-1973م) إشكالات عديدة، لا تبدأ من الإشكالات الفكريّة والسجالات حوله، ولا تنتهي بكون خطاب وأفكار ليو شتراوس تعدّ أحد أهمّ المراجع المؤسّسة لأفكار تيار المحافظين الجدد (Neoconservatism). ولا غرابةَ أن تكون أفكاره كذلك، فهو اليهودي الهارب من ألمانيا النازيّة إلى أمريكا، وهو كذلك ناقد الليبرالية بشكل جذري، منذ بداية تأسّسها غربياً، وفي تجلّياتها المعاصرة.
 
ونحن هنا، سوف نضطلع بقراءة نصٍّ هامّ لليو شتراوس، قد عنونه شتراوس بـ"موجات الحداثة الثلاث[1]" (The three waves of modernity)، قد نُشر في كتابٍ للمؤلّف تحت عنوان: (An Introduction to Political Philosophy: Ten Essays)، وهو بمثابة نصّ هامّ وجذريّ؛ نظراً لأنّه يُعيد فحص علاقة المُحدَثين بالعالَم، بعد الأزمة التي مرّت -وما زالت تمرّ إلى يومنا هذا في أشكالٍ جديدة- بها الحداثة، وقد تجلّت الأزمة خير تجلٍّ في الحروب العالمية؛ مما أبرزَ أصوات متشائمة تجاه، ليس فقط الحداثة، إنما تجاه "الغرب" نفسه، ككتاب اشبنغلر: "أفول الغرب[2]" (the decline of the west)، وهي أزمة أصبح وجودها "[…] جليًّا، حتى لذوي الأفهام الضعيفة[3]"، كما يقول شتروس.
 
انشغلَ ليو شتراوس بالفلسفة السياسية ما قبل الحديثة، من اليونان مروراً بالفرابي وابن ميمون حتى العصر الحديث، وفي حفرِه للفلسفة السياسيّة القديمة تدبّرَ المُشكل السياسي ما قبل الحديث المتعلّق بمفهوم الفضيلة وما ينبغي أن يكون (the ought) عليه الوجود الإنساني في شكلِه السياسي. ولذلك، لا يفتأ يردّد أن الأزمة المعضِلة للحداثة هي أزمة الفلسفة السياسيّة؛ لكن "الفلسفة السياسية (political philosophy) ليست -في نظرِهِ- مبحثاً أكاديميًّا، لأنّ معظم فلاسفة السياسة العظام لم يكونوا أكاديميين[4]".
 
فالفلسفة السياسيّة هي التي تُعطي المعيار لأحكام القيمة، تقليديًّا، بيد أنّها قد اقتصرت، حداثيًّا، على الأحكام الواقعيّة؛ مما حعلها تفقد حسّها المعياري. ولهذا، فإنّ الأزمة الحديثة في عمقها، " تكمن في واقع كون الإنسان الغربي الحدث لم يعد فهم ما يريد، ولم يعد يعتقدُ أنّ بإمكانهِ أن يعرفَ ما هو خيرٌ وما هو شرّ، وما هو صحيح وما هو خطأ[5]". أي إنّ أحكام القيمة لم تعد في مستطاع الإنسان الغربي، وأصبح الحكم الواقعي فقط ما يستطيعُه، وهذا، من منظور شتراوس، هو في جوهره أزمة الفلسفة السياسيّة الحديثة، وليس مجرّد مشكل تقني صغير.
 
إنّ العقلنة الحداثيّة لم تكن تقتصر فقط على الأبعاد غير السياسيّة من الاجتماع الإنساني، بل إنّها كانت تشمل العمليّة السياسيّة بالأساس. فحسب ليو شتراوس، إن منشأ الحداثة ومأزقها وانتهائها سياسيّ بالأساس وليس معرفيًّا حصراً. إن العالم ما قبل الحديث كان يواجه إشكالاً في الغرب يتعلّق بالمأزق اللاهوتي السياسي وكيفية إدراة المجتمع وتحقيق سياسات أكثر لصوقاً بتحقيق الرفاه والتقدّم. إن الحداثة السياسيّة هي التحقيق المتأخّر لأمنيّة أفلاطون الأوّل حول تحقيق مملكة الربّ في الأرض.

إذن، المشكل السياسي الحديث يتعلّق بالأساس ويتمحور حول كيفيّة تحقيق هذه المملكة. ويبدو أن السياسة ما قبل الحديثة مع الكنيسة لم تكن سياسة بقدر ما كانت لاهوتاً قد استنفذ ليحلّ في شخص البابا الذي يجعل من القرار السياسي قراراً لاهوتيًّا.
 
وفي قراءتِه للحداثة، يقسّم شتراوس الموجات الثلاث للحداثة إلى: 1- الموجة الأولى: ميكافيلّي (الذي أسمّيه: الأب المتخفّي)، وهوبز (الذي أسمّيه: الوريث البطل)؛ 2- الموجة الثانية: روسّو، وكانط؛ 3- الموجة الثالثة: نيتشه، كمدشّن لما بعده.
 
 
الموجة الأولى للحداثة: القطيعة مع الفلسفة السياسيّة القديمة
 
كانت للفلسفةِ السياسيّة القديمة وحدتها الخاصة والمتماسكة، وكانت تلك الوحدة تتأسّس على مفهوم "الفضيلة" التي يُفترض أنّ الجمهوريّات وجدت لتحقيقهِ، وأنّ المدينة إنّما تسعى بشكل أخلاقي للاكتمال الطبيعي للبشر. ويرصد شتراوس الاتصال القديم بين اللاهوت والفلسفة، أو، بتعبير رائع له، "العلاقة بين أثينا والقدس". فإذا كان الإنسان في التوراةِ قد خُلق على صورةِ الله، فإنّ التصوّر الفلسفي اليوناني القديم للسياسة أنّها تحقيقٌ للفضيلة، كي تنسجم "طبيعة الإنسان" مع "الطبيعة الإلهيّة" الخارجيّة.
 
وحسب ليو شتراوس، فإنّ أوّل من أنجز القطيعة مع التصور اللاهوتي والسياسي القديم هو ميكافيلّي، حيث إنّ ميكافيلّي قد انتقلَ بالسؤال السياسي من أفق الـ "ينبغي أن يكون" إلى أفق "الكائن" أو "الممكن". ولكن يجدر بنا التنبيه إلى القراءات الفجّة لمكيافيلّي التي تراه مدشّن "البراجماتية"، وهي قراءة سطحيّة ومخلّة في كثيرٍ من الأحيان. فمكيافيلّي يعتبرُ أن الفلسفة السياسيّة القديمة كانت تنظر إلى الأعلى، في حين أنّ على المرء أن ينظر إلى الأسفل.
 
إنّ الأمير -وهو عنوان كتاب ميكافيلّي الأساسي- عليه أن يدبّر شأنه السياسي في أفق "الحقيقة الواقعيّة" وليس في ضوء "الحقيقة التي ينبغي أن تكون"، لأنّ الأقدمين كانوا يفكّرون في النمط المثالي لحُكم النّاس، في حين أنّ الأمير - الحديث يفكّر في "كيف يحيا الناس" عوضَ "كيف ينبغي لهم أن يحيوا[6]".
 
فميكافيلّي يرفض التأسيس الأخلاقي للسياسة كما في المدينة القديمة، حيث تقوم السياسة على مبدأ الفضيلة، إنّما يؤسّس السياسة على الممكن الواقعي. وهو تصور تقني للسياسة، يتعاطى مع الإشكال السياسي بصفة راهنية وواقعية.
 
فالجمهوريّات التي تكلّم عنها الفلاسفة الأقدمون، بصفة خاصّة: أفلاطون وأرسطو، هي "جمهوريات متخيّلة[7]" (imagined commonwealths)، تتماشى مع التصوّر الأنطولوجي لهؤلاء الفلاسفة عن الطبيعة، وهو تصوّر سوف يحوّره ميكافيلّي، وستعمل الحداثة من بعد على تمديده، بواسطة العلم الطبيعي، الذي سيكون مآله -أي العلم الطبيعي- السيطرة على العالَم، أو، بعبارة طريفة لماكس فيبر، "نزع السحر عن العالم" (Disenchantment).
 
ومن الطريف في قراءة شتراوس لميكافيلّي، هو ربط الروح الميكافيلّية بما بعدها. فبرأينا، أنّ شتراوس قد انطلقَ من ما بعد ميكافيلّي ليقرأ ميكافيلّي في ضوء تغييريْن حدثا هما اللذان حقّقا الثورة الميكافيلّية: أ) ثورة العلوم الطبيعيّة؛ ب) الفلسفة السياسيّة مع هوبز.
 
ثورة العلوم الطبيعية
 
إنّ ميزة العلم الطبيعي الحديث، ليس فقط فهمه الجيّد للطبيعة؛ وإنّما، أيضاً، فهمه الجيّد للعلم. فالعلم الطبيعي قد تغيّر عن العلم القديم حيث وضع العالَم موضع سؤال، واعتبر أن الطبيعة فوضى، والإنسان هو الذي يستطيع أن ينظّمها.
 
فكما أن السياسية تتأسّس على القيم الواقعية، فكذلك العلم يتأسّس على مبدأ أنه لا أخلاق في العلم؛ حيث كان ذلك هو المبدأ الذي قامت عليه النزعة التسيّدية[8] في العلم الطبيعي الغربي، مبدأ يقوم على أساس أنّه لا أخلاق في العلم، فالعلم [يكتشف] ما يشاء ولا رقيب أخلاقي عليه. إنّ الطبيعة "مستباحة" مُهدرة لا قيمة لها بذاتها، بل تبرز قيمتها بقدر ما يضفي عليها الإنسان القيمة. الطبيعة ليست آية في التصور الحداثي، بل هي مِلك للإنسان.
 
الفلسفة السياسية مع هوبز
 
وإذا كان ميكافيلّي هو الأب المتخفّي للفلسفة السياسية، حيث إنه قد "ادّعى أساساً […] بأنّ الفلسفة السياسيّة الحقّة تبتدئ معه[9]"؛ فإنّ الثورة الميكافيلّية في السياسية لن تجد تحقّقها الكامل إلّا مع هوبز، الوريث البطل، وإن بصورةٍ أكثر حدّة وصرامة مع هذا الأخير. فهوبز، قد انطلق من تصور يبني مؤسّسات الدولة لضبط تصرّفات الأفراد ليس على الفضيلة الأخلاقية القديمة، حيث يغدو القانون الطبيعي مستقلاً عن جميع الواحبات، انطلاقاً من قراءة هوبز للحق الطبيعي "بصيغة الحفاظ على الذات[10]"، كما يعبر شتراوس؛ أي إنّ هوبز قد استعاض الإنسان بالطبيعة والقانون بالحقوق.

وهو ذات التصوّر الليبرالي الذي سيكمله جون لوك فيما بعد، ليؤسس "لحقوق الإنسان"، وتكتمل هذه الحقوق كمدونة ليبراليّة حديثة وجدت في كلّ السابقين المؤسّسين روافدها.
 
وبخصوص هوبز، فينبغي أن نؤكّد أنّه هو أصل الليبراليّة الحديثة وليس لوك؛ بمعنى أنّ لوك ليس سوى مكمّل "للروح" الهوبزية التي اعتمدت على التأسيس الواقعي للسياسة مع ميكافيلّي، ويكون هوبز هو مكمل الحلم الميكافيلّي في القطيعة مع الفلسفة القديمة والوسيطة.

واعتماداً على دراسات المفكّر التونسي الهامّ صالح مصباح، والتي اجتمعت في كتابٍ مهمّ تحت عنوان: "فلسفة الحداثة الليبراليّة الكلاسيكيّة من هوبز إلى كانط[11]"، "فإذا كان الفكر الليبرالي يقوم على مركزيّة الفرد بصفته مبدأ الدولة وأصل المجتمع ومرجع الحقّ، فإنّ هذا المرجع قد تجلّى بوضوح مع طوماس هوبز الذي قدّم أوّل نظريّة حديثة في الفردانيّة […]، ولن يقوم جون لوك وكلّ لاحقي هوبز من الحداثيين وصولاً إلى هيغل بغير التركيز على أولويّة الفرد[12]".
 
وأولوية الفرد هي جوهر الفلسفة الليبرالية الحديثة التي افتتحها ميكافيلي[13] وأرساها وجعلها تقليداً هوبز، وأكمل ذلك لوك؛ لأنّ الفكر القديم والفكر الوسيط هو "فكرٌ هلاميٌّ" بالنسبة إلى أولوية الفرد، ومن هنا فالقطيعة السياسية الحديثة مع الفلسفة السياسية القديمة كانت على مستوى أنّ الفكر القديم لا يجعل الفرد أساس المجتمع، والفلسفة الليبرالية الحديثة تفعل ذلك.

الموجة الثانية: تغيير المناخ الأخلاقيّ للغرب؟
 
يقول ليو شتراوس: "ما كان يشغل بالَ روسو هو حاجة كلّ فرد إلى مجتمع جمهوري (Republican Society)؛ من أجل أن يصوغ رغباته وطموحاته تجاه أندادهِ في شكل قوانين".
 
تتنزّل الفلسفة السياسيّة في تفكير ليو شتراوس منزلة معياريّة، ومعياريّتها تتأتّى من كونها تمثّل القول العملي لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وذلك عندما يدبّر شأنه السياسي. وبالأخصّ، فإنّ شتراوس يجعل مفهوم الفضيلة (Virtue) هو مدار الفلسفة السياسيّة التقليديّة، وما سواها ليس بفلسفة سياسيّة معياريّة، ما دامت لا تجعل الفضيلة الغاية الطبيعية للإنسان، وباعتبارها كمال طبيعته الإنسانيّة. وإذا كانت الميتافيزيقا هي الفلسفة الأولى قديماً، فهل يجوز لنا أن نتساءل:

هل الفلسفة السياسيّة هي الفلسفة الأولى بالنسبةِ إلى المُحدَثين، وذلك كما يطرح علينا شتراوس بوصف الحداثة هي فلسفة سياسيّة جديدة، بل وأزمتها -أي الحداثة- هي أزمة الفلسفة السياسيّة[14]؟
 
إنّ تشخيص شتراوس للأزمة السياسية للحداثة تكمن في أزمتين: الأولى، اختزال المشكل السياسي والأخلاقيّ في المشكل التقني، كمشكل تدبيري؛ الثانية، اصطناعية مفهوم الطبيعة لدى المُحدثين، مما حوّل الطبيعة لأداة للسيطرة، ومعبّأة بالفوضى، بدلاً من كونها نظاماً، وذلك كان عن طريق كسر هيمنتها على الإنسان بالعلوم الطبيعة التي اخترعها الإنسان نفسه[15].
 
يعترف ليو شتراوس بأنّ روسو قد تنبّه إلى هذين المأزقين عند مَن قبله (مكيافيلّي وهوبز)، ومن ثمّ قد شخّص المأزقين في ضوء غياب مفهوم الفضيلة؛ "بيد أنّه لم يعمل على إعادة الاعتبار للمفهوم الكلاسيكي للفضيلة باعتباره الغاية الطبيعية للإنسان [...]، لقد أُرغمَ على إعادة تأويل الفضيلة لأنّه تبنّى المفهوم الحديث للحالة الطبيعية [16][…]". ومفهوم الحالة الطبيعية للإنسان، وهو المفهوم الذي اشتغلَ عليه روسو، يوضّح حالة الإنسان العارية دون المكتسبات التي اكتسبها في مسار تطوّره. فالإنسان في حالة الطبيعة، لدى روسو[17]، لا يفتقر فقط إلى الاجتماعية (Sociality)، بل يفتقر أيضاً إلى العقلانيّة.
 
فروسو لم يكن يعتقد أنّ الإنسان حيوان عاقل، بل هو حيوان حرّ فاعل، وهذا يمثّل انقلابه على سابقيه، وتأسيسه لمفهوم جديد لحالة الطبيعة يكون فيها الإنسان "حرًّا"، لأنّ ما يلحق بالإنسان من تطوّر اجتماعي، ومن عقلانية يكتسبها؛ إنّما مدار ذلك كلّه بالسيرورة. فالإنسان، من ثمّ لا يستطيع أن يؤسّس مجتمعاً مدنياً إلّا إذا كان حرًّا حريّة أصليّة كالذي كانها في حالتها الطبيعية، وحريته هي التي ستحد من جموح طبيعته نحو الفوضى والخطر. وأي تأسيس للمجتمع على غير الحرية سوف يؤدي إلى: 1- عدم التزام المواطنين بالقانون؛ 2- تعريض الإرادة العامّة للخطر.
 
إنّ مصدر القانون الوضعي الذي يضعه الإنسان الحر، عند روسو، ليس سوى الإرادة العامة (general will)، والتي لا يمكنها أن تضلّ؛ "وتبعاً لهذا الرأي، فالمجتمع العادل (Just Society)، أو المجتمع العقلاني المتميز بوجود إرادة حرة […]، يتحقق بالضرورة في سياق السيرورة التاريخية بدون أن يهدف الإنسان إلى تحقيق ذلك[18]". لكنّ السؤال الذي طرحه شتراوس على روسو هو:

لماذا لا يمكن أن تضلّ الإرادة العامة؟ وببساطة شديدة، لأنّها عقلانيّة؛ وعقلانيّة لأنها عامّة. ولذلك، فإنّ رغبات المواطن لا يمكن تحقّقها بمجرّد كونها رغبة عاطفيّة، بل لا بدّ أن ترتقي إلى أن تكون قانوناً يحكمُ؛ أي إلّا إذا كانت عقلانيّة، ومن ثمّ يمكن تعميمها على الجميع. فـ"ما كان يشغل بالَ روسو، هو حاجة كلّ فرد إلى مجتمع جمهوري (Republican Society)؛ من أجل أن يصوغ رغباته وطموحاته تجاه أندادهِ في شكل قوانين[19]".
 
 
ومن هنا نلمح النقد الضمني من ليو شتراوس إلى روسو، بكون الأخير يجعل المرجعيّة الأخيرة للإرادة العامة إلى نفسها، وليس إلى شيءٍ خارجها؛ أي إنّها تتأسّس على معياريّتها كخير مشترك، وعلى طابعها العقلاني العمومي. فلم تُؤسّس هذه الإرادة العامة على على القوانين الخلقية كقوانين طبيعية؛ "لقد تحرّر الإنسان كليّة من حجر الطبيعة […]، وما يُزعم أنّه طبيعة بشريّة إنْ هو إلّا نتيجة للتطوّر الإنساني حتى الوقت الحاضر[20]".
 
هذا الإرث الروسوي هو الذي ألهم الفلاسفة الألمان من بعده، المثاليين، خاصّة كانط، وهو ما سيكون مدار اشتغال هذا المقال. فقد مهّد روسو لكانط بأفكاره حول الحريّة والعقلانية والعموميّة الأساس النظري الذي سيضطلع به فيلسوف برلين، أعني كانط، في تأسيسه للأخلاق، ولرؤيته السياسيّة بشكلٍ أوسع. يكفي أن نذكرَ أنّ الإحالات الكانطيّة على فكر روسو تتبدّى منذ 1763م، منذ مقال كانط: في الإحساس بالجميل والجليل، ولا تنتهي هذه الإحالات بكتابِه عن التربية 1803م[21].
 
اعتبرَ كانط أن الأخلاق تُؤسّس على نحو عقلي إنساني وليس على أساس دين بعينه أو متعال ما، فالتخلّق هو طبيعة في الإنسان لا يكتسبها من الدين، ونحن نتديّن لأنّنا أخلاقيّون ولا نتدين لكي نكون أخلاقيين. إن الأخلاق هي مسكب الإنسان الذي يستطيع أن يشرّع من خلالها لنفسه، وهذه الأخلاق لا تتأسّس إلّا على الحُريّة، والحريّة وحدها كقيمة متعالية.
 
فكانط وقد أثبتَ أخلاقيّة الإنسان، فقد منح لهذه الأخلاق بُعداً كونيًّا من خلال فكرة الواجب. إن قانون الخُلق لا يكون كذلك إلّا إذا كان قانوناً عامًّا للإنسانيّة، فحسب كانط "افعل الفعل وكأنّك تعامل الإنسانيّة في شخصك، وفي شخص كلّ إنسانٍ سواك، باعتبارها دائماً وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها[22]". وبهذا، فقد أعطاها بُعداً كونيًّا، بحيث لا يكون الخلق الإنساني كذلك إلّا إذا أمكن تعميمه، وهنا نلمح أثر روسو.
 
ولا يمكن تجاهل أثر روسو على تشكّل هذه الآراء الكانطية في مسألة الأخلاق، أو في نزعته نحو جمهورية عالمية، ذات سلام دائم، كما بيّن ذلك في نصّ "مشروع للسلام الدائم[23]"؛ إلّا أن "علاقته بمواطن جنيف قد كانت دائماً على شكلٍ نقدي[24]".
 
وبمستطاع المرء أن يُقحم جانباً آخر قد تبصّر له مؤرّخ الأفكار الكبير إزايا برلين في كتابه: "جذور الرومانتيكية[25]" (The roots of romanticism)، وهو: هل يمكن أن نعدّ روسّو رافداً من روافد الحركة الرومانتيكية؟ "فمن الحمق إنكار أن تعاليم روسو وكلماته كانت من بين العوامل التي أثرت في الحركة الرومانتيكية. إلا أن دوره، […]،كان مبالغاً فيه. فإذا قارنا ما قاله روسو فعلياً بمقابل الطريقة التي قالها فيها -والطريقة والحياة هي التي تهم-، سنجد أن ما قاله يمثل عصارة الفكرة العقلانية[26]".

فرغم المنزع الرومانتيكي لدى روسو، إلّا أنّه بالنهاية هو يدعو إلى إزالة كلّ الأوهام التي تغشى العقل، وكل الحجب، حتى يعود إلى النقاوة الأولى للحقيقة، التي ستكون صالحة لكلّ البشر.
 
إلّا أن إزايا برلين قد عدّ، بقراءة طريفة وغريبة، كانط أحد الرومانتيكيين المتحفّظين (The Restrained Romantics)؛ فعلى الرُّغم من أنّ كانط قد رفض الرومانتيكيّة باعتبارها إفراطاً في الحماسة، والأوهام؛ فكانط -كما هو معلوم- فيلسوف عقلي، بل إنّه هو من خلّص العقل من كلّ تاريخ الميتافيزيقا الذي يحيط به. بيد أنّ نظريته في الإخلاق وافتنانه بفكرة الحرية الإنسانيّة، إضافةً إلى تربيته التقوية. وبالنهاية، فإنّ عده ضمن الرومانتيكيين لهو أمرٌ ينطوي على مفارقة، كما يقول إزايا برلين، ولذلك عدّه رومانتيكيًّا متحفّظاً[27].
 
الموجة الثالثة: فهم جديد للشعور بالوجود
 
"بالنسبة إلى نيتشه، هناك شيءٌ واحدٌ لا شكّ فيه يتعلّق بالمستقبل: لقد انتهى الإنسان كما عُرف حتى اليوم، وما سوف يأتي إما الإنسان الأعلى أو الإنسان الأخير"، يقول شتراوس.
 
هذه الموجة يغلبُ عليها القلق والاضطراب وعدم الاطمئنان مع الوجود، على عكس الموجتين الأولى والثانية المتصالحة مع الوجود. وهي موجة، من منظور شتراوس، متشائمة، وتقوم على شعور مأساوي للوجود، وتجربة رعب ومعاناة.
 
لأنّ ليو شتراوس قد جعل هذه الموجة الثالثة والأخيرة تنتسب إلى نيتشه، فإنّه قد أحاط الموضوع بصعوبة جمّة؛ نظراً لأنّ الحديث عن نيتشه والفكر السياسي يؤدّي إلى مزالق غير سليمة غالباً. وبالطبع، فإنّ نيتشه صاحبُ نصٍّ قلِق، ونصّ يؤدّي إلى كثيرٍ من التأويلات، لا سيّما أنّ نيتشه هو أوّل من أنهى الفلسفة النسقيّة لأجل فلسفة جديدة وشذريّة ويوميّة؛ فلسفة نقديّة -بكلّ المعنى الصحّي والجيّد لـ"نقديّة"- تتفلسف بالمطرقة.
 
إذا كان روسو قد انتقد سابقيه خاصة هوبز، فإنّ نيتشه قد فعل ذلك. لكن وللمفارقة، وبعبارة مهمّة جداً لليو شتراس؛ فإن "نقد نيتشه لكل من سبقه من الفلاسفة ما هو إلا صياغة أخرى لنقد روسو لكل من سبقه كذلك. لكن ما يكتسي أهمّية بالنسبة إلى روسو، يبدو غريباً جدًّا عند نيتشه". فروسو قد انتقد سابقيه على أنّهم لم يعودوا للحالة الأصليّة للإنسان حيث يكون فيها حرًّا؛ في حين أنّ نيتشه يرى أن طبيعة الإنسان سلطوية وقهرية على الآخرين وعلى نفسه: فبينما يعود روسو يكتشف حريّة الإنسان، يغوص نيتشه بحفرٍ جينالوجي للأخلاق ليكشف عن سلطوية الإنسان. ما الحلّ إذن؟ أو في انتظار الإنسان الأعلى.
 
ينتقدُ نيتشه على سابقيه بأنّ الحسّ التاريخي يغيب عنهم، ويعلّق شتراوس بأنّ "اكتشاف التاريخ" هي فكرة حصلت وأُنجزت بين فترة روسو حتى نيتشه[28]. واكتشاف التاريخ أي الوعي به ضمن علوم العقل، كما عملَ على ذلك هيغل الذي رأى أن تطور التاريخ عقلاني ومعقول، وهو تقدم بلغ ذروته مع الدولة الحديثة.
 
وبالنسبة إلى نيشته، كل ما حصل في تاريخ الفلسفة هو تهجين للإنسان، وتشويه له، ومن ثمّ سيعمل على إعادة اختراع الإنسان مرّة ثانية في أفق جمالي وقيمي جديد؛ لأنّه لم يبقَ سوى إنسان المستقبل وهو إما أن يكون الإنسان الأخير أو الإنسان الأعلى (super man). ولكن نيتشه لا يريد الإنسان الأخير، لأنّه هو إنسان القطيع، إنسان يعتني بتغذيته وهو إنسان مطبب جسدياً ونفسياً من قبل أطباء بشريين ونفسيين. أما الإنسان الأعلى، فهو إنسان قوي، ذو أخلاق غير عبودية.
 
 
وبخصوص الإنسان والمستقبل، تفحّص ليو شتراوس العلاقة بين نيتشه وماركس من زاوية طريفة. فكلا الفيلسوفين الألمانيين يربطان فلسفتهما بالإنسان وبالمستقبل. إلّا أنّ إنسان ماركس هو الإنسان الأخير بالنسبة إلى ماركس وليس الإنسان الأعلى من وجهة نظر نيتشوية، لا ماركسيّة: وهذا اختلاف جذري في فلسفتهما. فمجيء المجتمع اللاطبقي يعتبر بالنسبة إلى ماركس ضرورة، في حين أن مجيء الإنسان الأعلى بالنسبة إلى نيتشه يتوقّف على الاختيار الحر للإنسان.
 
لقد استخدم، وأوّل، الكثير فكر نيتشه نحو توجّهات سياسيّة معيّنة، وهناك من يربط فلسفته حول الإنسان الأعلى بالفاشيّة والنازيّة التي وقعت في ألمانيا، وللأسف، فإنّ أخت نيتشه مثلاً كانت قد سرت في هذا المسار، وأهدت عصا نيتشه لهتلر، وهو أمرٌ أصاب كثيراً من الباحثين بالعمى عن نصوص نيتشه وما يعنيه. لأنّ "ما يقول به نيتشه تجاه العمل السياسي أكثر عموميّة وغموضاً […]، وبمعنى آخر فكلّ استخدام سياسي لنيتشه يعدّ تحريفاً لتعاليمه. ومع ذلك فقد قرأه رجال السياسة واستلهموا ما قاله. وهذا يعني، إذن، أنّ مسؤوليّة نيتشه عن الفاشيّة كمسؤوليّة روسو عن اليعقوبيّة[29]".
 
ختاماً، يجدُ المرء في قراءة ليو شتراوس لهذه الموجات الثلاث للحداثة طرافة شديدة، وذلك لأنّه فهم علاقة المُحدثين بالعالَم، وربط هذا بما حصل سياسياً على مدار القرون الأخيرة: فنظرية الليبرالية الديمقراطية ناتجة عن الموجة الأولى والثانية، في حين أنّ التجسيد السياسي للموجة الثالثة تبين أنه الفاشية. إلّا أنّ القارئ لنصّ شتراوس يلحظ اختزالاً -ربّما لاعتبار الدراسة نفسها- للموجة الثالثة، التي وصفها بعبارات مُهمهة غالباً، كما إنّ موقفه من نيتشه لم يستبن في هذه الورقة بشكلٍ واضح، فهو ينفي عنه المسؤوليّة السياسيّة لأفكاره، ويرجع ليجعل الفاشية هي التجسُّد السياسي للموجة الثالثة. وهذا التوتّر مشروع؛ نظراً للنص المتوتّر لهذه الموجة عموماً.
 
الهوامش:
 
[1] - وقد ترجم نصّ هذا المقال الموسّع لشتراوس مشروحي الذهبي في مجلّة "فكر ونقد"، التي كان يُشرف عليها الجابري، وسوف أعتمد على هذه الترجمة الجميلة، مستعيناً بالنصّ الإنكليزي الذي ذكرتُ مصدرَه بالأعلى.
[2] - صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية، تحت عنوان: "تدهور الحضارة الغربيّة"، ترجمه أحمد الشيباني، دار الحياة، لبنان.
[3] - موجات الحداثة الثلاث، الترجمة العربية.
[4] - نفسه، الترجمة العربية.
[5] - نفسه.
[6] - الترجمة العربية، نفسه.
[7] - المصدر الإنجليزي، الكتاب المذكور بالمتن أعلاه، ص 85.
[8] - من المهمّ أن نقرأ أطروحة المغربي طه عبد الرحمن في كتابه: "روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سَعة الائمتانية" حول الطبيعة في التصور الحداثي وعلاقتها بالهيمنة والسلطة الحديثة، المركز الثقافي العربي، 2012.
[9] - الترجمة العربيّة، نفسه.
[10] - الترجمة العربية، نفسه.
[11] - صالح مصباح، "فلسفة الحداثة الليبرالية..."، دار جداول، بيروت، 2011، الطبعة الأولى.
[12] - مصباح، المرجع نفسه، ص 218.
[13] - القول بليبراليّة ميكافيلّي لا يخلو من مجازفة، باعتبار ما ترسّب حوله من تأويل مغاير، إلّا أننا هاهنا نعتمد على قراءة المغربي الطيّب بوعزّة، وذلك في كتابه: "نقد الليبراليّة"، ص 50.
[14] - في هذا الصدد، استوحيت هذا السؤال مما كتبه صالح مصباح في كتابه المهمّ: مباحث في التنوير موجوداً ومنشوداً "تجرّأ على استعمال عقلك"، وخاصّة في الفصل الثالث المعنون: من نقض التنوير الراديكالي إلى مضادّة الحداثة؛ ليو شتراوس في مواجهة باروخ اسبينوزا، صص 124-163، دار جداول، 2011.
[15] - موجات الحداثة الثلاث، ترجمة مشروحي الذهبي، مجلة فكر ونقد، مع الاستعانة بالنصّ الإنجليزي في كتاب ليو شتراوس: An Introduction to Political Philosophy: Ten Essays.
[16]- الموجات الثلاث للحداثة، نفسه.
[17] - للتوسّع في هذا المضمار، وللفلسفة السياسيّة عند جان جاك روسو عموماً يمكن الاطلاع على: مؤلّفات روسو وخاصة منها "العقد الاجتماعي"، وهناك ترجمة عربية للنصّ عن المنظمة العربيّة للترجمة؛ ثمّة فصل في كتاب "تاريخ الفلسفة السياسية" الذي أشرف عليه ليو شتراوس نفسه وجوزيف كروبسي، وكاتب هذا الفصل هو آلان بلووم، وللكتاب ترجمة عربيّة من جزأين عن المركز القومي للترجمة، وهو متوفّر بالإنجليزية؛ وأيضاً هناك فصل في كتاب جورج سباين المعنون: "تطور الفكر السياسي"، في الجزء الرابع، واسم الفصل: "إعادة كشف المجتمع"، الترجمة العربية، الهيئة العامة للكتاب.
[18] - الموجات الثلاث للحداثة، نفسه.
[19] - نفسه.
[20] - نفسه.
[21] - ثمّة فصل مهم في كتاب صالح مصباح: فلسفة الحداثة الليبرالية الكلاسيكية من هوبز إلى كانط، عن كانط وفلسفته السياسيّة، من المهمّ الرجوع إليه، وهو معنون بـ: عمانويل كانط: مولد الليبرالية الجمهورية، جداول، 2011.
[22] - را: تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكّاوي، دار الجمل.
[23] - الترجمة العربية للمرحوم المصري عثمان أمين.
[24] - مصباح، فلسفة الحداثة الليبرالية، ص 187.
[25] - دار جداول، ترجمة سعود السويدا، فصل: "الآباء الحقيقيون للرومانتيكية".
[26] - برلين، جذور الرومانتيكية، مرجع سابق.
[27] - المرجع نفسه، فصل: "رومانتيكيون متحفظون".
[28] - الموجات الثلاث للحداثة، نفسه.
[29] - نفسه.
كريم محمد

باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.