سلامة كيلة يترجّل: في نقد الاستبداد والنخب
تاريخٌ ومقاومة
تنوع التجربة الحياتيّة، واختبار أنماط مختلفة من الصراعات العربيّة التي شكّلت جزءاً كبيراً من محاولات إنتاجه لحلول لهذه الصراعات. هذا أول ما يلحظه المرء في حياة المنظّر الماركسيّ الراحل مؤخراً سلامة كيلة.
أتى الرجل إلى عالم الحياة عام ١٩٥٥ من بلدة بيرزيت الفلسطينيّة، في غمرة الاحتلال والإرهاب الإسرائيليّ. انتقل إلى بغداد، بإبعادٍ من سلطات الاحتلال، ليدرس العلوم السياسيّة في جامعتها، وحصل على ليسانس العلوم السياسيّة منها في سبعينيّات القرن المنصرم.
بالنسبة إلى سلامة كيلة، الكاتب والمثقف، لم يكن النضال الفكريّ هو السبيل الأوحد للمقاومة، مقاومة الاحتلال الصهيونيّ، ومقاومة الأنظمة العربيّة الديكتاتوريّة، بل صاحَبهُ، للمفارقة، النضال الجسدي. فقد عمل كيلة ضمن ألوية المقاومة للكيان، وهي المقاومة التي على إثرها لم يعد باستطاعته الدخول إلى فلسطين لأنّه كان مطلوباً لدى السلطات الإسرائيليّة لعملِه المقاوِم. يجدر هنا التذكير بأن إحدى أمنيات كيلة الدائمة كانت العودة إلى فلسطين.
بعد دراسته في العراق، عاش كيلة في دمشق لفترة طويلة من الزمن، قاسى فيها التنكيل، إلى حدّ أن السلطات السوريّة في عهد حافظ الأسد اعتقلته مدّة ٨ سنوات، في الفترة بين ١٩٩٢-٢٠٠٠. وهي تلك الفترة التي سِيمت بميسم اعتقال اليساريين والشيوعيين في سوريا، ومن بين من اعتقل حينها المثقف السوريّ ياسين الحاج صالح، والذي كتبَ نعياً على صفحته بالفيسبوك لكيلة، قائلاً إنّه تعرّف عليه أول الأمر في سجن عدرا عام ١٩٩٣.
أثناء الثورة السوريّة، اعتُقل كيلة مرّة ثانية لعدة أشهر، ذاق خلالها ما لم يذقه من قبل، وحينها أُنهك جسده تعذيباً بالإضافة إلى تعذيب السّرطان الذي أُصيب به، وأكل من جسده النحيل مايشهد به كلّ من يعرفه. وفي آخر حواراته مع تلفزيون سوريا، يقول كيلة إنّ ما شهده من تعذيب على يد الأسد الابن لا يُقارن بتاتاً مع الاعتقال الأول في زمن الأسد الأب.
اليسار العربيّ والثورة السورية: موقف كيلة
عندما قامت الثورة السوريّة ضدّ النظام الأسديّ في سوريا ٢٠١١، اتخذ كثيرٌ من اليسار العربيّ واليسار العالميّ موقفاً متحفظاً أحياناً، ومتردداً في أخرى، ومعادياً أيضاً لتلك الهبات الشعبيّة. كان الأمر بالنسبة إلى قطاع لا بأس به من اليساريين العرب والعالميين هو التركيز على نقطة الصراع مع الاحتلال الصهيونيّ الذي يقف النظام السوريّ برفيقه اللبنانيّ حزب الله، والداعم الأساسيّ في طهران، كعدو له.
لماذا يعتبر اليسار الثورة السوريّةَ حرباً "ضد مبادئهم"، ولماذا يعتبرون نظام الأسد محارباً ضد الإمبريالية الغربية؟ هل تخلف موقف اليسار عن الالتحاق بحركة الشعوب بعد أن كان هو المحرك لها سابقاً؟ تلك كانت أسئلة كيلة التي حاول في عددٍ من إنتاجاته، مقالاتٍ وكتب، أن يشرحها ويفسّرها.
لم يكن غائباً عن فكر كيلة ومواقفه طبيعة وتركيبة النظام السوريّ، ولا الموقف الإقليميّ المتمثل في موقف معظم الأنظمة العربية وإسرائيل. كان كيلة ينشدُ، كما في مقالةٍ له على معهد العالم بعنوان "متاهة اليسار السوريّ" يساراً عربيّاً جديداً. يقول الرجل في تلك المقالة: "ما يجب البحث فيه هو كيف يتأسس يسار جديد. هذا الذي يعتمر الثورة، حيث أفضى انخراط شباب جديد في الثورة الى مخاض يفرض تبلور الوعي والرؤية والهدف. اليسار سينشأ من هنا، حاملاً كل مكنونات الثورة، ومحدِّداً مسارها والطريق إلى السلطة، بالضبط لكي ينهي النمط الاقتصادي السياسي القائم، ويفتح على مسار تطوري ثوري يحقق المطالب الشعبية. اليسار يولد في الصراع، ويحمل كل ما يحتاجه الصراع لكي ينتصر المفقرون".
بالنسبة إلى سلامة كيلة، فإنّ انحدار اليسار وتمركزه حول قضايا واحدة، من منظور ضيّق برأيه، آتٍ من عمليّة عالميّة لتهميش اليسار بسبب إيمانه بأنّ الرأسماليّة حقيقة لا يمكن تجاوزها، واستسلامه لذلك. يقول كيلة، بوضوح، إنّ "اليسار العالمي عموماً كان قد تراجع وتهمّش، وبات يمثل تجمعات صغيرة منذ أمدٍ طويل، بعد أن انثلم مشروعه القائم على تجاوز الرأسمالية، وتكيفَ مع وجود هذه الرأسمالية كحقيقةٍ لا يمكن تجاوزها، وبعد أن كان قد تكيّف مع السياسة السوفيتية القائمة على 'القبول بما هو قائم'، أي القبول بالوجود الرأسمالي الإمبريالي بعد إقرار سياسة 'التعايش السلمي'. وباتت إصلاحيةً 'أكثر مما يجب'، وليبراليةً ساذجة، رغم أنها ظلت تتغنى بخطاب 'معاداة الإمبريالية'، أو كانت تتغلف بهذا الخطاب".
كانت الثورة السوريّة سبيلاً لكيلة من أجل نقد الاستبداد والنّخب معاً؛ أي نقد الاستبدادين، الماديّ متمثّلاً في النظام الوحشيّ الذي أباد ودمّر، والرمزيّ متمثّلاً في النخب الطائفيّة واللاديمقراطيّة وغير الثوريّة التي تسبب عطالة لمشاريع الثورة، وتستسلم لمشاريع الهزيمة والارتكاس والرجعيّة.
في مقالة طويلةٍ من جزئين، معنونة بـ"الطائفيّة والمنظور الطائفيّ: نقد النّخب السوريّة"، لاحظ كيلة النقاش المستعر سورياً حول الطائفيّة، ومعناها، ووسم النظام الأسديّ بها. ولا شكّ أن كثيراً من ذلك طال العمل السياسيّ، حيث وكما يلاحظ كيلة، "أصبح يُنظر إلى الأشخاص في أدوارهم السياسيّة من منظور الطائفة التي ينتمون إليها". إنّه "وضع مؤلم"، يقول كيلة، "بعد ثورة كانت تطمح لأن تضم كل الشعب السوري، وانطلقت من أن الشعب السوري واحد، وفي وضع كان الفقر والتهميش والبطالة يطال كل 'الطوائف'. وهدفت إلى تأسيس 'دولة مدنية' أساسها الشعب الذي هو مجموع مواطنين، وهو ما يعني تحويل الانتماءات السابقة لذلك إلى 'شأن شخصي' لا يرتبط بعلاقاته أو دوره السياسي".
هذا التطييف هو ما يؤخّر كثيراً من "السياسة" بمعناها الحقيقي، فالتطييف ضدّ التسييس دائماً. فعندما تقاوم نظاماً ما، في وضعٍ سياسيّ ثوريّ، أنت لا تقاومه لأجل طائفةٍ يستعملها في خطابه، وأنظمة قمعه السياسيّ، بحيث تغدو الطائفة هي محلّ النضال، لا الاستبداد. عملت الجهاديات عموماً على الانحراف بمسار الثورة إلى هذا المأزق الفظيع، الذي أدخلها في حروب لا معنى لها، في سعيٍ لا يمكن القبض عليه لمحاربة "طائفة" دون "طائفة".
ولذا، كان كيلة من الواقفين بحزمٍ ضدّ مقولة "طائفيّة النظام"، لا لأنّ النظام ليس طائفيّاً، بل لأنّ الانجرار وراء ما أسماه كيلة بـ"المنظور الطائفيّ" يؤجل السياسة إلى أجلٍ غير مسمّى.
حاول كيلة أن يخلّص الحراك الثوريّ من أعطاله المعرفيّة والسياسيّة التي أمكنَ للنظام الاستبداديّ استخدامها، والانقلاب بها عليه؛ فرفض الاستبداد، والطائفيّة، وتديين الحراكات الثوريّة باعتبار أنّ الصراع دينيّ.
خاتمة
بعد تأليف أكثر من ثلاثين كتاباً في مواضيع شتّى، يحدوها جميعها همّ ماركسيّ تحرريّ، وبعد اعتقال نال من جسده، وافت كيلة المنيّة يوم الثاني من أكتوبر في العاصمة الأردنيّة عمان، بعد صراعٍ مع السرطان.
كريم محمد
باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.
مواد أخرى لـ كريم محمد
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.