ما وراء الاستشراق: من فوكو إلى إدوارد سعيد
في سبتمبر الماضي، كانت الذكرى الرابعة عشر لرحيل المفكر الكبير إدوارد سعيد صاحب الكتاب المهمّ، وسفره الأضخم الاستشراق الذي ربط اسمه بحقل من الدراسات الثقافيّة المهتمّ بدراسة الاستشراق والاستعمار ونقد الحداثة، والذي ما زالت بصمته عليها حتى الآن.
وفي الأثناء ذاتها، كنت قد قرّرت كتابة مقال قصير عن نقد الماركسيين لإدوارد سعيد فيما يتعلق بإيراده نص لماركس وتأويله، ومن ثم موضعة ماركس في خانة المستشرقين. بدلًا من هذا، وجدت نفسي في مواجهة أطروحة سعيد بأكملها، محاولًا نقدها، وخصوصاً منهجيته ما بعد الحداثيّة التي استعارها من فوكو، مع إيضاح مشكلة اعتماد هذه المنهجيّة على المنتج بأكمله.
في البدء كان اللوغوس
في الحقيقة، لا يمكننا الوقوف على مفهوم الاستشراق عند إدوارد سعيد بالكامل دون أن نفهم ما هو الخطاب؟ وكيف يمكن للاستشراق أن يكون خطاباً؟ ولكن كي نفهم ما يقصده سعيد بالضبط، علينا أن نفهمه من الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو. وأصنّفه فيلسوفاً لانه حقق المعيار المفاهيميّ الذي أراده نيتشة بتحديد الفيلسوف على أنّه مشخص أعراض وعالم إشارات (سيميولوجيّ). ومن ثمّ، فهو يستخدم بعد تشخيص العرض جينالوجيا وظيفتها تجاوز العرض أو الظاهرة إلى علاقات القوة التي تقع وراء العرض وتحاول تشكيل معناه طول الوقت. يسير إدوارد سعيد على ذلك الدرب باستخدامه الجينالوجيا نفسها، لكن مع مدخلٍ آخر لم يوله فوكو الاهتمام، ألا وهو ما يتعلّق بالاستعمار وشؤونه. يقول سعيد في مقدمة كتاب الاستشراق: "وقد انتفعت هنا بالفكرة التي طرحها ميشيل فوكو عن الخطاب على نحو ما عرض في كتابه علم آثار المعرفة والآخر التأديب والعقاب في تحديد معنى الاستشراق".
لكنني سأتناول هنا كتاباً آخر لفوكو، ألا وهو تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ. ففي هذا السّفر الضخم، يضعنا فوكو طوال الوقت أمام ثنائية هي العقل\اللوغوس والجنون، وفي مواجهة الصراع المستمر خلال التاريخ بين هذة الثنائيّة، بل وصل به الأمر إلى حد أنّه وصفها بأنّها الثنائية المحركة للتاريخ من الأساس.
فالعقل هنا هو "ذات" الكوجيطو المحتكرة لأدوات اللغة، والراغبة في السيطرة على "الآخر" أو الموضوع من خلال وسائلها، مثل سلطة الدولة والاجتماع والمؤسسة المعرفيّة وحق المواطنة الفلسفيّة والميتافيزيقية. ويعرّف الجنون على أنه هو ذلك الآخر، "إنه غياب العمل"، وهو كلّ ما يمثل مقاومة البشر لسلطة العقل وطغيانه. إنها مقاومة سلبية صامته جرى إسكاتها بقوة العقل.
يريد فوكو في هذا العمل أن يفكّك بنية الجنون، وأن يُعمل، كما يقول، "أركيولوجيا الصمت" بمعزل عن الطبّ النفسيّ باعتباره أحد وسائل اللوغوس الذي لا بدّ من مقاومته ومقاومة "الخطاب" الذي يصنعه العقل عن الجنون من خلال أرشيف التحليل النفسيّ الموضوع في خدمة الدولة. ذلك الخطاب الذي يتمّ فيه ربط الجنون بكلّ ما هو غير مقبول وغير مألوف على اعتبار أنّه الشرّ الذي لا بدّ من إقصائه وتخليص المدينة منه: فـ"الأمر لا يتعلّق بتاريخ الطب النفسيّ، بل بتاريخ الجنون ذاته، وفي حيويته قبل اعتقاله من طرف المعرفة".
بيد أنّ فوكو يجادل بأنّ العقل لا يمكنه أن يؤدّي وظيفته، وأن يظل موجوداً دون هذا الآخر\الجنون. إنّه مرآته ومن خلاله يتعرف العقل على نفسه، ومن ثمّ فإنه يقصي الآخر\النقيض بغرض اعتقاله مستقبلاً لتمثيله والتحدث باسمه. إذاً، فالخطاب هو لغة اللوغوس وفكره، ومن خلاله يتم تمثيل الجنون والتكلم باسمه بعد منعه من الكلام.
لكن، كيف يمكن لفوكو محاكمة مشروع "العقل" الغربيّ؟ وكيف يمكنه التحدّث باسم من مُنِعَ عنهم الكلام دون أن يقع في شراك المشروع نفسه؟ بأيّ لغة سوف يتحدث إنْ كانت اللغة حكراً على العقل كما يقول: "مادمت أفكر\أتكلم، فإنه لايمكنني أن أكون مجنوناً". كان فوكو مدركاً لهذة المشكلة التي كانت تهدّد مشروعه، فلا يمكنه التحرّر من لغة التاريخ وعمل تحليل أركيولوجيّ والحديث عن الصمت إلا بطريقتين: الأولى هي الصمت المطلق بلا أيّ خطاب؛ والثانية أن يتابع المجنون طريقه نحو المنفى بإخراجه من المدينة في سفينة المجانين. وبالتالي، فإنّه لا يمكن كتابة تاريخ ضدّ العقل؛ لأنّ التاريخ مفهوم عقلانيّ بالأساس: "إن الإدراك الذي يروم الإحاطة بآلام وهمسات الجنون في حالتها المتوحشة ينتمي بالضرورة إلى العالم الذي اعتقلها من قبل حفريّة الجنون لا تُسمع إلا من أعلى الحصن الذي يوجد به معتقلًا".
والحال أنّها هذه قد تكون المشكلة نفسها التي وقع فيها سعيد في نقده خطاب الاستشراق ورغبته في الدفاع عن الشرق المحروم من الكلام، فهو يقول "لم يقدم أحدٌ على الكتابة أو التفكير أو اتخاذ أي إجراء بصدد الشرق دون أن يأخذ في الحُسبان القيود التي يفرضها الاستشراق. وبذلك يكون نصّه خاضعاً للغة المؤسسة نفسها التي أراد أن يحاكمها حتى وإن كان مبنيّاً على انتقاده". "فالنظام يتم التنديد به داخل النظام نفسه"، كما يقول جاك دريدا.
لكن كيف أمكن لفوكو تجاوز هذا الإشكال لتحصين مشروعه؟ أو كيف لحركة التاريخ الاستمرار من خلال جدليّة تلك الثنائيّة التي لا وجود فيها إلا للعقل دائماً؟
يمكننا أن نقول إنّ فوكو تجاوز هذة المشكلة بمشكلة أكبر، إنّها "النسبيّة التي لا رجعة فيها"؛ تلك النسبّية ما بعد الحداثّية التي لا يمكنها الاطمئنان بالتموضع داخل الذات أو الآخر، العقل أو الجنون. فهو يناضل ضدّ العقل ويتحيز للجنون بأدوات العقل وفي منطقته. وهي النسبيّة نفسها التي وقع فيها سعيد، وهي التي موضع ماركس فيها الذي كان منتظراً منه أن يكون مفكراً استثنائياً، لكنه فشل ولم يستطع الانتماء للشرق قلباً وعقلًا، فعقله كان غربياً لكن قلبه مع الشرقيين وآلامهم كما يقول سعيد، الأمر الذي يصدق على سعيد نفسه.
يستمرّ سعيد طوال الكتاب متتبعاً مفكرين وأدباء ومحلّلين نفسيين يتناولون موضوع الشرق بوصفه ذلك الآخر\المجنون من إرنست رينان إلى كرومر إلى بلفور. فيحلّل مثلًا أدبياً المقابلة الروائيّة للفرنسيّ فلوبير مع غانية مصريّة على أنها العنصر الذي أخرج نموذج المرأة الشرقيّة التي امتدت صورتها في كلّ الأعمال الأدبيّة الاستشراقيّة. فهو لم يصوّر مشاعرها أو تعبيرها عن وجودها، إنما تحدث باسمها وحضورها، وهو ما مكّنه من فرض سيطرته على جسدها والتكلم باسمها.
ويظهر الاختلاف بين فوكو وسعيد عندما يبدأ فوكو في الحديث عن حركة التاريخ وتبنيه للتيمة الهيجليّة -التي دائماً ما أراد تجاوزها بشدة- من خلال ديالكتيك الذات والآخر. فمن خلال السلب وسلب السلب، يتولد التراكب كإيجاب وكدافع للتقدم وتحرك التاريخ. فالصراع بين العقل والجنون وإعادة تمثيل الجنون يفتح الحوار الجدليّ بينهما. إذ في العصر الإغريقيّ وفي الوقت الذي كان السوفسطائيون يمثلون قمة العقل كتمثيل وحيد له مقصٍ لكلّ ما هو آخر، تناول سقراط عمليّة الجدال للمفاهيم التي تبناها عقل المدينة في ذلك الوقت (العدالة – المعرفة - الجمال) بالاحتجاج والتساؤل الهوويّ؛ الأمر الذي حرّك الفكر الفلسفيّ إلى الأمام وتغيرت تموضعات الذات والآخر من خلال ممارسة الإقصاء من جديد. فحركة الجنون داخل اللوجوس هي مصدر التاريخ من خلال الجنون وإعادة موضعة تلك الذات الحرّة داخله مجدداً لتكون بذلك هي شرط المعنى واللغة؛ الأمر الذي تكرر مجدداً في العصر الكلاسيكيّ مُستلهماً الإقصاء اليونانيّ القديم لإنتاج حركة تجديد وتغيير للتموضعات.
غير أنّ سعيد لا يتبنى هذة الفكرة. فهو لا يرى الاستشراق إلا خطاب إقصاء وإعادة تمثيل للشرق من أجل الهيمنة عليه وأخذ ثرواته لخدمة شبكة معقدة من المصالح الاستعماريّة عن طريق "المجتمع السياسيّ" المهيمن على العلم والأدب والأنثروبولوجيا واللغة، "المجتمع المدني"؛ وهو استعمال لنظريّة جرامشي عن الهيمنة. يقول سعيد: "ليس الاستشراق موضوعاً سياسيّاً يتجلى بصورة سلبيّة في الثقافة، وليس مجموعة غير مترابطة من النصوص عن الشرق، وليس تعبيراً عن مؤامرة إمبرياليّة غربيّة دنيئة، لكنه هو الوعي السياسي المبثوث في النصوص العلميّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والتاريخيّة واللغويّة لخدمة سلسلة من المصالح التي يستعين على تحقيقها بشتى الوسائل. فهو في نفسه إرادة معينة أو آليّة للسيطرة عليه والتلاعب به". فهو يتوقف عند المعرفة بوصفها إرادة للسيطرة بوصفها خادمة للعقل السياسيّ، كما كان ميكيافيلي، المُنظر الأول للبرجوازيّة، يريد في بدايات عصر النهضة عند مقارنته علم السياسة بعلوم الفيزياء والكيمياء. فمثلما كانت هذه العلوم تهدف للسيطرة على الطبيعة وإعادة توجيهها لخدمة مصالح البشر الخاصّة، فإن السياسة يجب أن تكون علم السيطرة على البشر وتوجيههم والتلاعب بهم لخدمة مصالح السياسيين -البرجوازيين-، وهو الذي بحسب ميكيافيلي يخدم حركة التاريخ. أمّا سعيد، فإنه يتوقف عند كونها تخدم مصالح المستعمر -دون الحديث عن الطبقة التي يمثلها العقل السياسيّ- من خلال رصد تمثيلات الشرق في العقل الأوروبيّ وفي الواقع الاستعماريّ الماديّ.
لكن كيف ظهر هذا العقل الأوروبيّ "السياسيّ" الكلاسيكيّ ذو الميزة الاستعماريّة بالأساس إلى حيّز الوجود؟
السؤال الهوياتي وتأويل الكوجيطو
ينقل سعيد حديث بلفور في البرلمان الإنجليزيّ، فيقول: "انظروا إلى حقائق القضية. إنّ الأمم الغربيّة ما إن يبدأ ظهورها في التاريخ حتى تظهر بدايات قدرتها على الحكم الذاتيّ، وهي القدرة الجديرة بالتقدير في ذاتها، ثمّ انظروا إلى تاريخ الشرق برمته فيما يسمى بصفة عامة الشرق ولن تجدوا آثاراً تنبئ بحكم ذاتيّ إطلاقاً. إذ مرّت قرونهم العظمى في ظل الحكومات الاستبداديّة والحكم المطلق. لقد تلا الفاتحون بعضهم بعضاً وجاءت السيطرة إثر السيطرة، لكنك لن تجد في شتى دورات الأقدار والحظوظ مطلقاً أمّة من تلك الأمم تنشئ من تلقاء ذاتها ما نسميه (نحن) من وجهة نظر غربيّة الحكومة الذاتيّة". لا تتوقف مقولة (نحن) عند بلفور، وفقط وحتى حديثاً عند هنري كسينجر في مقالته "البناء الداخليّ والسياسة الخارجيّة" الذي يتحدث فيه عن المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة في تعاطيها مع العالم، ومن ثم يقسم العالم إلى قسمين: البلاد المتقدمة، وأخرى نامية على أساس جوهريّ هو الثورة النيوتونيّة في التفكير. فيفرق بين الشعوب التي ظهرت عندها تلك الثورة وطبعتها بطابعها، والأخرى التي لم تزل غير لاحقةٍ بهذة الرؤية، وما زالت متخلفة عنها، ثم حدوث أزمات في العالم لهذا السبب. وبالتالي، فلا بدّ من وجود نظام دوليّ يتم بناؤه قبل أن تفرضه الأزمات على طريقة "نحن" الذين يقع على عاتقنا هذا البناء. إذاً، فالمشترك بين بلفور وكسينجر، بحسب سعيد، ليس فقط الحديث كشخص إنجليزيّ وأمريكيّ، لكن الحديث باسم العالم المتحضّر والغرب بأكمله حيث يحمل كلٌّ منهما حسب سياقه الزمانيّ والمكانيّ الثقل الكامل لمكانة الرجل القويّ الذي يتحدث باسم الشرقيين لا بلغتهم، ولكن من خلال شعورهم فإنه يعرف مصلحتهم أكثر منهم.
هنا يكمن السؤال: كيف أمكن تبرير هذا التقسيم الهوياتيّ فلسفيّاً بين الـ"نحن" والـ"هم"، بين الذات\العقل والآخر\الجنون؟ ربما هذا ما حاوله ميشيل فوكو بتأويله للكوجيطو الذي صاغه ديكارت على طول كتابه التأملات والذي اعتبره فوكو بأنّه التمهيد لقيام كلّ ما يتعلق بالشأن السياسيّ وكونه علامة من علامات البنية التاريخية والسياسة والاجتماعيّة الفاضحة للحدث الكلاسيكيّ. وهو بداية "الانقلاب التاريخيّ" بإخضاع الجنون للصمت وإعادة استيعابه في مسكن -معسكرات الجذام-، بدلًا من إخراجه وإقصائه خارج المدينة على متن سفينة الحمقى والمجانين وكل ما يمثل ما هو "مستحيل".
يقول ديكارت في التأملات "كل ما تلقّيته إلى حدّ الآن باعتباره حقيقة مضمونة تعلمته من الحواس أو عن طريقها, والحال أنني أحسست أحياناً أن كلّ هذة الحواس خادعة ومن باب الاحتياط ألا نثق تمام الثقة فيمن خدعونا من قبل، لكن هناك الكثير مما أتلاقه من الحواس ممّا لا يمكن الشك فيه عن طريق العقل". هنا ديكارت يقوم بعملية هدم لأيّ أساس فلسفيّ ذي أصل حسيّ، وتعريضه للشك في مقابل تدعيم كل ما له أساس يدعمه العقل. ثمّ يكمل ديكارت: "فمثلاً أن أكون هنا قرب الموقد مرتدياَ ملابسي وبين يدي هذة الورقة فكيف يمكنني إنكار كون هاتين اليدين وهذا الجسد ملكي؟ اللهمّ إلا إن كنت من المجانين الذين يؤدي دماغهم المضطرب إلى القول إنّهم ملوك وهم غير ذلك". ثم يعلق فوكو: "هناك ضمن اقتصاد الشك لا توازن بين الجنون من جهة، والخطأ من جهة أخرى. فوضعيتهما مختلفة بالنسبة إلى الحقيقة، ولم يبحث ديكارت عن الخطأ؛ ذلك لأنّ الأحلام والأوهام قابلتان للتجاوز ضمن بنية الحقيقة نفسها، لكن الجنون يقتضي أن يتم إقصاؤه من طرف الذات التي تشك". فالجنون سوف يتم إقصاؤه، ومن ثم إعادة اعتقاله مجدداً بوصفه مستحيلًا من قبل الذات التي تحافظ على نفسها؟ "إن التأريخ للجنون يعني القيام بدراسة بنائيّة للمجموع التاريخيّ من مفاهيم ومؤسسات وتدابير قانونيّة وبوليسيّة ومفاهيم علميّة. فالذي يعتقل جنوناً لن يرجع إلى حالته المتوحشة أبداً".
يختلف مع فوكو في تأويله للكوجيطو وتحديده للحدث المؤسس للحداثة جاك دريدا الفيلسوف الفرنسيّ وعددٌ من مفكري دراسات التابع (وهي مجلة بحوث متخصصّة، تضم باحثين من دلهى وباحثين من مناطق أخرى مطورين حقلًا دراسياً يُعرف بالنظرية ما بعد الكولونياليّة). فدريدا يذهب إلى أنّ معالجة فوكو لمفهوم الجنون عند ديكارت هو فقط لأجل غاية منهجيّة وقانونيّة بغرض تحديد "الغرابة"، لكنّ فرضية الجنون في الحقيقة لا تحظى بأي معالجة متميزة. فديكارت قصد بها التعامل مع الاندهاش غير الفلسفيّ من قبل القارئ أو المحاور الذي يتلقى قابلية الشك في كلّ الأمور الحسيّة ومساواتها بالجنون. وما أراده فوكو هو الذي جعل ديكارت يفكر في الذات من خلال التفكير في الآخر من خلال علاقة بالآخر كآخر للذات فيها يطمئن العقل\المعنى على نفسه من الجنون\اللامعنى، ومن ثم يقاوم الإصابة بهذا الأخير من خلال اعتقاله في هذا الموضع.
إذن، فما ذهب إليه فوكو على أنّه مولد العقل الأوروبيّ كان محدداً بأوروبا مكاناً وبالعصر الكلاسيكيّ زماناً، وهو ما يختلف معه مجموعة من الباحثين مثل آن ستولر -باحثة في دراسات التابع- في أنّ الهوية الأوروبيّة قد استُحدِثَت خارج أوروبا، وبالذات في المستوطنات للتميز بين الهولنديين المستوطنين وبين ذوي الدماء المختلطة في مستعمرات الهند الشرقيّة، ومن ثمّ، تم نقل الهويّة الأوروبيّة التي تميز الأبيض وغير الأبيض وتميّز الذات والآخر إلى أوروبا عبر هويات مصطنعة تم إعادة تصديرها للداخل المكانيّ على شكل قوميّات معارضة للاستعمار ومميّزة للشعب المستعمَر. فقد أنتج المستعمرون هويّة خاصّة بهم، خصوصاً في الشأن الجنسانيّ وحرية الفرد البرجوازيّ الجنسيّة للتمييز بينهم وبين غير الأوروبيين. وهي الفكرة التي لم يركز عليها فوكو كثيراً فيما يتعلق بتجربة الأوروبيين في المستعمرات.
أمّا بندكت أندرسن في كتابه التأسيسيّ الجماعات المتخيلة، فقد تحدث عن مفهوم الأمّة والهويّة على أنهما شأن مُتخيّل يتم فيه تبني تصور عن جماعة مُتخيّلة بالكامل ذات علاقة رفاقيّة أفقيّة يجمعها ارتباطات خلال زمان ومكان متجانسين في وحدة أدبيّة مُعبّر عنها عبر الرواية مثلًا. فمن سمات السرد الروائيّ الجمع بين شخصيات وأماكن في بنية واحدة مترابطة حتى ولو لم يدرك أيّ من وحداتها وجود الآخر، لكنها تخدّم السرديّة ذاتها. وكان كونديرا في فن الرواية يتحدث عن أنّ الشكل المميّز لأوروبا في الأدب كان الرواية، وخصوصاً في عصر الحداثة بداية من دون كيشوت لثربانتس مروراً بجاك القدري لديدرو وسيرورتها حتى عصره ليتم فيها ليس التعبير عن أفكار الحداثة كما يأخذ في شرحها فقط، ولكن أيضاً من خلال صناعة لحظة زمانيّة ومكانيّة جامعة مميّزة لأوروبا. يتكرّر الأمر نفسه، كما يقول أندرسن، خلال الصحف ورسم الخرائط المكانيّة والتعدادات السكانيّة والمتاحف وكل ما يعطي الانطباع بوجود كيان سوسيولوجيّ واحد. وهي الفكرة التي سيطوّرها هومي بابا في كتابه موقع الثقافة عن إنْ كان الغرب يمثل المكان، فإن اللاغرب يمثل اللامكان\الأرض المجهولة الخراب، وإن كان الغرب صاحب القطيعة الزمنيّة الحداثيّة وهو المتحكّم بالزمن، فإن اللاغرب هو حالة اللازمان. وعليه، يأخذ هومي بابا على عاتقه تطوير فكرة فوكو عن الفرد البرجوازيّ الأوروبيّ من خلال إدخاله فكرة الزمان-المكان وربطها بالحدث الكولونياليّ؛ وهي الفكرة التي يرفضها تيموثي ميتشل من حيث جوهرها. ففي رأيه، لا بدّ من توجيه الاهتمام ليس لانبثاق النزعة القوميّة وأفكار الهوية الأوروبيّة وغير الأوروبيّة، لكن إيلاء الاهتمام بـ"تشخيص الحداثة" من حيث إنّها تمثيل وإعادة تمثيل وإنتاج للصور الزائفة للأشياء. فكل مايحدث في باريس يحدث بالكيفيّة ذاتها في القاهرة وكالكاتا، كما يوضّح ذلك في فصله الأول "مصر في المعرض" في كتاب استعمار مصر. يقول ميتشل: "إنّ التمثيل هو خلق خبرات المكان والزمان المميزة للحداثة من خلال خلق الزمن الشاغر المتجانس. فالصحيفة تزعم أنّها تسجل الحاضر وتتيحه على شكل إعادة عرض له. والخريطة والتعداد يمثلان أشكالًا وأرقاماً جرى تخيُّل أنها تصور العالم الاجتماعيّ. والرواية والمتحف يرتبان الشخصيات والأشياء بشكل يسمح بخلق محاكاة مزيفة للواقع الاجتماعيّ”.
عودةً إلى سعيد؛ نجتهد هنا بأن موقفه من تحديد نشأة الشرق والغرب أو الذات والآخر إنّما جرى بوسيلتين: أولها هو نمو المعرفة المنهجيّة عن الشرق في أوروبا من خلال الاهتمام بكل ما هو غير مألوف وأجنبيّ وتطويراً لعلم الأعراق والسلالات والتشريح المقارن وفقه اللغة والتاريخ من خلال المؤسسة العلميّة، وهو هنا فوكويّ بالكامل، حيث إنّ المعرفة تساوي السلطة، ولمزيد من السلطة هناك حاجة لمزيد من المعرفة. وثانيها هو الكمّ الهائل من الآداب التي كتبها روائيون وشعراء ومترجمون ورحالة. فهو هنا يحيل على فكرة الزمان-المكان وخلقهما المتخيل عن طريق الرواية وغيرها.
لكن إن كان اللاغرب ليس في معزل كامل عن الغرب وإنّما يخوضان سيرورة إقصاء وإعادة تمثيل بشكل متواصل، إذاً فإنّ السؤال عن أصل اللوجوس الأوروبيّ الهوياتيّ المميز لـ (النحن) أو للـ (هُم) يكون سؤالاً مفخخاً بالأساس بحدسية لا يمكن قبول صحتها. وهي ادّعاء وجود أصالة يمكن الإمساك بها، وهي الحدسية التي جرى استبطانها في منهجية سعيد ورفضها في الوقت ذاته.
ما أحاججُ به هو أنّ ذلك التعقيد في تحديد نشأة اللوجوس الاستعماريّ مردُّه الاعتماد على منهجيّة ما بعد حداثيّة بالأساس، ونبذ مقولة الطبقة والتحليل الماركسيّ، حيث كان فوكو يعتبر أن مقولة "الطبقة" هي الدوغما الماركسيّة التي لا بدّ من رفضها وعدم الاستعانة بها. حتى إن تيمة فوكو لم تكن هيجليّة كما يقول دريدا، ولكنّها تيمة صيرورة نيتشويّة عدميّة. والحال أنّ ما أقوله هو أنّ الاعتماد على تلك المنهجيّة لا يسبب فقط بلبلة في تحديد منشأ الأزمة، لكن أيضاً استحالة وجود أي نوع من المقاومة والسلب\النفي لهذا الاستعمار الذي يخدم طبقة برجوازيّة أوروبيّة ذات مصالح ماديّة محددة، وأنّ تصور وجود عقل متجانس استعماريّ هو في حد ذاته فكرة برجوازيّة، كما يجادل مهدي عامل، تقوم بحجب أيّ تصور يقول بوجود التناقض داخل العقل الأوروبيّ. ومن ثمّ، فلا بدّ من إدخال مفهوم الطبقة الذي يمكننا من الحديث المُنتِج والمجدي في هذا الموضوع.
المراجع
1- الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع.
2- تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، ميشيل فوكو، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، الناشر المركز الثقافي العربيّ.
3- استعمار مصر، تيموثي ميتشل، ترجمة بشير السباعي وأحمد حسان، الناشر مدارات للأبحاث والنشر.
4- دراستان في الحداثة والتراث، تيموثي ميتشل، ترجمة بشير السباعي، الهيئة المصريّة العامة للكتاب.
5- الجماعات المتخيّلة: تأملات في أصل القوميّة وانتشارها، بندكت أندرسن، ترجمة ثائر ديب ومراجعة عزمي بشارة.
6- استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا، جاك دريدا، ترجمة عزّ الدين الخطابي الريفي، أفريقيا الشرق 2013.
7- موقع الثقافة، هومي ك.بابا، ترجمة ثائر ديب، الناشر المجلس الأعلى للثقافة 2004.
8- هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ مهدي عامل، دار الفرابي 2009.
9- بدايات فلسفة التاريخ البرجوازية، هوركايمر، ترجمة محمد علي اليوسفي، دارالفرابي.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (1240 تنزيلات)
مصطفى هشام
كاتب وباحث مصريّ، مهتم بشؤون الفلسفة وعلم الاجتماع.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.