الحداثة القروسطيّة: حول المواطنة والحَضَريّة في عصرٍ عولميّ

09 آذار/مارس 2018
 
ترجمة: كريم محمد

[تُنشَر هذه الترجمة بعد أخذ إذن الدكتور نزار الصيّاد، والتواصل معه، واطلاعه على الترجمة العربيّة. وقد نُشرت هذه الورقة العلميّة في مجلّة (Space and Polity) في عام ٢٠٠٦. ويمكن الحصول على الأصل الإنكليزيّ من هذا الرّابط: الرابط. [المترجم]
مقدّمة
 
لقد دُشِّنَ العقدُ الجديد عبر إحياء الاهتمام بالمُدن. وثمّة حقيقةٌ جازمةٌ بأنّ القرن الحادي والعشرين هو قرن حَضريّ، حيث يعيشُ بشرٌ في المدن بصورة أكبر من أيّ تشكّل مكانيّ (spatial) آخر. وهناك قلقٌ من أنّ كثيراً من التمدين سيحدثُ في مدن الجنوب العالميّ، وهي المدنُ التي تمّ تأطيرها لبعض الوقت كأماكن للنموّ المفروط. كما إنّ هناك أيضاً، بعيداً عن الإغراق الديموغرافيّ، الحجّة القائلة إنّ المُدن هي المواقع الأساسيّة التي تُدار فيها الرأسماليّة العالميّة المعاصرة ويُسيطَر عليها. ويصوّر منظّرو "المدينة العولميّة" (ساسن ١٩٩١) إيكولوجيا العولمة[1] التي هي بالأساس تراتبيّة للمدن، والتي يمكن قراءتها إمّا كحجّة داروينيّة حول "بقاء الأصلح" أو كتحليلٍ دوركاهيميّ لتقسيم العمل. وسواء أَقِبلَ المرءُ بهذه الترسيمات الإيكولوجيّة للعولمة أم لا، فلا يزال الموضوع قائماً: فبالرّغم من الحديث عن نزع الأقْلَمة، فإنّ المدنَ وأقاليمها لا تزال ذات أهميّة.
 
بيد أنّ هناك خلافاً كبيراً حول كيفيّة تفسير المشهد الحَضريّ اليوم. فمن ناحيةٍ، يُصوّر الخطاب التفاؤليّ المدنَ باعتبارها ساحات للمعَيشة ولسبل العيش وللتحوّل الاجتماعيّ (فرديمان ودوجلاس، ١٩٩٨؛ وإيفانس، ٢٠٠٢). وفي أماكن مثل أمريكا اللاتينيّة، هناك شعورٌ بأنّ نزع مركزيّة الحوكمة عن النّطاقات القوميّة إلى الحَضريّة ينطوي على "ثورة هادئة" للديمقراطيّة (كامبل، ٢٠٠٣). أمّا في الولايات المتحدة، فهناك أملٌ باقٍ بأنّ السياسة الحَضريّة يمكن أن تتصدّى لشوفينيّات الأنظمة القوميّة، كما هو الحال في مساعي العديد من المدن، مثل سان فرانسيسكو، لشرْعنة زواج المثليين، والتي غالباً ما تحدث ضدّ إملاءات الدّولة أو الحكومات الفدراليّة.

ومن ناحيةٍ أخرى، ينظر الخطابُ النقديّ إلى الأشكال المنبثقة من المواطنة الحَضريّة باعتبارها متشظيّة ومتكسّرة، وأنّها مبنيّة عبر مقاطعات مُسيَّجة وفضاءات إقصائيّة (غراهام ومارفن، ٢٠٠١). إنّ الديمقراطيّة، في التنظير المستفزّ الذي طرحه يفاتشيل ويعقوبي (٢٠٠٤)، تغدو مؤقلَمَة (territorialised) في "إثنوقراطيّة حَضَريّة"، وهي شكلٌ من أشكال الحوكمة مميَّز بانقسامات عرْقيّة وإثنيّة عميقة. كما إنّ  الباحثين الذي يتتبّعون صعود النيوليبراليّة، أي أيديولوجيّات السوق الحرّة التي سادت في الثمانينيّات، يلفتون الانتباهَ إلى كيف أنّ إعادة التطوير التجاريّ للمدن (هارفي، ٢٠٠٠) تصاحبها مجموعةٌ من السياسات الفاسدة التي تسرّع من إزاحة الفقراء الحَضريين (سميث ١٩٩٦؛ وميتشل ٢٠٠٣). فإذا جسّدت سان فرانسيسكو نظاماً حَضريّاً للمواطنة "يُمدِّن" و"يُلبرل" المواطنة القوميّة، فإّنها تجسّد أيضاً إذن مجموعةً من الوسائل والسياسات "النيوليبراليّة" العدوانيّة التي تسعى إلى تجريم التشرّد باسم التطوّر الحَضريّ.
 
كيف يمكننا أن نشرع في التصنيف من خلال هذه التأويلات المختلفة بشدّة للمدن والمواطنة؟[2] هل يزايد خطابٌ على خطاب آخر؟ أم أنّ الخطابات توصّف سيرورات مختلفة للغاية؟ فمن الجليّ أنّ السرديّات المتنافسة تشيرُ إلى مقاربات نظريّة متباينة. غير أنّ هناك شيئاً ما آخر أيضاً: ألا وهو أنّ المفارقات الجامحة للمواطنة الحَضريّة إنّما ضخّمتها مفارقات العولمة المعاصرة. فعلى سبيل المثال، توضّح الأبحاث التي أجراها بيرلمان مؤخراً (٢٠٠٤) على الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو كيف يمكن للدمقرطة أن تسير حذو النّعل بالنّعل مع تعميق اللامساواة وكيف أنّ التحسينات البني-تحتيّة (infrastructural) يمكن أن توجد بمحازاة العنف الوحشيّ للتجارة العالميّة للمخدّرات ولأجهزة الدّولة. أو كما تشير تحليلات روثمان (٢٠٠٣) للاس فيغاس، كيف أنّ السياسات الحَضريّة المتعلّقة بالمجال العامّ يتمّ تشكيلها فيما يتعلّق بفكرة الحريّة، لكنّ هذه الفكرة عن الحريّة بحدّ ذاتها إنّما تُقولَب باعتبارها "تحرّراً من" (أي تحرّر من وجود الفقراء الحَضريين، وتحرّر ومن الاحتجاجات) أو باعتبارها "حريّة الاستهلاك". وبالتالي، هناك ازدواجيّة متأصّلة في فكرة الحريّة، وتتمّ أقلمتها في حقل المواطنة الحَضريّة.
 
نحاججُ، في هذه الورقة، بأنّ النقاش الحالي حول المدن والمواطنة يمكن أن يُقارَب بصورةٍ ناجعة من خلال استدعاء للحَضريّة القروسطيّة باعتبارها إطاراً نظريّاً. حيث تذكّرنا المدينةُ القروسطيّة بأنّ العلاقة بين المُدن والعولمة ليست بجديدة. وإذا كانت المدينة العالميّة اليوم يتمّ تصوّرها كنقطة المركز والقيادة للتجارة العالميّة، فإذن يمكن للمدينة القروسطيّة أن تقولَب أيضاً باعتبارها مدينة عالميّة. وسواء كان الأمر كما تقول حجّة بيرين (١٩٢٥، ص ١٥) بأنّ النهضة الاقتصاديّة للقرن الثاني عشر أدّت إلى تشكيل ‘المدن الحرّة"، أم كما تقول الحجّة المعاكسة من حيث الأساس لمومفورد (١٩٦١، ص ٢٥٥) بأنّها كانت نهضة لـ"المدينة المحميّة" التي ساعدت على استئناف طرق التجارة العالميّة، فإنّ العلاقة بين المدينة القروسطيّة والتجارة العالميّة أمرٌ لا يقبل الجدال. لكن لعلّ الأكثر أهميّة من ذلك أنّ المدينةَ القروسطيّة تذكّرنا بالمفارقات والإقصاءات والتقسيمات التي ارتبطت دائماً بتشكل المدينة وبالتنظيم الحَضريّ. وبالتالي، يشير بيرين إلى المدينة القروسطيّة بصفتها "مدينة حرّة"، بينما يشيرُ إليها مومفورد باعتبارها "مدينة محميّة". بمعنى آخر، كانت المدينةُ القروسطيّة الحرّة هي المدينة المحميّة: إذ لم يكن هناك مفهومٌ قروسطيّ للحريّة التي لم تكن أيضاً مفهوماً للرابطة وللمحسوبيّة وللحماية.
 
إنّ هذه "الازدواجيّة" هي أداة تحليليّة قيّمة لاختبار الجغرافيّات الحَضريّة المعاصرة. فنسلّط الضوء، في الأقسام التي تلي، على ثلاثة تشكّلات مكانيّة متميّزة: المقاطعات المُسيَّجة (gated enclave) والمباني العشوائيّة والمخيّم، موضّحين كيف أنّ أنماط الحَضريّة القروسطيّة تجعل من فهم مفارقات وإمكانيّات هذه الفضاءات أمراً ممكناً. وينصبّ تركيزنا على ثلاث نقاط من الانسجام بين المدينة القروسطيّة والمدن المعاصرة. أولاً، إذا كانت المواطنة الحديثة قد شُكِّلت عبر مجموعة من الحقوق الفرديّة المجرّدة المتضمّنة في مفهوم الدّولة-الأمّة، فإذن هناك الآن بزوغٌ لأشكال من المواطنة المموقَعة في المقاطعات الحَضريّة.

وكما هو الحال في الأزمنة القروسطيّة، تتصل هذه المواطنة إمّا بالمحسوبيّة (كما في حالة الأسقف) أو بالانتماء الترابطيّ (كما في حالة النقابة) وفي كلتا الحالتين تتعلّق المواطنة بالحماية من حيث الأساس. ثانياً، تُعدّ أشكال المواطنة هذه بديلاً عن الدّولة أو حتّى معادية لها. فمن رابطات ملّاك البيوت الخاصّة إلى الجمهوريّات الإسلاميّة على مستوى الجوار المصرّح بها من جانب المجموعات الأصوليّة الدينيّة، وهذه هي أنظمة الحوكمة الخاصّة التي تعمل كإقطاعيّات قروسطيّة، بحيث تفرض الحقائق والمعايير التي غالباً ما تكون متعارضة مع القانون الوطنيّ. ثالثاً، كان لمنطق الحكم هذا تجلّيات أقاليميّة (territorial). بحيث تصبح المدينة مُمفْصَلةً فيما اصطلح عليه هولستون وأبادوري (١٩٩٩، ص ١٣) بـ"نواة السّلطة القضائيّة"، وهي "هيئة قروسطيّة" لـ"الانتماءات المتشابكة وغير المتجانسة وغير الرّسميّة والخاصّة على نحو متزايد".
 
ومن المهمّ أن نلاحظ أنّنا لا نعني، ونحن نوظّف المقولة التحليليّة للمدينة القروسطيّة، أنّ الحقبة القروسطيّة (medievalism) هي فترة تاريخيّة ثابتة أو جغرافيا موحَّدة ومطّردة. وفي حين أنّنا لا نركّز على الجغرافيّات المختلفة للمدينة القروسطيّة، فإنّنا نحاجج مع ذلك بأنّ التنوّع الزمانيّ والمكانيّ للمدينة القروسطيّة يضيف إلى مشروعنا التحليليّ وليس ينتقصُ منه. على سبيل المثال، إنّ أحد النقاشات حول المدن القروسطيّة هو الاختلاف المتوهم بين السياقات الغربيّة والسياقات الشرق أوسطيّة. فيحاجج كوستوف (١٩٨٥، صص ٣٦٩-٣٧٠)، مستخدماً النصّ الاستشراقيّ الكلاسيكيّ لغوستاف جرونبوم (١٩٥٥)، بأنّ المدينة "الإسلاميّة" القروسطيّة افتقدت لأشكال الحوكمة الذاتيّة وللتنظيم الأهلانيّ (municipal organisation) الواضح في المدن الأوروبيّة القروسطيّة. ويفسّر مدينة القاهرة القروسطيّة ذات "التكتّل المبنيّ بصلابة" وبـ"متاهة الأزقّة المسدودة" باعتبارها تفتقرُ إلى مجال عامّ. في المقابل، يجد كوستوف في مدنٍ مثل فلورنسا صراعاً لـ"السيطرة على شوارعها وفضاءاتها المفتوحة... وعلى تصوّر شكل المدينة باعتبارها تصميماً متعمَّداً... ونظاماً قابلاً للإدراك" (كوستوف، ١٩٨٥، ص ٣٧١).

بمعنى آخر، كانت المدينة الإسلاميّة المضطربة مجازاً جعلَ معيار المدينة الأوروبيّة المنظمّة أمراً ممكناً. إنّ تفرقةً كهذه بين المدن الإسلاميّة القروسطيّة الفوضويّة والغامضة والمدن الأوروبيّة القروسطيّة المنظَّمة وظيفيّاً إنّما تتقاطع مع التفرقة القائمة اليوم بين المدن العالمثالثيّة التي يصعب السيطرة عليها ومدن العالم الأوّل المسيطر عليها. هذه هي التفرقة التي تمّ تحديها فيما يتعلّق بالمدن القروسطيّة، وذلك مع المنظرين الحَضريين الذين يحاججون بأنّ ما هو على المحكّ هو المنطق المختلف للتنظيم والتدبير وليس وجود الحوكمة أو غيابها (الصيّاد، ١٩٩١). والحال أنّها تفرقة يتمّ تحديها فيما يخصّ المدن المعاصرة أيضاً (روبنسون، ٢٠٠٢).
 
تمتدّ المدينةُ القروسطيّة على مدى قرون عدّة. وعوضَ أن نبحث عن حَضريّة قروسطيّة ثابتة، فإنّنا نصرف اهتماماً متأنّياً بالزمانيّات المختلفة وبأشكال المدينة القروسطيّة، ونحاجج بأنّ هذا التنوّع يوفّر وسيلة ناجعة بشأن التحوّلات والتبدّلات الحَضريّة. وبالتالي، يمكن استخلاص الإطار الزّمنيّ للحضريّة القروسطيّة. فمع نهاية الإمبراطوريّة الرومانيّة، انحدرت مدن العصور القديمة. وفي بواكير العصور الوسطى، أي في القرنين التاسع والعاشر، بقيت المدينة بصفتها مدينة أسقفيّة محكومة من جانب الأساقفة (بيرين، ١٩٢٥). وشهد القرن الحادي والعشر والثاني عشر صحوةً للمدن باعتبارها مراكز للتجارة العالميّة والصفقات الاقتصاديّة و، على نحو أكثر اتساعاً، بصفتها "نقاطاً مركزيّة للحداثة"، على حدّ تعبير بروديل (١٩٧٩، ص ٥١٢)، وهي "مجموعة من القواعد والاحتماليّات والحسابات".

وجسّدت هذه المدن نزاعاً بشأن السيادة، ليس فقط في السيادات المتعدّدة التي ميّزت الاقتصادَ السياسيّ في القرون الوسطى، بل أيضاً في محاولات المدن لأن تصبح "دولاً داخل الدّولة" (بيرين، ١٩٢٥، ص ٢٢٨). غير أنّه تمّ حلّ هذا الصراع بحلول القرن الثامن عشر لصالح إطارٍ سياسيّ للمركزيّة الباركويّة (baroque centralism) المتجسّدة في الدّولة القوميّة حيث لم تُكتسب امتيازات المواطنة من المدينة ولكن من الملك، ويمكن أن تُمارسَ في أيّ مكان داخل النّطاق المَلَكيّ (ممفورد، ١٩٦١، ص ٣٣٥).
 
إنّنا نتعرّض للفضاءات الحضريّة المعاصرة فيما يتعلّق بهذه اللحظات التاريخيّة. ويحاجج ممفورد (١٩٦١، ص ٢٦١) بأنّ أسطورة العقد الاجتماعيّ في القرن الثامن العشر، والتي ظلّت قائمة كفكرة للمواطنة القوميّة تماماً في القرن العشرين، كانت "عقلنةً للأساس السياسيّ للمدينة القروسطيّة". إذن، هل من الممكن أن نرى انحلال المواطنة القوميّة، وتشظّيها وتموقعها ولا مركزيّتها في النطاق الحَضريّ، باعتباره عودةً لما يسمّيه ممفورد (١٩٦١، ص٣٤٧) بـ"المحليّة القروسطيّة" (medieval localism)؟ وهل تكون المقاطعات المُسيَّجة للحضريّة المعاصرة مشابهة لدول المدينة القروسطيّة "المدعومة بامتيازات، مكتسبةً كانت أم مغتصَبة" (بروديل، ١٩٧٩، ص ٥١٢)؟ وهل يمكن النّظر إلى الحضريّة المتشظية اليوم باعتبارها مماثلة للمدينة في أواخر العصور الوسطى؟

فإذا عدنا إلى الوراء بالزّمن، نجدُ، في بواكير العصور الوسطى، أنّ مدينة الأسقف، ومدينة المواطنين، كما يذكّرنا بيرين بفكرة المواطنة (١٩٢٥، ص ٦٥)، كانت مرادفة للحكم الدينيّ وكان الأسقف يمارس سلطات إداريّة وحكوميّة. والحال أنّ التوازي مع العالَم الإسلاميّ أمر وثيق الصّلة ههنا: فسواء كانت مدينة الخلفاء أو مدينة السّلاطين، فقد كانت "المدينةُ الإسلاميّة" النموذجَ السائد للوجود الحَضريّ (الصيّاد، ١٩٩١). فهل أنظمة الحكم الدينيّة المنهمكة في الفضاءات غير الرّسميّة للمدن المعاصرة تذكّرنا بالمدينة الدينيّة القروسطيّة؟
 
ومع ذلك، إذا رجعنا لأبعد من ذلك في الزمن، ستواجهنا نهاية الإمبراطوريّة وانحلال المواطنة الحَضريّة وانحلال المدينة. فهل هذه لحظةٌ تتشابه مع لحظتنا المعاصرة، وهي اللحظة التي "لا تمثّل المدينةُ فيها وإنّما المخيَّمُ بالأحرى البراديغمَ البيوسياسيّ الأساسيّ"، كما لاحظ جورجيو أغامبن (١٩٩٥، ص ١٥١)؟ ولمّا تضاءلتِ الإمبراطوريّة الرومانيّة، فإنّ الحياةَ العامّة لمدينة روما تمركزت بصورة أكبر حول "طقوس الإبادة"، البالغة ذروتها في مشاهد المصارعة، "موت في الظهيرة"، المُمسرَحة كسرك (ممفورد، ١٩٦١، ص ٢٢٧). وتسعى المدينة اليوم إلى نشر استراتيجيّة مَسرحيّة في صياغة الحياة العامّة؛ حيث تزعم بعض المدن مثل لاس فيغاس بأنّها العرض الأعظم على وجه الأرض كما كانت روما كذلك ذات يوم. لكنّ العرْض يتحوّل أيضاً إلى "موت في الظهيرة" -والذي جعلته "الحياة العارية" عند أغامبن (١٩٩٥) مسرحيّاً، جالباً لنا الحياة على قنوات السي إن إن والجزيرة.

وقد لفت كوماروف (٢٠٠٠، ص ٣٢٨) الانتباه إلى سِحريّة الدّولة في عصر الرأسماليّة الألفيّة، وإلى الطقوس المتزايدة التي تقوم كذريعة للسياسة الواقعيّة. وفي عهد الإمبراطوريّة، فإنّ الطقوس المتزايدة تتبلور في شكل طقوس الإبادة المقدَّمة على أنّها واقعيّة مفرطة. أم أنّ هذا المسرحيّ هو الذي يميّز انحسار الإمبراطوريّة؟
 
والآن، ينبغي أن يكون واضحاً أنّ استعمالنا للحقبة القروسطيّة إنّما يجري في الناحية المعاكسة -أي إنّنا ننتقلُ من مركزيّة القرن الثامن عشر إلى المحليّة القروسطيّة لأواخر العصور الوسطى إلى حكم الأساقفة في بواكير القرون الوسطى وأخيراً إلى نهاية الإمبراطوريّة الرومانيّة. ولا نطرحُ، ونحن نقوم بذلك، حجّةً حول التخلّف، والذي يُعتبر الصورة المعكوسة لعقيدة التقدّم. وإنّما نحن نسعى بالأحرى إلى إلقاء الضّوء على انحسار الحضْرنة وتدفّقها، وعلى تزامن المنطقيّات المختلفة للحضريّة وقيمة المقاربة اللاخطيّة للزّمن التاريخيّ. إنّ مقاربتنا، كما يحاجج بنيامين (١٩٥٠، ص ٢٦٣)، هي الماديّة التاريخيّة وليست التاريخانيّة، وهي المقاربة التي نسعى فيها إلى "نسف حقبة معيّنة خارج المساق المتجانس للتاريخ".

وأملنا هو أن تجعل مقاربةٌ كهذه من الاشتباك المعقد مع التاريخ أمراً ممكناً، وأن تسمح لنا بالتفكير في التاريخ لا كتحقيبٍ خطّيّ، وإنّما كمخزن للمفاهيم عوضاً عن ذلك، مما يجعل من استخلاصها لمفصلة النّظريّة أمراً ممكناً. كما إنّها تؤرخن أيضاً على ما يبدو "ممارسات" حضريّة جديدة، ممّا يوضّح أنّها ليست مجرّد أشكال منحرفة أو شاذّة ولكنها بالأحرى مكونات أساسيّة للمشاهد الحضريّة. وإذا كان بعضٌ من عملنا السّابق "عابراً للدّول" في غرضه، مستخدماً الـ"هناكَ" لطرح أسئلة نقديّة على الـ"هنا" (روي والصيّاد، ٢٠٠٤)، فإنّ هذه الحجّة هنا إذن هي "عابرة للتاريخ"، بحيث تولّد أسئلة حول الـ"الآن" من منظور الـ"وقتئذ".
 
وبادئ ذي بدء، فإنّ هذه الورقة هي محاولة لبلبلة مفاهيم كـ"الحداثة" أو "الديمقراطيّة" التي تؤخَذ كمسلّمات في نقاشات الحَضريّة المعاصرة. ويبيّن التاريخ الطويل للمدن تشابك الحريّة والديمقراطيّة مع البنى السياسيّة للإمبراطوريّة وللقرون الوسطى. والحال أنّ مفصلة المدن الحالية كـ"قروسطيّة" إنما تطعن في حتميّة التقدّم. وبالتالي، من أجل أن نلفت النّظر إلى المفارقات المستمرّة للحياة الحضريّة ونموذجها، فإنّنا نستعملُ العبارةَ المتناقضة "الحداثة القروسطيّة"، مشيرين إلى أنّ الأشكال القروسطيّة من التنظيم والجماعة يمكن أن تختبئ في قلب ما هو حديث.
 
١- المقاطعات المُسيَّجَة
 
إنّ البراديغم الشائع للتنظيم المكانيّ في المدن اليوم، من لوس أنجلس إلى مانيلا، هو المقاطعة المُسيّجة، وهي المقاطعة التي يتم الحفاظ عليها عبر تقانات متطوّرة من المراقبة والضبط والتصميم المعماريّ. ولا يقتصر الأمر على المساحات السكنيّة المُسيَّجة، ولكنّها متصلة أيضاً بمساحات أخرى من الإقصاء مثل المشروعات الحضريّة الهائلة والتطورات الترفيهيّة. إنّها هذا التجميع لمساحات الفتنة والأمان الحضريّة التي يحدّدها غاراهم ومارفن (٢٠٠١) بأنّها حضريّة متشظيّة: فالمساحات الشبكيّة الانعزاليّة تتجمّع معاً عبر بنية تحتيّة شبكيّة متميّزة و‘تنعزل‘ تماماً بالحرف عن البيئات الحضريّة المحيطة بها. وتتمظهر أشكال الانعزال هذه الآن على نحوٍ أفقيّ ورأسيّ. فمن الطّرق المروريّة المرتفعة شبه الخاصّة والطّرق الجويّة إلى ناطحات السّحاب المحصّنة، ثمّة مشهدٌ ثلاثيّ الأبعاد للإقصاء والاستقطاب (غاراهم ومارفن، ٢٠٠١، ص ٢٨٤).
 
وتظهر هذه النّزعات مع الصّرامة الكبيرة في البرازيل حيث تقهقرت النخبة إلى جماعات مطوَّقة ومسوَّرة، سعياً لقطع صلاتهم بفقراء الحضر، رغم أنّ الفقراء بالطّبع، كما تشير كالديرا (٢٠٠٠)، لا يزالون بحاجةٍ إلى تنظيف حمامات السّباحة والاعتناء بالمروج الخضراء. واليوم، لدى مدينة ساو باولو البرازيليّة أكبر أسطول في العالم لطائرات الهليكوبتر الخاصّة لأنّ نخبَتها الحَضريّة هجرت شوارع المدينة من أجل السماوات بعيدة المنال. وإنّ الهيلكوبتر الأفضل مبيعاً في البرازيل هي (Robinson R44)، والتي تسعُ أربعة أشخاص بيُسرٍ. وتبلغ تكلفتها تقريباً ٣٨٠٠٠٠ دولار أو ما يقرب من تسعين ضعف متوسط الدّخل السنويّ لسكان ساو باولو (نيو يورك تايمز، ١٥ فبراير، ٢٠٠٠). فلماذا يكتفي المرء بسيارة BMW مدرَّعة، عندما يكون بإمكانه أن يبتاع طائرة هليكوبتر؟ في هذه الحالة الانعزاليّة، بينما يجول بضع مئات من نُخب الحضر السماوات بطائراتهم الهليكوبتريّة، فإنّ ٣,٧ مليون من السّكان يكافحون يوميّاً مع نظام الحافلات المتقلقلة في المدينة.

ويُمَفْهِم وايزمان وسيجال (٢٠٠٣) هذه القطعية مع المدينة في نطاقين منفصلين من التداول باعتبارها سياسة رأسيّة. ويلاحظان كيف أنّ المستوطنات اليهوديّة المموقَعة استراتيجيّاً في الضّفة الغربيّة تحتلّ المقاطعات الواقعة على التلّ، وهي مقاطعات الضواحي المنعزلة عن كثير من الجيران الفلسطينيين الفقراء ولكن تتمتع أيضاً بسيادة رأسيّة لشبكات المراقبة والبنية التحتيّة التي تزوّدهم بها الأجهزةُ العسكريّةُ للدّولة الإسرائيليّة.
 
وتشيرُ مناظر التحويط (walling) والتبويب (gating) إلى أقْلمةٍ مميّزة للمواطنة، أو إلى ما يسمّيه لو (٢٠٠٣، ص ٢٩٣) بالحاكميّة المكانيّة الجديدة. وتتمثّل السِّمة الأساسيّة لهذه الأنظمة المكانيّة في تأسيس الكمبوندات السكنيّة المُسيّجة التي تديرها هيئات خاصّة. وتجسّد جمعيّة تطورات المصلحة المشتركة (CID) هذه النّزعة. حيث تصف هذه الجمعيّة مجتمعاً يملك الساكنون فيه أو يسيطرون فيه على النطاقات المشتركة أو الحاجات العامّة المتقاسمة بينهم وأن يحملوا فيه حقوقاً تبادليّة والتزامات تنفّذها الهيئة الخاصّة الحاكمة. إنّ بنية الحوكمة هذه، المُقنَّنة بصفتها مواثيق وعقود وقيود مفروضة متخصّصة (CcandRs)، لتنتجُ أنواعاً جديدة من الحكومات الخاصّة في شكل "جمعيّات مالكي المنزل" (لو، ٢٠٠٣، ص ٣٩٠؛ وديفيس، ١٩٩٠). وكما يشيرُ ماكنزي (١٩٩٤)، فإنّ "طوبيا الخصوصيّة" هذه إنّما تميّز "انعزال النّاجح". فههنا، يمثّل قانون العقد السّلطة العليا؛ حيث قيم الملكيّة هي أساس الحياة الجماعيّة؛ وحيث الإقصاء هو أساس التنظيم الاجتماعيّ (انظر أيضاً فلوستي ودير، ١٩٩٩).
 
 
ويمكن أن تُفهم المُقاطعات المُسيَّجة اليوم فيما يتعلّق بالحَضريّة القروسطيّة وبتشكّل المُدن المصرَّح بها. وإنّ حجّة بيرين (١٩٢٥، صص ١٩٣-١٩٤) ذائعة الصّيت حول المدينة القروسطيّة هي أنّ "فضاء المدينة يجلب الحريّة”: إذ "كانت الحريّة في العصور الوسطى سمةً لا يمكن فصلها عن مواطن المدينة كما هي اليوم سمة لازمة لمواطن الدّولة". واشتملت العناصر الأساسيّة للحريّة على الحريّة الشخصيّة -أي التحرّر من العبوديّة الإقطاعيّة- وعلى تحرير الأرض -أي حريّة تنقيل وتحويل الملكيّة بطريقةٍ مماثلة لما نفكّر فيه اليوم باعتباره أملاكاً غير منقولة (بيرين، ١٩٢٥، ص ١٩٤). وبالتالي، كان ميثاق المدينة هو الذي يمنح هذه الحريّات، خالقاً أرضاً قانونيّة عن طريقها يعيش المرء في مدينة مشتركة لعامٍ وليومٍ خالٍ من التزامات العبوديّة، وعلى رأسها سيطرة اللورد الإقطاعيّ على عقول وأجساد المرؤوسيين الإقطاعيين (ممفورد، ١٩٦١، ص ١٦٢). وفي الواقع، حُكمت هذه المقاطعات القانونيّة بنظام من القواعد والقوانين، بما فيها تلك التي أنتجت بيئة مبنيّة متحكَّماً فيها بشكل كبير ذات وحدةٍ جماليّة. في سيناء، مثلاً، كان هناك جهدٌ كبير لإكمال ولتلميع ولتقنيين التنظيم الماديّ غير الرسميّ لتاريخ سيناء المبكّر. وهناك في القرن الرّابع عشر، أصدر مجلس المدينة قانوناً يقضي بأنّ "أيّ صروح يُجري بناؤها من جديد لا بدّ أن تتماشى مع خطّ المباني المتناسقة... ويجب تنظيمها وتنسيقها بالتساوي كي تكون جمالاً عظيماً للمدينة" (كوستوف، ١٩٩١، ص ٧٠).

وفي مدينة بروج ببلجيكا، لعب التجار الممثَّلون من جانب النقابات الترابطيّة دوراً كبيراً في السيرورة التي حكمت تشكّل الفضاءات العموميّة، وفي فلورنسا أواخر العصور الوسطى، قنّنت الجمهوريّة الشّابّةُ سيطرتها على شوارع المدينة (كوستوف، ١٩٨٥، صص ٣٥٩-٣٧١). وكان ذلك بمثابة وحدةٍ جماليّة صنّفت وأخضعت الفعل الفرديّ لاتفاق جماعيّ أكبر. إنّ  المواثيق والعقود والقيود المفروضة لجمعيّات مالكي المنازل اليوم والقوانين الحضريّة الجديدة ولوائح الإرشاد إنّما تحقّق أثراً مماثلاً، بحيث تتنتج أراضٍ مقنّنة وموحَّدة جماليّاً.
 
والحال أنّ أهمّ الآثار المترتّبة على الحضريّة القروسطيّة بالنسبة إلى فهم المدن المعاصرة لتكمن في مفهوم الحريّة. فميثاق المدينة الذي كفلَ الحريّة انطوى على مفارقات محدّدة. أولاً، لقد كانت مقاطعة للتحرّر القائم على فكرة "التحرّر من" -أي، في هذه الحالة، التحرّر من ضرائب المصادرة وغيرها من الابتزازات المفروضة من قبل كبار الإقطاعيين (هوليستر، ١٩٦٤، ص ١٤٨) أو من قبل الأساقفة (بيرين، ١٩٢٥). ويكتب بيرين بأنّه:
 
لم يكن هناك أيّ شيء آخر في أذهان الطبقات الوسطى الأصليّة حولّ أيّ تصوّر لحقوق الإنسان والمواطن. والحريّة الشخصيّة نفسها لم يكُ يُزعَم أنّها حقٌّ طبيعيّ. بحيث سُعِيَ فقط للمزايا التي وفرّتها (بيرين، ١٩٢٥، ص ١٧١).
 
تعلّقت هذه المزايا بالمهنة في المقام الأوّل، مثل ممارسة الحرف اليدويّة وحرف التجارة. ثانياً، كان العقدُ استثنائيّاً بجوهره. إذ إنّ فوائده، مثل عائدات الضرائب الجماعيّة أو حماية قانون العقوبات، لا يمكن تمديدها إلّا لهؤلاء الذين يعيشون داخل المُدن المستأجرة. وبالتالي، أصبحت الطبقة الوسطى الحضريّة مثل طبقة رجال الدين والنبلاء -وهي منزلة امتيازيّة تتمتّع بطابع إقليميّ وقانونيّ خاصّ يسمح لها بالحفاظ على مكانتها الاستثنائيّة والعوائد المتعلّقة بها لاستبعاد الجمع الغفير من السكّان الريفيين. وعلى حدّ تعبير بيرين (١٩٢٥، ص ٢١٢)، فقد كانت الحريّة احتكاراً. وثالثاً، لا يمكن ممارسة حريّة كهذه إلّا عن طريق المجموعة.

“فلم يكن ثمّة أمنٌ إلّا من خلال الحماية الجماعيّة ولا حريّة تعترف إلّا بالالتزام الراسخ لحياة جماعيّة" (ممفورد، ١٩٦١، ص ١٦٩). وعلى الرّغم من الاختلافات في النطاق، فإنّه من الممكن أن نقارن جمعيات مالكي المنازل اليوم مع المقاطعة القروسطيّة المستأجرة. إذ إنّ الملكية اليوم مهمّة بالقدر نفسه التي كانت به مهمّة في القرون الوسطى. وفي كلتا الحالتين، تقوم المواطنة الحَضريّة على إدارة فضاءٍ انعزاليّ (secessionary) من التنظيمات والقوانين الداخليّة.
 
وأخيراً، فإنّ المقاطعات القروسطيّة الترابطيّة تنافست مع بعضها البعض؛ الأمر الذي مهد الطريق للسيادة المتشظيّة التي سنناقشها في القسم التالي. لقد كانت المدينةُ المستأجرة في أواخر العصور الوسطى ثورةً ضدّ حكم الأساقفة في بواكير القرون الوسطى (بيرين، ١٩٢٥، ص ١٧٧). وغالباً ما كانت المدن المستأجرة ينشؤها أثرياء التجار الذين حكموا كـ"أوليغارشيّات المدينة" (هوليتسر، ١٩٦٤، ص ١٤٩). وغدت، في بعض من تلك المدن، نقابة التجاريين تهيمن على نقابة الأعمال الحرفيين، بحيث أحلوّا مكان حكم الحرفيين البارزين حكمَ التجار كما هو الحال في المدن الفلمنكيّة حتى ثورة نقابات الحرفيين في القرن الرّابع عشر (جيروارد، ١٩٨٧).

وكانت المنافسة بين النقابات تكافئها المنافسةُ بين التّجار وكبار الإقطاعيين. وفي بعض الحالات، أصدر كبار الإقطاعيين مواثيق للمدينة كفلت "التحرّر الشخصيّ من حالة العبوديّة، وحريّة التنقل، والتحرّر من الضرائب المبالغ فيها، والحقّ في الملكيّة الخاصّة" (هوليستر، ١٩٦٤، ص ١٤٩). أمّا في حالات أخرى، فكانت هناك تحالفات بين السّلطات الملكيّة والأراضي المستأجرة المحليّة كوسيلة لإضعاف طبقة النبلاء الإقطاعيين (ممفورد، ١٩٦١). إذن، كان المشهد القروسطيّ مشهداً تمّ التفاوض فيه على الحريّة من خلال الانعزال والتراتبيّة على حدّ سواء.
 
تدلّنا حالة المُدن الإيطاليّة في أواخر القرون الوسطى على هذه الصّراعات. حيث إنّ العائلات النبيلة، كما حلّلها كوستوف (١٩٩١، ص ٥٠)، قد أعادت إنتاج معاقل محصَّنة لمساكنهم الريفيّة داخل المدن، مشكّلين بذلك أحياءً شبه مستقلة ونوويّة مدجّجة بالحصون الدفاعيّة. والحال أنّ إحدى تجارب الكميونات الوليدة، أو دول المدينة المحكومة ذاتيّاً في أواخر العصور الوسطى ستكون لاختراق هذه المدن الخاصّة واستعادة الشوارع والأماكن العامّة باسم المواطنين كافّة.
 
لكنّ المواطنة نفسها كانت مفهوماً محدوداً: إذ كان "المواطنون الكاملون أقليّةً حسودة، ومدينةً صغرى داخل المدينة نفسها" (بروديل، ١٩٧٩، ص ٥١٨). وبينما تمّ تحدي مقطاعات الأقوياء هذه، فقد سعت المدينةُ نفسُها إلى البقاء كمقاطعة، ساعيةً على نطاق آخر لتصبح دولة المدينة أو الجمهوريّة البَلَديّة. وكما يلاحظ بيرين (١٩٢٥، ص ٢٢٨)، "إذا كانت لهذه المقاطعات القدرة، فلربّما أصبحت دولاً داخل الدّولة في كلّ مكان". فبين القرنين الخامس عشر والثامن عشر في أوروبّا، "لُمَّ شمل هذه المقاطعات تحت رمز جديد: ألا وهو رمز الأمير”، وهو الرّمز الذي تجسّده مقولة ميكافيلي (ممفورد، ١٩٦١، ص ٣٤٧). وكان يتحتّم على المواطنة في هذه اللحظة أن تُقنَّن وتُنظَّم لا في المكانة الاستثنائيّة لعقد المدينة، وإنّما أن تُعمَّم بالأحرى على مدار الاقتصاد المكانيّ للدّول القوميّة الحديثة.
 
بطبيعة الحال، يمكن الحديث حول المقاطعات المُسيّجة والمواطنة الحَضريّة المعاصرة دون أيّة إشارة إلى المدن القروسطيّة. ومن الممكن أن نوثق العدد المتزايد للمقاطعات، وأن نشرح عمليّة دوران رأس المال العقاريّ وأن نحلّل "إيكولوجيا الخوف" التي تنتج جماليّات المجتمعات الآمنة. فكلّ ذلك أشكال مهمّة من المعرفة العلميّة، لكنها ليست مشروعنا.

فقد حاججنا في هذا المنعطف التاريخيّ الوجيز بأنّ المماثلة القروسطيّة تلقي الضوء على بُعدين أساسيين من المقاطعات الحضريّة المعاصرة: أي الطبيعة الاحتكاريّة للحريّة باعتبارها مؤقلمةً في فضاء حضريّ ومقنَّنة في مواثيق وعقود حضريّة؛ وتعدّديّة السيادة وتشظيها. حيث تنقلنا مثل هذه الإشكالات إلى التفكير في المقاطعات المبوّبة باعتبارها "آثاراً" للنيوليبراليّة أو للمحافظيّة الاجتماعيّة لتحليلها كتقانات للتذويت وللسيادة وللمكانيّة. إنّ المقاطعات المبوّبة لتمنح الأهميّة لما اصطلح عليه روز (١٩٩٠)، موظفاً فوكو، بـ"قوى الحريّة"، أي أشكال الهيمنة التي تفترض سلفاً حريّة المحكومين. بعبارة أخرى، تمثل المقاطعة تقانة مهمة للحكم، وهي شكلٌ من أشكال الحكم الذي يعمل عبر حلزون مزدوج من التحرّر والسيادة، ومن الحريّة والحماية.
 
٢- إقامة العشوائيّات المنظّمة
 
كانت إقامة العشوائيّات، على مدار التاريخ، تقنية مهمّة لاستيطان الأرض. واليوم، تشكّل العشوائيات، التي غالباً ما يشار إليها باعتبارها إسكاناً غير رسمي، جزءاً كبيراً من البيئات المبنيّة في مدن الجنوب العالميّ. أمّا السيرورات التي جاءت عن طريقها العشوائيات إلى الحيز الوجود، والتي تطور وتعزز وتكسب شكلاً حضرياً، فهي سيرورات مختلفة ومتعددة. وغالباً ما تعكس هذه السيرورات المسار التقليديّ للتخطيط الحضريّ، حيث تستهلّ أولاً باستيطان الأرض، متبوعاً بالبناء، ثمّ الإتيان بالنبية التحتيّة والخدمات.

وبدلاً من تحديد هذه الممارسات باعتبارها ‘غير قانونيّة‘، فإنّ هذه الممارسات تمّ فهمها بصورة أكثر ناجعيّةً باعتبارها نشاطات غير منظّمة في سياقٍ توجد فيها نشاطات مماثلة منظمّة (بورتيس، ١٩٨٩). وهذا "اللاتنظيم" هو بحدّ ذاته شكلٌ مميّز من التنظيم، وهو عبارة عن مجموعة من التكتيكات التي تعيد خلق اللارسميّة (informality) باعتبارها حاكميّة (governmentality). وكما حاججنا في مواطن أخرى، فإنّ اللارسميّة الحضريّة هي منطقٌ حَضريّ تنظيميّ.
 
فهي سيرورةٌ للهيكلة التي تضع قواعد اللعبة، والتي تحدّد طبيعة الصفقات بين الأفراد والمؤسّسات وداخل المؤسّسات. وإذا كانت الرّسميّة تعملُ تثبيت القيمة، بما فيها رسم القيمة المكانيّة، فإذن تعمل اللارسميّة عبر التفاوضيّة (negotiability) الثابتة للقيمة (روي والصيّاد، ٢٠٠٤، ص ٥).
 
وقد حاججت أنانيا روي بشكل خاصّ بأنّ اللارسميّة هي تعبيرٌ عن السّلطة السياديّة لتأسيس حالة الاستثناء.
 
فالأجهزة التخطيطيّة والقانونيّة للدّولة لديها السّلطة لتحديد موعد سنَ هذا التعليق للقانون، ولتحديد ما هو غير رسميّ وما هو رسميّ، ولتحديد أيّ شكلٍ من أشكال اللارسميّة سوف ينحج وأيّ شكلٍ سيختفي. إذ يُعاد إنتاج سلطة الدّولة من خلال القدرة على بناء مقولات الشرعيّة واللاشرعيّة وإعادة بنائها (روي، ٢٠٠٤، ص ٨).
 
إذاً، فإنّ التنظيم أساسيّ للارسميّة، وهو هذا المفهوم الذي يتمّ إيضاحه بدراسة الحضريّة القروسطيّة.
 
إنّ موضوع العشوائيات هو عنصر مهمّ للخطابات الدائرة حول المدن القروسطيّة. فقد حاجج كوستوف بأنّ معظم المدن القروسطيّة، سواء في أوروبّا أو في الشّرق الأوسط، كانت نتاجاً لـ"الدّمج": أي السيرورة العضويّة التي تحصل عندما يتمّ دمج تكتّلات صغيرة متعدّدة -وريفيّة غالباً- في سيرورة النموّ الحضريّ (كوستوف، ١٩٩١، ص ٣٤). وفي عملٍ آخر، يسوّي كوستوف بين "إضفاء الطّابع القروسطيّ" (medievalizing) مع اللارسميّة التزايديّة للعشوائيّات. ويوضّح كوستوف، وهو يحلّل مدينة روما أثناء سقوط الإمبراطوريّة الرّومانيّة، كيف أنّ المكاتب البلديّة لـ(Praefectura Urbana) انقطعت عن العمل، وكيف أنّ المواطنين بدؤوا في مغادرة المنظر الكثيف للشقق السكنيّة وبدؤوا يستوطنون داخل وخارج كثير من المباني غير المراقبة من المدينة القديمة. واستغرقت هذه السيرورة التدريجيّة، التي يطلق عليها كوستوف بـ"إضفاء الطابع القروسطيّ على روما"، ألف عام وغيّرت تدريجيّاً النسيج الحضريّ الهندسيّ للمدينة إلى درجة التعمية التامّة للأصل الذي بُنيَ عليه (كوستوف، ١٩٩٢، صص ٢٧٩-٢٩٠).
 
ومع ذلك، هناك تأثير لهذه السيرورات أكبر بكثير من كونها مجرّد تغيير في الشكل الماديّ أو في الموروفولجيا الحضريّة. وإنّ السياسة المميزة للمكان هي التي على المحكّ ههنا. وكما هو الحال في الأزمنة المعاصرة، كانت العشوائيات في العصور الوسطى ممارسة منظّمة بصورة كبيرة. وما يبدو للوهلة الأولى هو أنّ مشهد اللانظام تمّ إنتاجه في واقع الأمر عن طريق شبكات معقّدة من المعايير والقواعد. وفي مدن الشّرق الأوسط القروسطيّة، كان المحتسب، وهو شخصيّة نظيرة لرئيس البلديّة الأوروبيّ، يتصرّف كشرطيّ على المباني والأسواق. ولم يستأصل المحتسب اللارسميّةَ وإنّما بالأحرى صبَغ الممارسات غير الرسميّة بطابعٍ رسميّ بالسّماح لهذه الممارسات أن تحدث أولاً، ثمّ القبول بها باعتبارها قواعد سابقة في الزمن، وأخيراً بإيجاد القواعد الفقهيّة الإسلاميّة لشرعنة قبولها (الصيّاد، ١٩٨١).

ويمكن أن يُضرب مثال على ذلك بمالك المحلّ الذي يحتلّ جزءاً معيّناً من الشارع لعرض سلعه. فليس هناك قانونٌ يمنعه من فعل ذلك؛ بيد أنّ فعلَه ذلك يتعارض مع وظيفة التداول والحركة داخل المدينة. وسواء أكان نتيجةً للشكوى أو للتفتيش من جانب المُحتسب، فإنّ مالك المحلّ يُطلَب منه إمّا أن يسحب بضائعه من المساحات العامّة أو يُسمح له بأخذ جزء محدّد من هذه المساحات فقط. أمّا أصحاب المحلّات الأخرى، فيراقبون من جانبهم الحادثَ، ويتنبّون الاتفاقيّة في نهاية المطاف. وبالتالي، يبرز نمطٌ من تخصيص مساحة حضريّة عامّة لصالح استخدامٍ تجاريّ خاصّ. ومن ثمّ، يُقبل هذا نمط الحياة الحضريّة هذا ويُطبَعَن من قبل إدارة المدينة ومن جانب السّكان على حدّ سواء (الصيّاد، ١٩٨١).

ومن الأمثلة الأخرى على ذلك أيضاً أن يقوم ساكن منزلٍ بالتوسعة ببناء طابق ثانٍ. حيث يجب بناء العناصر الهيكليّة في الحيّز العامّ للشارع، بل من المحتمل أن تبنى فوقه، بالإضافة إلى أنّها تطلّ أيضاً على المساحة الخاصّة للمنازل الأخرى. فمثل هذه الانتهاكات للمعايير للاجتماعيّة لا يتمّ التسامح معها من جانب المحتسب، وبالتالي يتفاوض الشخص المنخرط في التوسعة مع كلّ من جيرانه لتحديد موقع النوافذ بالضبط، ومن ثمّ يحلّ إشكاليّة انتهاك خصوصيّاتهم، ومع يتفاوض أيضاً مع إدارة المدينة حول مدى التوسعة في الحيّز العام؛ ومن ثمّ يَحدّ من المخالفة عندما ما يزال يحتلّ جزءاً من حيّز الشارع دون التعارض مع وظيفة الشارع في التداول والنّقل (أكبر، ١٩٨٨). في الواقع، توجد هذه الأمثلة في كلّ من الشرق والغرب.

فمن خلال هذه التفاوضات الدقيقة، يصبح النّسيج الحضريّ للمدينة مشرعناً، وهو مجموعة من الأشكال غير المنتظمة (الصيّاد وبريستول، ١٩٩٢). ويجب ألّا تُفسَّر سيرورة التفاوض هذه، والتي وجدت في كثير من المدن العربيّة أثناء القرون الوسطى، باعتبارها ثورةً ضدّ الدّولة. عوضاً عن ذلك، يمكن فهمها باعتبارها مفصلةً لشكلٍ معيّن من المواطنة المنطوية على تحالفٍ بين المجموعات المختلفة التي شكّلت لُحمة المجتمعات الحَضريّة.
 
لقد أولت المناقشة الدائرة حول اللارسميّة الحديثة اهتماماً كبيراً بالسياسة الحضريّة. ومن المقرَّر الآن أنّ الدّول الحديثة، سواء أكانت ديمقراطيّة أم سلطويّة، تنتجُ اللارسميّة وتديرها كطريقة لتأمين التراكم الرأسماليّ ولحماية الشرعيّة السياسيّة (كاستيلس، ١٩٨٣). بيد أنّه كان هناك اهتمامٌ متزايدٌ في السنوات الأخيرة بما يبدو أنّه أشكالٌ جديدة من الحوكمة والسياسة في مجال اللارسميّة الحَضريّة. فمع تعميق سياسة التقّشف النيوليبراليّة، برز الفاعلون غير الحكوميين (non-state actors) باعتبارهم دولة فعليّة في مستوطنات غير رسميّة في مختلف مناطق العالم (روي والصيّاد، ٢٠٠٤). والأكثر إلفاتاً للنظر هو الالتقاء بين الجغرافيّات اللارسميّة وأقْلَمة الأصوليّات الدينيّة. فمع انسحاب الدّولة عن برامج الإنفاق الاجتماعيّ، غدتِ المجموعات الأصوليّة الدينيّة المزوِّد الأساسيّ للخدمات الحضريّة في المستوطنات غير الرسميّة (بيّات، ٢٠٠٢).
 
والحال أنّ حيّ إمبابة في القاهرة يُعد أحد الأماكن الرئيسة التي أصبحت فيها مثل هذه العمليّات واضحة بشكلٍ حادّ. ففي ١٩٩٢، اقتحمَ الجيشُ المصريّ إمبابة لإنهاء حكم الجماعة الإسلاميّة التي كانت قد أعلنت أنّ إمبابة "دولة داخل الدّولة". كيف أسّست الجماعة الإسلاميّة نطاق السيادة هذا؟ تكمن الإجابةُ جزئياً في إعادة الهيكلة النيوليبراليّة. فالالتزام الصّارم لمصر بقواعد التكيّف الهيكليّ أتى بعواقب وخيمة على الفقراء الحضريين للمدن مثل القاهرة. وفي حيّ كحيّ إمبابة، كان هناك تزايدٌ حادّ في نسبة الفقر والعمل غير الرّسميّ.

وكانت إمبابة، التي تكوّنت من مشاريع إسكان عامّة متداعية ومن عشوائيّات في أواخر السبعينيّات، موقعاً لانتفاضة الخبز التي أحدثتها سياسات صندوق النّقد الدّوليّ (إبراهيم، ١٩٨٢). وبحلول الثمانينيّات، استولتِ الجماعةُ الإسلاميّة على إمبابة، وهي جماعةٌ على صلةٍ باغتيال الرئيس المصريّ أنور السّادات، والتي أصبحت دولة فعليّة. فمن ناحيةٍ، قدّمت الجماعةُ الإسلاميّة معظم الخدمات الاجتماعيّة -من الرّعاية الصحيّة إلى التعليم. وقسَّمت إمبابةَ، من ناحيةٍ أخرى، إلى عشرة أقسام، كلّ قسم محكوم من قبل أمير يحكم وفقاً للتفسيرات الأصوليّة للإسلام (إسماعيل، ٢٠٠٠).
 
 
ليست إمبابة استنثاءً. ففي لبنان، يعتبر حزب الله دولةً فعليّة أيضاً، وحزب الله هو الجماعة التي تقع على رأس قائمة الولايات المتحدة للإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر. إذ تشمل برامجه التنمويّة في ضواحي لبنان الجنوبيّة على توفير المساكن من خلال جهاده للبناء والتعليم والخدمات الطبيّة والمياه والصّرف الصحيّ والكهرباء (الكاك، ٢٠٠١؛ بيّات، ٢٠٠٢). وبما أنّه أُعيد بناء بيروت عبر مشاريع حَضريّة متطوّرة مثل شركة سولدير وإليسار، فإنّ حزب الله برز باعتباره الوسيط الأساسيّ لحقوق الإسكان بالنسبة إلى الفقراء الشّيعة (مجدلاني، ٢٠٠١).

ولا يمكن فهم صعود حزب الله إلى السّلطة إلّا في سياق الحرب الأهليّة في بيروت حيث قُسِّمت المدينة إلى مناطق مختلفة تُحكَم كلّ منطقة فيها من قبل ميلشيا دينيّة، وهي ليست آلة حرب فقط، وإنّما جهازٌ أيضاً لتقديم الخدمات والتنمية. وفي مومباي، اكتسبت جماعات أصوليّة هنديّة مثل جماعة (Shiva Sena) على شعبيّة في النطاق الحضريّ لوعدها باستصلاح المساحة في المساكن الضيّقة بصورة فجّة وبأسواق الأراضي في المدينة. وكما يلاحظ أبادوراي (٢٠٠٠)، يأتي هذا الاستصلاح بالطّبع من خلال المحو العنيف للكتلة المسلمة. أو كما في حالة الأحياء الفقيرة والعشوائيات في أمريكا اللاتينيّة، برزت الحركة الخمسينيّة (Pentecostal) كمنطق للحوكمة والسياسة (ديفيس، ٢٠٠٤). ومن الواضح أنّه ليست كلّ هذه الأنظمة الدينيّة أصوليّةً.

وفي بعض الحالات، يكون منطق الدين ثانويّاً بالنسبة إلى القرابة والشكبات القرويّة كما في جمعيات المساعدة الذاتيّة في مصر الحَضريّة، والتي يصفها آصف بيّات (٢٠٠٢) باعتبارها "إسلاماً اجتماعيّاً". ومع ذلك، تقسّم هذه الجمعيات المدينةَ إلى أنظمة مواطنة مختلفة، حيث تدشِّن الأنظمة الدينيّة للحكم الحضريّ والأنظمة الحضريّة للحكم الدينيّ. ومن ثمّ، يحدّد كومارفوف (٢٠٠٠، صص ٣١٠-٣٢٧) هذه الأنظمة الدينيّة بأنّها سِمة مميّزة للرأسماليّة النيوليبراليّة، وأنّها "خصخصةٌ للألفيّة" عبر خلْق الدّول الموازية وبأنّها إعادة تشكيل للمواطنة بصفتها "مشروطة، وجزئيّة، وظرفيّة".
 
مرّةً أخرى، تقدّم الحَضريّة القروسطيّة إطاراً تحليليّاً ناجعاً لـ[فهم] هذه السيرورات المعاصرة. إذ كانت المدينة في بواكير العصور الوسطى مرادفة للإدارة الدينيّة، كما وصفها بيرين (١٩٢٥، ص ٦٣). ولم يكن لكلمات مثل مواطنين ومواطنة أيّ أهميّة قانونيّة؛ فقد كانت لا تعني سوى السكنى في المدينة الأسقفيّة. وبرز حكم الأساقفة في سياق اختفاء التجارة في القرن التاسع. ولم يتصرّف الأساقفة كقادةٍ دينيين فحسب، ولكن تمتّعوا أيضاً بصلاحيات الشّرطة المحدّدة بوضوح مثل الإشراف على الأسواق وتنظيم الضرائب (بيرين، ١٩٢٥، ص ٦٨). وكان هذا بمثابة مَفْصلة للمواطنة بمعنى متدنٍّ جدّاً للرعاية دون أيّ من الأشكال الترابطيّة الحضريّة المعقدّة التي كانت لإعادة تقويم الرعاية والحماية في أواخر العصور الوسطى.

وبالفعل، يفسّر بيرين المدينة المستأجرة في أواخر العصور الوسطى كثورة ضدّ الأساقفة. وبالتالي، كيف يجب علينا أن نرى الأنظمة الحضريّة المعاصرة للحكم الدينيّ؟ هل يمكن النّظر إليها باعتبارها ثورة ضدّ المقاطعات المُسيّجة وانعزال الأقوى والأنجح؟ وإذا شهدت العصور الوسطى حكم الميثاق باعتباره ثورة ضدّ الأساقفة، فلربّما يكون إذن حكم الأساقفة اليوم  ثورة من جانب هؤلاء الذين تمّ إقصاؤهم من هِبة الميثاق النيوليبراليّ. 
           
ومع ذلك، كما سبق وأن ناقشنا بالفعل، نادراً ما كان للحضريّة القروسطيّة منطق أحاديّ للحكم. ففي معظم الأحيان، حُكمت المدينةُ القروسطيّة من جانب تحالف صعب وقارّ بين التجّار، ممثّلين في النقابات، والسّلطات الدينيّة، ممثّلة من قبل الكنيسة، و موظّفين، ممثّلين في دار البلديّة. وكانت التحالفات مع اللوردات الإقطاعيين أقلّ استقراراً. ويحاجج لابيدوس (١٩٨٤، ص ١٥) بأنّ المدن القروسطيّة في الشّرق الأوسط افتقدت، خلافاً لنظيرتها الأوروبيّة، لهذه الأشكال المؤقلَمة من الترابط. ويشير إلى أنّه كان هناك في الشّرق الأوسط جماعات سياسيّة "غير محكومة"، وهي الجماعات التي ألّفتها معاً العلاقات الاجتماعيّة مثل الترابطات الدينيّة الإسلاميّة.

وبغضّ النظر عن الحسابات الدقيقة للحوكمة، فيمكن النّظر إلى المدينة القروسطيّة بالتالي باعتبارها مساحة للسيادات المتنافسة، والتي قامت بعملها من خلال منطقٍ مؤقلَم للترابط والرعاية، سواء أكان حكماً دينيّاً في بواكير العصور الوسطى أو كان النقابات الحضريّة للطبقات الوسطى العليا.
 
وكما هو الحال في المقاطعة المسيَّجة، يمكن أن يناقش الطابع اللارسميّ (informalization) للمساحة الحضريّة المعاصرة دون إشارة إلى المدن القروسطيّة. ويمكن التصنيف من خلال الارتباطات بين النيوليبراليّة واللارسميّة؛ لتمييز شتّى أشكال اللارسميّة في المدينة النيوليبراليّة؛ ولتعقّب البزوغ التاريخيّ لأماكن مثل إمبابة في سياق الاقتصاد السياسيّ للتعبيّة وللتكيّف الهيكليّ. إلّا أنّ هذه الحجج، والتي قدّمنا بعضاً منها في مواطن أخرى، ليست هي محور اهتمامنا في هذه الورقة. إذ نسعى، عوضاً عن ذلك، إلى تسليط الضوء على السبل التي تلفتُ بها المماثلة القروسطيّة انتباهنا إلى بُعدٍ أساسيّ من العشوائيات غير المنظّمة: أي تعدّديّة السيادة وتعقّدها. إذ تؤدي العشوائيات دورها في العصور القروسطيّة من خلال منطق الرعاية. وتعبّر عن تفاوض الأحكام والتنظيمات التي تحكم فضاء المدينة. لكن عندما تُصبغ الرعاية بطابع رسميّ في حكم الأساقفة، فإنّ نطاق التفاوضيّة يتمّ اختزاله بصورة كبيرة. إذ يصبح منطق الرعاية هو منطق الحكم.

ومع ذلك، فلم يكن المنطق الحكم أحاديّاً أبداً في المدينة القروسطيّة؛ فالأرض دائماً هي أرض التحالف الصّعب والسيادات المتنقلة. والحال أنّ نقاشاً كهذه لمنطق الحكم ليعيد قولبة النقاش الدائر حول المدن المعاصرة. فغالباً ما تمّ تشخيص الحضريّة اليوم باعتبارها لحظة من الإقصاء والاحتواء الحاد، مرسومة من خلال أنماط التمييز وممثّلة بصورة كبيرة في أيقونة الجدار أو السياج. هذا هو معجم "المدينة الثنائيّة"، أي استدعاء صورة هؤلاء الذين يُستدخَلون فيها وهؤلاء الذين يُستبعَدون ويعتبرون زائدين عن الحاجة (كاستيلز، ١٩٩٦).

وتسمح المماثلة القروسطيّة بفهمٍ مختلف لما يسمّيه مموبي وروثمان (٢٠٠١) بـ"شخصيّة التابع في زمن الأزمة". فهي ليست مجرد شخصيّة إمّا يتمّ اشتمالها أو إقصاؤها، داخل المقاطعة المسيّجة أو خارجها؛ إنّها، بالأحرى، تلك الشخصيّة التي تعقد أشكالاً معقّدة من التفاوضيّة والعقلانيّة، كما هو الأمر فيما أسماه آصف بيّات (٢٠٠٠) بـ"الانتهاك الهادئ للعاديّ". إذ إنّ مقاربةً كهذه تجعل من الممكن أن نرى السّلطة البنيويّة لا كنظام حكمٍ أحاديّ ومتجانس، بل بالأحرى كمجالٍ متشظٍّ من السيادات المتعدّدة والمتنافسة. ويتجلّى هذا بشدّة في المستوطنات غير الرّسميّة المعاصرة حيث توجد هناك منافسة شرسة بين شتى أشكال الترابط والمحسوبيّة المؤقلمة -سواء أكانت من الدّولة، أو التنظيمات الدينيّة، أو المنظمات غير الحكوميّة، أو المؤسّسات الإنمائيّة الدّوليّة. ذلكَ هو فائض السّلطة، ممفصلاً من خلال الشظي والتعدديّة، الذي يحعل المدينة في يومنا هذا مكاناً للهيمنة السّاحقة. وهذه السيادات المتنافسة، كما كان الحال في المدينة القروسطيّة، لا يمكن فهمها بعقليّة ليبراليّة مجموعة المصالح، وهي نظامٌ ديمقراطيّ من الضوابط والتوازنات. بالأحرى، يجب فهم هذه السيادات باعتبارها تحجيراً للأصوليّات المتشظيّة أبداً ولآفاق العقل الضيّقة -وهي سياسة الإقطاعيّات المتفاوض عليها من خلال أنماط التنظيمات المرئيّة واللامرئيّة.  
 
٣- المخيم
 
يمكن تأويل اللحظة المعاصرة بوصفها لحظة انتقال إلى الإمبراطوريّة التي تلوح في الأفق بشكل كبير. وكان هناك حسّ متزايد في السنوات الأخيرة بأنّ العولمة النيوليبراليّة تتحول إلى عولمة إمبرياليّة، أو على الأقلّ بأنّها تكشف عن طابعها الإمبرياليّ لا محالة. والحال أنّ أحد التصوّرات الأكثر إثارةً للجدل بشأن الإمبرياليّة هو التصوّر الذي يقدّمه كلّ من أنطونيو نيغري ومايكل هاردت (٢٠٠٠). ففي تحليلهما القويّ، يحاججان بأنّ الإمبراطوريّة اليوم هي جهازٌ للحكم منزوع عنه الطابع المركزيّ والإقليميّ (هاردت ونيغري، ٢٠٠٠، ص ١٢). بيد أنّهما يشدّدان على أنّ هذا "الفضاء الأملس" (ص ٣٣٧) للسيادة العالميّة يتطلّب تدبيراً جديداً للفضاء الاجتماعيّ، لا سيّما الأنماط المتشظيّة للإدارة.
 
لقد كانت تشظية الجمهور في واقع الحال شرطاً للإدارة السياسيّة على مدار التاريخ. ويكمن الاختلاف اليوم في حقيقة أنّه بينما عملت الإدارة في الأزمنة الحديثة للسيادة القوميّة على تحقيق إدماج خطيّ للصراعات وعلى إقامة جهاز متماسك يمكنه قمعها... إذ باتت الإدارةُ، في النّسق الإمبرياليّ، متشظيّة وترمي إلى دمج الصراعات ليس عن طريق فرض جهاز اجتماعيّ متماسك ولكن بالسيطرة على الاختلافات (نيغري وهاردت، ٢٠٠٢، ص ٣٣٩).
 
ويقارن المؤلّفان الأنظمة المحليّة للإمبراطوريّة بالأنظمة السياسيّة القروسطيّة، ولا سيّما العلاقة الإداريّة بين المنظّمات الإقليميّة الإقطاعيّة والبنى الملكيّة للسّلطة. فاليوم، هذه الأشكال من الإدارة المتشظيّة واضحة بجلاء. وأفغانستان ما بعد الحرب هي مثالٌ صارخٌ حيث لدى ما تُسمّى بالحكومة المركزيّة، وهي تردّ على الإدارات الإمبرياليّة الأمريكيّة، السيطرة على مدينة كابل العاصمة، وحيث بقيّة البلد مكوّنة من مناطق للسيادة محكومة من جانب أمراء الحرب. ويكتب أمبيبي بشأن لحظة الحرب الجديدة بأنّه:
 
ليس من السّهل تقديم المطالبة بالسّلطة النهائيّة والمطلقة في فضاءٍ سياسيّ ما. عوضاً عن ذلك، إنّ خليط حقوق الحكم المتداخلة وغير الكاملة، وهي الحقوق المركَّبة والمتشابكة بشكل معقّد، تبرز هناك حيث يتمّ مزج شتّى الحالات القضائيّة الفعليّة جغرافيّاً، وحيث الولاءات الجمعيّة والسيادات اللامتماثلة والمقاطعات مرسَّخة (أمبيبي، ٢٠٠٣، ص ٣١).
 
وفي ظلّ شروطٍ كهذه، فإنّ المخيّم هو النّمط المكانيّ البراديغميّ. واحتذاءً بأغامبن (١٩٩٥، ص ١٧٤)، يمكن النّظر إلى المخيّم باعتباره "المكان الذي يتمّ فيه تعليق النّظام الطبيعيّ في واقع الحال". بمعنى آخر، إنّ المخيّم هو المكان الذي تصبح فيه حالة الطوارئ، وحالة الاستثناء، هي القاعدة، وهي تدبيرٌ مكانيّ راسخ. لاحظوا مثلاً التبادل التالي خلال حجج المحكمة العليا مؤخراً فيما يتعلّق بمعتقلي غونتانامو حيث حاججت الإدارة ممثّلةً من قبل السيّد ثيودور أولسون بأنّ المحاكم الأمريكيّة ليس لديها أيّ سلطانٍ قضائيّ على هؤلاء المعتقلين بسبب الاستثنائيّة الدائمة للحرب على الإرهاب.
 
القاضي جون بول ستيفنس: سيّد أولسون، على افتراض أنّ الحرب انتهت، هل يمكن أن تواصل سجن هؤلاء النّاس في غونتانامو، وهل لذلك سلطان قضائيّ إذن؟
 
سيّد أولسون: نعتقدُ أنّه لن يكون هناك سلطان قضائيّ.
 
القاضي: إذن، إنّ وجود الحرب على صلةٍ وثيقة حقّاً بالنّظام القانونيّ، أليس كذلك؟ (نيو يورك تايمز، ١٢ أبريل، ص ٢٠).
 
وإذا فُهمت الإمبراطوريّة باعتبارها حدّاً لا نهائيّاً للحرب العادلة، أي الحرب باسم العدالة (هاردت ونيغري، ٢٠٠٠)، فإنّ المخيّم بالتحديد إذن هو المكان الذي يُنشَر فيه العنف باستمرار باسم السّلام والنّظام. بهذا المعنى، يمكن للمخيّم أن يكون أماكن مختلفة عديدة: السّجن، والسّجن الحربيّ، وملجأ الذين لا وطن، ومخيّم العمال، ومخيّم الاعتقال، ومخيّم اللاجئين.
 
إنّ المخيّم هو فضاءٌ ما بعد مَدِينيّ. فهو يشكّك في العلاقة المعياريّة بين المُدن والمواطنة. وكما يحاجج أغامبن (١٩٩٥، ص ١٨١)، يُسلّط المخيّمُ الضوءَ بحدّة على النماذج التي تحاول العلوم الاجتماعيّة والسوسيولوجيا والدراسات الحَضريّة والهندسة المعماريّة عن طريقها أن تصوّر وتنظّم الفضاء العامّ لمدن العالم دون أيّ وعيٍ بيّنٍ بأنّه تكمن في لبّ هذه المدن الحياةُ العارية نفسها [كما في المخيّمات] (حتى وإنْ بُدِّلت وصارت أكثر إنسانيّة على ما يبدو) التي حدَّدت البيوسياسة لكبرى الدّول التوتاليتاريّة في القرن العشرين.
 
والحال أنّ ثالوث الدّولة/والذّات/والمكان الذي يعزّز الخطاب الليبراليّ حول المدن والمواطنة ليُعاد تقويمه في المخيّم. هذا هو فضاء "اللاقانون"، والذات هي "الحياة العارية"، والدّولة هي التي تجمع السيطرة مع الرعاية، والموت مع الحياة.
 
إنّ المخيّم هو فضاء الاستثناء لأنّه يُحدّد في لحظة الطوارئ كفضاء متجاوز للإقليم. حيث تتجاوز السيادة الحدود القوميّة، موسّعة تعليق القانون إلى هيئات خارج الدولة. لكنّ ما هو خارج الإقليم هو أكثر من ذلك. فكما هو واضح في غوانتانامو، فهو نطاقٌ من "اللاقانون"، والذي يُخلَق عبر ازدواجيّة السيادة: المزاعم الأمريكيّة بأنّ لدى كوبا "سيادة مطلقة"، سوى أنّ للولايات المتحدة "سلطاناً قضائيّاً وسيطرة تامّين". إذن، المخيّم هو مكان مُحدّد سلفاً، وهو مكان يمكن فهمه من خلال المفهوم الأورويليّ* عن التفكير المزدوج (doublethink): أي قيام معتقدين متناقضين في عقل المرء في آن واحد والقبول بهما معاً. فالولايات المتحدة سلطةٌ سياديّة في غوانتانامو ويمكنها هكذا أن تحتجز الرعايا الأجانب هناك منذ ١٩٩١ الذين بسبب كونهم محتجزين خارج الأراضي الأمريكيّة فليس لهم حقوق بموجب الدستور الأمريكيّ.
 
وفي نطاق اللاقانون بالمخيّم، تُطوَّعُ الذوات كـ"حياة عارية". وتلاحظ جوديث بتلر (٢٠٠٤، ص ٩٨) في اشتباكها مؤخراً مع أغامبن بأنّ المخيّم ليس مجرّد حالة استثناء، ولكنّه أيضاً حالة من اللا تذويت (desubjectivation). فهو يقضي بأنّ "بعض الذوات يخضعون لتعليق وضعهم الأنطولوجيّ بوصفهم ذواتاً عندما تُستدَعى حالة الطوارئ" (بتلر، ٢٠٠٤، ص ٦٧). هذه هي "الحياة العارية" -أي "لا العيش بمعنى أنّ هناك حيواناً سياسيّاً يحيا، في جماعة ويقيّده القانون، ولا الموت، وبالتالي فهو خارج الشّرط التأسيسيّ لحكم القانون"[3]. بهذا المعنى، يتجاوز المخيّم البيوسلطة، لتصبح الذات البيوسياسيّة هي الحياة العارية والسيادة، ولتصبح ما يسمّيه إمبيمبي (٢٠٠٣) بـ"النيكرو سياسة" (necropolitics)، أي تحديد هؤلاء الذّوات الذين لا يهمّ موتهم ولا حياتهم.
 
لكن ليست ممارسة السيادة في المخيّم مجرّد تعليق لحكم القانون. فالمخيّم هو المكان التناقضيّ حيث يُعلّق القانون فيه على يد حامي القانون وباسم السّلام والنّظام والصالح العامّ. كما إنّ المخيّم، على حدّ تعبير  مالكي (٢٠٠٢، ص ٣٥٣)، هو "جهاز للرعاية والسّيطرة"، حيث تقوم الرعاية على الإنسانويّة الاستثنائيّة لصاحب السّيادة؛ "سواء أكانت أم لم تكن الفظائع التي تُرتكَب لا ترتكز على القانون وإنّما على والكياسة والحسّ الإيتيقيّ للشرطة التي تتصرّف مؤقتاً باعتبارها صاحبة السيادة" (أغامبن، ١٩٩٥، ١٧٤). أتذكرون أبو غريب؟
 
 
وهناك عديدٌ من المماثلات المحتملة بين الفضاء البيوسياسيّ والمدينة القروسطيّة. وما بناء فضاءات "اللا قانون" سوى واحدة نقاط التلاقي هذه. وكما  يتّضح في الحرب الدائرة في العراق، إذ يصبح الجهاز الأمنيّ والعسكريّ مخصخصاً بصورة متزايدة، رفقةَ المرتزقة المنخرطين في حماية المبعوثين الأمريكيين، في استجواب السجناء وفي إدارة البنى التحتيّة البتروليّة. ولا يتعلّق أيّ سلطان قضائيّ قانونيّ بهؤلاء المرتزقة وذلك لأنّهم يعملون من خلال وضع استثنائيّ. وهذا يذكّرنا كثيراً بالدّور الذي تقوم به جماعات المرتزقة التي غالباً ما توظَّف على أسس إثنيّة أو عرقيّة للمساعدة في الاستيطان والسيطرة على المدن الإسلاميّة في أواخر العصور الوسطى، سواء أكانت ثغوراً مرابطة أو مقرّات سلطة للخلافة أو مدناً محتلّة (الصيّاد، ١٩٩١). وتقتضتي هذه النّزعات مرّة أخرى أن تُفهَم السّلطة المؤقلَمة بمعزل عن مفاهيم الانعزال والتحويط والحجْر، وأن تُفهم أيضاً عبر مفاهيم الاستثنائيّة.
 
غير أنّ نقاشاتٍ كهذه للمخيّم لا تتطلّب تحوّلاً إلى المدينة القروسطيّة. ففوكو وأغامبن يكفيان بالغرض كمصادر للمفاهيم التحليليّة. إذاً، ما هي القيمةُ المضافة للمماثلة القروسطيّة فيما يخصّ المخيّم؟ إذ يجدر بنا، ههنا، أن نتحوّل إلى نقاش محدّد جداً واحدٍ من أنواع المخيّمات: ألا وهو مخيّم اللاجئين. فقد طرحَ ميشال آجير مؤخراً إمكانيّة [فكرة] مخيّم المدينة. ويحاجج بأنّه بينما يُعدّ مخيّم اللاجئين شكلاً كسيحاً ممّا هو حضريّ، كما كان الأمر في بلدات الفصل العنصريّ، فإنّه من الممكن أن نشهد بعض الأبعاد الأساسيّة للمدينة في المخيّم: بالمعنى العلائقيّ للمدينة، وبالمعنى السياسيّ لدولة المدينة. إنّ آجير مهتمّ، بشكل خاصّ، بالطرق التي تؤسّس بها الرقعة الإثنيّة المحدّدة في المخيّمات (آجير، ٢٠٠٢، ص ٣٣٢).

ولغته، أي إنّ الجنسيّات تصبح إثنيّات في المخيّمات، لا تتقاطع مع المؤرخين القروسطيين من أمثال بيرين فحسب، وإنّما تتقاطع أيضاً مع لغة مدرسة شيكاغو للسوسيولوجيا الحضريّة: أي إدراك المدينة باعتبارها فسيفساء للجنسيّات الإثنيّة. أمّا مالكي، التي تحاجج ضدّ آجير، فتشدّد على أنّ إشكال المواطنة الحضريّة لا يمكن طرحه بسهولة فيما يتعلّق بمخيّم اللاجئين. واحتذاءً بأغامبن، تنظر مالكي إلى المخيّم باعتباره فصاءً من الحياة العارية، وهو فضاء بيوسياسيّ مطلق، يتعارض بشكلٍ حادّ مع كوزمبوليتانيّة المدينة. إنّ المخيم، في تحليل مالكي، هو اللامدينة.
 
إنّ الجدال الدائر حول المدينة/المخيّم يستحضرُ "الحيّ الإثنيّ" للحضريّة القروسطيّة في كلّ من الشّرق والغرب. وفي المدينة العربيّة الإسلاميّة بالقرون الوسطى، كانت المجموعات الإثنيّة أو الدينيّة معزولة في مساكن وأحياء معيّنة. وكان السّكان الإثنيين أو الدينيين مخوّلين أو مَدارين للقيام بمهمة حضريّة معيّنة أو بالتجارة (حوراني، ١٩٧٠). وأحياناً ما قيِّدت حركتهم داخل الأحياء الإثنيّة في ظلّ أنظمة جائرة أو في أوقات الشّدة. ويبدو أنّ الأحياء اليهوديّة في كثير من المُدن القروسطيّة في كلّ من الشّرق الأوسط أو أوروبّا قد ظهرت باعتبارها ردّاً على رغبة استبعاد اليهود من بعض جوانب الحياة الحضريّة ومن التبادل الاقتصاديّ، مع السّماح لهم بدرجة من المرونة الاقتصاديّة (غوتريتش، ٢٠٠٣). بمعنى آخر، إنّ الأحياء الإثنيّة أنتجت مواطنين إثنيين من الدّرجة الثانية.
 
وههنا، فإنّ إشكاليّة التفرقة في المدن القروسطيّة العربيّة الإسلاميّة تقتضي بعض التأمّل والتفكير. إذ أثبتت معظم المدن في العالَم العربيّ في القرون الوسطى مستوى عالياً من التفرقة القائمة على الإثنيّة والعرْق والدّين أو الانتماء القَبَلِيّ. وسواء أكان ذلك في تونس القرن السادس عشر، أو في حلب القرن السابع عشر، فلا يمكن إنكار أهميّة الرَّبْع الإثنيّ (رايموند، ١٩٨٥، ١٣١). لكن سيكون من الخطأ أن نصنّف هذه الرّبوع الإثنيّة للأقليّات كما مع ربوع الأقليّات الأصليّة في مدينة فينسيا أو بالمعنى الحديث للكلمة. ففي الواقع، على الأقلّ في الشّرق الأوسط، لم تكن بعض المجموعات الإثنيّة والدينيّة مجبرة على العيش في ربوع كهذه.

ولم يكن كذلك حتى أحكمت الإمبراطوريّة العثمانيّة سيطرتها على معظم المُدن الإسلاميّة التي أصبحت التفرقة فيها وضعاً وحالاً. ولم يظهر إنفاذ النّزعة الجديدة كرد على مخاوف العنف الإثنيّ، لأنّ هذه الجماعات الأقلويّة تمتّّعت بعلاقات اجتماعيّة طيّبة مع المجموعات الأخرى. عوضاً عن ذلك، يبدو أنّ هذه الجماعات المُفرَّقَة، مثل مخيّم اللائجين الحديث، كانت أداةً لجهاز الدّولة لإدارة السّكان الإثنيين والتحّكم فيهم (رايموند، ١٩٨٥، ص ٢٢). وههنا، وجدت الأقليّات الإثنيّة درجة من الاستقلاليّة الدينيّة والاجتماعيّة التي لم يكونوا يتمتّعون بها بطريقة أخرى (رايموند، ١٩٨٥، ص ٢٢١).
 
وبينما يمكن النّظر إلى الرّبع الإثنيّ باعتباره نمطاً من الحياة، مع "اختراعات اليوميّ" و"خليط الهويّات الجديدة" البائن في مخيّم المدينة عند آجير، فيجب أيضاً إدراك الرّبع الإثنيّ كتقنية سيطرة. فالرَّبع الإثنيّ في المدينة القروسطيّة، حاله حال المخيّم اليوم، كان فضاء من الاستثناء، وهو الفضاء الذي عُلِّقت فيه المواطنة الحضريّة عبر مرونة السّلطة السياديّة. إنّ الرّبع الإثنيّ باعتباره فضاءً من الاستثناء لم يكُ كامناً خارج النّظام القانونيّ للمدينة؛ فلم يكن غياب القانون هو ما سبقَ القانون. بالأحرى، من خلال وضعه الاستثنائيّ فقد كان تأسيسيّاً لمفهوم المواطنة الحضريّة بحدّ ذاته -كما في دول المدينة في اليونان وروما، حيث أسّست النساء والعبيدُ من خلال استثنائهم فكرة "الرّجال الأحرار" كمواطنين كاملين. وعلى المنوال نفسه، فإنّ المخيّم هو تأسيسيّ للمدينة في يومنا هذا.     
 
من الجدير ههنا اتخاذ هذه الخطوة إلى الأمام مزيداً. فيمكن النّظر إلى المخيّم على أنّه يؤسّس المدينة كـ"خارجٍ تأسيسيّ". وفي حين أنّ آجير ومالكي يختلافان بحدّة حول ما إذا كان يمكن لمخيّم اللاجئين أن يتحوّل إلى مدينة، فإنّهما كلاهما يطرحان تنظيراً حول المدينة كمعيار يُعارض المخيّم. فبالنسبة إلى آجير، يمكن فهم المدينة بمعنى مدرسة شيكاغو لإيكولوجيا الإثنيّات، أو بتحديد الممارسات اليوميّة عند ميشال دو سارتو التي تزعزع شبكة السّلطة. أمّا بالنسبة إلى مالكي، فالمدينةُ هي فضاءٌ من الكزومبوليتانيّة، وتلك نقطة التقاء في النّظام ما بعد القوميّ لدى أبادوراي (٢٠٠٣)، وهذا الفضاء يتعارض مع القوميّة الإثنيّة القويّة للمخيّم. وبالتالي، يطرح كلٌّ من آجير ومالكي رؤية حول المدينة تذكّرنا بحجّة بيرين بأنّ "فضاء المدينة يجلب الحريّة". ويشير الرَّبْع الإثنيّ القروسطيّ إلى أنّ المدينة لم تكن "حرّة" بتاتاً -أو، بالأحرى، بأنّ حريّتها أتت من خلال تحويط الآخر وكبحه.

بهذا المعنى، فإنّ فضاءات استثناء كهذه هي "الداخل التأسيسيّ" للمُدن. إنّها أشكال الاستثنائيّة التي تشكّل شبكة ما هو طبيعيّ. ولا تكمن في المحيط الخارج-إقليميّ لفضاء المدينة، وإنّما، عوضاً عن ذلك، هي طرائق الدّولة بحدّ ذاتها، وللذاتيّة، وللفضاء الذي ينتج المدينة. وللكلام حول ذلك بلغة عصرنا فيقال إنّ المدينةَ والمخيّم متربطان حتميّاً بعضهما البعض لأنّ "حرّيتـ‘نا‘ تقوم على لا حريّتـ‘هم‘؛ لأنّه بعد وهلة من المستحيل ضبط الحدود بين الاستثناء والتعميم، بين القوميّة الإثنيّة والكزومبوليتانيّة، بين الجنديّ في أبو غريب والمسؤول التصحيحيّ في ولاية فرجينيا الغربيّة، بين الفظاعة والضرورة.
 
الحداثة القروسطيّة: ملاحظة ختاميّة    
 
هناك العديد من الأدوات المفاهيميّة المختلفة لمناقشة المدن المعاصرة وأشكال المواطنة الحضريّة. وقد يتساءلُ نقّادُنا لماذا لم نتحدّث ببساطة عن إقصاءات وتشظيات المدن المعاصرة؟ أليس هذا برسم لملامح المدينة النيوليبراليّة وبالتالي ألا يتطلّب بتفسيرٍ للإنتاج النيوليبراليّ للمكان؟ بلى، لكنّ هذا المشروع اضطلع به كثيرٌ من الزملاء البارزين. أمّا الذي لا يزال مستمرّاً في تحليل النيوليبراليّة، باللغة التي استعملناها في منشورات لنا سابقة، فهو الشّعور بالجِدّة: أي الشعور بنمط جديد من الإنتاج، وشعور بإنتاج جديد للمكان، وشعور بأشكال جديدة من الانبضباط والسيطرة. ويرمي استخدامنا لـ"القروسطيّ" إلى مساءلة هذه التيولوجيا، وهذا السير الحتميّ من خلال المراحل التاريخيّة وأنماط الإنتاج والتنظيم الاجتماعيّ. وربّما يكون إطارنا المفاهيميّ بمثابة إزعاج كبير للماديين التاريخيين، هل لأنّنا لا نفصل "القروسطيّ" عن نمط الإنتاج "الإقطاعيّ"؟ أليس هذا تسطيحاً للإنتاج التاريخيّ للمكان؟ فردّاً على هذه المخاوف، فإنّنا نتقّدم بالادّعاءات الآتية.
 
أولاً، إنّ استعمال "القروسطيّ" كمقولة تحليليّة يجعل القطيعة مع الفهوم التيولوجيّة لما هو حديث أمراً ممكناً. وإذا كان "الإقطاعيّ" هو نظامٌ من العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وإذا كان "القروسطيّ" هو نظامٌ من الفضاء التنظيميّ، فإذن يشيرُ تعبير "الحداثة القروسطيّة" المتناقض فيما يبدو إلى كيف يختبئُ القروسطيّ في قلْب ما هو حديث، وكيف يوجد الإقطاعيّ في صلب الرأسماليّة. ذلك هو "التكرار الجهنّميّ" الذي يسمح لفالتر بنيامين بالقضاء على أسطورة التقدّم التاريخيّ (بوك-مورس، ١٩٩١). والحال أنّ مثل هذه الانتقادات للتيولوجيا لتفرض أيضاً إعادة التفكير في مقولة ما هو حديث بحدّ ذاتها.

وتشير أمثلة المواطنة التي ناقشناها إلى كيف أنّ المدينة الحديثة تؤدي عملها عبر تنظيمٍ قروسطيّ للمكان. وتشير تلك الأمثلة أيضاً إلى أنّ التشكّلات المكانيّة قروسطيّة الطابع تعبّر عن هويّات ومطامح جديدة مثل الحقّ في إنتاج المكان، أو الوعد بالديمقراطيّة والازدهار الاقتصاديّ. وكما لاحظ كوماروف (٢٠٠٠، ص ٣١٣) بشأن أنظمة الحكم الدينيّ: فهي تجسّد "شكلاً قويّاً من أشكال الانضغاط الزمكانيّ"، "والقدرة على التسليم في الهنا والحال... كمقياس للإله العالميّ بحقّ". وبالتالي، تكشف عبارة "الحداثة القروسطيّة" المتناقضة عن المفارقات المتأصّلة لما هو حديث: أي إقطاعيّات الديمقراطيّة، والآنيّة الماديّة للأصوليّة الدينيّة، وترافق الحرب مع الإنسانويّة. إنّ هذا التعبيرَ، مثله مثل تعبير "الحداثات الإسلاميّة" (واطس، ١٩٩٦)، يتجاوز التنوّع الجيوسياسيّ الذي تنطوي عليه مفاهيم مثل "الحداثات المتعدّدة" أو "البديلة". فهننا، لا تتبنّى الحداثة مجرّد أشكال مختلفة في فضاءات مختلفة، وإنّما يتمّ إدراكها بالأحرى باعتبارها مشروعاً متشظياً ومقسّماً ومتناقضاً لا محالة.
 
ثانياً، إنّ هذا التعقيد لما هو حديث هو في الواقع تصفية حساب مع قصّة الأصول، ومع سرديّة الحداثة الأصليّة التي أُنتِجت في مكان المدينة الأصليّ. ويجدر بنا ههنا الاستشهاد بقطعة طويلة لروبرت ستاين بشأن الوظيفة النّقديّة للدراسات القروسطيّة. إذ يقول:
 
بدأ الإنسانويّون في القرن الخامس عشر بالكتابة عن زمنهم كعصر النّهضة وخلقوا، في هذه السيرورة، العصورَ الوسطى لتمييز الفترة بين أنفسهم وبين العصور القديمة التي كانوا يعمدون إلى محاكاتها والقبض عليها. ومن ثمّ، فإنّ تسمية عصر النّهضة هي نقطة أصل: فهي تبزع من هذه اللحظة الحديثة من الوعي التاريخيّ بالذّات بالتحديد عندما بدأت أوروبّا الغربيّة في سرد نفسها. وأتت هذه اللحظة بفكرة الحداثة ومعها سرديّات تاريخها في اللحظة ذاتها. فما من حداثة، ولا تاريخانيّة. أو للقول بصورة أخرى، فإنّ التاريخ بحدّ ذاته هو من البداية دائماً وليس سوى مجيء الحداثة إلى حيّز الوجود.

فالعصور الوسطى، المموقَعة بين لحظتين في سرديّة ما هو حديث، ليس لها إلّا مجرّد وظيفة مُعيقة... إذ العصور الوسطى هي جزءٌ من القصّة التي "لا حاجة" إلى قصّها... ولا أقصدُ بذلك أنّ التحقيب التاريخيّ هو اعتباطيّ بمعنى اللامعنى: بل بالأحرى أريد أن أشدّد على أنّ المعنى يُنتَج، وأنّه ليس معطى سلفاً، وأنّ التحقيب هو حاسمٌ بنيويّاً بالتحديد لأنّه هو أيضاً يتمّ إنتاجه -وفي السّرديّة... فإنّ نطاق حقبةٍ ما بطبيعة ترسيمها هو المكانٌ الذي يُنتَجُ فيه المعنى. (ستاين، ١٩٩٣). 
 
فبمجرّد ما تتمّ موقعة النّظريّة الحضريّة في "نطاق الحقبة" هذا، فإنّه يغدو من الممكن التساؤل حول الماضي والمستقبل لكن بدون افتراضات التقدّم والتأخّر. وفي حين أنّ الحداثةَ القروسطيّة تحلّ محل أسطورة التقدّم التاريخيّ بفكرة التكرار الجهنميّ عند بنيامين، فإنّها أيضاً تشير إلى التوقّعات الديناميكيّة للمدينة. كيف لنا أن نعقّد فكرة الزّمن الخطيّ التي ترتبط بالتوّقع والتنبؤ؟ وكيف نبدأ بالحديث عن أشكال الحداثة هذه حيث المستقبل هو أسوأ من الماضي (فيرغسون، ١٩٩٩؛ مبمبي وروثمان، ٢٠٠٢)، وفي الوقت الذي فكِّكت فيه فكرة التقدّم في كثيرٍ من أنحاء العالم؟ لذا، يبقى الوعدُ قائماً، والتوقّع أيضاً، لكنه ليس بالضّرورة وعدُ التقدم، ولا التوقّع بأنّ المستقبل أفضل من الماضي. ومن خلال اهتمامنا بالحضريّة القروسطيّة، فقد أشرنا إلى أنّ الأشكال الحديثة من المواطنة القوميّة قد تفسح المجال لأقلمةٍ متشظيّة ومنقسمة للمواطنة في المقطاعات القروسطيّة.

فهل هذه القروسطويّة تفسح المجال بدورها للإمبراطوريّة؟ ليس من هدفنا اقتراح تيولوجيا معاكسة، حيث يفسح مسار تاريخيّ لمسار آخر. بالأحرى، فإنّ هذه الطّرائق الزمكانيّة -طرائق القوميّة الحديثة، والمقاطعات القروسطيّة، والوحشيّة الإمبرياليّة- لتتعايش على نحو غير خطيّ، الأمر الذي يعقّد إشكاليّة التقدّم والتأخّر برمّتها، والحديث وما قبل الحديث. بيد أنّه لا يزال السؤال الاستفزازيّ قائماً: إذا توقّعنا، فماذا يمكن لنا أن نتوقّع؟ فقد حاجج بعضُ المؤرّخين بأنّه ليس زمن الإمبراطوريّة، بل بالأحرى لحظة نهاية الإمبراطوريّة الطويلة جداً، والتي تحمل تشابهاً لافتاً مع مشاهد الإبادة، ومع التجاوزات الطقوسيّة والنهايات العنيفة للإمبراطوريّة الرّومانيّة البائدة. وإذا وجدنا أنّ هذا التطابقَ مقنعٌ، فماذا يمكن للمرء أن يتوّقع في نهاية الإمبراطوريّة؟ هل يتوقّع صحوةً للمدن والمواطنة في العصور الوسطى التي تلت بعد فترة من سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة؟ أم عودة إلى شموخ الإمبراطوريّة، وإلى المدن الأرسطيّة والأفلاطونيّة لـ"الأناس الأحرار"؟ في كلا المستقبلين، يتمّ تشبيك حريّات المواطنة الحضريّة مع لا حريّات العبوديّة والرِقّ والتراتبيّة والإقصاء. ربّما كانت الديمقراطيّة دائماً إمّا إمبرياليّة أو قروسطيّة، مزيّفةً في بهاء روما الإمبراطوريّة أو في برغماتيّة المجتمعات الإقطاعيّة.
 
ثالثاً، إنّ الإشارة الصريحة إلى المدينة القروسطيّة تجعل المواجهة مع الآخريّة أمراً ممكناً. ففي كثيرٍ من التخصّصات، لا يزال "القروسطيّ" يُؤطَّر باعتباره "الآخر" (ليلى، ٢٠٠٤). إنّه حقل المتشغلين بالقرون الوسطى وليس المنظّرين النقديين. وهو حقل المؤرّخين لا الجغرافيين أو الحَضريين. والأمر ليس مجرّد مسألة فرق تخصّصيّة واختصاصات. إنّه أيضاً استمرار لزمنين مقلقين -ثنائيّات المكان: انفصال التاريخ عن الجغرافيا؛ وآخريّة الزمن التي هي أيضاً آخريّة المكان. فغالباً ما يُنظَر إلى القروسطيّ باعتباره ما قبل حديث، وعلى أنّه عفى عليه الزمن، أو كعصور مظلمة. واستعمالنا لـ"الحداثة القروسطيّة" هو مساهمة متواضعة في الجهود الكبيرة التي تشير إلى الطابع الحديث للمدينة القروسطيّة والتي تُسائل حتماً تفوق حداثتـ"نا".
 
لكنّ مصطلح "القروسطيّ" يُجرى إحياؤه أيضاً للدلالة على نهاية ما هو حديث وعودة الآخر، البربريّ. وفي عصر الإمبراطوريّة، فإنّ الآخريّة الزمنيّة للقروسطيّ تُجرى إعادة كتابتها كآخريّة جيوسياسيّة. ذلكَ هو استخدام "القروسطيّ" في أدبيّات العلاقات الدوليّة، من جانب هؤلاء الذين يرثون نهاية النظام العالميّ الحديث، من أمثال كوبرين (١٩٩٩، ص ١٦٦)، قِلقاً من أنّ "الحقبة الحديثة قد تكون نافذة على وشك أن تُغلق"، ومن أنّ المستقبل سيكون "قروسطيّاً جديداً". ومن ثمّ، تتساءلُ روبين رايت، مراسل صحيفة الفورين أفيرز للواشنطن بوست، "هل ستنتهي الحقبةُ الحديثةُ في العراق؟" (واشنطن بوست، ١٦ مايو، ٢٠٠٤).

فهي تؤطّر هذه اللحظة باعتبارها المرحلة الأخيرة من التحديث، مستغرقة وقتاً أطول للاكتمال ممّا كان متوقعاً، مع وجود الصّمود أمام ما هو حديث في هذه الكتلة الأخيرة من الأمم، أي الشّرق الأوسط، المكان الذي قاوم موجة التمكين والحداثة التي اجتاحت بقيّة العالم. ويكشف خطابها كيف أنّ سيرورة التمدين هي سيرورة لا تتنافس مع الماضي التاريخيّ ولكن بالأحرى مع فضاءات الاستثناء التي يُتخيَّل أنّها هي الماضي المتوحّش، كما يتجلّى ذلك في المعجم الأمريكيّ الحالي عن "البربريين العرب" و"أوروبّا القديمة". بهذا المعنى، إنّ ما هو حديث هو قروسطيّ دائماً، وما قبل حديث دائماً. وبهذا المعنى أيضاً، يُمفصَلُ الزمانُ في المكانِ.
 
ملاحظة ختاميّة أخيرة. إذا كانت هذه الورقة محاولة لإرباك تيولوجيا ما هو حديث، فإنّها أيضاً محاولة لإرباك المفهوم المعياريّ لـ"المدينة". إذ يختبئُ القروسطيّ في قلب الحديث. لذلك، هل يختبئُ المخيّم في قلب المدينة. وفي حين أنّنا قد ناقشنا ثلاث تصنيفات من التشكلات المكانيّة، فهذه التصنيفات ليست حصريّة بالتبادل. إنّها متشابكة. فمثلاً، غالباً ما تُنتج المقاطعة المُسيّجة عبر تنظيمات لا رسميّة. وكلّ هذه التشكّلات المكانيّة الثلاثة هي تعبيراتٌ عمّا يمكن الإطلاق عليه باسم "حداثة المقاطعة" (‘enclave modernity‘). لكن الأكثر أهميّة هو أنّ ثلاثتهم يمثّلون حالات استثناء.

وإذا نُظر إلى فكرة أغامبن عن المخيّم لا كتنصنيفٍ مكانيّ، بل بالأحرى كمخطّط سلطةٍ (كما في استعمال فوكو للبانوبتيكون)، فإنّ مختلف الفضاءات المُناقَشَة في هذه الورقة إذن يميّزها منطق السيادة. وهذا المنطق هو منطقٌ قروسطيّ. وهو المنطق الذي يجبرنا على التفكير في  الحضريّة ما بعد المَدينة حيث لم تعد المدينة هي البردايغم -ولا حتّى المدينة النيوليراليّة الإقصائيّة- وإنّما حالة الاستثناء هي البراديغم بالأخرى.           
 
 المراجع
 
AGAMBEN, G. (1995) Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life. Stanford, CA: Stanford University Press. AGIER, M. (2002) Between war and the city, Ethnography, 3(3), pp. 317–341. AKBAR, J. (1988) Crisis in the Built Environment. Singapore: Concept Media. ALSAYYAD, N. (1981) Streets of Islamic Cairo. Cambridge, MA: Aga Khan Program, MIT.
ALSAYYAD, N. (1991) Cities and Caliphs. New York: Greenwood Press. ALSAYYAD, N. and BRISTOL, K. (1992) Levels of congruence: comparing spaces in the Middle Ages,
Journal of Architecture and Planning Research, 9(3), pp. 193–206. APPADURAI, A. (2000) Spectral housing and urban cleansing: notes on millennial Mumbai, Public Culture, 12(3), pp. 627–651. APPADURAI, A. (2003) Sovereignty without territoriality: notes for a postnational geography, in: S. LOW
and D. LAWRENCE-ZUNIGA (Eds) The Anthropology of Space and Place, pp. 337–349. Cambridge: Black-well. BAYAT, A. (2000) From ‘dangerous classes’ to ‘quiet rebels’: the politics of the urban subaltern in the
global south, International Sociology, 15(3), pp. 533–557. BAYAT, A. (2002) Activism and social development in the Middle East, International Journal of Middle East
Studies, 34(2), pp. 1–28. BENJAMIN, W. (1950) Theses on the philosophy of history, in: H. ARENDT (Ed.) Illuminations, pp.
253–264. New York: Schocken Books. BRAUDEL, F. (1979) The Structures of Everyday Life. New York: Harper & Row Publishers. BUCK-MORSS, S. (1991) The Dialectics of Seeing: Walter Benjamin and the Arcades Project. Cambridge, MA:
MIT Press. BUTLER, J. (2004) Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence. New York: Verso. CALDEIRA, T. (2000) City of Walls. Berkeley, CA: University of California Press. CAMPBELL, T. (2003) The Quiet Revolution: Decentralization and the Rise of Political Participation in Latin
American Cities. Pittsburgh, PA: University of Pittsburgh Press. CASTELLS, M. (1983) The City and the Grassroots. Berkeley, CA: University of California Press. CASTELLS, M. (1996) The Rise of the Network Society. Cambridge: Blackwell. COMAROFF, J. and COMAROFF, J. (2000) Millennial capitalism: first thoughts on a second coming, Public Culture, 12(2), pp. 291–343. DAVIS, M. (1990) City of Quartz. London:Verso. DAVIS, M. (2004) Planet of slums, New Left Review, 26, pp. 5–34. EL-KAK, M. H. (2001) Post-war Beirut: resources, negotiations, and contestations in the Elyssar Project, in: S. SHAMI (Ed.) Capital Cities: Ethnographies of Urban Governance in the Middle East, pp. 111–133.
Ottawa: University of Toronto. EVANS, P. (Ed.) (2002) Livable Cities? Berkeley, CA: University of California Press. FERGUSON, J. (1999) Expectations of Modernity. Berkeley, CA: University of California Press. FLUSTY, S. and DEAR, M. (1999) Invitation to a postmodern urbanism, in: R. BEAUREGARD and S. BODY- GENDROT (Eds) The Urban Moment: Cosmopolitan Essays on the Late 20th-Century City, pp. 25–50.
Thousand Oaks, CA: Sage Publications. FRIEDMANN, J. and DOUGLASS, M. (Eds) (1998) Cities for Citizens. New York: John Wiley & Sons. GIROUARD, M. (1987) Cities and People: A Social and Architectural History. New Haven, CT: Yale University Press. GOTTRIECH, E. (2003) On the origins of the mellah of Marrakesh, International Journal of Middle East
Studies, 35(2), pp. 287–305. GRAHAM, S. and MARVIN, S. (2001) Splintering Urbanism. New York: Routledge.
GRUNEBAUM, G. VON (1955) Islam: Essays in the Nature and Growth of a Cultural Tradition. New York: Routledge.
HARDT, M. and NEGRI, A. (2000) Empire. Cambridge, MA: Harvard University Press. HARVEY, D. (1989) The Condition of Postmodernity. Cambridge, MA: Blackwell. HARVEY, D. (2000) Spaces of Hope. Berkeley, CA: University of California Press. HOLLISTER, W. (1964) Medieval Europe: A Short History. New York: John Wiley & Sons. HOLSTON, J. and APPADURAI, A. (Eds) (1999) Cities and Citizenship. Durham, NC: Duke University Press. HOURANI, A. (1970) The Islamic City. Philadelphia. PA: University of Pennsylvania Press.
IBRAHIM, S. (1982) An Islamic alternative in Egypt, Arab Studies Quarterly, 4(1/2), pp. 7–21. ISMAIL, S. (2000) The popular movement dimensions of contemporary militant Islamism: socio-spatial determinants in the Cairo urban setting, Comparative Studies in Society and History, 42(2), pp. 363 – 393. KOBRIN, S. (1999) Back to the future: neomedievalism and the postmodern digital world economy, in: A. PRAKASH and J. HART (Eds) Globalization and Governance, pp. 165–187. New York: Routledge. KOSTOF, S. (1985) A History of Architecture. Oxford: Oxford University Press. KOSTOF, S. (1991) The City Shaped. London: Thames and Hudson. KOSTOF, S. (1992) The City Assembled. London: Thames and Hudson.
LAPIDUS, I. (1984) Muslim Cities in the Later Middle Ages. Cambridge: Cambridge University Press. LILLEY, K. D. (2004) Mapping cosmopolis: moral topographies of the medieval city, Environment and Planning D, 22, pp. 681–698. LOW, S. (2003) The edge and the center: gated communities and urban fear, in: S. LOW and D. LAWRENCE-
ZUNIGA (Eds) The Anthropology of Space and Place, pp. 387–407. Cambridge, MA: Blackwell. MAJDALANI, R. (2001). The governance paradigm and urban development: breaking new ground?, in: S. SHAMI (Ed.) Capital Cities: Ethnographies of Urban Governance in the Middle East, pp. 135–140. Ottawa:
University of Toronto. MALKKI, L. (2002). News from nowhere, Ethnography, 3(3), pp. 343–349. MBEMBE, A. (2003) Necropolitics, Public Culture, 15(1), pp. 11–40. MBEMBE, A. and ROITMAN, J. (2002) Figures of the subject in times of crisis, in: O. ENWEZOR ET AL. (Eds)
Under Siege: Four African Cities, pp. 99–126. Hatje Cantz Publishers. MCKENZIE, E. (1994) Privatopia: Homeowner Associations and the Rise of Residential Private Government.
New Haven, CT: Yale University Press. MITCHELL, D. (2003) The Right to the City: Social Justice and the Fight for Public Space. New York: Guilford
Press. MUMFORD, L. (1961) The City in History. New York: Harbinger Books. PERLMAN, J. (2004) The reality of marginality, in: A. ROY and N. ALSAYYAD (Eds) Urban Informality:
Transnational Perspectives from the Middle East, South Asia, and Latin America, pp. 105–146. Lanham, MD: Lexington Press. PIRENNE, H. (1925) Medieval Cities. Princeton, NJ: Princeton University Press. PORTES, A., CASTELLS, M. and BENTON, L. (1989) The Informal Economy: Studies in Advanced and Less Developed Countries. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press. RAYMOND, A. (1985) Grandes Villes Arabes a L’epoque Ottomane. Paris: Sindbad. ROBINSON, J. (2002) Global and world cities: a view from off the map, International Journal of Urban and Regional Research, 26(3), pp. 531–554. ROSE, N. (1999) Powers of Freedom: Reframing Political Thought. Cambridge: Cambridge University Press. ROTHMAN, H. (2003) Neon Metropolis: How Las Vegas Started the 21st Century. New York: Routledge. ROY, A. (2004) Urban informality: toward an epistemology of planning, Journal of the American Planning
Association, 71(2), pp. 147–158. ROY, A. and ALSAYYAD, N. (Eds) (2004) Urban Informality: Transnational Perspectives from the Middle East,
Latin America, and South Asia. Lanham, MD: Lexington Books. SASSEN, S. (1991) The Global City: New York, London, Tokyo. Princeton, NJ: Princeton University Press. SMITH, N. (1996) The New Urban Frontier: Gentrification and the Revanchist City. New York: Routledge. STEIN, R. (1995) Medieval, modern, post-modern: medieval studies in a post-modern perspective (Link). WATTS, M. (1996) Islamic modernities? Citizenship, civil society and Islamism in a Nigerian city, Public
Culture, 8(2), pp. 251–290. WEIZMAN, E. and SEGAL, R. (Eds) (2003) A Civilian Occupation. London: Verso. YIFTACHEL, O. and YAKOBI, H. (2004) Control, resistance, and informality: urban ethnocracy in
Beer-Sheva, Israel, in: A. ROY and N. ALSAYYAD (Eds) Urban Informality: Transnational Perspectives from the Middle East, Latin America, and South Asia, pp. 209–239. Lanham, MD: Lexington Books.

 
الهوامش:
[1] - عادةً ما تُعرَف مدرسة شيكاغو بمقاربة الإيكولوجيا الحضريّة. ونحن نحاجج بأنّ "المدينة العالميّة" مفهوم يبقي على هذه المقاربة الإيكولوجيّة، ولكن يطبقها على نطاق واسع -أي نطاق العالميّ بدلاً من نطاق المدينة.
[2] - للاطلاع على تغطية جيّدة لهذه التأويلات المختلفة للمدن والمواطنة، انظر هولستون وأبادوري (١٩٩٩).
*    نسبة إلى جورج أورويل [المترجم].
[3] - من المهمّ أن نلاحظ أن قضايا غونتانامو التي تسير في طريقها عبر المحكمة العليا تقوم على أمر المثول أمام المحكمة. ويؤول أغامبن أمر الإحضار هذا بأنّه:
التسجيل الأوّل للحياة العارية باعتبارها الذات السياسيّة الجديدة... ولا شيء يسمح للمرء بأن يقيس الاختلاف بين الحرية القديمة والقروسطيّة والحريّة على أساس الديمقراطيّة الحديثة أفضل من هذه الصيغة. فليس الأمر متعلّقاً بالإنسان الحرّ وبقوانينه وامتيازاته، ولا حتّى بالإنسان بما هو كذلك، وإنّما بالجزء الذي يمثّل الذات الجديدة للسياسة... سيكون لديك هيئة للعرْض (أغامبن، ١٩٩٥، صص ١٢٣-١٢٤).

كريم محمد
باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.
نزاز الصيّاد - أنانيا روي

نزار الصياد:
(1955- ….)، مصريّ الأصل، أستاذ الفنّ المعماريّ وتخطيط المدن والتاريخ الحضريّ بجامعة بيركلي. وبالإضافة إلى ترّأسه مراكز علميّة مرموقة، تقلّد السيّد رئاسة مركز الدراسات الشّرق أوسطيّة في جامعة بيركلي لعقدين من الزّمن تقريباً. له العديد من الكتب، كـ"القاهرة: تواريخ مدينة"، وغيرها.

أنانيا روي:
(1970- ….)، هنديّة الأصل، هي أستاذة الرّفاه الاجتماعيّ والتخطيط الحضريّ والجغرافيا في جامعة كاليفورنيا، وواحدة من المرموقين في النظريات المتعلقة بالحضريّة والاستثناء والمدينة المعاصرة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.