هل لا بدّ من العلمنة؟

18 تشرين2/نوفمبر 2018
 
تساءل جوزيه كازانوفا (José Casanova) عام (1994): «مَن الذي لا زال يؤمن بأسطورة العلمانيّة؟» (كازانوفا، الأديان العامّة في العالَم الحديث، ص 25). ورغم أنّها عشرون سنة ونيف الآن، إلّا أنّ السؤال ما زال قائماً وملحًّا وبحاجة إلى إعادة تفكير. وإعادة التفكير في العلمانيّة تعني أن نقاربها كشيءٍ قائم في الممارسات والأعمال والسياسات التي نسمّيها «علمانيّة».
فلا العلمانيّة ولا صنوها، الدين، بمفاهيم جاهزة. إنّها مفاهيم يُعاد تشكيلها وتُرسم كلّ حين. ففي حين كان الدينُ عاملاً من عوامل انبثاق العلمانيّة في دولٍ غربيّة، كان هو نفسه المقصيّ في علمانيّة أخرى. لكن، هل أرمي بذلك للقول بـ«علمانيّات متعدّدة»؟ أم الأمر للفت الأنظار لقيمة الممارسة (Practice) في تشكيل المفهوم والنظريّة؟

يشتكي طلال أسد في أبحاثه عن العلمانيّة من أنّ هناك نزاعات جوهرانيّة (essentialism) تُلقي بتعريفات نهائيّة على العلمانيّ والدينيّ -كمقولتين-، ويوضّح أسد كيف أنّ عزو أيّ تعريفٍ نهائيّ إلى كلٍّ منهما هو تفويت مبكّر للنقاش حول ماهيتهما المُشكَّلة تاريخيًّا. ومن ثمّ، ومن خلال ما أسماه بطرافةٍ «أنثربولوجيا العلمانيّة» (anthropology of secularism)، يحاول أسد أن يسبر ماهيّة العلمانيّ والتساؤل عمّا يكون. ومن هنا، يتبع نهجاً جينالوجيًّا ليعرف كيف استقى "العلمانيّ" مصادره، وأصبح يسم ممارساتٍ معيّنة، الأمر الذي سيؤهّل ما سيسمّى لاحقاً بـ«نظريّة العلمنة» (secularization theory) أن تكون، وستصبح فيما بعد، على يد العلمانيين التقليديين -وهم هؤلاء الذين يحوّلون العلمانيّة إلى عقيدة وأيديولوجيا وقوّة يقرأون التاريخ من خلالها- نظريّةً للتاريخ.
 
ومن هذا المنطلق، يمكن للمرء أن ينتقل إلى من ينصبّون العلمنة ليس كعمليّة تاريخيّة، وإنّما كنظريّة للتاريخ. بقول آخر، تغدو العلمانيّة سرديّة (narrative) كبرى يُقرأ التاريخ البشريّ من خلالها على أنّه تقدّم في سبيل العلمنة، وتقدّم في سبيل العلم، والاستنارة. وبهذا تنتقلُ العلمانيّة -وفقاً لنظريّة العلمنة- من كونها نتاج سياقٍ معيّن، تاريخيّ و«دينيّ» وسياسيّ-اقتصاديّ، إلى كونها هدفاً يسير إليه التاريخ البشريّ، ويُقسّم التاريخ بناءٍ على عصورٍ تراتبيّة؛ كالعصور الأسطوريّة ومن ثمّ الدينيّة ومن ثمّ العصور "العلميّة"، أي العلمانيّة بمعنى آخر.
 
تعمل «نظريّة العلمنة» على إنتاج ما أسماه تشارلز تايلر في كتابه «عصر علمانيّ» (a secular age) بـ«قصص الحذف» (subtraction stories)، أي إنّها تحذفُ من التاريخ وتشذّب كي تنشئ سرديّتها عن هذا التاريخ. و«قصص الحذف» هذه هي التي تجعل من تعريف العلمانيّة معنى سلبيًّا دائماً، وتمنحها الغياب الدائم. وكما يقول العالم الاجتماعيّ كاريغ كالهون (Craig Calhoun) بأنّه «غالباً ما تُقارب العلمانيّة كضرب من الغياب»، أي كضرب من غياب الدين، و«السحر عن العالم» -بمفهوم ماكس فيبر-، والأساطير، وغياب كلّ شرطٍ متعالٍ عن الوجود البشريّ. ولذلك يرى أن هذه النظرة «مضلّلة» (misleading)، ولا بدّ من مقاربة العلمانيّة كشيءٍ واقعيّ، كشيءٍ ملموس، بدلاً ممّا توحي به نظريّة العلمنة من كون العلمانيّة أسطورة.
 
إنّ الرؤيّة الخطيّة للتاريخ، بوصفه تاريخَ تقدّمٍ في سبيل الاستنارة، هي ما طبّعت «نظريّة العلمنة» بسرديّة التقدّم هذه، ومن ثمّ جعلت من المبادئ العلمانيّة مبادئ كولونياليّة على مَن لم تحصل العلمانيّة على أرضهم. فالعلمانيّة ليست أيديولوجيّة سياسيّة فحسب، إنّها نمط «تذوّتٍ» جديد، أي إنها تُعيد إنتاج الذوات وفقاً لسرديّتها، ووفقاً لرؤيتها للتاريخ، وللدولة. ومن هنا، فهي تُقصي شعوباً لأجل شعوب أخرى، بل وتعرّف ذوات هذه الشعوب من منطلق رؤيتها المعياريّة ذاتها.
 
تعرض العلمانيّة نفسها كضربٍ من ضروب معرفة الطبيعة الإنسانيّة، وكنوعٍ من امتلاك هذه الطبيعة وإعادة تمثيلها سياسيًّا ومجتمعيًّا. لذلك، فالعلمانيّة قولٌ في الإنسان والدين والسياسة. وتحديدها -أي العلمانيّة- كضرب من ضروب «إزالة السحر عن العالَم» لهو أمر مضلّل. لأنّ هذا الرأي يصوّر العلمانيّة كتاريخ انتصار، في حين يصوّر تاريخ الدين كتاريخ انحدار؛ انحدار في النظريّة والممارسة، مقابل تصاعُد في العلمنة وبزوغ الذوات العلمانيّة. وهذا القول يعني، فيما يعنيه، أنّ العلمانيّة عمليّة محايدة، تزيل «السحر» حتى تكشف عن «الحقيقة»، حقيقة الطبيعة الإنسانيّة، وحقيقة الدين الذي «يُسحرن» العالَم.
 
 
ولعلّ هذا ما حدا بطلال أسد لأن يقول: «تقتضي [العلمانيّة] ضمناً مفاهيم جديدة لـ’الدين’، و’الإيتيقا’، و’السياسة’، وتقتضي ترابطاً حتميًّا جديداً بينهم» (طلال أسد، تشكّلات العلمانيّ، النسخة الإنجليزيّة، ص 1-2). مما يعني أنّ للعلمانيّة تعريفها للدين، أو يمكن لنا القول إنّها أعادت إنتاج الدين، وعمليّة إعادة الإنتاج أتاحت لمبادئها وأسسها المتعالية أن تقوم. وهذا فضلاً عن أنّ العلمانيّة قد تمّ مأسستها سياسيًّا في التاريخ الغربيّ الحديث، وهي أصلاً يُعاد إنتاجها ضمن عمليّة المأسسة الدائمة لها. ومن ثمّ، فمأسستها سياسيًّا لم يكن بغرض تهدئة الصراعات الدينيّة في المجتمعات الغربيّة، لأنّها هي نفسها قد تكون -وبالفعل قد كانت- «حمّالة الإقصاء القاسي» كما يقول طلال (نفسه، ص 5)، وهذا مُلاحظ تاريخيًّا في إعادة إنتاجها للذوات وإقصائها لذواتٍ أخرى لا ترى ما تراه العلمانيّة، أو في التجربة الكولونياليّة للغرب الحديث.
 
ويمكن الاعتراض أيضاً على نظريّة العلمنة من منطلق أنّ العلمانيّة نتاج سياق «دينيّ»، وهذا أمر مهمّ لا بدّ من تفحّصه. فهي ليست نتاج صراع الكنيسة والدولة مما أدّى إلى «عزو ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فهذا أحد معانيها (وهو المعنى الأوّل، كما حدّده تايلر في ‘عصر علمانيّ‘)، إنّما هي أيضاً نتجت وتطوّرت في سياق دينيّ مسيحيّ-يهوديّ هو من أعطاها فعاليّتها التاريخيّة. فـ«ما يجعل كثيراً من الجدل المعاصر تافهاً هو أنّه لا أحد من الجانبين يُدرك أنّ العلمانيّة ظاهرة دينيّة، وأنها تتولّد مباشرةً من التقليد اليهوديّ - المسيحيّ كما تتطور في البروتستانتيّة … والدين، من ناحيةٍِ أخرى، غالباً ما يكون أكثر نفوذاً حيث هو أقلّ عياناً»، كما يقول مارك س. تايلر في كتابه «بعد الإله» (after god)، (ص 2-3).
 
إنّ العلمانيّة هي نتاج ممارسات وفعاليّات واحتكاك بالتاريخ، هذه الممارسات هي الأنثربولوجيا التي تشكّل مادتها، فلا يمكن استكناه معناها في نسق مغلقٍ أو نظريّة، لأنّ المهمّ هو «كيف» عِيشت وتُعاش العلمانيّة وكيف عملَ العلمانيّ وكيف رأت التاريخَ نظريّةُ العلمنة، لا «ما» هي العلمانيّة كماهيّة منطقيّة نهائيّة. وهذا مهمّ لاستشكاف سياقات العلمانيّة المحيطة بها وكيف أعادت إنتاج ذوات المواطنين وإنتاج الدين من جديد خاصّة في نسخته البروتستانتيّة التي يُراد تعميمها من قبل الإمبرياليّة الغربيّة بالقوّة العسكريّة أو بالقوى الناعمة على بقيّة شعوب الأرض، لتغدو العلمانيّة من كونها بنتَ سياقٍ معيّن، إلى «نهاية للتاريخ»، وتصبح «شرطاً» لا يمكن تفاديه.
 
دين العلمنة المُبتغى
 
أشارت جوديث بتلر ذات مرّة أنّه عندما نقوم بطرح أسئلةٍ حول "الدين" و"المجال العامّ" علينا أن نكون شكوكيين بما يكفي، وذلك، حسب بتلر، لأنّنا دائماً ما نملأ مقولة "الدين" ونبقي على مقولة "المجال العام" فارغة، ومصونة، و"خارج الدّين". إنّ بتلر تريد أن تقول إنّنا -بفعل تصوّرات علمانويّة تدّعي حياديّتها- دائماً ما نُسائل الدين، ونبقي على كلّ ما هو حديث، علمانيّ، بروتستانتيّ (في واقع الأمر) خالياً من المساءلة، كأنّ ثمّة بداهة أصليّة تفصل الدين عن المجال العام. تقول بتلر بكلام لا شائبة تشوبه بأنّنا «عندما نبدأ بالسؤال عن ’الدين‘ في الحياة العامة، فإننا نجازف ببساطة بملء مقولة ’الدين‘ بمجموعة متنوعة من الأديان المحددة، بينما مجال ’الحياة العامّة‘ يبقى على نحو ما مستقرًّا، مغلقاً، وخارج الدين. إذا كان دخول الدين إلى الحياة العامة مشكلة؛ فذلك يعني أننا نفترض مسبقاً إطاراً ظل فيه الدين خارج الحياة العامة، ونحن نسأل عن الطريقة التي يدخل بها إليها وإن كان مقدراً له أن يدخل إليها بطريقة مبررة ومضمونة. ولكن إذا كان هذا هو افتراض الجدال، فيبدو أن علينا السؤال أولاً كيف أصبح الدين خاصًَّا وهل نجحت المحاولة لجعل الدين خاصًّا على الإطلاق؟».
 
إلّا أن بتلر، وبذكاء شديد، تطرح أسئلةً جدّ جينالوجيّة؛ إذ تقول، ما هو "الدين" المُقصى حقيقةً من المجال العامّ؟ وهل المجال العام لا دينيّ؟ ولذلك، تقول بتلر إنّ المجال العامّ -كما نعلم جميعاً- هو إنجاز بروتستانتيّ -أضيف، وبرجوازيّ في واقع الأمر (يمكن تتبّع هذه النّقطة في نقد نانسي فرايزر لهابرماس في عددٍ من أعمالها)-، أي إنّه إنجاز دينيّ في الحقيقة. أي إنّ "الدّين" الذي يبقى خارج المجال العامّ هو الدين الذي لا يساهم في تعزيز المجال العامّ نفسه. ويمكن للمرء أن يضيف، اعتماداً على طلال أسد وخوسيه كازانوفا وغيرهم، بأنّ المسيحيّة دائماً ما تُقرن مع كلّ ما هو حديث، فهي تعزّز من مجال عام، دولة علمانيّة، خصخصة الدّين؛ في حين يبقى دينٌ آخر، أديانٌ أخرى، خارج ما هو حديث قبلاً، أي، بعبارة أخرى، المشروع الحديث كلّه هو مشروع مسيحيّ في واقع الأمر -والحداثة ما هي إلّا مسيحيّة مُعلمنة.
 
 
إنّ ما هو حديث لا يرفضُ ما هو دينيّ بعامّة، وإنّما يرفضُ تقليداً دينيّاً معيّناً، ديناً بعينه، ولكن لا يرفض الدّين بما هو كذلك. وبالتالي، مَن يتحدّثون عن "حداثة إسلاميّة"، أو عن "إصلاح الإسلام" هم ليسوا واقعين فحسب في صلب أساطير نظريّة العلمنة التي تفترضُ انحداراً خطيّاً للدّين وانتصاراً مظّفراً للعقل والحريّة (يمكن مراجعة ما كتبه تشارلز تايلر في هذا الإطار؛ تايلر، ٢٠٠٧)؛ وإنّما أيضاً هم واقعون في عمليّة "تمسييح" (من المسيحيّة) للإسلام، وإن على نحو غير تبشيريّ ظاهريّاً.
 
فما يُعدّ "كونيّاً" في الحداثة الأوروبيّة الغربيّة العلمانيّة هو، في واقع الأمر، المسيحيّة معلمنةً في سياقٍ تاريخيّ بعينه. ولهذا، تفيدنا الجينالوجيا بتتبّع التصوّرات، المفاهيم، الحساسيّات، والأنساق التي شكّلت مخيالنا الحديث باعتبار أنّ ما نتبنّاه هو الحقيقة في ثوبها الكونيّ، وأيضاً تفيدنا التاريخانيّة في إدراك كيف تواطأ واشتبكَ المشروع الحداثويّ برمّته مع المسيحيّة، وأنّ نشْر الحداثة كان نشراً لمسيحيّة عُلمنت على يد العقل الحديث. ليس هذا فحسب، وكما أوضح البابا بندكتس في كلمته الطائفيّة والمحرّضة على المسلمين في أوروبّا، فإنّ المسيحيّة متلازمة واللوجوس اليونانيّ، ولهذا فهي متسامحة وحرّة، على عكس الإسلام، كما يضيف البابا، الذي يجبر بالقوّة للدخول فيه، الأمر الناجم عن، حسب البابا، أن الإسلام يفصل بين العقل والإله؛ الأمر الذي توحّده المسيحيّة.
 
يتّضح، إذاً، أنّ السيرورة الخطيّة التي تريدُ نظريات العلمنة وضع الدين فيها هي سيرورات إقصائية، تتغاضى، أو بالأحرى، تتعالى على الشروط المكوّنة للظواهر، من أجل إنتاج نُسخ كونيّة لإنتاج ما محليّ، يأخذ شكل العلمانيّة حيناً، أو العقل أحياناً.
كريم محمد

باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.