الاستشراق والاختلاق أو في حرب الكلمات الحديثة
لعلّ أكبر نقدٍ ارتكزَ عليه المنظّرون المبرّزون ما بعد الكولونياليين في نقد المعرفة المصنوعة عن الشرق، سواء أكان ذلك عن طريق نقد السياسات الغربيّة تجاه الشرق كحيّز جغرافيّ، أو تجاه الاستشراق وما صنعه من معرفةٍ عن الشرق الأخلاقيّ وعقله المُشكِّل والمُشكَّل، هو ركيزة نقد "التمثيل" الحديث.
ويعني التمثيل هو صناعة المتخيّل الغربيّ عن آخره الشرق، وما سنعرفُه لاحقاً أنّ الشرق هو آخر "حديث" للغرب، أي هو اختراع للآخريّة حديثٌ جدًّا. اشتغلَ على ذلك تيموثي ميتشل في كتابه الرائع استعمار مصر، حيث وصّف ميتشل بنية التمثيل الغربيّة لمصر من خلال الرحّلات الاستكشافيّة، ومن خلال تقارير مخبري المعرفة عنها، وعن الشرق عموماً.
لكن، وفي بداية المقال، لا بدّ من التأكيد على أنّ هناك خلطاً واسعاً في تلقي المعرفة ما بعد الكولونياليّة عربيّاً، خاصّة فيما يتعلّق بمسألة "اختلاق" الغرب للشرق؛ حيث يُفهم الاختلاق على أنّه الزيف. وهذا غير صحيح. الاختلاق لا يفترض الزيف حتماً. تصطبغُ المعرفةُ بالخيال في صناعة الاختلاق، والرغبة بالتجسد، والاشتهاء. إنّه عمليّة مرتكزة إلى المخيال في واقع الأمر، تنشطُ في حيّز مكانيّ وفي وضع إبستمولوجيّ لافتراض ‘آخر‘ ما.
إنّ السؤال الأساس الذي يواجه هؤلاء المنظّرين الكِبار هو سؤال الحقيقة؛ بمعنى: إذا كان الشرق هو تمثيل استشراقيّ غربيّ، فما هي "حقيقة" الشرق الذي تبحثون عنه؟ وهو سؤال مغلوط لسببين رئيسين، أولاً هو افتراض أنّ منظّرين أساسيّين كإدوارد سعيد وتيموثي وميتشل، وقبلهم فرانز فانون وغيرهم، هم يبحثون في نقدهم عن شرقٍ "حقيقيّ" أمرٌ مغلوط ومخالفٌ لما يريديونه مسبقاً. وثانياً، لأنّ افتراض أنّ النقد يعني الدفاع عن جوهرانيّة ما، هو مسلكٌ أعتقدُ أنّه يخالف ما تقوم عليه أعمال هؤلاء الباحثين. وأريدُ أن أستفيضَ بعض الشيء فيما يتعلّق بالأمر الثاني، نظراً لما يحوم في أفقنا من تصوّر أنّ النّقد يعني وجود جوهرٍ ما يُدافع عنه، ومن ثمّ يغدو النقد مرادفاً لتكريس الأوضاع القائمة.
وأودّ أن أشير بدايةً أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ النقد فوق المساءلة، أو أنّه نفسه لا يمكن نقده والتشكّك فيه؛ فكما يوضّح طلال أسد، فإنّ للنقدِ تاريخاً طويلاً، وله استعمالات عدّة، ويختلفُ من تاريخٍ لتاريخ. بيد أنّ النقدَ غالباً ما يُفهم على نحوٍ سالب، بوصفه هدّاماً وآلة تكريس، والنقدُ -حقيقةً- هو إمكانيّة دائمة للمساءلة، وأفق يطرحُ فيه المسائل النظريّة والعمليّة كي تتبدّى في أقصاها الممكن. فكثيراً ما يُتّهم إدوارد سعيد مثلاً بأنّه يدافع عن الشرق بأوضاعه، وأنّه لا ينتج سوى خطابٍ تفكيكيّ -لا أعني التفكيك هاهنا بالمعنى الدريديّ- لا يصنع شيئاً، ومن ثمّ فإنّ كتابه الاستشراق غير محدّد الغاية.
في الحقيقة، فإنّ الاستشراق لإدوار سعيد كتاب مُزعج، ومُحرج. فرغم أنّه قد اضطلع بمهمّة أكثر جذريّة من محاولات الاشتباك الأكاديميّ مع المؤسّسة الاستشراقيّة، فإنّه يمكن له أن يحقّق تغييراً توعويًّا على مستوى التفكير فيما نسمّيه "الغرب" و"الشرق". وتجدرُ الإشارة إلى أنّ الرّاحل إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق هو من أوّل من عيّن "الشرق" بوصفه خطاباً استشراقيًَّا عن الشرق، معتمداً على ما قدّمه الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو عن الخطاب والحقيقة، والخطاب والسلطة. إذ إنّ الشرق أصبح خطاباً مصنوعاً، وحقلاً أكاديميًّا، ونطاقاً واسعاً للمتخيّل، أي للتمثيل الأوروبيّ الحديث.
فكتاب سعيد، برأيي، قد أحرج الاستشراق ليس لأنّه كشف عن طريق مفهوم "الخطاب" الذي تشتبكُ فيه المعرفةُ بالسلطةِ، وإنّما لأنّه نقدَ شيئاً مركزيًّا ومحوريًّا: المخيال الاستشراقيّ. ليس المهمّ أن يُراجع الاستشراق أحكامه العلميّة والقيميّة عن "المكان" الذي أنتجَ حوله معرفته، أي الإسلام كجغرافيا، والإسلام كمنظومة معرفيّة، أو كتقليد (tradition) إذا استعرنا من طلال أسد. والمخيال هو محور جدال سعيد، وتطبيقه على نصوصٍ أدبيّة وسياسيّة بعينها ما هي إلّا نتاج لمتخيّل استشراقيّ عن الشرق بالأساس.
إذا كان سعيد قد أثبت، بطرافةٍ معهودة، أنّ الاستشراق ليس سوى "شرقنة" أكثر للشرق، و"غربنة" أكثر للغرب، حيث قال: “القضية الرئيسة التي يثيرها الاستشراق: هل يستطيع المرء تقسيم واقع الإنسانية، ما دام هذا الواقع يبدو حقًّا منقسماً على نفسه، إلى ثقافات وتواريخ وتقاليد بل وأجناس تختلف اختلافاً بيّناً ثم ينجو من العواقب بصورة إنسانيّة؟ […] والواقع أنّ أمثال هذه التقسيمات كان القصد من استعمالها تاريخيًّا وفعليًّا تأكيد أهمّية التمييز بين بعض الناس وبعضهم الآخر. […] فالنتيجة عادة ما تكون استقطاب التمييز؛ أي زيادة “شرقية” الشرقي و”غربية” الغربي”، والحد من التلاقي الإنساني بين الثقافات والتقاليد والمجتمعات المختلفة" (سعيد، الاستشراق، ص. 104)؛ فإنّنا يمكن أن ندفعَ بهذه الفرضيّة في سؤال قد سأله تيموثي ميتشل: هل "الغرب" و"الشرق"، كمفهومين نفهمها كنقيضين اليوم، هما مفهومان منفصلان في أصلهما، أم أنّهما نتاج للحداثة -والاستشراق نتاج حداثيّ-؟ ومن هنا، يمكن أن ننطلق لسؤال الجوهرانيّة (Essentialism) الذي اجترحه الرّاحل سعيد، لنسأل عن ما وراء الجوهرانيّة من تحيّزات ورؤى ومعرفة كامنة.
إن سعيد ليخوض حرباً ضروساً ضدّ الجوهرانيّة، وهذه هي المساهمة الأساسيّة التي اشتغل عليها الكتاب. ومن ثمّ، فكلّ شرقيّ أو غربيّ، سواء أكان مستشرقاً أو مستغرباً، يستبطن الانشطار هذا بين ما هو شرقيّ وما هو غربيّ، هو في الحقيقة منجرّ في عمليّة جوهرانيّة لن تنتج تفسيراً للموجود، فضلاً عن تحيّزاتها التي نعرفها جميعاً.
ولذلك، فإنّ نقد سعيد وغيره يتعرّض -بشكلٍ أساس- لسؤال "الجوهرانيّة" في إنتاج المعرفة، وأنّ الجوهرانيّة هذه التي اخترقت المعرفة الاستشراقيّة بين ما هو "شرق" وما هو "غرب" هي التي صنعت العالم هكذا على شطرين منفصلين. وإذا كان نقد سعيد للجوهرانيّة يمكن استخدامه من قِبل تأويلات ليبراليّة على ضرورة التسامح بين الشرق والغرب، إلى آخر هذه الرطانة الليبراليّة التي لا تفيد شيئاً على مستوى "المفاهيم" وإنّما تحقّقها يكون بتعيّنها التاريخيّ؛ فإنّنا يمكن أن ندافع بتأويل مضادّ: فسعيد يهمّه سؤال "السّلطة" بالأساس، أي سؤال كيف أنّ المعرفة نفسها تخترقها السلطة وتخدم سلطاتٌ معيّنة وتكرّس للمتخيّل الأوروبيّ منذ الأنوار الأوروبيّة بوصف الغرب هو ممثّل التقدّم في العالمَ، ومن ثمّ فإنّ اللاغرب هو الذي لا تاريخ له. سؤال السّلطة هذا قادرٌ على تحجيم التأويل الليبراليّ لسعيد، ولذلك هو كتاب مزعج للجميع حقيقةً.
ومن ثمّ، فالسؤال عن "شرقٍ" حقيقيّ في بنية هذه الخطابات هو سؤال لا تُنتجه هذه الخطابات بالأساس، فكما يوضّح تيموثي ميتشل بذكاءٍ وحصافة: "عند الزعم بأنّ ‘الشرق نفسه‘ ليس مكاناً، تُراني أقول ببساطة إنّ التمثيلات الغربيّة قد خلقت تصويراً مشوّهاً للشرق الواقعي، أم أنني أقول إن "الشرق الواقعي" لا وجود له، وأنه لا وجود هناك لحقائق واقعيّة بل مجرّد تصاوير وتمثيلات؟
إنّ إجابتي هي أنّ السؤال سيئ، وأن السؤال نفسه يحتاج إلى فحص. فنحن في حاجة إلى فهم كيف وصل الغرب إلى العيش كما لو كان العالم منقسماً بهذا الشكل إلى مجالين: إلى مجال مجرد "التمثيلات" ومجال "الواقعي"، إلى المعارض وواقع خارجي، إلى نظام مجرد نماذج، أو أوصاف أو نسخ، ونظام الأصل.
وبعبارة أخرى، نحن بحاجة إلى أن نفهم كيف أن هذه الأفكار عن مجال "الواقعي"، "الخارج"، "الأصل"، كانت بهذا المعنى وقع الانقسام الظاهري للعالم إلى عالمين. علاوة على ذلك، فإننا بحاجة إلى أن نفهم كيف تطابقَ هذا التمايُز مع انقسامٍ آخر للعالم، إلى الغرب واللا غرب، ومن ثمّ كيف أن الاستشراق لم يكن مجرّد حالة خاصة من حالات المشكلة التاريخية العامّة المتمثلة في كيفية تصوير ثقافة لثقافة أخرى، بل هو شيءٌ جوهريّ بالنسبة إلى طبيعة العالَم الحديث. وأخيراً، فإننا بحاجة إلى فهم الطبيعة السياسيّة لهذه الأنواع من الانقسام، بفهمها على أنها تقنياتٌ للنظام وللحقيقة". (ميتشل، استعمار مصر، الطبعة العربيّة).
وإذا كان "الغرب" و"الشرق" هما خطابان حديثان، فهما نتاج الحداثة بشكلٍ أساس. أي إنّ هذا الفصل، وكما يوضّح ميتشل مرّة أخرى في كتابه الصغير الرائع دراستان حول التراث والحداثة، هو فصلٌ حداثيّ؛ بحيث يغدو "الغرب" نفسه مقولة حداثية؛ إذ تمّ إدماج تواريخ الغرب السحيقة كي تصير تاريخاً واحداً صلباً ومنكفئاً على ذاته وقويًّا. ولهذا يدعو ميتشل مثلاً إلى إجراء جغرافيّة جديدة للحداثة، أي الحديث عن زمان-مكان الحداثة. “فهل يوجد سبيلٌ ما إلى تناول زمان-مكان الحداثة لا يفضي، مثلما يبدو أنّه حدثَ مع فوكو، إلى معاودة رسم خريطة حدود ذلك الزمان-المكان؟ إنّ أيّ إجابةٍ مناسبة يجب أن تبدأ ممّا أزعمُ أنّه الجانب الأكثر تمييزاً لإنتاج الحداثة، ألا وهو الأسلوب الذي يجري به إنتاج الحديث كتمثيل". (ميتشل، التراث والحداثة، ص. 77).
ولهذا، فنحن عندما نتكلّم عن شرق-غرب، فإنّنا نتحدّث عن مقولتين أصبح من الراسخ في أذهاننا أنّهما مقولتان موضوعيّتان، منفصلتان معرفيًّا وجغرافيًّا، في حين أنّ كلّ هذا الفصل الحداثيّ الذي جرى لتعيين "الغرب" كنمط فريد من التاريخ، و"اللاغرب" كخارج هذا التاريخ أو خارج "التاريخ" كمقولة فلسفيّة، هو فصل حديث ومركزيّ جدًّا. وهذا الفصل هو ما سيتمّ استدخال بنية الاستشراق داخله. فالاستشراق على صلةٍ وثيقةٍ بالتمثيل، تمثيل الشرق، فكما يقول إدوارد سعيد: “إنّنا ما لم نكْتنه جوهر الاستشراق بوصفه خطاباً (discourse)، فلن يكون بوسعنا أبداً أن نفهم الفرع المنظّم تنظيماً عالياً الذي استطاعت الثقافة الغربيّة الحديثة عن طريقه أن تتدبّر الشرق -بل حتى أن تنتجه سياسيًّا، واجتماعيًّا، وعسكريًّا، وعقائديًّا، وعلميًّا، وتخيّليًّا في مرحلة ما بعد عصر التنوير" (سعيد، الاستشراق).
إنّها حربُ الكلمات الحديثة التي تشنّ فقط على الذات، بل على "آخر" الذات أيضاً، والشرق/ الغرب كزوجين مفاهيميين متقابلين هما اختراع حديث، اختراعٌ منذ القرن السابع عشر وما يليه حتى اليوم، وليست هذه دعوة لأفول هذين الزوجين المفهوميين لأجل تسامُحٍ كونيّ روّجت له الحداثةُ في حقبتها الأنواريّة، إنّما لكشْف علاقات السّلطة بالخطابات المُنتجَة، لهتْك إعادة الإنتاج التي قام بها الاستشراق للشرق، وللتمثيل الذي هو بنيتُه وأساسُه بوصفها خطاباً مُستدخلاً ضمن التقسيم المعياريّ للعالَم الذي أقامته الحداثة، ومن ثمّ تغدو "الحداثة هي الاسم الذي نعطيه لخشبةِ المسرح التي يجري عليها تمثيلُ هذا الاختلاف المزدوج"، كما يقول تيموثي ميتشل.
كريم محمد
باحث ومترجم مصري. مهتم بأسئلة الدين والعلمانيّة والسوسيولوجيا والفلسفة المعاصرة. وصدرت له في ذلك مقالات وأبحاث منشورة إلكترونيّاً. بالإضافة إلى أنه صدرت له ترجمة كتاب "الاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ" عن مركز نماء للأبحاث والدراسات.
مواد أخرى لـ كريم محمد
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.