عندما نكتب في زمن الكارثة: تعليقات على رسائل ياسين الحاج صالح إلى زوجته

06 آب/أغسطس 2018
 
 يختتم الكاتب الأمريكي  (Joe Woodward) صاحب كتاب "أمور صغيرة: عام في الكتابة" مقالة ماتعة حول أدب الحرب، بعبارة ذات دلالة بارزة حول دوافع الكتابة عن الحرب بقوله: "يستمر الكاتب في الكتابة عن الحرب لإيجاد نقطة لا يمكن التراجع عنها، والقراء يستمرون في القراءة عن الحرب للسبب نفسه، دون أن يكون مُستغرباً ألا يتم التوصل إلى هدف. ورغم ذلك يناضل الكاتب كي يخبرنا بالحكاية الحقيقية، وتشكيل آراء حقيقية حولها، وفهم شيء يصعب فهمه"[1].
يمكن لهذه العبارة أن تتخذ مكانها بامتياز في افتتاحية هذه المقالة حول رسائل المثقف السوري  ياسين الحاج صالح إلى زوجته سميرة الخليل التي اختطفت يوم 9/12/2013م والتي نشرت لأول مرة على موقع الجمهورية.

رسائل تسلط الضوء - في نظري - على العامل الأساسي الدافع للاستمرار في الكتابة في أوضاع كهذه، بل وتبين أن هذه المخطوطة الأولية الجامعة بين المذكرات والرسائل هي توثيق لكل حمولات الفكر والفعل والإحساس والحدث والزمن والشخوص والأمكنة. إنها الذاكرة التي لا ينبغي نسيانها، ولا ينبغي استعادتها حسب ظاهرها المترائي أمامنا، وهي تجسيد حقيقي لعبارة (McGuire Matt) الباحث في جامعة سيدني الغربية: "عندما تنتهي الحرب، فالأدب يمكنه أن يساعدنا في فهم كل شيء"[2]. لهذا يلتفت الباحث لهذه الرسائل، فهي إلى جانب توثيقها لفاجعة فقد زوجة الكاتب، تساعد كل من يقرأها، ليس على الفهم فحسب، وإنما على إيجاد خيط الأمل الرفيع – وذلك ما راعني بشدة - الذي تختزنه الرسائل بصدق وبساطة عبر سطورها.

فرغم الكارثة، يُصرُّ قلم وتفكير كاتبنا، بصلابة، أن يكون شاهداً سورياً (مُهجراً/لاجئاً) على فظاعة المأساة التاريخية لهذا العصر.

".. لولا أن القلب مثقل بغيابك لكان التأمل في هذا العالم ينقلب ويتقلب مصدر متعة فكرية، ولكان حظا خاصا، رغم الكارثة العامة، العيش في زمن تاريخي كهذا. أظن أن الصراعات الكبرى تحرض على التفكير في التاريخ والمصائر"[3].

يذكرني المقطع أعلاه بكلمات الـمُعلم الأول في فن الرسائل وصدقيتها الساخطة والمتفائلة في آن، الكاتب الليبي البارع الصادق النيهوم في إحدى رسائله الشهيرة إلى صديقه الليبي الكاتب خليفة الفاخري، عندما يحاول إيقاظ همة هذا الولد الكبير "الفاخري" وعدم تركه مستسلما للموت، بقوله:

"واذكراني معا أنت ومحمد وقولا لأرضنا إنني وحيد وإن أوروبا العاهرة لا تساوي منها حجرا صغيرا.. وإنني لم أزل أحمل ترابها على وجهي ولم أزل ولدا نحيفا يدخن بشراهة ويبكي من الحزن.. ويملؤه الخجل ويلبس قميصا بلا رباط .. ويحب ليبيا وأصدقاءه فيها، وقولا لها .. إنني لو أمكث في أوروبا ثلاثة أعمار فلن يغير ذلك مني شيئا لأنني أؤمن بأن بلادي صنعتني جيدا .. ولا داعي لتعديلات جديدة من أبناء عاهرة تافهين [......] لكي نعيد أيامنا ونضحك ولا تفكرا مطلقا أنني بعيد .. فأنا منكم .. من ترابنا"[4].

لن نساير التوجهات الأدبية الجديدة المهتمة بهذه الأعمال كاتجاه أدبي جديد ينبغي أن يُدرس. ليس ذلك غرضنا ولسنا نتقنه وإن رغبنا فيه، ولكن يراودني طيف الأخلاقية في التعامل مع هذه الرسائل جاثما بقوة على روحي، فالنص الذي أمامي اعتصار للألم والأمل والكياسة، مكتوباً في رسائل تحكي أزمة هذا العصر الأخلاقية المؤذنة بخراب العمران، ومصارع الخلق.

"ما أريد قوله يا سمور هو أن عالمنا كان يتداعى أخلاقيًا وحقوقيًا وسياسيًا بسرعة كبيرة وقت غيابك، وأن هذا ما كان لمصلحة المغيّبين. أمثال الكعكة وعلوش والشاذلي، والجولاني والخليفة البغدادي، وطبعًا بشار الأسد، يكونون في أحسن حال حين يكون العالم حقيرًا بهذا القدر".  الرسالة الثانية.

قد يقصد الحاج صالح بالكتابة تخفيف وطأة الفراق عن نفسه، وقد يقصد تحويل خطف زوجته لقضية عالمية يمكنها أن تستحيل قضية سوريا، معبرة بذلك عن مأساة الاختطاف والفقد بكل أنواعه الممكنة؛ قتلا وخطفا وتعذيبا وتهجيرا. كاتبُنا منفردٌ في التعامل مع محنته، ويجاوز وعينا في محاولة اقتناص معانيها المرادة. من هنا، تُصبح استحالات سميرة في رسائله رمزا لسوريا وللمهجرين والمعذبين والمخطوفين، فالكل ينتظر دوره في الرسائل والكل له نصيب فيها عبر سميرة الحاضرة دوما وأبدا.

لكن ياسين عبّر صراحة أن خطف سميرة يليه عمل يتحمل فيه المسؤولية وحده.

"العمل مستمرٌ من أجل حريتكم يا سمور. ولن يتوقف. أرجو أننا صنعنا قضية قوية، والأمل أن نستطيع ترجمة قوتها الأخلاقية إلى قوة قانونية وسياسية"[5].

غير أن الفرادة في تركيبية وعي المأساة عنده تكمن في جعل الكتابة وسيلة للانفلات من "عقدة الناجي" والتي يعرّفها بأنها: "الشعور بالذنب الذي يمتلك من نجا من محنة لم ينج منها غيره"، ولنا أنا نتخيل كمّ  الهالكين جرّاء هذه العقدة، سواء من لا يزال جحيم الوطن يضمهم، أو من ضمهم جحيم الهجرة مثقلة بهذا الذنب، وقد أحسن حين اقتنص عبارة أحد الكتاب الشباب في وصف هذه الحالة بكونها "الإصابة بالسلامة".

يحتاج كاتبنا وجوديا – فيما يبدو - أن يكتب رسائل إلى سميرة، كي يجاوز العقدة، وكي لا تستلبه المأساة في دائرية سلبيتها القاتلة. إنها مجددا قدرة ياسين على أن يخلق الأمل، أو يحاول على الأقل ذلك، فهو يحتاج إلى نفسه، لأن سميرة تحتاجه، واحتياجهما لبعض لابد أن يكونا فيه قويين بسخريتهما ونباهتهما وإيجابيتهما في التعامل مع الذنب وآلام المحن داخلا وخارجا. وكأني به احتياجٌ متبادل لكل سوري، حين يحرص على أن يفقد بوصلة الخروج الشعبي الأول "الحرية".
 

من أهم ما يدعونا كذلك للالتفات للرسائل إلى جانب ما ذكر أعلاه، بعض المداخل البلاغية في سياق ما سمي بـ "بلاغة الحرية" التي يمكنها أن تفصح لنا أيضا قيمة هذا المنجز المكتوب والمهم في تاريخ ثورات المنطقة وليس سوريا لوحدها. وأقصد ما اصطلح على تسميته الباحث المصري عماد عبداللطيف بـــ "التسميات" التي نتجاوز بها وصف العالم إلى خلقه. فقيمة هذه الآلية البلاغية هنا، ليس في جانبها النظري الصرف، وإنما في جعلها كما دلَّلَ الباحث تستند لقيم ثورية واقعية جديدة، حاولت خلق عالمها الجديد، عالم الثورة، وتَوَقُع عالم ما بعد الثورة.

لهذا أبدعت في التسميات سواء للمليونيات أو الربيع أو الانتفاضة أو الحصارات، وعبر الجرافيتي كلسان عن الثورات، وعبر السخرية، التي عدها باحثنا مقاومة عبر الضحك[6]. وهنا تكمن – بشكلٍ متميز - براعة حسّ الأمل المستقبلي عند ياسين الحاج صالح في رسائله، حينما تتلقفك بانشداهٍ كبير عبارته التي اختتم بها رسالته الرابعة، والتي عُنيت بفظاعة سجن صدنايا "المسلخ البشري"، يقول مختتما الرسالة بما لن يتوقعه القارئ أمام كل الألم الذي حاول تبليغه فيها لحبيبته سمورة:

"وأول أملي يا سمور أن تكوني بصحة طيبة، وأن تبقى قدرتك على السخرية معافاة كما كانت دومًا. هذا عوضي الوحيد"[7].

ليس هنالك تعبير أبلغ من هذا يمكن للمرء اختتام وصف الخراب به. إنها من أفضل الخاتمات الساخرة التي أبدعتها أقلام الثورة، وتلقفتها روح كاتبنا بصدق لتبين لنا كيف يمكن أن نتنفس سخرية ربيعية داخل كل هذا السواد.

يُعلِّمُ كاتبنا هنا، باعتباره يجعلنا نرى في سمورة/سوريا/ثورة وجها واحدا، يعلِّمُ هذا الجيل كيف يمكنه أن يعيش وسط الكارثة ويكون قادرا على أن يحمل القلم ليكتب رسالة لمن يحب أو عن الحب، لأنها فقط رسائل الحب في الحروب مايساهم بقوةٍ في صنع مستقبل الإنسان/البلدان. إنها وداعٌ آخر للسلاح مُرْضٍ لذائقة إيرنست هيمنغواي. فكم من الحروب انقضت وأوغلت في إيلام البشر، لكن رسائل الحب تحدّت كل ذلك، وصارت دليلا على توقع المستقبل مغموسا في تفاؤلية الحب/الحياة الأسطورية.

الحب الذي قد يحيل ما يحفُّكَ من ألم لشيءٍ عابر، ويعطيك بطريقة غير مألوفة موهبة النظر للأشياء بعيدا عن كل متاهاتها الظاهرة. لهذا، ظل ما يكتبه ياسين مُعبرّاً عن اللحظة الثورية السورية الأولى، والتي ضاعت عند الكثيرين وسط زحامات بؤس المصالح العالمية ووسط التيه العربي الإسلامي. لكأني به يحاور مواطنه برهان غليون في إحدى مقالاته التي أصر فيها على التنبيه بأن لا ننسى اللحظة الأولى التي خرج فيها السوريون، أن لا ننسى لماذا خرجوا، فذلك وحده قد يعصمنا دوما من التيه، وهي اللحظة والغاية نفسها التي يصر ياسين على تأريخها بالرسائل من أجل عدم نسيانها.

ثمة أشياء أخرى تميز هذه الرسائل اعتبرناها اختزانا ذكيا للأمل أمام كل هذا الخراب، وهو ما أسماه الكاتب العراقي خالد الحروب بالانحياز للثورات، فالرسائل انحياز معلن للثورة،"انحياز لأفق المستقبل على انسداد الحاضر المستنقعي... انحياز للكرامة، ضد الاستبداد والذل المستديم. وهو أيضا، بوعي كامل، انحياز مقامر في الوقت ذاته"[8].

لكنني لاأعتقد أن ياسين يقبل بهذه المقامرة، فهو لا يقامر، بل يضع ثقته وأمله كاملا دون أن يرى فيما يحصل، رغم القتامة الأخلاقية العالمية، إلا لون الأمل لغد سوريا، وغد المنطقة. لهذا، كان لافتا انتباهه وسط اندهاش الكل أمام معاناة المهجرين وواقع الهجرة بكل ما يحمله من مخلفات وآثار وواقع مأساوي جديد على الجميع في الداخل والخارج، انتباههُ وسط كل هذا "أن هناك أيضا من يتعلمون في الجامعات أو يطورون مهاراتهم... ربما خلال سنوات قليلة من اليوم نجد آثارا إيجابية لذلك، تعوض جزئيا مأساة بلدنا. شيء قد يشبه ما حاولنا القيام به في السجن من تعلم، ومن تغيير أنفسنا تعويضا عما تبدد من حياتنا"[9].

يقول كل ذلك وهو مدرك في قرارته أن "لا شيئ يعوِّض، ولا شئ يُعوَّض"، لكنه حاول أن يتشبه بصاحب الجداريات الراحل عنا محمود درويش، فاعتبرَ محاولته هذه "[محاولة] تربية الأمل، أو اختراعه". هنا نستوعب كيف يمكن للثورات أن تخترع مستقبلها، فالأصل في الثورات أنها لم تسِر مطلقا باتجاه التكرار لمأساة البشر، بل كررت شيئا واحدا فقط، وهو الدَربة المختزنة في "فطرة" هذا الكائن على اختراع عالمه الذي ينبغي أن يعيش فيه.

لابد من الاقتناع - ختاما - وبعيدا عن كل أنواع المصادرات التي تبخس ثورات المنطقة قَدرها، وبعيدا عن سوداوية التحاليل المسطحة حول مستقبل بلدان المنطقة، وبالأخص سوريا، بأننا نرى ونعيش، رغم ظاهر الخراب والألم، كيف يتم إبداع عوالم جديدة كليا، عوالم تستوعب كل المعاناة الأخلاقية للبشرية اليوم.

الهوامش:
[1] Woodward, Joe. “The Literature of War”. Poets & Writers  (2005)
[2] McGuire, Matt. “When the war is over, literature can help us make sense of it all”. The Conversation 5 Oct. 2014.
[3]  الرسالة السادسة.
[4]  الصادق النيهوم. نوارس الشوق والغربة، بعض من رسائل الصادق النيهوم. جمع وتقديم سالم الكبتي. مؤسسة الانتشار العربي، تالة للطباعة والنشر. ط1. 2002م. ص 27.
[5] الرسالة الثالثة.
[6] عماد عبداللطيف. بلاغة الحرية، معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة. ط1. 2012. دار التنوير. ص 43-53.
[7] الرسالة الرابعة.
[8]  خالد الحروب. في مديح الثورة. دار الساقس.ط1. 2012. ص19.
[9]  الرسالة الرابعة.
عبد الله هداري

باحث مغربي، ومدير مركز أفكار للأبحاث والدراسات، المغرب.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.