سياسة التعبئة: العداء والمقاومة والسلام في الخطاب السياسي السوري قبل الثورة

26 تشرين1/أكتوير 2018
 
ترجمة: مصطفى الفقي

توطئة: العداء كاستراتيجية خطابية

تتفحصُ هذه الورقة وسائل تأثير النزاعات الإقليمية، وخاصة العلاقة مع إسرائيل، على مرونة النظام السوري. وترتكز على أساس المفهوم التحليلي للخطاب، الذي يبحث دور الادعاءات والقواعد الخطابية في تأطير الممارسات الاجتماعية.
تساهم القواعد والآليات المحايثة للخطاب في تشكيل خيارات وممارسات الفاعلين السياسيين بطرق عديدة: سواء من خلال تحديد مجال العمل المحتمل، أو من خلال شرعنة السلوكيات أو تطبيعها، ومن خلال تحديد الصواب السياسي، ومن ثمَّ تمكين الممارسات السياسية أو القضاء عليها. لذلك، ترتبط الآليات الخطابية مباشرةً بالتحليل السياسي.

يعتمد الخطاب السياسي السوري إلى حدٍ كبير على الآليات الخطابية التي قمت بتصنيفها تحت عنوان "العداء". بشكل عام، تُحيل كلمة "العداء" إلى البنية السردية لـ"العدو" كعنصر محوري في الخطاب السياسي. من المنظور الخطابي، فإن العداء يتجاوز بكثير كونه مجرد حيلة سردية أو أداة للمناورة الدلالية. في الواقع، يؤثر العداء على الطرق التي يفكّر بها الفاعلون السياسيون في أنفسهم وفي أدوارهم. إنه يؤثر على خياراتهم وسلوكهم، وفي الوقت ذاته يغذي ويوجّه ممارساتهم بطرق لا يعترف بها غالباً الفاعلون والمحللون السياسيون على حد سواء.

لذلك، أحاجج بأن العداء هو "استراتيجية خطابية". ولا يمكن النزول بالتوجيه "الاستراتيجي" للآليات الخطابية إلى مستوى نوايا ومبادرات العقول المدبرة أو الفاعلين المحددين سلفًا مِمَّن يثيرون السلوك من خلال التلاعب بالسرديات السياسية فحسب. بل إنه يوضح دور مثل هذه الآليات في تشكيل الحقول الدلالية والمعيارية التي تتأطر فيها كلٌ من خيارات الفاعلين وأجنداتهم. وهذا لا ينفي الاستقلالية (النسبية) للفاعلين السياسيين، بل يشير إلى أنهم يمثلون في ذات الوقت منتجات الخطاب السياسي الذي يتصرفون وكأنهم ممثلوه، كما يشير إلى الطبيعة الخطابية للممارسات الاجتماعية بشكل عام.

لقد كان إلقاء اللوم على عدوّ خارجي بتحميله جميع الأخطاء، واستخدام ذلك في تعزيز تماسك الوضع الداخلي بمنزلة تكتيك تعبوي تم تبنيه خلال النضال الوطني ضد الانتداب الفرنسي، وتم دعمه بالصراع المستمر على فلسطين. وكان له دورا ذرائعيا في الحشد الاقتصادي الذي صحب المشروع البعثي للثورة الاجتماعية، وأصبح أحد أعمدة مشروع حافظ الأسد في بناء الدولة، الذي هدف إلى استعادة الأراضي السورية السليبة والكرامة الوطنية. بعد حرب أكتوبر 1973، باتت سوريا "بلد الصمود"، وهدفها هو مقاومة "العدوان الدائم" للعدو الصهيوني[1].

بعد عقد اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، أطلق الرئيس حافظ الأسد استراتيجية "التوازن الاستراتيجي" التي تهدف إلى بناء القدرة العسكرية بمساعدة الدعم السوفييتي والعربي من أجل "استرجاع الحقوق العربية المغتصبة"[2]. يمكن النظر إلى هذه الأمور بوصفها مجرد شعارات تعيد صياغة الخطاب القوموي. ولكن بالنسبة إلى عقيدة الأسد، فإن "التوازن الاستراتيجي" مع العدو لا يقتصر على "الموازنة بين دبابة ودبابة"، بل على "تحقيق التوازن بين شتى مناحي الحياة، أي الجوانب السياسية والبشرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية"[3].

وبالتالي، عملت هذه العقيدة كسياق خطابي لثقافة الحرب الشاملة، والتقشف الاقتصادي، والعداء المتناهي مجتمعين كعناصر لـ "تجربة النضال" التي ميزت هوية العناصر السياسية الفاعلة في سوريا الأسد. على هذا النحو، أصبح الصراع العربي الإسرائيلي، الذي صار في الخطاب السياسي السوري رمزا للظلم و"صراع الثقافات والمصائر"[4] في سردية ​​ملحمية من التحركات البطولية، حجر الزاوية في بناء الهوية الوطنية السورية، وأحد مسلمات العمل السياسي المبدئي. وفي نهاية المطاف، أصبح أداة شرعنة نموذج التعبئة الذي مكّن حزب البعث من فرض حضوره الساحق في جميع جنبات المجتمع السوري، حتى بين أولئك الذين سخروا من ادعاءاته.

أحاجج بأن استراتيجية العداء لا زالت تقع في قلب المخيال السياسي السوري الحديث، وأنها لازالت فاعلةً في تشكيل خيارات وممارسات كلٍ من الدولة السورية والفاعلين من غير الدول، وتصوغ في الوقت ذاته الأجندة السياسية السورية الداخلية والخارجية على حد سواء. علاوة على ذلك، فإنها تمفصل ساحة المناورة للقادة السوريين، وتشكّل ديناميكيات المجتمع المدني السوري. ولاتزال السياسة يُنظر إليها بوصفها عملية فرض القيم الحتمية في الممارسة السياسية، واستئصال الأخطاء، والإجماع هو الموقف السياسي الوحيد. ولازال النظام يعتقد أنه معقل الصمود، والضامن الوحيد للاستقرار الداخلي.

لا ينفي هذا الخطاب الخلافات الضرورية للعوالم المجتمعية السورية فحسب، بل يهيكل المساحات التي يناضل فيها الفاعلون السياسيون من أجل هويتهم وقيمهم، كفضاء مفتوح للخضوع والامتثال، ومغلق أيضا دون الخصومة والاعتراض. نتيجة لذلك، يتم توجيه العمل الجماعي نحو تحقيق المسؤولية الأخلاقية لمحاربة الكيانات الشريرة وقياس الانحراف عن الصواب السياسي مع الحفاظ على بنية السلطة القائمة. إن انتقاد النظام السوري يتجاوز مجرد معارضة النخبة الحاكمة: بل يكافئ تخريب بلد الصمود ورسالتها، وهجوم على الأسس الأخلاقية للأمة.

وهكذا، يسمح لنا التحليل السياسي المرتكز على عمل الاستراتيجيات الخطابية بإبراز الآليات السياسية التي تتجاهلها التقسيمات التقليدية مثل الفصل بين السياسة الداخلية والخارجية. كما يقودنا أيضاً إلى التشكيك في التعريفات والنماذج المسلَّم بصحتها، كطبيعة السلطوية وطريقة اشتغالها. يجب أن يكون واضحاً أن الأفق الخطابي للسياسة السورية لا يتعامل مع مجموعة الافتراضات المسبقة التي تكمن عادة وراء تعريف السلطوية: الافتراض بأن السياسة السورية تُمليها ديناميكيات غير عقلانية، أو الاعتقاد بأن الحكومة السورية متصدعة في جوهرها، أو توقُّع أن يقوم القادة السوريون بخيارات غير محسوبة أو الانخراط في تحركات مراوغة بشكل محسوب. بدلا من ذلك، يبدأ تحليل الخطاب السياسي من افتراض أن هذا الخطاب له من العقلانية والآليات ما يمكننا تحليله، بغض النظر عن التعريفات المُجمع عليها مثل "الديمقراطية" و"السلطوية"  و"الاستبداد" أو "الليبرالية".

وأخيراً، يجب أن يكون واضحاً أنني لا أدافع عن استثنائية سورية في توظيفها للعداء، لأن الخطاب السياسي عن الأعداء الذين يجب التغلب عليهم هو نموذج القومية في كل مكان تقريبا. كما أنني لا أقترح أن استخدام استراتيجية العداء يقتصر على الحكم السلطوي، وقد ظهر ذلك جليا في اللغة السياسية الأمريكية في سنوات حكم بوش. ولكن من خلال تعيين العداء كاستراتيجية محورية للخطاب السياسي السوري، أهدف إلى المساهمة في رسم خريطة تشكّل السلطة التي يعبّر عنها مثل هذا الخطاب. يجب أن نبحث في خصوصية تشكُّل مثل هذا النمط من السلطة، وليس في تمسُّك سوريا بنماذج تجريدية محددة سلفاً للحكم، ولا حتى في بعدها عن المُثُل السياسية المجردة، بل بالأحرى في الخلفية التاريخية والخطابية التي تُمكِّن وتهيكل أنماط السلطة والمشاركة الاجتماعية والقوة.

المقاومة و"الشرق الأوسط الجديد"

اكتنفت السنوات الأولى لبشار الأسد في السلطة العديد من التحديات السياسية: صحوة المعارضة الداخلية، وتدهور العلاقات مع القوى الغربية في أعقاب "الحرب على الإرهاب" التي قادتها الولايات المتحدة، والاحتلال الأجنبي والفوضى السياسية التي سادت العراق المجاور، والعزل الدولي الذي تبع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، بالإضافة إلى الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد حزب الله في تمّوز 2006، والهجوم الإسرائيلي في عامي 2008-2009 على غزة.

لم ينجح الضغط الدولي في إحداث تغير كبير في السياسة الإقليمية السورية وبنى السلطة. وقد تمّ سحق آمال التغيير، التي أيقظها وصول بشار الأسد إلى السلطة، من قبل النظام باسم الأمن القومي للبلاد المعرَّض للخطر بسبب حملات الدمقرطة التي تقودها الولايات المتحدة. لقد أدى الغزو ​​الأنجلو-أمريكي للعراق واحتلاله، ثم تمزيقه، وما تلا ذلك من فوضى، إلى جعل الديمقراطية مفارقة منبوذة، بما أدى إلى تعزيزالمشاعر المعادية لأمريكا[5]؛ وأكد وجهة نظر العديد من السوريين الذين يساوون بين الديمقراطية والفوضى والمحاصصة الطائفية في العراق، أو عدم الاستقرار الطائفي في لبنان.

قام النظام بتصوير الضغوط الدولية المتزايدة على سوريا بوصفها جزءاً من مؤامرة أوسع تقودها الولايات المتحدة ضد سوريا. وبالنسبة إلى الشعب السوري، فقد تم طرحها كخيار بين الاستقرار الذي تنعم به سوريا في سنوات حكم الأسد، في مقابل الفوضى التي عانى منها العراق. وعلى الرغم من الانتقادات الواسعة للظروف القاسية من القمع والفساد والتخلف التي ضمنت حتى الآن مثل هذا الاستقرار، إلا أنَّ الرأي العام السوري بدا متبنيًا هذه المعادلة. لقد قبل الرأي العام السوري تحت ضغط مُلحّ من الخوف المزدوج -من القمع الداخلي أو التحرر الخارجي- فكرة أنَّ دعم النظام الحالي هو الخيار الممكن الوحيد.

ومع ذلك، تظل إسرائيل حتى الآن هي القلق الاستراتيجي الأول لنظام بشار، لأسباب أوسع من احتلال الجولان. لقد كان الدور الإسرائيلي في المنطقة هو الذي أثار نقطة التحول الحقيقية في السياسة السورية وكذلك في الوجدان الشعبي: ظهور ما أطلق عليه "شرق أوسط مقاوِم" وتطرف الرأي العام[6]. بعد انتصار حزب الله في حرب لبنان عام 2006، وهو ما كشف عن ضعف الآلة العسكرية الإسرائيلية وتغيير التصورات بشأن موازين القوى الاستراتيجية الإقليمية[7]، تبنّت القيادة السورية جبهة المقاومة المؤلفة من حزب الله وحماس وإيران. وفي شهر آب 2006، طرح الرئيس بشار الأسد احتمال وجود شرق أوسط جديد "جوهره المقاومة"[8].
 
 
تعني استراتيجية المقاومة رفض الوضع الراهن "غير العادل"، والاحتفاء بوقوف الشعب ضد القوى القمعية إلى جانب قدرتهم على تحمل الظلم من خلال القتال المسلح المستمر. في خطاب حزب الله، ترتبط المقاومة بالثقافة السياسية الشيعية للاستشهاد والتمرد ضد الظلم، التي تهدف إلى نظام عالمي آخر يتحلّى بروح العدالة الإسلامية[9]. ومع ذلك، فإن المقاومة بوصفها "احتفاءً بالتحدي والبطولة والتضحية[10]" ليست أمرا جديدا على سوريا: فمن أوجهٍ كثيرة، تُعدُّ "المقاومة" استمرارية للصمود، وهو ركيزة التعبئة السياسية السورية منذ عهد حافظ الأسد. حيث يؤكد كلا الشعارين على الدعوة للعدالة والجهد المتواصل من أجل القضاء على العدو، بغض النظر عن مدى إمكانية تحقيق النصر.

ومن خلال تأسيس الصلة التاريخية والأيديولوجية بين الصمود والمقاومة، أمكن للقيادة السورية أن تدّعي انتصارات المقاومة اللبنانية كدليل على سياسات المواجهة السورية. وبوصفها "بلد الصمود" و"عمود المقاومة"، ظلت رسالة سوريا قائمة بأنها لن تتنازل أبداً عن حقوقها ومصالحها وفخرها الوطنيّ. علاوة على ذلك، تشير القيادة السورية "العلمانية" إلى أسبقية المصلحة الوطنية في سياق الصراع على مختلف الولاءات الدينية والهويات العرقية لمعسكر المقاومة.

بانتصار حزب الله، "وجد العرب زعيمهم، وهو بطل يستطيع تحدي إسرائيل"[11]. وهكذا صاغها العديد من السوريين "لقد انتصرنا في لبنان"[12]. ولكن الهجوم الإسرائيلي على غزة في عامي 2008- 2009 هزّ الرأي العام السوري. فقد أدى تواطؤ القوى الغربية مع الخطط الإسرائيلية، وفشل الدول العربية في القيام بأكثر من إصدار الانتقادات الحادة على الرغم من مذبحة المدنيين المحاصرين في شريط من الأرض دون هروب أو مساعدة[13] إلى صدمة الشعب السوري واحتشاده خلف الرئيس الأسد، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين وهو ما "سينتج أجيال من العرب مشبعة بكراهية إسرائيل"[14].

ولكن أخطر تطور إقليمي قد لا يكمن في تعميق كراهية إسرائيل ومناهضة أمريكا: بل في الولاءات الدينية للفاعلين السياسيين الجدد، أو حتى ظهور قوى إقليمية غير عربية. وذلك أن ثقافة "المقاومة" الجديدة تنطوي ضمنا على الاحتفاء بمقاتل حرب العصابات، والاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع الشارع والشعب، واحتقار المؤسسات والأنظمة التي أثبتت عجزها عن الدفاع عن الحقوق الشعبية والمصالح القومية العربية. لقد أدى فشل الصراع بين الدول لفرض حل للنزاعات الإقليمية إلى وضع المبادرة في أيدي الفاعلين من غير الدول، وبالتالي تجنُّب بحذر وعناية تأجيج الاضطرابات الشعبية.

وهكذا كان الأمر بالنسة إلى الحكومات العربية، التي تكمن مخاوفها الرئيسية في بقاء النظام والسيطرة على الحراك الشعبي[15]، فإن التطور الإقليمي سريع المفعول حقاً هو ظهور فاعلين من غير الدول، يمكن أن يتحول نجاحهم في مواجهة العدو والقرب من الاهتمامات الشعبية إلى نموذج لتعبئة الجماهير الساخطة. بالنسبة إلى الرأي العام العربي، كان يُنظر إلى حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي -وليس إلى قيام الديمقراطية- باعتباره أولوية حقيقية، إلى جانب تعزيز التنمية الحقيقية والمستدامة بالعدالة الاجتماعية. لم يستطع النظام الإقليمي العربي تحقيق الهدف الأول، وفشلت الأنظمة العربية أن تحقق الهدف الثاني. وهكذا، فإن شبح التعبئة الجماهيرية غير المسيطر عليها ،والتي كانت من المرجح أن تمحو "الأعداء" في الداخل والخارج، بات سيناريو مثيراً للقلق وقد يكون لعب دوراً في تبنّي سوريا للمقاومة وإطلاق استراتيجية جديدة لإعادة تنظيم النظام الاقليمى[16].

إجمالاً، من خلال تبني استراتيجية المقاومة، يحقق نظام الأسد عدداً من الأهداف: فهو يمنح الحق والصوت المناسبين للغضب الشعبي المتزايد حيال الصراعات الإقليمية، ويؤطر هذا الغضب داخل خطاب قوموي محوره الدولة، ويجد مساحة مشتركة مع النشطاء المسلمين. وبقيامه بذلك، فإنه يكبت الخطاب المناهض للنظام في الوقت الذي ينزع فيه فتيل قوة "المجال الاجتماعي" الذي لا يمكن السيطرة عليه سياسياً. على المستوى الإقليمي، فإنه يعيد انتاج الدور التاريخي لسوريا ونظامها كقادة المواجهة، ويرسل إلى إسرائيل وغيرها من الجهات الدولية الأخرى رسالة مفادها أنه ما لم تؤخذ المصالح السورية بعين الاعتبار، "فإن هذا ما ستجدونه"[17]. أخيراً، من خلال التلويح بشعار "المقاومة" مع السعي إلى الحصول على اعتراف دولي بدور سوريا الإقليمي، يشير القادة السوريون أيضاً إلى أن فقط نظاماً قوياً في دمشق سيكون قادراً على تحقيق السلام في مواجهة الجماهير السورية والعربية الغاضبة، وفي الوقت ذاته، فإن العلاقة القوية مع جماعات المقاومة والقوى الإقليمية الناشئة سوف تجعل من سوريا المحاور الحيوي في أي تسوية إقليمية.
 
 
جينالوجيا السلام

لقد تم إدراك "الشرق الأوسط المقاوم" الجديد بمصطلحات عدائية تجاه إسرائيل علانيةً. وبعد مرور 37 عاماً على آخر صراع مفتوح، لا تزال إسرائيل تُروَّج في الإعلام السوري ككيان أجنبي عدواني مغروس في قلب العالم العربي، يدبّر المآمرات من أجل السيطرة على الوطن العربي بأكمله. حيث تؤكد حروب لبنان وغزة، والهجمات الإسرائيلية التي تستهدف الأراضي السورية، و‘لبننة‘ Lebanization العراق -والتي تهدف بحسب الكثير من السوريين إلى إضعاف الجبهة المقاومة لإسرائيل- وجهة النظر هذه فحسب.

وعلى الرغم من الإشادة بالتغيير الذي طرأ على البيئة الإستراتيجية في الشرق الأوسط بفعل انتصار حزب الله، والاعتراف بالنتائج المشجعة لخمس جولات من المحادثات غير المباشرة التي جرت خلال العام 2008 بوساطة تركية[18]، فإن أحد في سوريا لم يكن متفائلا بشأن الأفق المنظور لاستعادة مرتفعات الجولان. ومن الحكمة الشائعة في سوريا أن "إسرائيل -وليس سوريا- لم تكن أبدا تريد السلام"[19]. لقد جمَّد الهجوم الإسرائيلي على غزة جميع مبادرات السلام وأحبط أي حديث عن "فوائد" محتملة للتسوية السلمية مع إسرائيل، وهو ما كان متداولا في الدوائر الفكرية والتجارية السورية[20]. وقتئذ، كان الموقف الأمريكي والغربي، الذي لم يتم الإفصاح عنه صراحةً، هو الانتظار من أجل الاستفادة من الوضع الاقتصادي المتدهور الذي سيضعف الموقف السوري لا محالة، في حين أن التطورات في هضبة الجولان سوف تحوِّل الاحتلال الإسرائيلي في الوقت المناسب إلى أمر واقع.

لم يكن عقد معاهدة سلام أولوية بالنسبة للحكومة السورية أيضا. فمن خلال الانضمام إلى جبهة المقاومة، يشير القادة السوريون إلى أن سوريا قد تنتظر حتى يتم تحقيق "سلام مُشرّف"[21]، وأن النظام على استعداد لتحمل مخاطر كبيرة بدلاً من التنازل من منطلق موقف ضعيف[22]. علاوة على ذلك، قد تكون القيادة السورية ارتأت أيضا أنَّ التوصل إلى اتفاق سلام ،في ظل غياب حل مقبول بشأن القدس، قد يؤدي إلى غضب إسلامي، وبالتالي زيادة في التوتر الداخلي[23]. في الواقع، أدت حالة "اللاحرب واللاسلم"، التي شرعنت على مر السنين قوانين الطوارئ، إلى تغلغل استخباراتي في النسيج المجتمعي وأحدثت حالة من الضبط الاجتماعي الصارم باسم التماسك الوطني ضد العدو، وربما كانت هي أفضل حل لسوريا في عهد بشار، كما كان الأمر بالنسبة إلى والده. ومع ذلك، ظلَّ النظام السوري مُلزما بخطابه "ولا يستطيع أن يقول لا لمعاهدة سلام" إذا كانت إسرائيل مستعدة لإعادة الجولان[24].

فإذا كان النظام بحاجة إلى الصراع والراديكالية كأدوات للحفاظ على السيطرة الداخلية، بإمكاننا أن نفترض أن نجاح عملية السلام سيؤدي إلى زعزعة استقرار دمشق بقوة[25]. وهذا هو الرأي الذي أعرب عنه الكثير من منتقدي النظام، ممن يشيرون إلى أن النظام بحاجة دائما إلى عدو[26]. يمكن أن تكون هذه نظرة تبسيطية للطرق التي تعمل بها استراتيجية العداء، بحيث تتجاهل مدى دقة آلية عمل السلطة في سوريا. إذ يشير تحليل الخطاب السياسي السوري إلى أن عملية السلام يمكن أن تصبح جزءاً من عملية "ترقي سُلطوي"، بدلاً من الحديث عن انهيار النظام السوري، أو تراجُع استراتيجيات حكومته. لا يمكننا التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية، ولكن يمكننا "تفسير الحرب المستعرة تحت عملية السلام"[27] في إطار الخطاب السياسي السوري. يمكننا أن نسأل عن ماهية السلام الكائن في معادلة التوازن واستراتيجية الصمود/المقاومة. وما هي استراتيجيات السلطة الخطابية المُعدَّة لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع السوري والتي من المرجح أن يتم إعادة صياغتها في ظل السلام المستقبلي.

في معادلة "التوازن الاستراتيجي" لبشار الأسد، تمت مَفْهمة conceptualized السلام بوصفه عملية متداخلة مع السلطة، وهي حالة تحمل في داخلها حالة اللاتوازن التي ميزت الصراع الذي نشأت عنه. وهذا يفسر لماذا سيكون السلام السوري-الإسرائيلي ،بحسب الكثير من السوريين، سلامًا باردًا، "أبرد من السلام الذي بين إسرائيل ومصر"[28]. وسببُ ذلك ليس نفسيًا فحسب -على الرغم من أنه من المفهوم أنَّ عداء الناس لن يزول على الفور بمجرد عقد معاهدة- ولكنه يكمن في الرأي الذائع بأن السلام "الحقيقي" لا يمكن أن يكون إلا بين أطراف متكافئة، وقادر على تصحيح الاختلالات واستعادة العدالة على المستوى الوطني والإقليمي. لا يمكن فصل السلام عن الحقوق والامتيازات التي ناضل لأجلها السوريون منذ ولادة أمتهم.

إنَّ أي تسوية جزئية أو انتقائية لن تؤد إلا إلى إحكام وتجميد بُنى السلطة القائمة، التي تنطوي في منطقة الشرق الأوسط المضطربة على أنظمة سلطوية تشن حروبا وطنية باسم شعب يتم تعبئته للدفاع عن حدود مفتَعَلة. وهكذا، توضح الحقيقة القائلة بأن القليل من السوريين يتوقعون حدوث تغيير حقيقي بعقد معاهدة سلام إسرائيلية-سورية، خيبة الأمل الشعبية، وتظهر مدى عمق استراتيجية العداء في الخطاب السياسي السوري.

ثانياً، سيكون السلام بمنزلة إنجاز للنظام. وسيتم تقديمه للسوريين بوصفه تتويجاً لعملية طويلة أدارتها القيادة السورية الحكيمة الحاذقة. وهكذا فإن استرداد مرتفعات الجولان سيمثل نصراً تاريخيا وانتصارا للعدالة، التي ستكون بمثابة دعامة لشرعنة النظام لسنوات قادمة. وعلاوة على ذلك، مع استعادة الجولان، سيكون بالإمكان تقديم نوع من التبرير لعقود من التضحيات والتقشف والعسكرة والقمع. لذلك سيوفر السلام حدثا للاحتفال بالصمود الشعبي وإنجازات النظام معاً، وبالتالي شرعنة وتعميق "الميثاق الأمني" بين النظام والمجتمع.
 
 
ثالثاً، والأهم، لن ينتهي الدور التاريخي لقادة بلاد الصمود والمقاومة باستعادة الجولان. حيث تشير معادلة التوازن إلى أنه حتى في ظل وجود السلام الذي تعترف به القيادة، لازال هناك اختلال قائم في علاقات القوة: لذلك يحتاج هذا السلام إلى الحماية. وبالتالي، ستظل آليات الضبط المجتمعي القديمة مفيدة في ضمان عدم تغيُّر بنية السلطة في سوريا. وفي مثل هذا السياق الخطابي، سيعيد السلام تقوية موقف النظام الأيديولوجي وشرعيته وقوته، وسيصبح من غير الممكن انتقاد القادة "المنتصرين" لأنه سيكون بمثابة خيانة لتاريخ المواجهة السورية المنتصرة بكاملها.

وأخيراً، يجب أن يكون قرار توقيع معاهدة سلام، وأن يُنظر إليه -محلياً ودولياً على حد سواء- بوصفه قرارا مستقلا عن الضغوط الخارجية، واعتباره في الوقت ذاته قرارا "متجاوزا" للإرادة الشعبية إلى حد ما. وبهذه الطريقة، سوف يعزز السلام من شرعية النظام في الداخل -كبطل للمصلحة الوطنية السورية- والخارج -كحكومة قوية قادرة على فرض السلام على 'الشارع العربي' المضطرب-. وتشير مصادر مقربة من الدوائر الحكومية بالفعل إلى "فرصة ذهبية" بالنسبة إلى إسرائيل لتحقيق السلام، طالما كان هناك نظاما قويا وغير ديمقراطي يستطيع "فرض ذلك على الشعب"[29]. يجب على القوى الإقليمية والدولية أن تدرك أنه ليس بقاء النظام فحسب، بل استقراره وقوته المفرطة هما شرط مسبق لاستمرارية مثل هذا السلام، ومن أجل ضمان الاستقرار الإقليمي. الدفاع عن السلام من أجل الشعب، وحمايته من الشعب أيضا: في كلتا الحالتين، الرابح الحقيقي هو النظام، واستراتيجية العداء.

خاتمة

العداء هو الرابح الحقيقي في سوريا في عهد بشار، بل في الشرق الأوسط الجديد برمته. وعلى الرغم من الإصلاحات الجارية والاستراتيجيات الإقليمية الجديدة، يظل العداء هو جوهر النسق السياسي السوري: بحيث يشكّل الممارسات السياسية في الحرب والسلم. ويصيغ شروطه للتغيير. ويقيد أي تصورٍ لمستقبل سوريا. وهكذا تظل السياسة السورية حبيسة نموذج يحد من إمكانية طرح أسئلة موقَعة الخلاف والإصلاح، وهما من صميم العمل السياسي ذاته.

يشير هذا التحليل إلى احتمالية تحرك سوريا إلى ما بعد المأزق الحالي، وكذلك فإن قدرتها على القيام بذلك تحتاج إلى أكثر من "إعادة صياغة النظام الإقليمي وصوغ خريطة جيوسياسية جديدة"[30]، والتي قد تساهم بشكل جيد في تدعيم النظام الحالي أو الإبقاء عليه وعلى استراتيجياته السلطوية. بدلاً من ذلك، يتطلب الأمر تجاوز الخطاب المرتكز على العداء إلى خطاب يسمح بإعادة التفاوض أو الوساطة بين مختلف القوى والمصالح الحاضرة في البلد والمنطقة.

كما يبرز تحليل استراتيجية العداء أيضا السبُل التي يتدخل بها الفاعلون من غير الدول في مجالات السلطة. وبالتالي، ثمة ملمح آخر لهذه الدراسة وهو أن تقييم الآليات الخطابية التي تقوم عليها السياسة السورية هو شرط أساسي للتفكير في التكتيكات الفعالة للمشاركة المدنية في سوريا. إن فهم مثل هذه الآليات أمر مهم بالنسبة إلى داعمي المجتمع المدني أيضاً، إذا ما أرادوا تطوير استراتيجيات وسُبُل دعم للجماعات السورية لا تؤدي إلى تعزيز الخطوط الحمراء والنماذج الإقصائية المتجذرة في الممارسات القائمة.
 
الهوامش:
[1] See Rapport sur l’Économie Syrienne 1973-1974, Damas, Office Arabe de Presse et de Documentation, p. A.1.
[2]  Efraim Karsh, The Soviet Union and Syria: the Asad Years, Chatham House Papers, 1988, p.11.
[3]  Radio Damascus, March 8, 1986, in FBIS-NES March 10, 1986 pp H1H2.
[4]  Ahmed Khalidi and Hussein Agha, ‘The Syrian doctrine of strategic parity’, in J. Kipper and H. Saunders (eds.) The Middle East in Global Perspective, Boulder, Westview Press, 1991, pp.186-218.
[5] مقابلات مع الكاتبة في مارس 2010
[6]  Khaled Hroub, ‘The Arab system after Gaza’, in Open democracy, 27 January 2009, available at Link.
[7] مقابلات مع الكاتبة، دمشق، مارس 2010
[8] كلمة الرئيس بشار الأسد، اتحاد الصحفيين السوريين، 15 أغسطس 2006. انظر أيضا خطاب الرئيس بشار الأسد أمام مؤتمر جامعة الدول العربية في11 نوفمبر 2009.
[9] حول اغتيال عماد مغنية، انظر تلفزيون المنار،  الرابط.
[10]  Barry Rubin, ‘The resistance strategy’, in GLORIA Center, 19 January 2009, available at Link.
[11]  Marwan Kabalan interviewed by Darren Foster, ‘Syria’s delicate Balancing Act’ , in World Dispatches, 22 September 2006, available at Link.
[12] مقابلة الكاتبة مع عماد فوزي الشعيبي، رئيس مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية ، دمشق ، 13 مارس 2010.
[13] على الرغم من أن رد الفعل الدبلوماسي من جانب قطر وتركيا كان من العنف إلى درجة الانحياز – ولو مؤقتا- مع "محور المقاومة" السوري الإيراني.
[14]  See al-Ba‘th , 17 January 2009, Tishrin, 5 February 2009, and President Assad’s speech at the Doha summit on Gaza, 16 January 2009 on the growing ‘culture of resistance’, available at Link.
[15] وكما قال أحد رموز المعارضة، "إنهم ينفقون الكثير على قمعنا في محاربة الصهيونية". مقابلة مع الكاتبة، دمشق ، مارس 2010.
[16] منذ منتصف العام 2009 ، أصبحت رؤية بشار للبحار الخمسة (البحر المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر قزوين) ركيزة أساسية للسياسة الخارجية السورية، بدعوى أنها استكمالا للنظام العربي وليست بديلة له. وهذه الاستراتيجية ستعيد إسرائيل إلى وضعها الطبيعي كدولة صغيرة، في حين أن سوريا سوف تصبح جوهر هذا النظام العالمي الجديد. مقابلة الكاتبة مع عماد الشعيبي، 3 مارس 2010. انظر أيضاً مقابلة الرئيس بشار الأسد في صحيفة لا ريبوبليكا، (صحيفة يومية إيطالية) ، 24 مايو2010 الرابط.
[17] مقابلة مع الكاتبة، دمشق ، مارس 2010 ، نشرت الصحف اليومية السورية تهديدات بأن السوريين سيقاتلون إسرائيل في كل جزء من الجولان "تماما كما حاربتكم المقاومة اللبنانية" انظر الثورة، 16 آب 2006.
[18] أحدثت التسهيلات التركية – وهي أكثر من كونها وساطة- لجولات المحادثات الخمس غير المباشرة خلال عام 2008 تغييرات واضحة، حيث وضعت سوريا ست نقاط على الخريطة تبين تعريفها الخاص للحدود. انظر:
International Crisis Group, Europe Report n. 203,‘Turkey and the Middle East: Ambitions and Constraints’, 7 April 2010, available at Link.
[19] مقابلات مع الكاتبة، دمشق ، مارس 2010. عرض بشار الأسد مفاوضات السلام على إسرائيل عدة مرات منذ العام 2003 ، لكنه لم يتلق لسنوات أي ردٍ بنّاء.
[20] مقابلة للكاتبة مع المحلل السياسي السوري سمير التقي ، مدير مركز الشرق للدراسات الدولية، وأحد المشاركين في المفاوضات السورية مع إسرائيل. دمشق، 15 مارس 2010.
[21] راديو دمشق، أكتوبر، 2000
[22]  Faruq al-Shara’ speech, in Barry Rubin, ‘Understanding Syrian Policy: An analysis of Foreign Minister Faruq al-Shara’s explanation’ in MERIA Journal, vol. 4, no.2, June 2000.
[23] مقابلات مع الكاتبة، دمشق، مارس 2010
[24] مقابلة مع الكاتبة، دمشق، مارس 2010
[25]  Ely Karmon, ‘Analysis: Does Syria want peace?’, ICT, 25 November 2007, available at www.ict.org
[26] مقابلة مع الكاتبة، دمشق، مارس 2010
[27] Michel Foucault, Society Must be Defended, London 2003, pp 15-16, 48-48, 50-51.
[28] مقابلة مع الكاتبة، دمشق، مارس 2010
[29] مقابلة مع الكاتبة، دمشق، مارس 2010
[30] مقابلة بشار الأسد مع صحيفة لا ريبوبليكا، 24 مايو 2010

مصطفى الفقي
كاتب ومترجم مصري.
أورورا سوتيمانو

أستاذة العلوم السياسية بالجامعة البريطانية بالقاهرة، وأستاذ زائر بمعهد الدراسات الدولية جامعة لشبونة، وزميلة مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز، المملكة المتحدة. تشتغل مشاريعها البحثية على السياسة والعلاقات الدولية والسياسات الاقتصادية لسوريا البعثية وتاريخ الشرق الأوسط.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.