إنسان لا إنسانيّ: قراءة في أعمال يورغوس لانثيموس

24 تشرين1/أكتوير 2018
 
مقدّمة
 
لا يخفى ما تُحدثه أعمال المخرج اليونانيّ يورغوس لانثيموس (١٩٧٣- ) من تلقٍ نقديّ، وإدهاش في كيفيّة الإخراج لأفكارٍ شديدة التعقيد على الشاشة. منذ أعماله الأولى التي نُشرت في اليونانيّة، اعتمدت أعمال لانثيموس على الغرابة والشيزوفرينيا والعنف البشريّ الكامن، وتسليط الضوء على تفاهة البشريّ.
 
يمكن القول إنّ أعمال لانثيموس بدأت بالفعل في الانتشار وجذب جمهور واسع وعريض منذ عمله (Dogtooth) -ناب الكلب- عام 2009، ثم عمله في عام ٢٠١١ (Alps) . إلّا أنّ أعماله بدأت تجذبُ جمهوراً أكثر فأكثر، ونمطاً عريضاً من المشاهدين، منذ عمله العميق (The lobster) -السّلطعون- عام ٢٠١٥، وعمله الأخير الذي حاز بأفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائيّ ٢٠١٧ تحت عنوان (The kiling of a sacred deer) -مقتل غزال مقدَّس-.
 
سنقوم في هذه المقالة بتحليل المقولات الأهمّ التي تنطوي عليها أعمال لانثيموس، تلك المقولات التي نعتقد أنّها مزيجٌ من أفكار فلسفيّة عميقة حول السّلطة والتحكم والرقابة والمجتمع والخلاص، بالإضافة إلى المتعة البصريّة، ومحاولة خلْق إنسان لا إنسانيّ يناسب الحداثة المفرطة التي نشهدها، بالنبش في اللاوعي، وغير المألوف، واللا طبيعيّ.
 
 
فيلم "Dogtoothأو في سلطة العائلة والتسمية
 
“يُشبه فيلم ناب الكلب حادث سيارة. لا يمكنك أن تلقيه خلف ظهرك وتمضي". بهذه الكلمات، وصف الناقد الأمريكيّ الراحل روجر إيبرت فيلم (Dogtooth) أو ناب الكلب.
 
يستهل الفيلم، المليء بموسيقى غاضبة، بأسرة تتكون من زوجين والأبناء فحسب. يقول الأب لأبنائه في بداية الفيلم: “كلمات اليوم الجديدة هي؛ بحر، طريق سريع، نزهة برية، وبندقية. البحر هو الكرسي الجلدي ذو الأذرع الخشبية، مثال: لا تظل واقفاً، اجلس على البحر لنتحدث. الطريق السريع هو الرياح العاتية، النزهة البرية هي مادة شديدة المتانة تستخدم في صناعة الأرضيات، البندقية هي طائر أبيض جميل”.
 
في فيلّا رائعة، تعيش تلك الأسرة حياة الأبناء، الكلمات التي يستعملونها، بل ومدلولاتها أيضاً. منذ اللحظة الأولى من الفيلم، نلمس هذه السلطة الأسرة في التسمية (Naming)، كيف أنّ الأسرة هي التي تُحدد لنا فهمنا للعالم، وأنها هي بحدّ ذاتها العالم الذي لا خارج له.
 
يقنعُ الأب أبناءَه أن البيت هو العالم، وأنّ ما خارج المنزل مكانٌ مقفر، لا مكان للأناسيّ فيه، مليء بالوحوش الضارية، والكلاب. وضمن هذا التأطير والتحكم بالأبناء، يرسمُ الأب لهم ملامح ما يمكن أن يعيشوه. إنّه يُسطّر لهم الحقيقةَ في واقع الأمر. لدرجة أنّ "الملح" الذي يُوضع على الطعام يقول لهم الأبُ إن اسمه "تليفون".
 
يلعبُ لانثيموس، مستخدماً برأيي ميشيل فوكو في هذه النقطةِ وغيرها، فكرةَ السلطة (Power) للتدليل، بصرياً وحوارياً، إلى أيّ حد نحن غير أحرار، وأنّ السرديّة القائلة بالحريّة الأصيلة للإنسان ليست سوى اختلاق ميتافيزيقيّ. فنحن، في واقع الحال، أسارى مفاهيم العائلة، سُجناء في مَفهمتهم (conceptualizing) للعالم المحيط، ولتعريف الأشياء، وللحقيقة بحدّ ذاتها.
 
في هذه الأسرة-العالم، المسيّجة بالجدران وإرهاب الأسرة، والمُحاطة بمفاهيم وضعها الآباء سلفاً، يعيشُ الأبناء، لا سيّما الابن والبنت، في صراع على الحقيقة المُحددة، في عالمٍ خاو إلّا من تعريفات الأب والأم. يمكن للمشاهد أن يلمس توق الأبناء إلى التساؤل الدائم. لا يمكن لوجود أن يكون بسعة فيلا فحسب. وفي إخراجٍ رائع، يلعب لانثيموس على فرضيّة أخرى؛ ففي حين أنّ الآباء يعلمون كلّ ما في وسعهم لضبط كلامهم وعدم تسرّب ما هو خارجيّ إليهم، إلّا أنّنا نلمسُ في الأبناء توقاً للحريّة، لاستنزاف الآباء بالأسئلة حتى تحدث شقوق ليفهموا أنّها سلطة العائلة ليس إلّا.
 
في ضوء هذا الضبط، والتمرّد المضاد له، تسأل البنت أباها: “متى بإمكان المرء أن يخرج خارج باب الفيلا؟". يجيبها الأب بطلاقة: “عندما يسقطُ ناب المرء". في المشهد الأخير من الفيلم، تأخذُ البنتُ، في مشهدٍ عنيف للغاية، حجراًٍ وتكسّر نابها وتهرب خارج البيت، ولا يجدها الأب، الذي جاب المدينةَ الموحشةَ بحثاً عنها.
 
تلك النهاية الرّمزيّة للحريّة، العنف مقابل الحصول على الحريّة تحديداً، كانت بالفعل من أبلغ ما في الفيلم. تعلّمنا تلك النهاية أنّ هناك شيئاً ما لا بدّ من خسرانه، وأنّ عنفاً ما لا بدّ وأن يُمارس -حتى ولو من قِبلنا- على أجسادنا لتحقيق الحريّة، للخروج على مفاهيم الأب والأسرة والحقيقة والعالم.
 
أودّ الإشارة إلى أنّ لانثيموس يأخذ فكرة الأسرة إلى أقصاها، إلى ما لا يمكن أن تكون عليه، وتكون عليه في الوقت ذاته.
 
 
فيلم "Alps”: لأيٍّ كان أن يملأ غياب مَن نحبّ
 
في عمله "Alps” عام ٢٠١١، وهو عمل شديد التعقيد ويمثّل برأيي أعقد أعمال لانثيموس، سنرتطم بفتاةٍ تعشق لعب الجمباز، وتدخل المستشفى في جوّ من الأحداث غير المفهومة لتموت.
 
بعد موتها، نجد أنّ الممرضة والفريق المدرب لها ما هم إلّا مجموعة سريّة، غريبة الطابع جداً، وسورياليّة للغاية؛ إنّها مجموعة تقوم بعمل لا مثيل له: ألا وهو القيام بانتحال شخصيّة المتوفَّى/الغائب، ولعب دوره، والقيام بما كان يقوم به.
 
بعد بكاءٍ مرير تبكيه الأمّ على ابنتها الراحلة، تقدّم الممرضة عرضاً عليها بأنْ تقوم بكلّ ما كانت تقوم به ابنتها؛ أن تعود إلى المنزل في الأيام التي كانت تعود فيها الابنةُ الأصليّة، أن تمارس الهويات ذاتها، أن تناديها بـ"ماما" و"بابا" طبيعيّاً، بل يصوّر الفيلم الممرضة -الابنة الجديدة/المُنتحلة- وهي تأتي بعشيقها إلى المنزل. وبعد فترة، يقوم الأب والأم بطردها في ليلةٍ وهي تنتحب كأنّها ابنتهما فعلاً.
 
هناك غموض فظيع ينتابُ هذا العمل بالتحديد للانثيموس. بيد أنّ ما نلمسه بدقّة هو سخريّته السورياليّة المتجدّدة من فكرة الحب، والتعلق، وكيف أن لأيّ كان أن يقوم بأدوار من نحب في الحياة.
 
ارتبطَ دائماً الحب بـ"الفرادة". نحن نحبّ أحدهم لأنّه هو، لا غيره. الفيلم يمثّل انتهاكاً رمزيّاً لتلك الفكرة، للفرادة، ولمسخ فكرة الحب وعلاقتها بشخصٍ بعينه دون آخر، لخلق جماعة تقوم بعمل مأجور للعب أدوار الغائبين.
 
 
"The lobster”: الديسيوتوبيا واقعاً
 
برأيي، وبحميميّة شديدة، أعتبرُ أنّ هذا العمل هو أعمق وأجمل ما قدّم لانثيموس، وكان العمل جديراً بأخذ جائزة كبرى، لكنه لم ينلها، رغم تصدّره فعلاً قائمة الأعمال الأكثر تميّزاً وفرادة.
 
يمثّل هذا الفيلم ما يمكن تسميته بالديسيوتوبيا، المدينة غير الفاضلة، في مقابل اليوتوبيا التي تُعرَف باسم المدينة الفاضلة، التي تسود فيها القيم الخيّرة، والإنسان الصالح، وكلّ ما هو جميل وخيّر.
 
يرسم الفيلم فعلاً "إنساناً لا إنسانيّاً" بامتياز. رجلٌ، بملامح غير بشريّة لا يضحك ولا يبكي، تتركه امرأة في مدينةٍ قائمة على فكرة الأسرة المتجانسة من ذكرٍ وأنثى متشابهين، بل يمكن القول متطابقين إلى حد التماهي. في تلك المدينة، لا خيار لك أن تبقى وحيداً، أعزبَ.
 
يصور الفيلم المدينة كنوع من الاستقاميّة الجنسيّة والمعيشيّة. خيار أن تكون وحيداً يعني الزجّ بك في فندق، هو شبيه بالسجن، وعليك خلال خمسة وأربعين يوماً أن تختار أنثى متطابقةً معك، لتتزوجوا وتعودوا على المدينة -بعد أن يتأكّد الإداريّون في الفندق من عدم وجود خلافات بينكما- أو أن تتحوّل إلى حيوان، أنت من تختاره.
 
بعد أن تشرح مديرة الفندق التعاليم القاسية للبطل، تسأله: “لو فشلتَ، ما الحيوان الذي تودّ أن تصيره؟". يجيب: “السلطعون". “لماذا؟"، تسأله مديرة الفندق. “لأنّه يعيش أكبر قدر ممكن".
 
“الإنسان المسخ" هو ما يسيطر على هذا العمل البديع. يبدو أنّ استحضار كافكا مهمّ في هذا العمل. فأخو البطل، الذي فشل في اختيار شريك، تحوّل إلى كلب، ويتجوّل به ديفيد، بطل الفيلم، كلّ المشاهد؛ إلى أن يتعرّف على شبيهةٍ به، أنثى لا يعتريها أيّ شعور إنسانيّ بتاتاً لدرجة أنها اصطنعت الموت أمامه في حمّام السباحة شَرَقَاً ولم يتحرّك له ساكن لإنقاذها، حينها قرّرت الارتباط به. وإمعاناً، بعد الزواج، في اختبار لا إنسانيّته، أو كونه مسخاً بالأحرى، تمارسُ مع الجنس وهي تراقبه لئلا يشعر بأيّ نشوة! وتصحو في صباح باكر لتقتل أخاه-الكلب لتختبر مشاعره نحوه، وعندما يبكي -ويقول لها ليست دموعاً إنها من الماء- تجرّه إلى إدارة الفندق لأنّه خانها. إنّه يبكي، ويتألم؛ أي لديه مشاعر.
 
في محاولة هروبه منها، يقتلها، ويهرب إلى خارج الفندق، ليصل إلى الغابة التي يجد فيها مجتمعاً موازياً ممّا يمكن تسميتهم بـ"الطهوريين"، تلك الغابة التي تتسلّط عليها امرأة أيضاً تملي التعاليم المتعلّقة بالبقاء إلى الأبد صامتاً، بلا حب، ومن يحب، أو يمارس شهوةً جنسيّة يُقتل، فالكلّ يحفرُ قبره بيده. في فترة بقاء ديفيد في الغابة، يحب فتاةً، مما يجعل سيّدة الغابة تأخذها إلى طبيبة لتذهب ببصرها في مشهدٍ مؤلم وعنيف. وفي النهاية، يهرب معها ديفيد إلى مطعم في المدينة، ليفقأ عينه بيديه، وينتهي الفيلم بهذا المشهد المفتوح والقاسي.
 
والحال أنّ تيمة الفيلم هي كشف السلطة وتعريتها وتوضيحها، وأيضاً مقاومتها. السّلطة مضاعفة في هذه الفيلم. يسعى لانثيموس إلى إخبارنا بأنّ حتى "مقاومي السّلطة" -وفي تلك الحال هم جماعة الغابة- هم أيضاً واقعون في سلطةٍ مضادّة. فإذاً، هناك سلطة المدينة المعياريّة، والفندق، والغابة. فهل ينتصر الحبّ على السّلطة؟
 
في الحقيقة، يمكن تأويل الفيلم تأويلين محتملين. تأويل سورياليّ بنهاية البطل، والفتاة المحبوبة التي أُفقدت البصر. أو تأويل يسعى لإنتاج معنى متعلّق بمقاومة السلطة، والهرب، حتى ولو كانت بفقأ العين. يتناصّ هذا بذهني مع المشهد الأخير للفتاة في فيلم ناب الكلب، إذ تكسر نابها للهرب. في هذا العمل، يكون فقأ العين، هو نوعٌ من التضامن مع الحبيبة. لكن هناك سؤال مهمّ: أليس بفقئه عينه مثلاً هو نوعٌ من الخضوع لسلطة المدينة التي لا تقبل إلّا بالمتماثلين؟ ذلك ما يتركنا فيه لانثيموس حائرين.
 
 
The killing of a sacred deer”: القَصاص الآن وهنا
 
بدءاً، العنوان «مقتل غزال مقدس» محمّل بدلالة أسطوريّة ودينيّة واضحة تحمل معنى الأضحية والفداء، تجعل المشاهد يتساءل عما سيكون عليه الحال في فيلم قتل غزال مقدس. الفيلم يبدأ بموسيقى تبدو كنائسية، توحي بدرامية ما ينتظرك فيه، وبمشهد لقلب نابض وطبيب ينزع زيّ العمليات وصورة ثابتة على سلسلة القمامة حيث قفازاته المليئة بالدم.
 
يقدّم الفيلم ويؤكد فكرة أن من المذنب، قاصداً كان أم غير قاصد، لا يكفيه فقط أن يتوب ويندم عما فعله كأن تتوقف عن تناول الكحول لأنها جعلتك تقصر وتنهي حياة أحدهم؛ بل عليك أن تدفع الثمن هنا والآن. هذه الآنية والدنيوية في العقاب هي الثيمة الجلية. لكن ما العقوبة؟ القتل، بل القصاص وباليد ذاتها، تلك اليد التي أنهت حياة رجل عن غير قصد ستتحمل وزر إنهاء حياة قريب لها. لكن الوقت لا يسعفك، عليك أن تقرر من ستقتل من عائلتك قبل أن تحل عليهم لعنة ما ويموتون جميعاً، لأنك في الدنيا ولست مخلداً بوقت مفتوح لا نهاية له. عليك أن تقرر بسرعة بمن ستضحي، كما أن قتلك لنفسك لن ينفع لأن الثمن يعني أن تقتل بيديك الجميلتين النظيفتين من تختاره من عائلتك وتكمل أنت بعدها حياتك بعد أن تسدد الثمن وتعيش الفقد. عليك أن تحيا كل دقيقة وأنت تعي أنّ ما فقدته جزاء خطأ اقترفته وإن كان غير مقصود.
 
 الفداء هنا ليس هو المذنب بل برئ لا ذنب له كما هو حال أي قربان. الجانب الأسطوري في الأضحية يتجلى عندما يغضب الأب ويصرخ حين تحمله زوجته مسؤولية ما يحدث وتطلب منه فعل شيء، فيجيبها بأنه سيحضر سن فيل ودم حمامة وجسد عذراء،كما كانوا يفعلون قديما لكنها لا تملك ذلك الجسد كما يخبرها، لكي تنزاح الغمامة عن أسرته، لأن هذا الداء شيء متجاوز لا تفسير علمي له ويحتاج لما هو أبعد من العلم لكي يفك لغزه.
 
تسير الأحداث بهدوء مستفز، وجوه الممثلين ثابتة الملامح ثم يظهر المرض فجأة، يغيب ويحضر وفقاً لشيء غامض مرتبط بشخصية المراهق في الفيلم. ولا يوجد أي تفسير طبي لما يحدث للطفلين. ليأتي المراهق ويخبره باللغز الذي يبدأ من الشلل حتى النزف من العيون ثم الموت. لكنه أيضاً يمنحه الحل، قتيل واحد أو العائلة كلها لكي يتحقق التوازن بينهما.
 
في حوار في مشهد من فيلم داخل الفيلم قال المراهق إنه فيلمه المفضل تقول امرأة لرجل "لست أنت الرب..." ليضحك الرجل ساخراً منها: "ومن قال لك بأني لست الرب". هذا الحوار المتضمن من مشهد لفيلم داخل الفيلم ليس عبثاً، ففي المراهق شيء من إله يتضح في تأثيره على صحة الطفلين بشكل مرعب، وكذا في قوته وثباته المخيف في كل المواقف. فنبرة صوته لم تعلُ غضباً ولم يتألم حين عض يده ونزع قطعة منها ولا حين تلقى رصاصة، هو خارج كل ألم أو ردة فعل لأي شيء، ثبات مستفز للأب الذي يحاول أن ينقذ نفسه وعائلته لكنه لن يفلت من دفع الجزاء، ومن ثم تأتي الأم وتقبل قدميه في صمت وكأنها تستجدي رباً ليعطف على طفليها لكنه لا يحرك ساكناً.
 
وبالنظر إلى علاقة الأبوين مع طفليهما نرى تجسيداً واضحاً لعقدة أوديب والكترا، فالأم تحب ابنها وتعطف عليه بينما الأب يبدو قاسياً وفظاً جداً معه، في حين أنه -أي الأب- يعامل ابنته باهتمام ورفق أكثر، وهذا ما تستغله الفتاة حين تطلب من والدها أن يقتلها لتكون فداء للعائلة وهي تعلم أنه لن يفعل، ولم يكن ذلك إلا لتعزز من مكانتها عنده، في حين أن ابنه قص شعره وأخبر والده أنه يريد أن يصبح طبيب قلب مثل والده لا طبيب عيون كوالدته كما كان يريد من قبل، لكن هذا لا يثير في قلب والده شيئاً. أما علاقة الفتاة بأمها فقد كانت سيئة، فقد نعتتها بألفاظ بذيئة وضربتها أمها بقسوة رغم مرضها، وهو ما يجسد في هذين القطبين الأم والأب من خلال هذه العلاقات الأساطير القديمة المرتبطة بالأسرة (أوديب والكترا).
 
يغيب القانون والدولة ومنطقهما من فكرة الفيلم، الحساب هنا متجاوز للقانون البشريّ. مشهد الموت كان عبثياً، لكنه أيضاً بدا محكوما بميول الأب، فقد أخطأ ابنته وزوجته ليقتل ابنه، وهنا أوديب هو مَن يُقتل من قبل والده لا العكس، يسيل دمه على صدره والأب ينظر له ولا صوت يتردد في المكان أو دمعة تنزل من عين والده، الذي بدا وكأنه أنهى للتو مهمة شاقة.
 
بعدها مباشرة تظهر العائلة في مشهد ختاميّ في مطعم عادة ما يرتاده المراهق ولم يسعوا للهرب من رؤيته كما قد نتوقع كأنهم يؤكدون له أن ما أمر به قد كان. تنظر له الفتاة وهي تضع الكاتشب على طبق البطاطا أمامها وتنظر له وكأنه ذاك الدم الذي أُريق في بيتهم، وما أن يراهم ناقصين فرداً حتى ينتهي الفيلم بخروجهم من المطعم.
 
خاتمة
 
رغم أنّ لانثيموس لم يتجاوز العقد الرابع من عمره، إلّا أننا نجدُ مخرجاً عميقاً وكبيراً، يُمسرح أفكاراً كبرى، ويجعلها مرئيّة. وبهذه المناسبة، فهناك عملٌ قادم له، يتوقّع أن يُعرض الشهر المقبل بعنوان "The favorite” أو المحظّية، عن ملكة بريطانيا.
كريم محمد

باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.