تفاهة الشر: حنة أرندت في القدس
"الشرّ دائماً متطرّف وليس جذريّاً أبداً. الخير هو الجذريّ والعميق".
حنّة أرندت.
-1-
لم تكن النّازيّة حركة عاديّة، أو ظاهرة سياسيّة طارئة، أو واقعة وقعت بلا قَدَر ميتافيزيقي في الغرب؛ فكلّ فاشيّة كبرى لها أصولها البنيوية التي ترسّبت حتى ولو لم نعد نرى تلك الأصول لشدّة تجذّرها، لتخرج فجأةً في معسكر نازي، أو فاشية كبرى، أو محرقةٍ (هولوكوست) لم يبقِ ولم يذر يهوديّاً إلّا وتمكّن منه بالإبادة.
ربّ نازية كانت هي التجلّي الأمثل للحداثة السياسيّة منذ الأب المتخفّي ميكافيلي (من الضروري أن نرجع هاهنا للدراسة الممتازة التي كتبها الفيلسوف السياسي الألماني ليو شتراوس تحت عنوان: الموجات الثلاث للحداثة[1]، three waves of modernity)، أو مع الوريث البطل توماس هوبز.
كان على الحداثة السياسيّة أن تنهي قدرَها السياسيّ بالحربين العالميتين وبالنّازيّة كأقصى ما يمكن أن تصل إليه من المهمّة الرسالية للدولة الحديثة، ومن العقل المطعون بالجنس واللون، ومن الدور البطوليّ للقوميّة الحديثة المتخيّلة التي تقوم على الإدماج والإبعاد كاستراتيجيتين أساسيتين لقيامها.
إنّ العقلنة الحداثيّة لم تكن تقتصر فقط على الأبعاد غير السياسيّة من الاجتماع الإنساني، بل إنّها كانت تشمل العمليّة السياسيّة بالأساس. حسب ليو شتراوس، إن منشأ الحداثة ومأزقها وانتهائها سياسيّ بالأساس وليس معرفيّاً حصراً.
إن العالم ما قبل الحديث كان يواجه إشكالاً في الغرب يتعلّق بالمأزق اللاهوتي السياسي وكيف إدراة المجتمع وتحقيق سياسات أكثر لصوقاً بتحقيق الرفاه والتقدّم. إن الحداثة السياسيّة هي التحقيق المتأخّر لأمنية أفلاطون الأوّل حول تحقيق مملكة الربّ في الأرض. إذن، المشكل السياسي الحديث يتعلّق بالأساس ويتمحور حول كيفيّة هذا التحقيق لهذه المملكة. ويبدو أن السياسة ما قبل الحديثة مع الكنيسة لم تكن سياسة بقدر ما كانت لاهوتاً قد استنفذ ليحلّ في شخص البابا الذي يجعل من القرار السياسي قراراً لاهوتيّاً.
إن العالم ما قبل الحديث كان يواجه إشكالاً في الغرب يتعلّق بالمأزق اللاهوتي السياسي وكيف إدراة المجتمع وتحقيق سياسات أكثر لصوقاً بتحقيق الرفاه والتقدّم. إن الحداثة السياسيّة هي التحقيق المتأخّر لأمنية أفلاطون الأوّل حول تحقيق مملكة الربّ في الأرض. إذن، المشكل السياسي الحديث يتعلّق بالأساس ويتمحور حول كيفيّة هذا التحقيق لهذه المملكة. ويبدو أن السياسة ما قبل الحديثة مع الكنيسة لم تكن سياسة بقدر ما كانت لاهوتاً قد استنفذ ليحلّ في شخص البابا الذي يجعل من القرار السياسي قراراً لاهوتيّاً.
تحقيق السعادة، أيديولوجيا التقدم، تفشّي العلمويّة، الأنا الأوروبيّة... كلّ ذلك ليس سوى المقومات الأساسيّة التي تنظّم المخيال السياسي للغرب الحديث، غرب ما بعد الكنيسة والسياسة اللاهوتيّة. وبالعودة إلى النصوص التي أوردها مؤرّخ الأفكار الكبير أشعيا برلين في كتابه الهام "جذور الرومانتيكيّة[2]"، يمكننا أن نقول إنّ كل ذلك كان يتجه في بلورة القوميّة الحديثة الغربيّة، ليس فقط سياسيّاً، ولكن إنسانيّاً؛ بمعنى أنّ الأوروبي الحديث كان يُموقِع نفسه ويبوّئها منزلة أنطولوجيّة أعلى من الإنسان غير الأوروبي، ومن ثمّ فإن عليه أن "ينوّر" ذلك غير الأوروبي، الآخر، اللقيط، غير الحديث، أو يتم إدماجه في قوميتنا الأوروبيّة، حسب فيشته.
إذا اعتبرنا الرايخ الثالث ليس إلّا تحقيق الحداثة السياسيّة في صورتها الأعنف من حيث صنع قوميّة متخيلة ألمانيّة تقوم على الإدماج والإبعاد، فإنّه يمكننا فهم سياسات النازية المُحرقة تجاه اليهود. وحسب حنة أرندت[3]، والتي سيدور عليها المقال، القوميّة -بما هي كذلك- كي تقوم، عليها أن تقوم بتهجير وطرد ونفي كي تتم صناعة الـ"أنا" القوميّة والعرقيّة، أي كي يتم تحديد التمييز العرقي والقومي بين "نحن" و"هم"، إلّا أنّ تلك النحن لا تقبل هاتين التنصيصتين لأنّها خارج كلّ تنصيص، في حين أن الـ"هم" موضعها المحرقة.
مرّة أخرى، لم تكن النازيّة مجرّد حزب سياسي في ألمانيا، كما يوضّح زيجمونت باومن[4]، بل هي قدر ميتافيزيقي لحداثة سياسيّة كانت تعمل منذ قرون عدّة، وليس هتلر سوى حُلم تأجّل تحقيقه. ومن هنا، نفهم لماذا وقع فلاسفة كبار ألمان في فخّ هتلر. هل من المعقول أن يقع فيلسوف القرن الكبير مارتن هيدغر في النازيّة؟ هل يُعقل انضمام القانوني والفيلسوف السياسي كارل شيمت -"هوبز القرن العشرين"- في مصافّ النازيّة؟ علينا أن نتذكّر إجابة جيل دولوز، حين قال معلّقاً على وقوع هيدغر المريب في النازيّة بقوله: "كان على العار أن يدخل إلى الفلسفة[5]".
ولنقف قليلاً مع تورّط هيدغر وشيمت وغيرهما في حركة نازيّة كهذه، حيث يمكننا القول إنّه في تاريخ الفكر، هناك دائماً وصمات عار على جبينه، كما استعرنا من دولوز قوله إنّه كان على العار أن يدخلَ إلى الفلسفة. صحيحٌ أنّ دولوز قال ذلك في سياقِ تعليقه على ‘نازيّة هيدغر، لكنّ العار كامنٌ في الفلسفة منذ القدم، حتى وإنْ صاحبَه السموّ حذوَ النّعل بالنّعل (إن كنّا هيغليين لوهلةٍ). كيفَ للهيدغريين المستميتين في هيدغيريّتهم أنْ يمسحوا عن جبين الفلسفة نازيّتها في العشرينيّات، والتي استدخلها هيدغر ممارسةً استدخالاً، وفكراً عن طريق التعظيم من شأن الألمانيّة كـ"لغة للكنيونة"؟
والحال أنّ كلّ الفلاسفة المعادين للسياسة، ومنهم هيدغر بلا منازع، لا بدّ وأنْ يكونوا فاشيين. ثمّة طهوريّة يظنّها البعضُ لدى مَن لا "يلوّثون" أنفسهم بالسياسة أنّهم الأحكم والأكثر تؤدةً ورويّة. إنّ ذلك مكمن الخطإ ولا بدّ. وههنا أنا أدافع عن حنّة أرندت وسبيلها النّظريّ في السياسة ضدّ هيدغر لا محالة. فهيدغر كلّ ما يقوله، بعد الأحداث النازيّة، هو أنّه ‘لا يحبّ السياسة‘، ‘لا يفهمها‘، فكيف نحاسبه على ذلك الإثم؟ وههنا إشكالٌ طريف. فالانفصال عن الواقع لا ينتج سوى الفاشيّة، العزلة فاشيّة، احتكار السياسيّ فاشيّة أيضاً. ولذلك نرى أنّ كلّ الأخلاقويين الذين ينأون بأنفسهم، في عالمنا عن معترك السياسة هم، في واقع الحال، يؤيّدون كلّ اليمين أيّاً كان.
لقد كان ألتوسير محقّاً حينما اعتبرَ أنّ النظريّة هي سياسة بوسائل أخرى، أو هي الأيديولوجيا. لا يمكن أن تحتقر المجال الفعليّ للإنسانيّ (أي السياسة) إلّا إذا تمسّكتَ بما هو مستحيل. ولذلك، تعلّمنا أرندت أنّ السياسة هي مجال الفعل البشريّ الممكن. إنّها تحقيقٌ للإنسانيّ في أقصى صورته إمكانيّةً. ولا مناصَ منها ما دمنا نؤمن بفاعليّة الإنسان في التاريخ.
عوداً إلى ما سبق، فالنّازيّة مثّلت الشرّ في تجلٍّ سياسيّ مخيف، في واقعة أودت بحياة الملايين من اليهود، تحت ذريعة البحث عن الآريّة؛ وكأنّ الشر الأوروبيّ كان له أن ينفجر في لحظة تاريخيّة وقعت في ألمانيا. والشرّ النازي ليس شرّاً مُفاجئاً، بل هو صنيعة سياسيّة قد دُبّر لها منذ أمد.
-2-
الفيلسوفة اليهوديّة والألمانيّة –في آن- حنّة أرندت، كانت من الذين طالتهم يد النازيّة، وتم ترحيلها إلى خارج ألمانيا، حتى وجدت ملجأً وسافرت إلى أمريكا كي تقيم هناك ثمّ تتولّى مهامّ جامعيّة وتكمل مسيرتها هناك في أمريكا، في تلك الأرض التي نبتت بلا ذاكرة، والتي كانت بالنسبة إلى حنة أرندت في ذلك الوقت بمثابة "فردوساً أرضيّاً[6]"، بحسبها. أن تُهجّر يعني أن تصير بلا اعتراف، وقد عاشت أرندت في أمريكا ردحاً بلا اعتراف قانوني، عاشت كلاجئة، بكلّ بساطة وقسوة.
اشتغلت أرندت منذ أعمالها الأولى على القرون الوسطى وقد سجّلت أطروحتها حول الحبّ عند القديس أوغسطين. وكانت التلميذة النجيبة لمارتن هيدغر، أستاذها وعشيقها، وهي التي نشأت في جوّ من أوج الفلسفة الألمانيّة، إضافة إلى رفقاء دربها من الفلاسفة تلاميذ هيدغر، ومنهم من عاش معها بأمريكا مثل هانس جوناس، الفيلسوف المهتم بالإيكولوجيا والإيتيقا. ومن الاعتقادات المعرفيّة التي كانت تتبنّاها حنة في حقبتها الألمانيّة الأولى حتى وصولها إلى عام 1961م اعتقادها بـ"الشرّ الجذري"، تلك المقولة المسيحيّة والتي اشتغل عليها كانط بشكل هامّ في كتابه الذي تُرجم إلى العربيّة، في وقت متأخر، تحت عنوان "الدين في حدود مجرّد العقل[7]".
"الشرّ الجذريّ" مقولة أصيلة في المعرفة الدينيّة والفلسفيّة الغربيّة، تعني الخطيئة الأصلية التي ارتكبها الإنسان في البدء، مما يستلزم أن الشرّ جزء رئيس وداخلي لدى الإنسان، لا يمكن أن ينفكّ عنه، لأنّه ابتدأ مسيرته في الحياة بالخطيئة. بيد أنّ كانط قد جعل من واقعة الشرّ الجذري واقعة فلسفيّة، فهو لا يعني بالشر الجذري أن الإنسان كائن شرّير بالمعنى السيّئ للاستعمال، أو أن الإنسان خيّر بالمعنى الحسن؛ إن الإنسان، حسب كانط، هو القادر بفضل "الحريّة" أن يسير في السبيلين. إن الشرّ بقدر ما هو اختيار بفعل الحريّة، فإنّ له أساساً كامناً في الإنسان. وهنا نفهم من بول ريكور، أنّ اللاهوت والفلسفة في الغرب متشابكان بشكل مثير، وليس مقولة الشرّ الجذري إلا تجلياً لهذا الاشتباك الفلسفي اللاهوتي.
إذاً، كانت مقولة "الشرّ الجذري" بمثابة شيء ناجز وسابق في الإنسان، ومن ثمّ فإن النازية يمكن أن تكون تحقّقاً لهذا الشرّ الجذري في الإنسان. والوقائع التاريخيّة عموماً عند وقوعها، وخاصّة التوتاليتاريّة، لا تأخذ حيّزاً نظريّاً كبيراً من التفكّر فيها إلّا بعد وقوعها وليس في لحظة وقوعها. وعلينا هنا أن نسجّل ملاحظة هامّة تتعلّق بكون الغرب يحوّل وقائعه السياسيّة الكبرى إلى مُشكل فلسفيّ ومعرفيّ بل وشِعريّ كذلك، في حين أنّنا عربيّاً لم ننخرط بعد في استشكالات فلسفيّة لما وقع في ماضينا من وقائع تاريخيّة وما يقع لنا وسيقع، فيما أظنّ.
هل الشرّ الجذري الذي مسّ منظّرة الفلسفة السياسيّة حنة أرندت قد وجد تحقّقه في النازيّة؟ وهل اليهود -وهي منهم- راحوا ضحيّة تنظير فلسفيّ قد شُرعن له لاهوتيّاً ثمّ نُظّر له فلسفيّاً فيما بعد؟ أو لماذا انقلبت حنة أرندت على التقليد الفلسفي القائل بـ"الشر الجذري" لتدشّن مفهومها الذي نشأ من واقعة سياسيّة/ أخلاقيّة، والذي أسمته بطرافة "تفاهة الشر" (Banality of evils)؟
-3-
في عام 1961م، كُلّفت حنة أرندت بالذهاب إلى القُدس لحضور محاكمة أحد العاملين النازيين، أدولف إيخمان، وهو الشخص المسؤول عن ترحيل اليهود. كان ذلك التكليف من قبل مجلّة "نيويوركر"، وقد كتبت حنة أرندت عدّة تقارير حول المحاكمة التي عُقدت في القدس لمحاكمة إيخمان، ونُشرت فيما بعد في كتاب تحت عنوان: "إيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ).
أهمّ ما يُلاحظه المتبصّر لتقرير أرندت حول محاكمة إيخمان هو انهماكها في الشخص المُجرم نفسه وليس في الدعاوى التاريخيّة والقانونيّة التي تُلقيها المحكمة على إيخمان. إنّ إيخمان وإنْ كان مجرماً نازيّاً، إلّا أنه مجرّد فرد إدراي وموظّف بيروقراطي في نظام توتاليتاري ينفّذ أوامر ذلك النظام دون تفكير. إن المحاكمة ليست عادلة، حسب أرندت، لأنّها لم تُحاكم إيخمان كفرد، وإنما حاكمته على تاريخ لم يكن سوى موظّف فيه. تقول أرندت إنّه منذ الحقبة اليونانيّة والإنسان تُحدد ماهيته غربيّاً بكونه القادر على التفكير بينه وبين نفسه. إيخمان لم يكن يفكّر، إيخمان موظّف عتيق، وهو لا يفهم سوى لغة الإدارة، كما قال هو في مرافعته عن نفسه بالمحاكمة، وذلك بعد إلقاء القبض عليه في الأرجنتين متخفياً.
لا تهمّنى محاكمة إيخمان كحدث عينيّ، أريد أن أركّز على إشكاليين هامّين من تلك المحاكمة، كي نرى كيف حوّلت أرندت المشكل السياسي الظرفي إلى أسئلة فلسفيّة وسياسيّة. السؤال الأول يتعلّق بمحاكمة الفرد الواحد المتهم داخل نظام توتاليتاري قد ارتكب أبشع الجرائم كالنازية، والسؤال الثاني متعلّق بـ"تفاهة الشّر[8]".
هل يمكن محاكمة إيخمان كمسؤول عن جرائم النازيّة؟ أي هل إيخمان فرد تاريخيّ أم هو مجرّد شخص، موظّف إدراي؟ -حسب أرندت، فإن هذه المحاكمات للأفراد هي محاكمات فرديّة وليست تاريخيّة، ومن ثمّ فإن إيخمان لا يمكن تحميله جرائم النازية كلّها، ويمكن محاكمته عما ارتكبه فقط، وليس عن جرائم التاريخ.
نحن هنا بحاجة لأن نستدخل بول ريكور بتقسيمه حول "المسؤوليّة الإجراميّة" و"المسؤوليّة السياسيّة". إن ريكور يقيم تقسيماً طريفاً بين ذينك النوعين[9]، فبحسبه؛ "المسؤوليّة الإجراميّة" تكون تلك المسؤولية التي يُشار فيها بإصبع الاتهام إلى شخص بعينه، في حين أنّ "المسؤوليّة السياسيّة" هي التي تُلقى على نسق سياسيّ بأكمله وعلى رجال جميعهم كانوا في ذلك النظام الإجرامي، حتى ولو لم يتورّط كلّ فرد منهم بتلك الأعمال الإجرامية. ما قصدته، أن حنة أرندت أرادت أن تقول بلسان ريكور إن إيخمان مسؤول إجرامي وليس مسؤولاً سياسيّاً، هو يمثّل نفسه وجرائمه وليس جرائم النظام النازي التوتاليتاري كلّه. وإذا تمّ الفصل بين المسؤوليتين فإنّ موقف أرندت سيُفهم من المحاكمة، خاصّة أنها اتهمت بمعاداة السامية من قبل أبناء جنسها واليهود عموماً.
أمّا فيما يخصّ تفاهة الشرّ، فقد استوحت أرندت هذا المفهوم من المحاكمة. ربّ محاكمة كانت فاعلاً في إبداع فلسفيّ للفيلسوفة الألمانيّة الأمريكيّة. فما لاحظته أرندت في محاكمة إيخمان، أن إيخمان ليس إنساناً مدبّراً أو إنساناً رتّب لتلك الجرائم التي قام بها. إنّه شخص، تافه، وعاديّ، وشرّه أتفه منه. ليس الشرّ جذريّاً أبداً، بل هو سطحي. أي إن الشرّ متطرّف وليس جذريّاً في الإنسان، وتطرّفه غير راديكاليته؛ فكونه متطرفاً يجعله مرتبطاً بالسطح والقشرة، وليس راديكاليّاً أبداً في الإنسان. إن الراديكالي في الإنسان هو الخير. إن إيخمان قد قام بما قام وهو على غير وعي بما يفعل، هو مجرّد منفّذ ليس إلّا، وهذا يجعل شرّه مجرّد حادث دون تدبيرات أيديولوجيّة مسبقة، أو بناءً على مكر معرفيّ. إنّه تافه.
عندما كانت أرندت في المحاكمة، كنت تنظرُ إلى إيخمان وكلامه وتنتبه لتصرفّاته. علّقت أرندت بأن إيخمان لا يجيد الكلام، وهو شخص لم يكن يفكّر إلا في وظيفته. إيخمان لا يجسد الشر الجذري أو المطلق كما تصفه المحكمة، نعم هو تخلّى عن شرطه الإنساني من حيث التفكير والتدبر، لكنّه تافه وسطحي ولا يتحمّل كلّ ذلك التاريخ. قلبت أرندت مفهوم الشرّ على ظهره، ليغدو سطحيّاً جدّاً، وليس عميقاً كما تقول الحضارة الغربية منذ أمد.
تعلّمنا أرندت أنّ التافه خطير، وخطورته تتأتّى من كونه تافهاً.
الهوامش:
الهوامش:
[1] - ههنا مقال طويل لي بمثابة قراءة مطولة في تلك المقالة المهمة، منشورة على معهد العالم: انظر الرابط.
[2] - أشعيا برلين، جذور الرومانتيكيّة، دار جداول.
[3] - را: حنّة أرندت، أسس التوتاليتاريّة، دار الساقي.
[4] - زيجمونت باومن، الحداثة والهولوكوست، ت. حجّاج أبو جبر رفقة دينا رمضان، مدارات للأبحاث والنشر.
[5] - جيل دولوز وفيليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟ ت. مطاع صفدي، مركز الإنماء القوميّ.
[7] - ترجمه الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني، عن دار جداول.
[8] - كتاب أرندت الأساسيّ في ذلك هو: إيخمان في القدس.
[9] - انظر: بول ريكور، الانتقاد والاعتقاد، دار توبقال.
كريم محمد
باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.
مواد أخرى لـ كريم محمد
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.