بين المراوحة والموازنة: كيف أدارت روسيا تحالفاتها المتناقضة في الأزمة السورية؟

22 أيار 2018
 
تدخلت روسيا في الأزمة السورية عسكرياً بشكل مباشر في 30 سبتمبر 2015، بهدف إنقاذ حكم "بشار الأسد" كمرحلة أولى، ثم محاولة تثبيت أركانه وتعويمه ليلقي قبولاً دولياً وإقليمياً كمرحلة ثانية، وقد نجحت روسيا لحد بعيد في هذه المهمة.
فقد كانت موازين القوى قبل التدخل الروسي مائلة نحو قوى المعارضة المسلحة، وكاد نظام الأسد أن يسقط. اليوم وبعد أن مر على التدخل الروسي ما يقارب الثلاث سنوات، فإن موازين القوى قد تبدلت لصالح النظام وحلفائه، ولم تعد القوى الإقليمية والدولية الفاعلة عملياً تطالب برحيل "الأسد".  أما المعارضة المسلحة فهي تتجه نحو مزيد من التراجع والانحسار الجغرافي.

وبينما تدخلت روسيا بشكل مباشر في الأزمة السورية، وجدت الساحة تعج بعديد القوى المحلية والإقليمية والدولية والجماعات المسلحة من دون الدولة المتطرفة منها والمعتدلة. فكيف أدارت روسيا علاقاتها وتحالفاتها بين الأطراف المتناقضة؛ لكي تصل لأهدافها؟ وما هو مستقبل الإدارة الروسية لهذه العلاقات والتحالفات؟ هذا ما تحاول الورقة الإجابة عليه.   
 
أولاً: ميكانيزم السياسة الروسية

منذ أن تدخلت روسيا في الأزمة السورية في سبتمبر 2015 وحتى الآن، وجدت نفسها أمام ضرورة التعامل مع عدد من الأطراف المحلية والإقليمية. ما زاد من تعقيد وصعوبة الوضع، أن جميع هذه الأطراف لديها مصالح متعارضة وأهداف وسياسات متناقضة. سواء تركيا وإيران من ناحية وتركيا والأكراد من ناحية ثانية وإسرائيل وإيران من ناحية ثالثة.
 
ومن أجل أن تتجاوز هذه التعقيدات، اعتمدت روسيا في إدارة علاقاتها وتحالفاتها السياسية في الأزمة السورية على صيغتين: الأولى المراوحة بين الأكراد والأتراك، الثانية التوازن الدقيق بين تركيا وإيران من ناحية، وإسرائيل وإيران من ناحية أخرى.
 
(1): المراوحة بين تركيا والأكراد

مع تفاقم الأزمة السورية، لم تستطع تركيا الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع النظام السوري ثم مع النظام الروسي لاحقاً، كما كان الوضع في بداية الثورة السورية. وأمام هكذا وضع، لجأ النظام السوري وحليفة الروسي لمعاقبة تركيا على دعمها للمعارضة سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، بالانسحاب من أغلب مناطق الشمال السوري، ليملء هذا الفراغ الميلشيات الكردية، ممثلةً في "وحدات حماية الشعب" الكردية. ليكون ذلك إيذاناً ببدء صراع في الشمال السوري على الحدود التركية، مازال مشتعلاً حتى الآن بين تركيا والأكراد.
 
وفي 24 نوفمبر 2015، أسقطت تركيا مقاتلة روسية من نوع "سوخوي 24"، تعمق معها التوتر في علاقاتهما البينية. وفضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على تركيا نتيجةًً لهذا الحادث، فقد قامت روسيا بنشر منظومة صواريخ "إس 400" الدفاعية في سوريا، لتسيطر بها على الأجواء السورية، بل وأجزاء من الجنوب التركي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قامت بتمتين علاقاتها مع الأكراد نكايةً في تركيا.

حيث افتتحت "الإدارة الذاتية" التابعة لحزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي" السوري ممثلية لها في موسكو، في 11 فبراير 2016، حضر الافتتاح عدد من نواب البرلمان الروسي، ونائبة في البرلمان التركي عن حزب "الشعوب الديموقراطي" الكردي(1).
 
وبعد مرور تركيا بمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، دخلت العلاقات التركية الروسية مرحلة جديدة، غلب عليها التحسن وتنحية الخلافات البينية لصالح ملفات تعاونية ومصالح متبادلة، وبالأخص في الملف السوري. تمثلت الدوافع التركية لهذا التحسن في:
 
أولاً، كسر العزلة التي فرضتها مواقفها من التطورات الإقليمية المختلفة عليها. وعلى الرغم من أن التقارب التركي مع روسيا كان مُعدًا له أن يتم قبل محاولة الانقلاب، فإن هذه المحاولة أتت لتدفع تركيا بالتعجيل والتسريع من هكذا تقارب وتعميقه، خاصة وأن قادة هذا الانقلاب قد استغلوا حالة العزلة التي وضعت تركيا نفسها فيها، باعتبارها بيئة مناسبة لمثل هذه عملية.
 
ثانياً، الموقف الروسي الواضح والسريع المؤيد للحكومة التركية والمعارض للمحاولة الانقلابية، على عكس الولايات المتحدة ودول أوروبا التي جاءت موقفهم فاترة متأخرة، بل اتهمهم الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بتورطهم في المحاولة الانقلابية.
 
ثالثاً، رغبة تركيا في استغلال النفوذ الروسي في سوريا؛ لكي تسمح لها وتدعمها في إبعاد الوحدات الكردية عن حدودها الجنوبية، في ظل عدم الاستجابة الأمريكية للمطالب التركية.
 
أما الدوافع الروسية، فتمثلت أولاً في رغبتها في استغلال التوتر التركي الغربي عقب المحاولة الانقلابية، بجذب تركيا إليها، وإحداث مزيد من الانقسام بينهما، بما يعرض حلف الناتو لهزات، تضعف من فاعليته وقدرته على مواجهة روسيا في بؤر الأزمات. ثانياً، استغلال التحالف والعلاقة التي تربط تركيا ببعض جماعات المعارضة المسلحة؛ من أجل اقناعها بمسارات الحل السياسية الروسية، التي كانت ترغب روسيا في تبنيها آنذاك، وقد كان.
 
 
مع عودة العلاقات التركية الروسية، لم تلجأ الأخيرة حينها للموازنة في علاقاتها بين تركيا والأكراد. سواء للرغبة الروسية؛ نتيجةً للتحالف الأمريكي مع الأكراد في الشمال السوري. أو الرغبة التركية؛ لأنها ترى في الأكراد خطراً على أمنها القومي. فالتقت الرغبات الروسية والتركية، وتوافقت حول المواجهة مع الأكراد.

ولقد كان من مخرجات التقارب التركي الروسي:

أولاًُ تفاهمات ومقايضات سياسية حول جغرافيا النفوذ السورية بين البلدين.

ثانياً تبني مسار جديد "أستانا" للحل السياسي للأزمة السورية في 23 يناير 2017، برعاية الترويكا "روسيا، تركيا، إيران"، والتي أسفر عنها اتفاقيات خفض التصعيد(2).
 
تبلورت المقايضات الروسية التركية حول الجغرافيا السورية في محطتين رئيسيتين: الأولى في 24 أغسطس 2016، حيث أعلنت تركيا انطلاق عملية “درع الفرات”، والتي تمت بتوافق وموافقة روسية، وأسفرت عن سيطرة تركية على مثلث “جرابلس، إعزاز، الباب” في الشمال السوري(3).

وفي المقابل سيطرت قوات النظام وحلفائها الروس والإيرانيين على حلب في ديسمبر 2016(4). وهو ما تم تسميته آنذاك بمقايضة “حلب مقابل الباب”. المحطة الثانية في 20 يناير 2018، حيث أعلنت تركيا انطلاق عملية “غصن الزيتون”، والتي تمت أيضا بتوافق وموافقة روسية، وأسفرت عن سيطرة تركية على مدينة عفرين شمال غرب سوريا في 24 مارس الماضي (5).

وفي المقابل سيطرت قوات النظام ومعها روسيا على الغوطة الشرقية بالكامل، بعد السيطرة على آخر معاقل المعارضة فيها في دوما في 12 إبريل الماضي (6). وهو ما تم تسميته أيضا بمقايضة “عفرين مقابل الغوطة”.
 
وبالتالي، فإن المراوحة الروسية بين تركيا والأكراد في الأزمة السورية استقرت منذ منتصف 2016 وحتى الآن على التقارب مع تركيا في مواجهة الأكراد. وهو ما رتب تداعيات جوهرية على الجغرافيا السورية، حيث تمدد النفوذ التركي في الشمال السوري على حساب الأكراد، وتمدد نفوذ النظام وحلفائه الروس والإيرانيين على حساب المعارضة المسلحة.
 
(2): الموازنة بين تركيا وإيران

أدركت روسيا أنها أمام قوتين إقليميتين فاعلتين في المنطقة بشكل عام وفي الساحة السورية بشكل خاص. والتقارب معهما في نفس الوقت _ برغم التناقضات والخلافات السياسية  التركية الإيرانية_ سوف يمكن روسيا من تحقيق أهدافها بفاعلية كبيرة في الساحة السورية. فاعتمدت التوازن الدقيق صيغةً للتعامل مع الطرفين ولتجاوز تناقضاتهما السياسية، ومنع الصدام بينهما في الساحة السورية.
 
ما يجمع روسيا وإيران في الساحة السورية تحالف قوي؛ من أجل إنقاذ وتثبيت حكم "بشار الأسد" في مواجهة الجماعات المعارضة المسلحة، وضمان استمرار حكمه لضمان استمرار مصالحهم الجيواستراتيجية في سوريا والمنطقة بشكل عام. أما تركيا وروسيا فما يجمعهم، تبنيهما لمسار مشترك للحل السياسي للأزمة السورية في أستانا، وتفاهماتهما بشأن تقاسم جغرافيا النفوذ السورية، وتوتر علاقاتهما مع الولايات المتحدة.

وأخيراً تركيا وإيران فيبدو التقارب أكثر هشاشة، وإن كان يجمعهم مسار أستانا السياسي لحل لحل الأزمة السورية، والمواجهة مع الأكراد، لما يمثله من خطر مشترك على أمنهما القومي، وأخيراً توتر أيضا العلاقات مع الولايات المتحدة.
 
ومن ثم، فإن القاسم المشترك الذي يجمع الترويكا "روسيا، تركيا، إيران" توتر علاقاتهم مع الولايات المتحدة. وبالتالي فإن أي انفراجه في العلاقات التركية الأمريكية قد ترتب تداعيات سلبية على التفاهمات الثنائية التركية الروسية من ناحية، والتفاهمات الثلاثية التركية الروسية الإيرانية من ناحية أخرى.     
 
أما فيما يتعلق بالخلافات، فإن ما يفرق تركيا من ناحية وروسيا وإيران من ناحية أخرى، هو أنه وبرغم التغاضي التركي عملياً عن مطلب رحيل "بشار الأسد"، إلا أنه يظل هناك ثمة عداء وخلاف سياسي وحالة من عدم الثقة بين تركيا والنظام السوري. فضلاً عن استمرار الدعم التركي للمعارضة سياسياً وعسكرياً ولوجستياً، وإن كان قد تراجع نسبياً في الآونة الأخيرة. لكن الخلافات التركية الإيرانية تفوق بشكل كبير الخلافات التركية الروسية، فتركيا وإيران منافسان إقليميان، يحكمهما صراع على اكتساب مزيد من النفوذ في المنطقة.
 
فبرغم التوافق التركي الإيراني على مواجهة الطموح الكردية في إنشاء حكم ذاتي في سوريا، وتشاركهم في “مسار أستانا”، إلا أن ما يفرقهم في سوريا أكثر مما يجمعهم. فما يقلق إيران من التموضع العسكري التركي في الشمال السوري؛

أولاً إدراكها أن التمدد التركي يخصم من رصيد النفوذ الجغرافي للنظام وحلفائه، ويقرب فصائل “الجيش الحر” المدعومة تركياً من أماكن تواجد الميلشيات الشيعية المدعومة إيرانياً. وهو ما يفسر إفشال النظام وإيران لاتفاق تركي روسي، يقضي بدخول تركيا لتل رفعت، خوفاً من اقتراب تركيا وحلفائها من الميلشيات الإيرانية في نبل والزهراء (7).

ثانياً، تدرك إيران أن التوتر في العلاقات الأمريكية التركية برغم شدته، إلا أنه من الممكن أن يشهد انفراجة في أى وقت، بما يجعل من تركيا أداة أمريكية في احتواء ومواجهة النفوذ الإيراني في سوريا مستقبلاً. ومن ثم فمن المصلحة الإيرانية عدم تمدد النفوذ التركي في سوريا، خوفاً من أن تكون هذه الجغرافيا جغرافيا عدائية في مواجهتها في المستقبل.
 
إن الحالة الإمبريقية التي توضح كيفية إدارة روسيا لهذه التوازنات الدقيقة بين الأطراف المتناقضة، ما تمخض عن التقارب التركي الروسي من تفاهمات ومقايضات سياسية حول الجغرافيا السورية. فلم تخل هذه التفاهمات من اعتراضات إيرانية، لكن استطاعت روسيا الموازنة بين الرغبات التركية والاعتراضات الإيرانية، كما حدث في عملية "درع الفرات". فبينما كانت قوات الجيش السوري الحر بقيادة تركيا على وشك الدخول لمدينة الباب، آخر محطات "درع الفرات"، لاقت اعتراضاً إيرانياً؛

نظراً للتخوف الإيراني وكذلك النظام من اقتراب الجيش السوري الحر من شمال شرق حلب، حيث ستصبح تركيا وحلفائها على بعد كيلومترات من مواقع تمركز النظام والميلشيات المدعومة إيرانياً في حلب. فإيران تمتلك قاعدة عسكرية في منطقة جبل عزان في ريف حلب الجنوبي، يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني، وتعتبر هذه القاعدة نقطة انطلاق إيران لإدارة معارك شمال سوريا(8).

وهذا ما أدى لاشتباكات متعددة بين قوات النظام بدفع من إيران وقوات "درع الفرات". حيث تسابق الطرفان على دخول المدينة، خاصةً بعد سيطرة قوات النظام على مطار كويرس العسكري، لكنها حسمت في النهاية لصالح قوات "درع الفرات" في فبراير 2017(9).
 
وبينما كان الحسم التركي في مدينة الباب عسكرياً في مواجهة داعش، فإنه كان سياسياً في مواجهة قوات النظام. حيث تولت روسيا عملية فض الاشتباك بين القوات المدعومة تركياً والأخرى المدعومة إيرانياً، فسمحت لتركيا بدخول الباب، مع ضمانات بعدم الاحتكاك بالميلشيات المدعومة إيرانياً المتمركزة في مدينة حلب، وقد كان.
 
الآن تتكرر ذات الإشكالية مع عملية "غصن الزيتون"، التي أعلنت تركيا انتهائها بالسيطرة على مدينة عفرين(10). حيث كانت تركيا وحلفائها على مقربة من الدخول لمدينة تل رفعت باتفاق مع روسيا، لكن النظام وإيران أفشلوا الاتفاق وعرقلوه. إن عدم حسم عملية تل رفعت ليس شرطاً أن يعبر عن فشل روسي بقدر ما قد يكون رغبة روسية أيضا لجر تركيا لمزيد من التنازلات، كالتواصل مع نظام بشار وتحسين العلاقات معه من جديد كما تشير بعض التقديرات، خاصةً وأن "وحدات حماية الشعب" الكردية قامت في وقت سابق بتسليم إدارة مدينة تل رفعت للنظام السوري(11).

وإذا كانت الرغبة التركية في تحسين وعودة العلاقات مع النظام منعدمة في الوقت الحالي، فإن تركيا قد تغض الطرف عن الدخول في تل رفعت؛ فمن ناحية تتجنب الصدام مع قوات النظام، ومن ناحية أخرى ضمنت الخروج الكردي من المدينة، وإن كان مازال هناك ثمة تواجد كردي في المدينة. لكن إذا ما رغبت تركيا في عودة العلاقات مع النظام السوري، فالحسابات حينها قد تختلف.
 
 
(3): الموازنة بين إسرائيل وإيران

ارتأت روسيا كذلك ضرورة الموازنة في علاقاتها بين إسرائيل وإيران في الملف السوري، فكلتاهما قوتان إقليميتان فاعلتان. برغم حجم التناقضات الإسرائيلية الإيرانية في المنطقة، وفي سوريا بشكل خاص، والذي اتخذ شكل التصعيد العسكري المحدود مؤخراً.
 
في بداية الأزمة السورية، لم يكن هناك ثمة تصعيداً سياسياً أو عسكرياً إسرائيلياً تجاه قوات النظام السوري، أو المواقع والقواعد العسكرية الإيرانية في سوريا. حيث رأت إسرائيل في بقاء حكم "بشار الأسد" ضرورة، سواء للصيغة التي ظلت حاكمة ومحددة لطبيعة العلاقات الإسرائيلية السورية تاريخياً، وهي بقاء حكم "الأسد"، مقابل ضمان أمن إسرائيل، بحيث لا تتحول الجولان لبؤرة توتر على الحدود مع إسرائيل.

أو لغياب بديل مناسب للنظام السوري. وكذلك رأت في التواجد العسكري الإيراني فرصة لاستنزاف ميلشياتها، كالحرس الثوري وحزب الله وحركة النجباء العراقية وغيرها. فتعاملت إسرائيل مع الساحة السورية كمستنقع لمن يتورط فيها أكثر منها ساحة للنفوذ الجيوسياسي الإقليمي.
 
بمرور الوقت تغيرت المعادلات والتصورات الحاكمة الإسرائيلية تجاه الوضع السوري. فبالنسبة للنظام السوري، استعمل السلاح الكيماوي أكثر من مرة في مواجهة المعارضة والمدنيين، سواء في خان شيخون وآخرها في الغوطة الشرقية بعد ذلك. ومن ثم أظهر النظام امتلاكه ترسانة من السلاح الكيماوي، بل وقادر على استعمالها. لقد لجأت بعض النظم العربية لامتلاك السلاح الكيماوي لإحداث توازن ردع في مواجهة النووي الإسرائيلي، في ظل صعوبة وعدم القدرة على امتلاك السلاح النووي.

ومن ثم امتلاك السلاح الكيماي خط أحمر بالنسبة لإسرائيل وللولايات المتحدة كذلك، وهو ما دفع الأخيرة لشن ضربات عسكرية انتقائية ضد النظام السوري وحليفه الإيراني، بهدف تدمير هذه الترسانة الكيماوية، ليس بدوافع إنسانية وإنما لضمان امتلاك إسرائيل فقط القدرة على الردع الاستراتيجي. كان آخر هذه الضربات التي جاءت غربية ثلاثية بمشاركة أمريكية بريطانية فرنسية، في 14 إبريل الماضي في دمشق وحمص (12).
 
أما بالنسبة لإيران، فقد اكتشفت إسرائيل أن الأزمة السورية التي ظنت أنها مستنقع سيستنزف ميلشياتها، ظهرت كساحة للنفوذ تتمدد فيها إيران يوماً بعد يوم. خاصة بعد سيطرتها على بعض المعابر على الحدود العراقية السورية، التي تضمن بها تواصل ممرها البري من طهران لبيروت. فضلاً عن امتداد النفوذ الإيراني للجنوب السوري حيث الحدود مع إسرائيل، فاللواء 313 المدعوم إيرانياً متواجد في مدينة درعا، والتي تبعد ١٢ كم فقط عن الحدود الإسرائيلية، وهي ميلشيات محلية أنشأتها إيران؛ للتحايل على الاتفاقيات الساعية لإبعادها عن الحدود(13 ).

كما يتواجد “لواء تحرير الجولان”، وهي ميليشيا عراقية شكلت في مارس 2017، مدعومة إيرانياً ومتواجدة في الجولان(14).
 
لذلك وبدلاً من الاعتماد على سياسة الانتظار والترقب والمشاهدة من الخلف، لجأت إسرائيل للتدخل عسكرياً في الأزمة السورية بضربات انتقائية من وقت لآخر؛ بهدف تطويق النفوذ الإيراني وضرب قواعدها العسكرية. كان آخرها في شكل ضربات تبادلية على غير العادة، في 10 مايو الماضي، حيث شنت إسرائيل عدة ضربات صاروخية وغارات جوية على مواقع متفرقة للمليشيات الإيرانية والنظام، وذلك رداً على استهداف إيران لأول مرة مناطق في الجولان المحتل بعدد من الصواريخ، أسقط نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي بعضها، في حين لم يصل مدى بقية الصواريخ إلى الأهداف بالجولان(15).
 
يثير هذا التصعيد أسئلة جوهري: أين روسيا من هذا التصعيد؟ ولماذا تصمت على الضربات الإسرائيلية المتكررة لحليف مفترض لها في الساحة السورية؟ ولماذا لم يؤد هذا الصمت لزعزعة التحالف الروسي الإيراني؟ خاصة مع قدرة روسيا على إيقاف الضربات الإسرائيلية من خلال سيطرتها على الأجواء السورية.
 
يبدو أن روسيا صامتة تجاه الضربات الإسرائيلية؛ ليس فقط من أجل إرضاء الجانب الإسرائيلي وإحداث توازن بينها وبين إيران، بل لأنها أيضا راغبة في توجيه إسرائل ضربات انتقائية بشكل متقطع للمواقع الإيرانية. فروسيا برغم حاجتها للتحالف مع إيران، إلا أنها لا ترغب في تمدد أو مزيد من التمدد الإيراني في سوريا.

وذلك لسببين رئيسيين: من ناحية تريد روسيا أن يكون لها السيطرة المطلقة على الملف السوري بدون شريك، تقبل إيران فقط كتابع. ومن ناحية أخرى إذا ما توصلت لحل سياسي للأزمة السورية مع الولايات المتحدة، وأرادت فرض هكذا حل، فلن تستطع فرضه على إيران وهي صاحبة نفوذ قوي في سوريا. لذلك ظهرت بعض التقديرات التي تشير إلى أن هناك ثمة خلافات إيرانية روسية في سوريا، وما يمنعها للظهور للعلن، أو ما يدفع الطرفان لاستمرار تحالفهما، هو أن نقاط التلاقي والتوافق تغلب نقاط التباعد والتعارض.
 
ومن ثم نجحت روسيا في إحداث توازن بين إسرائيل وإيران، فمن ناحية تتحالف مع إيران في دعم حكم "الأسد"، وتتغاضي كحد أدنى أوتوافق كحد أقصى على الضربات الانتقائية الإسرائيلية للمواقع الإيرانية، دون أن يؤدي ذلك لزعزعة في العلاقات الروسية الإيرانية، أو العلاقات الروسية الإسرائيلية.
 
ويبدو أن الموافقة الروسية على التدخل التركي العسكري في الشمال السوري من ناحية، وصمتها عن الضربات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية في سوريا من ناحية أخرى، في أحد أبعاده رغبةً منها في تحجيم النفوذ الإيراني، في ظل قدرتها على التحكم والسيطرة على التدخل التركي والضربات الإسرائيلية، بينما لن تتمتع بنفس القدرة إذا تمادت إيران في نفوذها في الساحة السورية.
 
ثانياً، مستقبل السياسة الروسية

هل ستستمر روسيا على هذا النهج مستقبلاً، بالتقارب مع تركيا في مواجهة الأكراد؟ أم أنها ستقوم باستدارة جديدة معاكسة؟ وهل ستستمر في سياسة التوازنات الدقيقية بين تركيا وإيران من ناحية وإسرائيل وإيران من ناحية أخرى؟ للإجابة على هذه الأسئلة يجب الإشارة لعدة معطيات:
 
(1) ليس هناك ما يؤشر لامكانية مبادرة روسيا بإحداث تباعد في علاقاتها مع تركيا مستقبلاً؛ لأنها تبدو حريصة على علاقاتها الجيدة مع تركيا، لضمان بقاء الأخيرة بعيدةً عن الولايات المتحدة وحلف الناتو. أما تركيا، فبإمكان روسيا دفعها للخروج من سوريا، خاصةً وأن التدخل التركي العسكري قد تم بتوافق وموافقة روسية. أو اللعب بملف الأكراد، من خلال دعمها لهم في استنزاف تركيا وحلفائها في مناطق “جرابلس وإعزاز والباب وعفرين”.

خاصةً وأن التباعد التركي الروسي في الأغلب إن حدث فسيتم على حساب تقارب تركي أمريكي، هذا التقارب الذي سيتم غالباً مقابل فك الأمريكان ارتباطهم بالأكراد. ومن ثم سيجد الروس والأكراد مبتغاهم في التحالف معاً حينها.
 
حتى إذا ما سعت الولايات المتحدة وتركيا لتجاوز الخلافات وتحسين العلاقات، فإن تركيا لن تجعل هذا التحسن على حساب علاقاتها مع روسيا، حتى لو دفعتها أمريكا لفك ارتباطها مع روسيا. فتركيا حينها ستحرص على إحداث توازن في علاقاتها بين الحليف الأمريكي والشريك الروسي لثلاثة أسباب؛ أولاً حرصاً منها على الشراكات الاقتصادية الاستراتيجية مع روسيا، كمشروع غاز “السيل التركي” ومحطة الطاقة النووية “أق قويو” ومنظومة صواريخ “s400 “، وثانياً خوفاً من خسارة مكاسبها الميدانية في سوريا، وثالثاً التوازن سيساعدها على عدم ترك أى قوة دولية يمكن أن تلجأ إليها الأكراد لتحقيق مطالبها.
 
(2) استناداً للسيطرة الجوية الروسية في سوريا، والسيطرة البرية لإيران وميلشياتها، فإن حاجة الطرفين الروسي والإيراني لبعضهما البعض مستمرة وستظل مستمرة، حتى بعد تحرير سوريا من تنظيم “داعش” بشكل نهائي. فمن ناحية تحتاج روسيا لإثبات قدرتها وسيطرتها على أكبر قدر ممكن من الجغرافيا، إبان اتفاقاتها مع أمريكا حول التسوية السياسية ومناطق تقسيم النفوذ، والتي يبدو أنها ستستمر طويلاً.

ومن ناحية أخرى تحتاج روسيا للمليشيات الإيرانية حتى بعد التسوية؛ من أجل ضبط الأمن والاستقرار على الأرض، في ظل الخسائر البشرية لقوات النظام.

إلا إذا كانت روسيا ستستعيض عنها بقوات روسية، وهو أمر غير مرجح؛ لأن هذه القوات ستكون معرضة للهجوم كثيراً من قبل تنظيم "داعش"، من خلال عودته لتبني نمط حروب العصابات والكر والفر مستقبلاً. وبحسب ما نقله التلفزيون الرسمي الإيراني عن قائد الحرس الثوري “محمد علي جعفري” في 23 نوفمبر الماضي، إعلانه عن إبقاء قوات الحرس الثوري في سوريا، حتى بعد انتهاء المعارك، حيث اعتبر أنها ستلعب دوراً في تحقيق وقف إطلاق نار دائم(16).
 
(3) فيما يتعلق بالموقف الروسي من التصعيد الإسرائيلي الإيراني الأخير، يجب التمييز بين مستويين:

الأول، ضربات انتقائية توجهها إسرائيل للقواعد الإيرانية في سوريا، في هذه الحالة فإن روسيا دائما ما تتغاضى عن هذه الضربات بل قد توافق عليها، وهو الحادث حتى الآن، وسيستمر كذلك مستقبلاً. ما يرجح ذلك، أنه في ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير ضد حلفاء روسيا من قوات النظام والميلشيات الإيرانية، استقبل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" في 9 مايو الماضي، لحضور العرض العسكري في موسكو بمناسبة عيد النصر على النازية(17).

ومن ثم فإن روسيا ترسل برسالة لحلفائها، مفادها أنه في ظل هذا الشكل من التصعيد، فإنها ليست جزءاً منه وليست مسؤولة عن إيقافه.
 
المستوى الثاني، حرب شاملة بين إسرائيل وإيران في الساحة السورية، في هذه الحالة فإن روسيا غير راغبة بل ولن تسمح لمثل هكذا تطور. وذلك لعدة أسباب: أولا الحرب قد تحدث فوضى تعيد معها تشكيل رقعة الشطرنج، وتغير موازين القوى الواقعة على الأرض السورية المائلة الآن لصالح بشار وحلفائه، ومن ثم قد تضيع معها مكاسب روسيا في سوريا. ثانياُ عدم القدرة على التحكم في مجريات الحرب وضمان عدم امتدادها للقواعد الروسية.

ثالثا اشتعال الحرب مع تكرار الصمت والتغاضي الروسي، لن تسامح إيران روسيا حينها كما الضربات الانتقائية، مما قد يزعزع من تحالفهما، وهو ضمانة لعدم خسارة مكاسبهما في الساحة السورية. وأخيراً تريد روسيا تصعيد بين الطرفين تستطيع التحكم فيه، وتظهر مظهر الوسيط الذي استطاع انهاء حرب قبل أن تبدأ. خاصة وأن لذلك مردود سياسي معنوي على رغبة بوتين في العودة بروسيا لأمجاد السوفيت كقوة تنافس القوة الأمريكية، تعيد معها تشكيل النظام الدولي من جديد الأحادي القطبية.
 
(4) من المرجح أن يؤدي الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي لتمتين العلاقات الإيرانية مع تركيا وروسيا. ففي ظل رفض روسي تركي للانسحاب الأمريكي، واستمرار تعاونهم السياسي ومصالحهم التجارية مع إيران. فقد يتحدوا جميعاً في مواجهة أى عقوبات أمريكية محتملة عليهم؛ لأن "دونالد ترامب" قرر فرض عقوبات على إيران ومن يتعاون معها، فالاتحاد في مواجهة هذه العقوبات قد يقلل من فاعليتها.  
 
 
خلاصة

استناداً للمعطيات السابقة، في ظل الرغبة المتبادلة في استمرار العلاقات التركية الروسية مستقبلاً. وكذلك استمرار العلاقات الروسية الإيرانية والعلاقات الروسية الإسرائيلية، حتى في ظل التصعيد الإسرائيلي الإيراني المحكوم والمحدود، والتغاضي الروسي عن الضربات الإسرائيلية الانتقائية لحليفها الإيراني، واستبعاد خيار الحرب الشاملة بين إسرائيل وإيران على الأرض السورية. فإن الورقة تذهب إلى أنه في حال لم تجد متغيرات جديدة، فإن روسيا ستستمر مستقبلاً في:

  • الانحياز لتركيا في مواجهة الأكراد.
  • التوازن في العلاقة بين تركيا وإيران من ناحية وإسرائيل وإيران من ناحية أخرى.
المصادر:
(1): بصورة لأوجلان و خارطة مستفزة "إدارة مسلم الذاتية" تفتتح ممثلية في موسكو، أورينت، 11/2/2016، (تاريخ الدخول:12/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/JaE0R
(2): أبرز محطات مفاوضات أستانا، الجزيرة نت، 31/10/2017، (تاريخ الدخول: 12/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/OSbc0
(3): درع الفرات تسيطر على الباب بالكامل، الحياة، 24/2/2017، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/HYIR4
(4): جيش الأسد يعلن السيطرة على كامل حلب، العربية، 23/12/2016، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/it1AA
(5): الجيش التركي يفرض السيطرة الكاملة على عفرين السورية، عربي21، 24/3/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/yZI9o
(6): روسيا تعلن استعادة دوما وبسط سيطرة النظام السوري على كامل الغوطة الشرقية، فرانس 24، 12/4/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)،الرابط: http://cutt.us/4LE7k
(7): “الأسد” وإيران عرقلا اتفاقا روسيا تركيا بشأن تل رفعت، الخليج الجديد، 1/4/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/cuUQh
(8): أورينت تفتح ملف القواعد الإيرانية والروسية في سوريا، أورينت، 22/3/2018،
(تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/8ZSKt
(9): درع الفرات تسيطر على الباب بالكامل، مصدر سابق.
(10): الجيش التركي يفرض السيطرة الكاملة على عفرين السورية، مصدر سابق.
(11): تل رفعت.. هل تكون مفتاح إجبار تركيا للتفاوض مع نظام الأسد؟، عربي21، 11/4/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/fAZ2U
(12): ضربات عسكرية أمريكية بريطانية فرنسية تستهدف مواقع في سوريا، فرانس24، 14/4/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/iOO1r
(13): “اللواء 313” والتدخل الإيراني في درعا، المدن، 11/11/2017، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/W5sFa
(14): “لواء تحرير الجولان” خدعة إيران الجديدة للبقاء بسوريا، العربية نت، 31/3/2017، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/r0wFW
(15): عشرات الصواريخ تطال مواقع إيران بسوريا في أعنف ضربة إسرائيلية، سوريا تي في، 10/5/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/0LA7k
(16): إيران تؤكد الإبقاء على الحرس الثوري في سوريا، العربية نت، 23/11/2017، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/oVzly
(17): نتنياهو يحضر العرض العسكري في موسكو بمناسبة عيد النصر على النازية، آر تي عربي، 6/5/2018، (تاريخ الدخول: 13/5/2018)، الرابط: http://cutt.us/Jefwg
طارق دياب

باحث سياسي مصري في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.