حاشية على مسألة مجتمعات التحكم

19 أيار 2018
 
ترجمة: طارق عثمان
مراجعة: د. مصطفى الحداد
 
هذه ترجمة لـ:
Deleuze, Gilles (1992). Postscript on societies of control. October, vol. 59, 3-7.
ولقد نُشر النص لأول مرة بالفرنسية في مجلةl’autre  عدد 1، مايو 1990.
  1. التاريخ
لقد عين فوكو الموقع التاريخي للمجتمعات الانضباطية[1]على أنها المجتمعات التي كانت قائمة في  القرنين الثامن العشر والتاسع عشر وبلغت أوجّها في صدر القرن العشرين. إنها المجتمعات التي استحدثت تنظيم فضاءات تطويق[2] شاسعة. بحيث لا يتوقف الفرد أبداً عن المرور من بيئة منغلقة إلى أخرى، كل واحدة منها محكومة بقوانينها الخاصة: في البدء تأتي الأسرة؛ تليها المدرسة ("لم تعد في حضن أسرتك")؛ ثم الثكنة ("لم تعد تلميذ مدرسة")؛ ثم المصنع؛ والمستشفى من حين لآخر؛ وربما السجن، أبرز مثال على بيئة التطويق المنغلقة، نموذجها المعياري: فعندما وقع بصرها على العاملات في المصنع، صاحت بطلة فيلم أوروبا 51 لروسيليني: "لقد ظننتُ أني أرى مساجين."[3]

ولقد حلل فوكو ببراعة المشروع النموذجي لبيئات التطويق المنغلقة هذه، مشروع يظهر بجلاء في حالة المصنع تحديداً: أن تُجمّع وتُقسّم في المكان؛ وأن تُنظّم في الزمان؛ أن تؤلف قوة منتجة ضمن بعد المكان-الزمان يكون انتاجها أضخم من مجموع انتاج كل مكون من مكوناتها. ولكن ما اكتشفه فوكو أيضا هو عرضية هذا النموذج وسرعة زواله: لقد خلف نموذج مجتمعات السيادة،[4] والذي كانت أهدافه ووظائفه مختلفة تماماً (أن تجبي الضرائب على الإنتاج عوضاً عن تنظيمه، أن تفصل وتقرر في الموت عوضاً عن إدارة الحياة)؛ ولقد جرى الانتقال من مجتمعات السيادة إلى المجتمعات الانضباطية ببطءٍ، ويبدو أن نابليون قد كان له يد في التحول واسع النطاق من الأولى إلى الثانية. ولكن المجتمعات الانضباطية تمر، بدورها، بأزمة، لصالح قوى جديدة حلت محلها على نحو تدريجي في البداية، ثم على نحو متسارع من بعد الحرب العالمية الثانية: المجتمع الانضباطي هو ذلك المجتمع الذي لم نعد نعيش فيه، ما كففنا عن أن نكون عليه.

إننا في أزمة معممة فيما يتعلق بكل بيئات التطويق المنغلقة: السجن، المستشفى، المصنع، المدرسة، الأسرة. الأسرة التي هي بيئة في أزمة تماما كباقي البيئات ــ التعليمية والمهنية وهلمجرا. فالإدارات الحاكمة لا تتوقف أبدا عن الإعلان عن إصلاحات ضرورية مزعومة: إصلاح المدارس، إصلاح المصانع والمستشفيات والقوات المسلحة والسجون. ولكن الجميع يعلم أن هذه المؤسسات قد قضي أمرها، انتهت ولا أمل في إصلاحها، مهما طال وجودها. وأن الأمر ليس أكثر من مسألة إدارة لطقوسها الأخيرة، محاولة لإبقاء الناس موظفة إلى أن يتم تمكين وتثبيت القوى الجديدة التي تطرق علينا الباب. هذه القوى ليست سوى مجتمعات التحكم،[5]  التي تحل الآن محل المجتمعات الانضباطية. فـ"كنترول" (تحكم) هو المصطلح الذي اقترحه بوروز[6] لتسمية الوحش الجديد، ذلك الذي تبين فيه فوكو مستقبلنا القريب.

بول فيريليو[7] هو الآخر يحلل باستمرار الأشكال مفرطة السرعة للتحكم عديم الإتجاه والغاية التي حلت محل الانضباطات التي كانت تجرى في الإطار الزمني لنظام مغلق. ولسنا في حاجة هنا للاستشهاد بالمنتجات الدوائية الإستثنائية ولا بالهندسة الجزيئية والوراثية والتلاعب بالجينات، بالرغم من أنه يتوقع لها أن تدخل في سيرورة التحكم الجديدة. ولسنا بحاجة للتساؤل عن أي نظام هو الأشد قسوة وأي نظام هو الأكثر تسامحا، إذ أن قوى التحرر والاستعباد تتواجه داخل كل نظام منهما. فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بأزمة المستشفى بوصفها بيئة تطويق وعزل، يمكن لعيادات الأحياء السكنية ودور العجزة، ودور الرعاية النهارية أن تعبر في البدء عن حرية جديدة، ولكن يمكن لها أن تتشارك أيضاً ميكانيزمات التحكم التي تمارس في أعتى الزنازين. لسنا بحاجة، إذاً، لأن نرجو أو لأن نجزع، وإنما فقط لأن نبحث عن أسلحة مقاومة جديد.
 
  1. المنطق
المحابس أو فضاءات التطويق والعزل المختلفة التي يمر الفرد، على مدار حياته، من خلالها هي متغيرات مستقلة عن بعضها البعض: ففي كل مرة يدخل فيها المرء فضاءً جديداً يتعين عليه أن يبدأ من الصفر، وبالرغم من وجود لغة مشتركة بين هذه الأماكن جميعها، إلا أنها لغة تماثلية[8]. بينما على الناحية الأخرى، ميكانيزمات التحكم المختلفة هي متغيرات متلازمة لا تنفصل عن بعضها البعض، تُشَكّل نظاماً من الاتحاد المتنوع،[9] وهو نظام ذو لغة رقمية[10] (وهو ما لا يعني ضرورة أنها لغة رقمية ثنائية[11]). إن فضاءات التطويق والعزل بمثابة قوالب صب متمايزة، ولكن ميكانيزمات التحكم بمثابة تعديل، معايرة، قالب صب واحد ولكن يغير شكله باستمرار من لحظة إلى أخرى، أو غربال تتغير شبكة عيونه من مرحلة إلى أخرى.

يتضح ذلك بجلاء في مسألة الأجور: لقد كان المصنع  عبارة عن جسد يبقي على قواه الداخلية في حالة توازن: أعلى إنتاج ممكن بأقل أجور ممكنة؛ ولكن في مجتمع التحكم، قد حلت الشركة محل المصنع، والشركة بمثابة روح، غاز.[12] بالطبع قد عرف المصنع نظام الحوافز والمكآفات، ولكن الشركة تعمل، على نحو أكثر عمقا، على فرض التعديل على كل أجر، لتخلق حالات من شبه الاستقرار الدائم تُنتَج من خلال التحديات والمنافسات والجلسات الجماعية الهزلية على نحو مفرط.

فلو كانت برامج الألعاب التلفزيونية الأشد حمقاً تحظى بنجاح كبير فما ذلك إلا لكونها تعبر عن وضع الشركة بدقة كبيرة. يشكل المصنع من الأفراد جسداً واحداً أمام المصلحة المزدوجة لصاحب العمل الذي يستقصي عن أي عضو بين الجماهير أو النقابات يحشد للمقاومة الجماعية؛ بينما تقدم الشركة باستمرار أشد المزاحمات رعونة فيما بين الأفراد على أنها شكل صحي من أشكال المنافسة، قوة تحفيزية ممتازة تؤلب الأفراد ضد بعضهم البعض، تسري فيما بينهم وتقسمهم. إن المبدأ التنظيمي "الأجر وفقاً للاستحقاق" قد نجح في إغراء العملية التعليمة نفسها؛ ففي واقع الأمر، كما أن الشركة قد حلت محل المصنع فإن التدريب الدائم ينحو لأن يحل محل الدراسة، والتحكم المستمر ينحو لأن يحل محل الإمتحان. وتلك هي الطريقة المثلى لتحويل المدرسة إلى شركة.

في المجتمعات الانضباطية كان المرء يبدأ دوما مرة ثانية (من المدرسة إلى الثكنة، ومن الثكنة إلى المصنع)، بينما في مجتمعات التحكم لا ينتهي المرء أبدا من أي شيء ــ فالشركة، النظام التعليمي، الخدمة العسكرية تتجاور داخل نفس ميكانزم التحكم. في المحاكمة، قام كافكا، الذي قد وضع نفسه بالفعل عند النطقة المحورية بين نوعين من التشكلات الاجتماعية، بوصف الأشكال الأشد هولا للقضاء. إن البراءة الظاهرة للمجتمعات الانضباطية (بحيث يكون المرء بين حكمين)، والتأجيلات اللانهائية لمجتمعات التحكم (التى تتنوع على نحو متواصل) هما ضربان مختلفان جدا من ضروب الحياة القضائية، وإذا ما كان قانوننا يبدو مترددا، يبدو مأزوما في نفسه، فما ذلك إلا لأننا نغادر أحد الضربين في سبيل الدخول إلى الآخر. إن المجتمعات الانضباطية لها قطبان: التوقيع الذي يعين الفرد ويحدده، والرقم أو الترقيم الإداري[13] الذي يؤشر على موقعه أو موقعها ضمن جمهور ما.

وهذا لأن المجتمعات الانضباطية لم تر أبداً أي تضارب بين الأمرين، فالسلطة فيها تفردن وتُجمّع في الوقت عينه، فهي تُشكّل أولئك الذين تمارس عليهم فعلها ليكونوا بمثابة جسد واحد، ولكنها أيضا تصوغ فردانية كل عضو من أعضاء هذا الجسد (لقد رأي فوكو أصل هذه المهمة المزدوجة في السلطة الرعوية للقس ـــ على القطيع ككل وعلى كل حيوان فيه ـــ ولكن السلطة المدنية تحركت بدورها، وبطرق مختلفة، لتجعل من نفسها "قسا" علمانيا). ولكن في مجتمعات التحكم، على الناحية الأخري، لم يعد التوقيع أو الرقم هو المهم وإنما الكود: الكود هو كلمة مرور،[14] بينما كانت المجتمعات الانضباطية تُنظم بـكلمات سر[15] (من وجهة نظر الدمج كما من وجهة نظر المقاومة). إن اللغة الرقمية للتحكم مكونة من أكواد تسمح بالوصول إلى المعلومات أو تمنعه. إننا لم نعد نتعامل مع الزوج فرد/جمهور. لقد تحول الـ individuals  إلى "”dividuals،[16]وجماهير، عينات، بيانات، أسواق أو "بنوك".

وربما النقود هي أفضل ما يعبر عن التمايز بين المجتمعين؛ فالمجتمعات الانضباطية أحالت دوما على النقود المسكوكة المربوطة بمعيار الذهب، بينما تتعلق مجتمعات التحكم بمعدلات التبادل الحرة، وتتعدل وفقا لسعر صرف مجموعة من العملات الأساسية. إن الخُلد هو الحيوان المالي القديم لفضاءات التطويق والعزل في المجتمعات الانضباطية بينما الأفعى هي الحيوان المالي الجديد لمجتمعات التحكم.[17] لقد انتقلنا من حيوان إلى الآخر، من الخُلد إلى الأفعى، انتقال لم يتم على مستوى النظام الذي نحيا في ظله وفقط وإنما أيضا على مستوى أسلوب حياتنا وعلاقاتنا مع الآخرين. لقد كان إنسان المجتمعات الانضباطية مُنتجاً للطاقة على نحو متقطع، بينما إنسان مجتمعات التحكم يتموج في مدار، في شبكة لا تنقطع. ففي كل مكان قد حلت الركمجة (ركوب الأمواج) محل الرياضات القديمة.
 
 
كذلك فإن لكل نوع من أنواع المجتمعات نوع الآلات الذي يتماشى معه بسهولة (فكل نوع من هذه الآلات يعبر عن الأشكال الاجتماعية القادرة على إنتاجه واستخدامه) فمجتمعات السيادة القديمة استخدمت آلات بسيطة: الرافعات، البكرات، ساعات الدوام؛ بينما المجتمعات الانضباطية الأحدث زودت نفسها بآلات تستخدم الطاقة،  آلات معرضة لنوع سالب من المخاطر وهو عدم الكفاءة ولنوع موجب وهو التخريب؛ أما مجتمعات التحكم فإنها تستخدم نوعا ثالثا من الآلات، وهو أجهزة الكومبيوتر، والتى تتعرض لنوع سالب من المخاطر وهو التشويش ولآخر موجب وهو القرصنة والفيروسات. هذا التطور التكنولوجي لا بد أن يكون، وربما على نحو أكثر عمقا، طفرة في الرأسمالية، طفرة مشهورة ومألوفة لنا بالفعل، والتي يمكن إجمال القول فيها كالآتي: لقد كانت رأسمالية القرن التاسع عشر رأسمالية تركيز لرأس المال، رأسمالية من أجل الإنتاج، من أجل الملكية. ولذلك قد أقامت المصنع كفضاء تطويق، حيث يكون الرأسمالي هو مالك وسائل الإنتاج ولكنه، أيضا، وعلى نحو مطرد، مالك فضاءات التطويق الأخرى بالقياس (منزل أسرة العامل، المدرسة). وبالنسبة للأسواق فإنها تُغزى بالتخصيص في بعض الأحيان وبالاستعمار في بعض الأحيان، وبتقليل تكلفة الإنتاج في أحيان أخرى.

ولكن في الوضع الحاضر، لم تعد الرأسمالية منخرطة في الإنتاج الذي يُقصى، غالبا، إلى بلدان العالم الثالث، حتى الأشكال المعقدة منه كإنتاج المنسوجات أو المعادن أو البترول. إنها رأسمالية إنتاج من طراز أعلى، إنها لم تعد تشتري المواد الخام ولم تعد تبيع المنتجات النهائية: إنها تشتري المنتجات النهائية ناجزة أو تشتري المنتج مجزء وتجمعه. إن ما تريد أن تبيعه هو الخدمات وما تريد أن تشتريه هو الأسهم. وهذه لم تعد رأسمالية من أجل الإنتاج وإنما رأسمالية من أجل المُنتَج، من أجل بيعه وتسويقه. وبالتالي هي رأسمالية مشتِتة ومبعثِرة على نحو أساسي، لقد أخلى المصنع المكان للشركة. إن الأسرة، المدرسة، الجيش، المصنع لم تعد فضاءات متمايزة ومتناظرة في يد مالك معين ــ الدولة أو السلطات الخاصة ــ وإنما قد غدت أرقام مكودة ــ قابلة لإعادة التشكيل والتحويل -لشركة ليس لها الآن سوى حاملي أسهم. حتى الفن قد غادر الفضاءات المغلقة هو الآخر ليدخل في دوائر البنك المفتوحة.

أما غزو الأسواق فصار ينجز بواسطة انتزاع السيطرة عوضا عن التدريب الانضباطي، بواسطة تثبيت سعر الصرف أكثر منه بواسطة تقليل التكاليف، بواسطة تحويل المنتج أكثر منه بواسطة تخصيص الإنتاج. ومن ثمّ أتيحت الفرصة للفساد لأن يكتسب قوة جديدة. وغدا التسويق هو مركز أو قل "روح" الشركة. لقد قيل لنا أن الشركات لها روح، وهو الخبر الأكثر ترويعا في العالم. إن تشغيل الأسواق الآن هو أداة التحكم الاجتماعي، إنه يشكل السلالة الوقحة من الأسياد التى تحكمنا. إن التحكم قصير الأمد ومعدلات دورانه سريعه ولكنه أيضا متواصل وبلا حدود، بينما الضبط قد كان طويل الأمد ولكنه غير متواصل ومحدود. إن الإنسان لم يعد إنسان مُطوق ومعزول وإنما إنسان مديون. لقد أبقت الرأسمالية على ثلاثة أرباع البشرية في فقر مدقع، أفقر من أن يتم إقراضهم، وأكثر من أن يتم سجنهم: إن التحكم لن يتعين عليه أن يتعامل مع تآكلات الحدود وفقط وإنما أيضا مع الانفجارات داخل مدن الصفيح أو الغيتوهات.
 
  1. البرنامج
إن تصور ميكانزم تحكم، بالنظر إلى موضع أي عنصر ضمن بيئة مفتوحة في أي لحظة (سواء حيوان في الاحتياط أو إنسان في شركة) كما لو كان هذا العنصر محكوما بطوق إلكتروني حول رقبته، ليس، بالضرورة، ضرب من الخيال العلمي. لقد تخيل فيليكس غاتاري مدينة حيث سيكون المرء قادرا على أن يغادر شقته، شارعه، حيّه، فقط بفضل بطاقته الإلكترونية التي تفتح له حاجز ما؛ ولكن من الممكن ببساطة للبطاقة أن تُرفض في يومٍ ما أو في ساعات معينة من اليوم؛ لن يكون المهم هنا هو الحاجز نفسه وإنما الكومبيوتر الذي يتتبع موقع كل شخص (هل من المشروع له أن يتواجد فيه أم لا) والذي يجري تعديلات عامة.

إن الدراسة السوسيو-تقنية لميكانيزمات التحكم، في لحظة استهلالها هذه ينبغي أن تكون حاسمة وأن تصف ما  يحل الآن، بالفعل، محل فضاءات الضبط التي يُعلن في كل مكان عن أنها تمر بأزمة. ربما ستعود المناهج القديمة المستعارة من مجتمعات السيادة إلى الواجهة مرة أخرى ولكن بعد إدخال  التعديلات اللازمة عليها. المهم أننا في بداية شيء ما. في منظومة السجن: محاولة إيجاد عقوبات "بديلة" على الأقل للجنح الصغيرة، واستخدام أطواق إلكترونية لإجبار الشخص المدان على البقاء في البيت طوال ساعات معينة.[18] وفي منظومة التعليم: أشكال التحكم المتواصلة، التدريب المتواصل، التخلي عن البحث العلمي الجامعي، إضفاء طابع "الشركة" على كل مستويات التعليم.

وفي منظومةالمستشفيات: الطب الجديد  هو طب "من دون أطباء أو مرضى"، والذي يعين المرضى المحتملين والذوات العرضة للخطر، والذي  لا يدل بأي حال من الأحوال على الفردنة[19] ــ كما يزعمون ــ وإنما هو يستبدل الفرد أو الجسد الذي يحمل رقم بكود يشير إلى dividual  ما، مادة يتعين التحكم فيها.  وفي منظومة الشركات: طرق جديدة للتعامل مع الأموال والأرباح والبشر وهي الأشياء التي لم تعد تمر من خلال شكل الإنتاج القديم المتمثل في المصنع. هذه أمثلة صغيرة جدا، ولكنها أمثلة سوف تسمح لنا بفهم أفضل لما يعنيه القول بأن المؤسسات في أزمة، أي القول بأن ثمة نظام هيمنة جديد يتم تنصيبه على نحو تدريجي ومتفرق.

وسيتعلق أحد الأسئلة الأكثر أهمية بمسألة جدوى الاتحادات والنقابات العمالية: فمستمسكه بمجمل تاريخ نضالها ضد عمليات الضبط ضمن فضاءات التطويق المغلقة، هل ستكون قادرة على أن تكيّف نفسها مع الأوضاع الجديدة أم سيتعين عليها أن تخلي المكان لأشكال مقاومة جديدة ضد مجتمعات التحكم؟ هل بوسعنا أن نقف على الحدود الوعرة لهذه الأشكال القادمة، أن نقبض على جمرها، أن نكدر على التسويق صفو مباهجه؟ بعض الشباب يتباهون، وعلى نحو غريب، بكونهم "محفزين"؛ إنهم يطلبون مرة أخرى التدريب والتمرين المستمر. على أي حال، متروك لهم أن يكتشفوا ما الذي تريده منهم مجتمعات التحكم تماما كما اكتشف آبائهم، وبشيء من المشقة، ما الذي أرادته منهم مجتمعات الضبط. فالتواءات الحية أكثر تعقيدا من الجحور التي يخلفها الخلد ورائه.[20]

الهوامش:
[1] Disciplinary societies
[2]Spaces of Enclosure
 تقنية الضبط الأساسية في المجتمع النضباطي، حيث يتم توزيع الأفراد في أماكن منغلقة ومعزولة وقائمة بذاتها، "أماكن محمية لممارسة الرتابة الانضباطية" (المعتقل، المدرسة، المصنع، الثكنة العسكرية، المستشفى ...إلخ). راجع الضبط والعقاب: مولد السجن، القسم الثالث، الفصل الأول (م).
[3]روبيرتو روسيليني (1906-1977) المخرج الإيطالي المرموق، رائد الواقعية المحدَثة. والفيلم من انتاج عام 1952. وبطلة الفيلم هي إنجريد برجمان، والتي لعبت فيه دور سيدة برجوازية قررت، بعدما انتحر ولدها، أن تنزل إلى عالم الكادحين لتطلع على تعاسة الناس وبؤسهم (م).
[4]Societies of sovereignty
[5]Societies of control
[6] Burroughs
وليام بوروز (1914-1997)، كاتب أمريكي، و أديب ما بعد حداثي، من أعماله الغذاء العاري وثلاثية الليل الأحمر (م).
[7]Paul virilio
فيلسوف فرنسي ومنظر ثقافي معاصر. معني بالتطور التكنولوجي وعلاقته بالسرعة والسلطة، وتجليات ذلك على العمارة والفن والحرب (م).
[8]Analogical
قائمة على المماثلة والشبه (م).
[9]Variable geometry
[10]Numerical
[11]Binary
أي نظام  قائم على رقمين 0 و 1 وهو اللغة الأساسية للكومبيوتر (م).
[12]الشركة كيان أثيري غير مادي كروح مقارنة بالمصنع المادي كجسد (م).
[13]الرقم القومي، رقم البطاقة الشخصية (م)
[14]Password
[15]Watchword
الكلمة التي أفتح بها الكومبيوتر الخاص بي تسمى password  بينما الكلمة التي يتعين علي ذكرها كي أدخل إلى نادي خاص أو حفلة خاصة (كحال توم كروز في عمل ستانلي كوبريك eyes wide shut ) تسمى watchword (م).
[16]أنثروبولوجيّا،  الفرد، الـ individual عبارة عن ذات (أو شخص) غير قابلة للانقسام. أي أنه يشير  إلى شيء من قبيل اللب الجوهري أو الروح لكائن بشري مفرد، لُبّ يحدد الذات ويعرفها.بحيث يؤدي أي تبديل أو محو أو تعديل لأي جزء من أجزاء هذا اللب إلى تغيير هذه الذات على نحو تام: ستغدو شخصا آخر مختلف. بينما الـ dividual، على النقيض من ذلك، يشير إلى ذات قابلة للإنقسام، تتكون من أجزاء (أبعاد، جوانب) متعالقة ولكنها مستقلة جوهريا عن بعضها البعض ويمكن فصلها عن بعضها البعض. الفرد عبارة عن فاعل اجتماعي مستقل، مؤلف أفعاله، بينما الـ dividual عبارة عن فاعل اجتماعي تابع، لا يؤلف أفعاله بنفسه وإنما يؤدي سيناريو مكتوب له. الفرد فاعل حر بينما الـ dividual فاعل محكوم بالبنى الاجتماعية والثقافية (Smith, Carl (2012). From dividual and individual selves to porous subject. The Australian journal of anthropology, vol. 23, p. 53). ووفقا لدولوز، فإن الفرد هو ذات المجتمعات الانضباطية بينما الـ dividual  هو ذات مجتمعات التحكم. وللأسف شق عليّ أن أجد مقابل عربي وفي لمضامين هذا المفهوم الدولوزي (م).
[17]الخُلد يحفر أنفاق بينما الحية تتلوى على سطح الأرض (م).
[18]كحال ليوناردو دي كابريو بعد نكبته في فيلم مارتين سكورسيزي the wolf of wall street. (م).
[19]Individuation
[20]سبق واستخدم دولوز هذه الاستعارة لوصف المجتمعين: الخلد الذي يحفر الأنفاق كاستعارة على المجتمعات الإنضباطية، والحية التي تتلوى على سطح الأرض كاستعارة على مجتمعات التحكم. (م).

طارق عثمان:
باحث ومترجم مصري، متخصص في العلوم الاجتماعيّة. ترجم "حاوي الثورة المصريّة" لوالتر أرمبرست، و"ما هي الشريعة؟" لوائل حلاق. كما ترجم عشرات الأوراق العلميّة المنشورة إلكترونياً. بالإضافة إلى مقالاته وأبحاثه التي تركز على السوسيولوجيا وعلم النفس والإرهاب والدولة الحديثة.
0 تعليق 7765 قراءة
جيل دولوز

فيلسوف فرنسي، ألف العديد من الكتب مثل "نيتشه والفلسفة"، "الاختلاف والتكرار"، "ما هي الفلسفة"، وغيرها. 

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.