نشطاء الثورة السوريّة … والحلم الذي لم يكتمل
[هذه هي المادة الثالثة عشرة من ملف ينشره موقع العالم عن سوريا، وللاطلاع على المادة الأولى انقر هنا، والثانية هنا، والثالثة هنا، والرابعة هنا، والخامسة هنا، والسادسة هنا، والسابعة هنا، والثامنة هنا، والتاسعة هنا، والعاشرة هنا، والحادية عشرة هنا، والثانية عشرة هنا]
في مطلع شهر أيار 2011، انتشرت في الأوساط الثورية وثيقة -قيل إنها مسرّبة- من أروقة المخابرات السورية تلخص مقررات اجتماع عقدته قبل شهر كامل للثورة، وخرجت فيه بما يسمى (الخطة العامة للتثبيت).
كانت الوثيقة صوراً متوسطة الدقة لـثلاث صفحات، تبدو مثنيّة بشكل غير منتظم، وقد سُكبت القهوة عليها، فيما بدى للبعض محاولة سخيفة لـ(تعتيقها) بغرض إعطائها بعض المصداقية.
عندما أطلعني عليها أحد النشطاء في تنسيقية مدينة داريا (التي تنحدر أصولي منها)، قال لي إن معظم نشطاء داريا ودمشق يعتقدون أنها وثيقة مفبركة، ولا تعدو كونها لعبة أخرى من ألاعيب النظام للتشويش على الثورة التي كانت قد انطلقت قبل ذلك بشهر.
لكنني حين قرأتها، قلت له على الفور إنها وثيقة صحيحة ويجب أن نأخذها على محمل الجد. وصلت إلى هذه النتيجة الحاسمة عندما قرأت فصل (العنصر الإعلامي) فيها، فقد تذكرت، مباشرةً، اتصالاً كان قد جاءني من وزارة الإعلام في نهاية شهر 3 بصفتي رئيساً لتحرير مجلة شبابلك حينها، يطلب مني أن أنشر في مجلتي موادَّ تصبّ تماماً فيما جاء في الوثيقة إياها، فضلاً عن أن اللغة التي كتبت بها تشبه كثيراً التعميمات التي كانت تصلنا بالفاكس من وزارة الإعلام.
لكنني حين قرأتها، قلت له على الفور إنها وثيقة صحيحة ويجب أن نأخذها على محمل الجد. وصلت إلى هذه النتيجة الحاسمة عندما قرأت فصل (العنصر الإعلامي) فيها، فقد تذكرت، مباشرةً، اتصالاً كان قد جاءني من وزارة الإعلام في نهاية شهر 3 بصفتي رئيساً لتحرير مجلة شبابلك حينها، يطلب مني أن أنشر في مجلتي موادَّ تصبّ تماماً فيما جاء في الوثيقة إياها، فضلاً عن أن اللغة التي كتبت بها تشبه كثيراً التعميمات التي كانت تصلنا بالفاكس من وزارة الإعلام.
لاحقاً، ومع مرور الأيام والشهور، تحقق على الأرض كلّ ما جاء في الوثيقة، ما عدا شيء واحد خان توقعات المخابرات السورية، وهو أن الثورة إن حصلت، فستستمر لعدة أشهر فقط، لكن ستتم السيطرة عليها (وبعدها يخرج النظام أقوى إلى أجل غير محدد) كما جاء حرفياً في نص الوثيقة.
هذه الوثيقة تكشف، بشكلٍ جلي، مخطط النظام لتفتيت الثورة بشكل عام، وتكتيكاته الخاصة لسحب البساط من تحت نشطائها واستعدائهم وملاحقتهم وإخفائهم، مستفيداً من تجربة ثورات الربيع العربي التي كانت سبقت الثورة السورية في كلٍّ من مصر وليبيا وتونس، وما فعله المتظاهرون عندما سيطروا على الساحات العامة، خصوصاً في ميدان التحرير في القاهرة.
من هذه الوثيقة، والتي صارت الآن بحكم المثبتة، سأدخل في موضوعي حول تجربة النشطاء السوريين منذ انطلاق الثورة عام 2011، وحتى انطلاق العمل المسلح، مستعيناً ببعض فقراتها، وما أفضت إليه ونجم عنها، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.
الربيع السوريّ
كانت ثورات الربيع حدثاً فُجائياً، بدأ بدون تخطيط، كثقب صغير في سدّ منيع، ما لبث أن توسع بفعل ضغط الماء المحتجز خلفه، وهو ما تبعه بحسب قوانين الفيزياء والعطالة والجاذبية انفجار السد بالكامل، وتدفق سيل هائل أخذ كل شيء في طريقه في كل من تونس وليبيا ومصر.
وثورات الربيع العربي في الدول الثلاث كانت أشبه بحلم يشعّ في عيون عدد من الشبان والشابات السوريين، الذين لطالما اعتقدوا أن وطنهم هو الأحق بثورة، بعد عقود من الديكتاتورية ارتكب فيها نظام الأسد الأب ما لم يرتكبه جميع الحكام الذين ثارت شعوب الربيع العربي عليهم.
ثم جاء نجله بشار الأسد، الذي وأد بدوره تجربة ربيع دمشق التي أطلقها عدد من قادة المعارضة التاريخية، وقد نجح في ذلك حينها، لعدة أسباب لعل أهمها أن المعارضة كانت نخبويّة وبعيدة عن الشارع، لكن هذه المرة، ومع ثورات الربيع العربي الفتيّة، انتقل العمل المعارض من الصالونات إلى الشارع، واشتعل الشارع العربي كلّه، ووصل إلى مرحلة اعتقد الشباب السوريون فيه أن إنهاء هذا الفصل القاسي من حياة بلدهم بات أقرب من أي يوم مضى.
وصول الربيع العربي إلى سوريا مرّ بعدة مراحل قبل أن يتحول إلى ثورة عامّة، هذه المراحل شكلت ما يشبه القصف التمهيدي الذي سبق الانفجار الكبير، ويمكن تلخيص هذه المراحل بعدة نقاط كعلامات رئيسة، يمكن تقسيمها زمانياً كما يلي:
1- في 18 كانون الثاني 2011 أطلق عدد من أبناء السوريين المبعدين في الخارج منذ الثمانينيات، صفحة على الفيسبوك سمّت نفسها (صفحة الثورة السورية)، وكان هذا هو الظهور العلني الأول لمصطلح (الثورة السورية)، وقد دعت الصفحة إلى ما سّمته (يوم الغضب السوري) في الثامن من شباط، لكن هذه الدعوة لم تنجح في حينها.
2- في 22 من شباط/ فبراير، اعتصم عشرات السوريين أمام السفارة الليبية بدمشق، احتجاجاً على جرائم القذافي ضدّ شعبه، و بالإضافة لمشاركة عدد من الفنانين والصحفيين أمثال: حاتم علي، دلع الرحبي، نوار بلبل، غسان زكريا وزوجته إيناس حقي، فرحان مطر، ياسين حاج صالح، وريما فليحان، وآخرين، كنت أنا من بينهم.
شارك في الاعتصام عددٌ من الشبان والشابات ممن سيكون لهم دور كبير لاحقاً في مجال النشاط الثوري، أعرف منهم على سبيل المثال لا الحصر معتز مراد، ومحمد قريطم، وجواد شربجي، وآخرين.
3- في 15 من آذار 2011، خرج بعض المتظاهرين الشبان والفتيات في سوق الحريقة في قلب الوسط التجاري في دمشق في مظاهرة صغيرة يرفعون شعارات (حرية- وينك يا سوري وينك) ما لبثت أن توسعت وانضم المئات لها، حى أصبح الصوت يهزّ المكان، قبل أن يأتي وزير الداخلية اللواء محمد الشعار ويفرق المتظاهرين، ويقول عبارته الشهيرة: (هذه اسمها مظاهرة… عيب).
4- في 16 آذار/مارس، نفّذ عدد من أهالي المعتقلين اعتصاماً أمام وزارة الداخلية بدمشق بتاريخ، وقد قمعت قوات الأمن المظاهرة، واعتقلت من وصلت إليهم يدها من المتظاهرين، كان منهم؛ رئيس مركز الإعلام وحرية التعبير مازن درويش، والمفكر الطيب تيزيني، وعامر داوود وولداه، والناشطة ميمونة العمار (أُطلق سراحهم بعد يومين).
فيما أُحيل 32 آخرون على قاضي التحقيق في القصر العدلي في دمشق لاستجوابهم، بتهم «النيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية وتعكير العلاقة بين عناصر الأمة». ومن بين الذين أُحيلوا على القضاء: سيرين خوري، ناهد بدوية، نارت عبد الكريم، محمود غوراني، هيرفين أوسي، عبد العزيز التمو، كمال شيخو، محمد أسامة نصار، محمد أديب مطر، بشر سعيد وسعد سعيد نجلا المفكر الإسلامي جودت سعيد.
5- ثم كان موعد انطلاق الثورة السورية الفعليّ في 18 آذار 2011 عندما اعتصم أهالي حوران في المسجد العمري الكبير في وسط مدينة درعا القديمة اعتراضاً على اعتقال 18 طالباً من مدرسة الأربعين الابتدائية، كتبوا على جدران مدرستهم شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، حيث قامت وحدات عسكرية بتطويق المسجد واقتحامه.
لقاء النشطاء
كانت هذه التحركات الابتدائيّة هي المرحلة الأولى لتعارف والتقاء وتشكّل مجموعات من الشباب والفتيات سموا لاحقاً (النشطاء) -وهذه التسمية ثورية بحد ذاتها وفيها ما فيها من دلالات في بلد يحصر النشاطات بمؤسساته وأجهزته ومنظماته المؤطّرة التي بناها طيلة عقود، والتي كان جلّ عملها التعبئة خلف النظام الحاكم، وإقحام يد السلطة في العمل المدنيّ.
كان جلّ هؤلاء شباب وفتيات في مقتبل العمر وطلبةً جامعيين، شدّهم المدّ الثوري في بلدان الربيع العربي -بكل ما فيه من عنفوان وتوق للتحرر والتغيير- والحقيقة أن هؤلاء وبتجربتهم الحياتية القصيرة كانوا الأقل عرضة لديكتاتورية النظام، وتبيان ظلمه التاريخي الذي ابتدأ منذ نهاية السبعينيّات؛ فغالبهم لم تتح له الفرصة بعد للتصادم معه بشكل مباشر في الحياة العملية، لكن حدث الثورة كان كالمغناطيس، توقاً لمستقبل مختلف كان يشدّهم إليه، وطوقاً للنجاة من واقعهم حيث اليأس والظلم والكبت، اعتقدوا أنه سينقلهم للنموذج الأوروبيّ في الازدهار و التحرر، بمجرد إسقاط النظام.
قبل حادثة أطفال درعا، فقد كانت التحركات الثورية السابقة نوعية، وقام بها نخبة من الشباب لدواعٍ مطلبية وطنية. بيد أنّ الحراك الشعبي الحقيقي انطلق فعلياً في أواخر آذار 2011 كرد فعل عفوي وإنساني على ما حدث لأطفال درعا، ثم دخول الدبابات لحوران، ودون مطالب سياسية مكتملة، فسُمع شعار (يا درعا حنا معاكي للموت) في ريف دمشق وبانياس واللاذقية، ثم صدر ما سمي (بيان الحليب) الذي وقعه المئات من المواطنين والمثقفين، وبقي التحرّك هادئاً نسبياً، وكان الترّقب والانتظار يسود المشهد إثر تصريحات بثينة شعبان التي وعدت بتوجه القيادة للاستجابة لمطالب الجماهير.
واستمر الوضع هكذا حتى الثلاثين من آذار، حين ألقى بشار الأسد خطاباً في مجلس الشعب، حسم خلاله الموقف، لصالح ضرورة أن يتحول الحراك إلى ثورة عارمة لإسقاط النظام، وأصبح هذا شعار الثورة من يومها.
واستمر الوضع هكذا حتى الثلاثين من آذار، حين ألقى بشار الأسد خطاباً في مجلس الشعب، حسم خلاله الموقف، لصالح ضرورة أن يتحول الحراك إلى ثورة عارمة لإسقاط النظام، وأصبح هذا شعار الثورة من يومها.
نشأة التنسيقيات
كانت مجموعات محلية من الشباب تلتئم للبدأ بإطلاق المظاهرات ضد النظام بشكل منظم ودوري، وكان همهم الأوحد هو التحشيد لإظهار حجم الحراك وتضخيمه، وعلى هذا الأساس تجمع النشطاء في كل مدينة وقرية ثائرة بدون تخطيط مسبق في معظم الأحيان، وجمعهم الهمُّ الثوريُّ والرغبةُ بتنظيم الحراك في مناطقهم، وبدؤوا باللقاء والتواعد للتخطيط للمظاهرات، وانتقاء الشعارات، وكتابة اللافتات.
شيئاً فشيئاً، برزت الحاجةُ لتنظيم هذه التحركات وتوزيع أدوار المتطوعين الذين بدؤوا يتوافدون للمشاركة بالتنظيم، وسرعان ما اتفقوا على تسمية تنظيماتهم بعبارة (تنسيقيات)، وأطلقت هذه التنسيقيات صفحات خاصة على الفيسبوك، ترصد التحركات الثورية في مناطقها، وتوثق انتهاكات النظام ضد المتظاهرين، وأسماء المعتقلين والشهداء، وصار لكل مدينة ثائرة تنسيقية لها اسم وشعار مختلف، حتى بلغ عدد التنسيقيات ما يزيد عن 260 تنسيقية مع منتصف العام 2011.
مع اتساع رقعة المظاهرات جغرافياً وديموغرافياً، ومع تقسيم النظام للمناطق الثائرة وحصارها ونصب الحواجز فيها، ظهرَ العوزُ لتنسيق العمل بين هذه التنسيقيات، خصوصاً تلك القريبة جغرافيا من بعضها، بهدف توحيد القوى في مواجهة الماكينة الإعلامية والعسكرية الضخمة للنظام، وكذلك لمناصرة التنسيقيات التي باتت محاصرة وبحاجة للدعم، لا سيّما في مجال أجهزة البث والاتصال، وتمويل بعض النشاطات.
ثم بدأ التنسيق على مستوى أكبر من المناطق، وعلى هذا الأساس تشكلت أولى نواة التوحّد التنظيمي في ثلاثة تنظيمات متتابعة:
1- لجان التنسيق المحلية، أسستها الناشطة المغيبة رزان زيتونة ورفاقها في نيسان 2011، وضمت ما يزيد عن 80 تنسيقية؛
2- اتحاد تنسيقيات الثورة السورية تأسس في 1 حزيران 2011، وضم 216 تنسيقية ومجلس وتجمع ولجنة محلية؛
3- الهيئة العامة للثورة السورية، تأسست في 18 آب 2011، والتي شكلت (مجلساً ثورياً) مؤلفاً من 37 عضواً، من ممثلي التنسيقيات والحراك.
أمام هذا المد الثوري الهادر، ومع خوفه من نموذج ميدان التحرير في القاهرة الذي أفضى لإسقاط مبارك، عمد النظام إلى عدة تكتيكات -كانت قد نصت عليها الوثيقة الأمنية المشار إليها أعلاه- بهدف تفتيت وتدمير الالتئام الذي اجتمع فيه النشطاء ضمن التنسيقيات، سنحاول هنا استعراض أهم هذه التكتيكات التي نجح فعلياً في تطبيقها، وجني ثمارها المتوقعة:
1- نشر الضغائن:
نقرأ في الوثيقة ضمن بند (العنصر الأمنيّ والأداء الميدانيّ):
"يتوقع أن تكون تجمعات المعادين والمحتجين في أماكن الاكتظاظ السكاني من أجل لفت الانتباه وطمعاً منهم في تشجيع الآخرين على الانضمام لهم، وهنا يجب محاصرة المكان قدر الإمكان والتغطية عليهم وإدخال عناصر أمنية بلباس مدني بين المحتجين لإثارة الخلاف بينهم وإفشال التجمع وفضّه بأسرع وقت ممكن، وإذا اضطر الأمر اعتقال بعض العناصر الفاعلة المخربة بينهم".
في الحقيقة، فعلَ النظامُ أكثر من ذلك؛ إذ لم يكتف ببث الضغائن خلال المظاهرات من خلال عناصره الأمنية، بل عمد إلى دسّ عملائه من أهل المناطق وأبناء العائلات -من اصطلح على تسميتهم بـ (العواينية)- ضمن منظمي الحراك الثوري حتى خارج أوقات التظاهر، مستغلاً حالة الفوضى والعفوية التي تم فيها تشكيل التنسيقيات وتنسيب أعضائها.
وبعد مظاهرات، كنا نرى المتظاهرين يكشفون فيها عن وجوههم متحدين النظام في بداية الثورة، بدأنا نشاهد فيديوهات مصوّرة من الخلف للمتظاهرين، ووجوهاً يتم تشويش ملامحها كي لا تعرف، وصار النشطاء يلبسون (السلك) والأوشحة على رؤوسهم في عز الصيف الحارق لإخفاء ملامحهم، حتى بين أبناء حاراتهم ومناطقهم.
وكنتيجة لتكرار حالات الاعتقال بين النشطاء، شهدت عدة تنسيقيات حروباً داخلية وانقسامات عميقة، إثر تبادل الشكوك والاتهامات بين أعضائها؛ إذ حدث أن يكون عدة نشطاء مجتمعين في مكان ما لتنظيم مظاهرة الجمعة التالية، وإذ بالأمن يداهمهم ويعتقلهم، فتدور الشكوك بين الباقين من زملائهم، أن كيف عرف النظام بهذا الاجتماع؟ وتتفاعل الأمور ضمن متوالية الشك والغموض، لتصل حد الاقتتال في بعض الأحيان.
بالنتيجة، ساهم هذا الموضوع في إضعاف حركة التنسيقيات: فبينما كان أفرادها يجتمعون في البيوت والمقاهي والأماكن العامة، ويشعرون بالأمان مستقوين بحاضنتهم الشعبية، أصبحوا يلجؤون للتخفي، ويضطرون لاتخاذ إجراءات أمنية إضافية خلال لقاءاتهم، والتي أصبحت تتم في الأقبية والمزارع، وحتى السيارات، وهو ما أفقدهم الكثير من المرونة في العمل.
2- التتبّع:
تقول الوثيقة:
"تكليف فرع المعلومات في الإدارة وفي مركز الأبحاث العلمية بالتعاون مع شبكتي المحمول بمراقبة جدية لخطوط الهواتف الأرضية والمحمولة لبعض الشخصيات المحرضة والمعادية المعروفة والمتوقعة".
بعد عدة اعتقالات موثقة نتيجة التتبع على رقم الهاتف، انتشر بين النشطاء مصطلح (الخط المحروق) وهو رقم هاتف مباع عدة مرات، وضاعت هوية صاحبه الأصلي في السجلات الرسمية، أو ربما هي أرقام تخص أشخاصاً مسافرين أو متوفين، أو ينتمون لمحافظات بعيدة.
أصبح النشطاء يستخدمون هذه الأرقام للتواصل فيما بينهم، وحيث إن هذه الأرقام كانت تتغير باستمرار، أصبح النشطاء يقضون وقتاً أطول للتعرف على بعضهم لحين التوثّق من هوية المتصل، واستغلت أجهزة النظام هذا الأمر، ودسّت في الأسواق الآلاف من الخطوط المحروقة التي أصبح الطلب عليها كبيراً بين النشطاء، بينما هي في حقيقة الأمر متتبعة أمنياً، كما استغلت الأمر بطريقة أكثر خبثاً، حيث كانت عناصر الأمن تستفيدُ من ميزة ضياع هوية المتصل، للاتصال بالنشطاء واستدراجهم بحجة أنهم زملاؤهم، من خلال معلومات وكلمات سرّ استخلصوها من نشطاء حقيقيين تم اعتقالهم واستنطاقهم تحت التعذيب، ليجري اعتقال زملائهم فيما بعدُ.
كما تمّ اعتقال المئات من النشطاء بناءً على تتبعهم على صفحاتهم الشخصية أو صفحات التنسيقيات على الفيسبوك، أو الغرف المخترقة التي تجمعهم على السكايب.
وقد استخدم النظام الكثير من الحيل التي على هذا الصعيد، ليس أولها الاندساس بأسماء وهمية وإيهام النشطاء بأنهم ثوار، وليس آخرها استخلاص الاعترافات من المعتقلين تحت التعذيب وكشف مراسلاتهم الإلكترونية وشبكات علاقاتهم.
3- التشويه:
نقرأ في بند العنصر الإعلامي من الوثيقة:
"تكليف بعض العناصر الأمنية في كافة الأجهزة الأمنية بالعمل من خلال الفيسبووك للرد والتشويش على المعادين, وجعل بعضهم يأخذ صفة معادية للنظام بأسماء مستعارة وطرح أساليب وتوجهات تسيء إلى سمعة المعارضين، وكذلك يمكن لهم كشف الأساليب والمخططات المعادية للسيد الرئيس والقطر".
مع بداية الحراك، وفضلاً عن جهود فرع المعلومات (فرع 225) في تتبع النشطاء على وسائل التواصل، أدرك النظام أهمية التشويش والتشويه في ظل الفوضى الحاصلة، فعمد بالتعاون مع عمار ساعاتي رئيس اتحاد الطلبة السوري، والجمعية السورية للمعلوماتية، إلى تشكيل نواة وحدات من الكتائب الإلكترونية، مهمتها الدخول بأسماء وهمية على شبكات التواصل الاجتماعي، بهدف نشر الأخبار الكاذبة، والإساءة للنشطاء والحراك الشعبي،
كان من أبرز هذه الوحدات هي الجيش الإلكتروني السوري الذي أخذ مهمة اختراق صفحات النشطاء والتنسيقيات ومواقع الإنترنت الداعمة للثورة، وكذلك وحدة إلكترونية أخرى اتخذت مقراً لها الفندق الملاصق لمقر اتحاد الطلبة في كلية الآداب على اتوتستراد دمشق، حيث تم اختيار العشرات من الطلاب الموالين للنظام، وضعت لهم الحواسيب، وخصصت لهم الرواتب، وبدؤوا ببث الضغائن والتشويه عبر الفيسبوك، وكتابة التعليقات التي تثير نقاشات تساهم في زيادة الشروخ بين النشطاء، طائفياً ومناطقياً.
كان من أبرز هذه الوحدات هي الجيش الإلكتروني السوري الذي أخذ مهمة اختراق صفحات النشطاء والتنسيقيات ومواقع الإنترنت الداعمة للثورة، وكذلك وحدة إلكترونية أخرى اتخذت مقراً لها الفندق الملاصق لمقر اتحاد الطلبة في كلية الآداب على اتوتستراد دمشق، حيث تم اختيار العشرات من الطلاب الموالين للنظام، وضعت لهم الحواسيب، وخصصت لهم الرواتب، وبدؤوا ببث الضغائن والتشويه عبر الفيسبوك، وكتابة التعليقات التي تثير نقاشات تساهم في زيادة الشروخ بين النشطاء، طائفياً ومناطقياً.
نتابع مع الوثيقة:
"ربط التظاهرات والاحتجاجات المعادية للنظام بشخصيات مكروهة عند السوريين كالشخصيات السعودية واللبنانية المعروفة وربط الجميع بالصهيونية وأمريكا. هناك خطة تقوم خلية أمنية بإعدادها وإدخالها بالطرق المناسبة بشكل مؤقت في مواقع مشبوهة باسم خطة بندر بن سلطان قابلة للتصديق والإقناع".
وقد تم تنفيذ هذه التعليمات بحذافيرها، وتولى الإعلام الرسميّ، والكتائب الإلكترونية الخفية هذه المهمة التي نستطيع أن نقول إنّها لم تؤثر على النشطاء والمؤمنين بالحراك، لكن كان لها مفعول كبير لدى المؤيدين للنظام، وشحنتهم بالكراهية ضد الثورة وأهلها، وهو ما نجم عنه لاحقاً جرائم موصوفة، ارتكبها الطلبة في الجامعات أو الموظفون تجاه زملائهم المنتمين لمناطق ثائرة، سواء بتسليمهم لقوى الأمن، أو الاعتداء عليهم، أو حتى قتلهم مباشرة في بعض الأحيان.
4- الإسكات
لعل أول وأكثر ما عمل النظام السوري عليه منذ بداية الحراك، هو محاولة إسكات الحقيقة، فإخفاء المعلومات حول ما يحصل في المناطق الثائرة، سيوفر عليه الكثير من الجهود لاحقاً في مجال التشويه والتكتيكات الأخرى المتبعة، كما أن يبعد شبح المجتمع الدولي الذي لا يريد له النظام أن يتفاعل باتجاه الضغط وربما التدخل، وقد كان هذا الأمر يشكل رعباً حقيقياً للنظام عندما رأى رأيَ العين ماذا فعل المجتمع الدولي مع مبارك والقذافي.
وعلى هذا الأساس، كان أول من يستهدفهم رصاص القناصة في المظاهرات، هم المصورين وحملة الموبايلات، كما لجأ إلى قطع الكهرباء وشبكات الإنترنت والاتصالات، لإيقاع الثائرين في منطقة عمياء، فلا يستطيعون بثّ بشاعات النظام والدماء التي يذرفها في سبيل بقائه في السلطة.
وفي هذا الإطار نقرأ من الوثيقة:
"منع وسائل الإعلام من التواجد في أماكن الشغب, ومعاقبة من ينقل أيّ خبر لا يخدم القطر، وعدم إظهار أي تهاون في هذا الأمر".
كما امتلك النظام سيناريوهات بديلة في حال خرجت الأمور عن السيطرة، وتمكُن النشطاء من بث الصور والفيديوهات، وهم تمكنوا بالفعل نتيجة لجوئهم للخيارات البديلة كالانترنت الفضائي، والبث السحابي.
تقول الوثيقة:
"في حال تمكن المعادون من تصوير أو نقل أية فيدوهات أو صورة ينبغي قيام الخلية الأمنية الإعلامية بتجهيز مشاهد عن الاحتجاجات ووضع ثغرات فيها يمكن بعدها عرضها على الإعلام السوري والشبكات الإعلامية الأخرى وفضح هذه الثغرات، وبالتالي يعمم هذا في ذهن الجميع لإفقاد أشرطة وصور المعادين مصداقيتها".
وهذه أيضاً تم تنفيذها بحرفية، عن طريق زرع (شهود عيان) ليظهروا على وسائل الإعلام العربية والدولية النهمة لمعرفة ما يحصل في سورية، ويقدموا إفادات مفبركة، سرعان ما يتم كشف حقيقتها، لكن بعد أن تكون أخذت طريقها إلى صدرات الصحف والنشرات الأخبارية، وحينها يصبح الأمر أشبه بالفضيحة المهنية، وهو ما حدث فعلاً، ودفع وسائل الإعلام للانكفاء عن بث معظم ما يردها من داخل سوريا، ما لم تتوثق من مصداقية ما يصلها من أخبار، وهو ما كان صعباً أن يحصل بالفعل، وخصوصاً مع استحالة إرسال هذه الوسائل لمراسلين لها للداخل السوريّ.
5- الفوضى:
عقيدة النظام الأمنية بُنيت بالكامل منذ تأسيسها على وضع الناس أمام المعادلة الشهيرة إياها (الأمن أو الفوضى)، وعلى هذا الأساس لم يدّخر النظام أي جهد في بث الفوضى في الشارع، بدايةً من افتعال التفجيرات والأحداث الأمنية، مروراً بتسهيل الحصول على السلاح، ونهاية بإطلاق المجرمين الجنائيين، أو الإسلاميين المتطرفين من سجونه، مقابل اعتقال الآلاف من النشطاء المدنيين السلميي.ن
في هذا الإطار، تقول الوثيقة في محورها الأمنيّ:
"استخدام بعض المهربين والمجرمين وإغراق المكان بهم وخلق حالة من الفوضى، وإدخال عناصر أمنية مدربة بلباس مدني ضمن منطقة الاحتجاج ومحاولاتهم إقناع المحتجين باستخدام السلاح ضد قوات الجيش والأمن دخول قوات الأمن وعناصر الكتيبتين السرية والسوداء مع القناصين في حملات منظمة أثناء الاحتجاجات".
6- التطييف
كان همّ النشطاء الأوحد هو التحشيد لإظهار حجم الحراك، فاستغلوا فرصة لقاء الناس في صلاة الجمعة، ليبدؤوا من هناك إطلاق المظاهرات.
وبالفعل، انطلقت الحشود شيئاً فشيئاً من الجوامع في معظم المحافظات، وانضم إليها شباب من مختلف الطوائف والقوميات، ولم يكن أحد في حينها يفكّر في البعد الطائفيّ للموضوع، بل ظهرت فيديوهات ومنشورات تدلل على هذا التلاحم الطائفي، منها المادة الشهيرة التي تم تداولها على نطاق واسع حينها (مسيحي في جامع دوما)، وشاهدنا الكنائس تقرع أجراسها تضامناً مع تشييع شهداء داريا، وقرأنا شهادات العشرات من النشطاء الدروز والإسماعيليين والأكرادالذين كانوا يتوافدون كل جمعة إلى مساجد الريف الدمشقي الثائر، وجامع الدقاق والحسن في منطقة الميدان في دمشق.
كان الجو مفعماً بالتآخي والتحابب بين المتظاهرين، وقد اختبرتُ شخصياً الأمر في مظاهرات الميدان وداريا، لكن خلال هذا الجو التآلفي الظاهري، كان هناك مخطط آخر لأجهزة المخابرات السورية يجري العمل عليه على قدم وساق.
تقول الوثيقة في العنصر الإعلاميّ:
"حملة إعلامية غير مباشرة في التلفزيون والقنوات الخاصة والشوارع حول الفتنة الطائفية وتخويف المسيحيين والدروز من الإخوان المسلمين والتطرف الذي سيواجهونه إذا لم يشاركوا في إنهاء الاحتجاجات، وفي منطقة الساحل استنفار العلوين ليدافعوا عن نظامهم وحياتهم التي ستصبح مهددة من قبل التطرف السنيّ".
وتضيف في مقطع آخر:
"استخدام عناصر وضباط في الجيش من المسيحيين و الدروز في الدخول لمناطق الاحتجاج المعادي وإغراؤهم بالدفاع عن أنفسهم".
وفعلاً، كان الإعلام السوري يتحدث ليل نهار عن طائفية الحراك، ويخوف الأقليات منه، ويخلق قصصاً وحكايا لا أصل لها حينها، وفقط بهدف بث الخوف والرعب بين أوساط الأقليات، كأن يتصل ضباط المخابرات بالكنائس ويعطوهم أرقاماً ساخنة للاتصال في حال تعرضت كنائسهم لأي عمل إرهابيّ، أو صناعة مشاهد تمثيلية لمسيحيين ودروز يستنجدون بقوات الجيش والأمن لحمايتهم، أو افتعال انفجارات وحوادث أمنية ونسبها للجماعات الإسلامية، وغيرها من السلوكيات المشهودة.
لكن إلى ذلك الحين، كان النشطاء قادرين على استيعاب الأمر، من خلال التأكيد على شعارات (الشعب السوري واحد) وغيرها، فضلاً عن تواجد أبناء الطوائف في المظاهرات ومعاينتهم بأنفسهم لكذب ادعاءات الحكومة.
لكن إلى ذلك الحين، كان النشطاء قادرين على استيعاب الأمر، من خلال التأكيد على شعارات (الشعب السوري واحد) وغيرها، فضلاً عن تواجد أبناء الطوائف في المظاهرات ومعاينتهم بأنفسهم لكذب ادعاءات الحكومة.
لكن الخطة المخابراتية كانت أكثر تمكيناً من خطة النشطاء؛ إذ بتنا نرى فيديوهات (مسرّبة) تعزز النزعة الطائفية للحراك، تظهر فيها عناصر من العلويين يقومون بقتل وتعذيب مسلمين سنّة في بانياس وغيرها، وتم استهداف مقدسات السنّة قصداً خلال تفريق المظاهرات في المساجد، كركل المصاحف، واعتلاء المنابر، والتهكّم على الصلاة، وضرب المحجبات، ونتف ذقون المشايخ.
فقد عزّزت كل هذه السلوكيا من المشاعر الغريزية للجموع، وسط استمرار الحل الأمنيّ وسقوط المدنيين في المظاهرات، وكان صوت النشطاء المدنيين يضعف شيئاً فشيئاً في مواجهة الجموع التي بدأت تشعر بالحاجة للانتقام من المهاجمين، ولتسليح المظاهرات. وأصبح صوت الرجولة والفتوّة أعلى من صوت العقل وضبط النفس؛ وهي مشاعر لم يكن لها لتصمد مع استمرار سقوط المدنيين العزّل، خصوصاً أن أكثر المستهدفين كانوا من النشطاء المسالمين أنفسهم، فكان البيان واضحاً للناس أن هذا النظام لا تنفع معه السلمية، وهاكم المسالمون أصبحوا جثثاً هامدة.
وهكذا بدأت الثورة بالتسلح شيئاً فشيئاً، وانفلتت السيطرة من أيدي النشطاء المدنيين المؤمنين بالحراك السلمي، دون أن ننفي تحول بعض هؤلاء أيضاً للعمل المسلح، وانقلاب خطابهم الوطنيّ إلى خطاب طائفي، فيما يشبه وقوعاً في الفخّ الذي أعده النظام.
على الجانب الآخر
ذكرنا للتكتيكات الأمنية أعلاه، لا يجعل مشهد الثورة ومآلاتها مكتمل الصورة، إذا لم نرصد فيه العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت في تأزيم الحراك وتفتيت العمل الثوري، واستدعاء العنف والتسلّح وحتى الإرهاب ليصبح جزءاً من الحراك الثوري.
فكما كان للنظام دور رئيس في تدمير هذا الحراك، كانت هناك عوامل موضوعية لا علاقة له بها بشكل مباشر، ساهمت هي الأخرى بانزياح الحراك الثوري عن أهدافه، نرصد هنا بعض العناوين، دون المرور على التفاصيل والأحداث والتسلسل الزمني المرافق، فهذا مبحث يحتاج لتفصيل كبير يأخذ بعين الاعتبار المراحل الزمنية، والتفاعلات الداخلية والدولية التي ساهمت في تغيير مجرى الأحداث، إنما سنتطرق للأمر من خلال عناوين توصيفية عامة.
عدم التنظيم
لم يعتد المجتمع السوري العملَ المدنيَّ، ولم يشارك قبل الثورة في أيّ نشاط جمعي خارج أطر ومؤسسات الدولة ومنظماته الشعبية. وعلى مدى عقود مستمرة، كان لهذا الأمر تأثيرٌ هائل على ثقافة العمل العام، برزت إحدى اسقاطاتها في تجربة النشطاء والتنسيقيات.
رغم كل التجارب التنظيمية الناجحة والمشهودة في العمل الثوري، إلا أن غالبيتها كانت قصيرة الأجل ومرحلية، ولم تنظم نفسها بشكل مؤسساتيّ يضمن ديمومة العمل، فالرغبة والحماس لا يكفيان لصنع عمل منظم ذي تأثير دائم ومتراكم.
ومع الملاحقة والحصار وسقوط النشطاء واحداً تلو الأخر اعتقالا وقتلاً، تشتت الجمع، وفعلت النوازع الغريزية وإرادة الحياة فعلها بين النشطاء الباقين، وأصبحت القرارات تتخذ بشكل فردي في كثير من الأحيان من قبل البعض، وأصبح آخرون يستحوذون لأنفسهم على وسائط العمل، من وسائل الاتصال الفضائي والمعدات والمركبات والتمويل، ولم يكونوا يسمحون للآخرين باستخدامها، لدواع أمنية تارة، وأنانية تارة أخرى، وأصبح التمايز يظهر بينهم؛ بين من عمل أكثر، ومن قدّم أكثر، ومن له الحق بالنشر باسم التنسيقية، أو الحديث نيابة عنها مع الممولين، أو الظهور على الفضائيات، أو الترشح لاجتماعات المعارضة… إلخ.
كان هذا التفتيت داخلياً وذاتياً، جاء بشكل طبيعي مع تضييق فرص الحل وتراجع أمل الانتصار على النظام.
ومع الملاحقة والحصار وسقوط النشطاء واحداً تلو الأخر اعتقالا وقتلاً، تشتت الجمع، وفعلت النوازع الغريزية وإرادة الحياة فعلها بين النشطاء الباقين، وأصبحت القرارات تتخذ بشكل فردي في كثير من الأحيان من قبل البعض، وأصبح آخرون يستحوذون لأنفسهم على وسائط العمل، من وسائل الاتصال الفضائي والمعدات والمركبات والتمويل، ولم يكونوا يسمحون للآخرين باستخدامها، لدواع أمنية تارة، وأنانية تارة أخرى، وأصبح التمايز يظهر بينهم؛ بين من عمل أكثر، ومن قدّم أكثر، ومن له الحق بالنشر باسم التنسيقية، أو الحديث نيابة عنها مع الممولين، أو الظهور على الفضائيات، أو الترشح لاجتماعات المعارضة… إلخ.
كان هذا التفتيت داخلياً وذاتياً، جاء بشكل طبيعي مع تضييق فرص الحل وتراجع أمل الانتصار على النظام.
فوارق فكرية
كما برزت في مراحل لاحقة الفوارق الفكرية بين النشطاء، نتيجة تفاوت تعليمهم ومؤهلاتهم، وكذلك بيئاتهم المجتمعية، وأيضاً نتيجة تفاعلهم المتباين مع التطورات والأحداث المتسارعة؛ فمنهم من كان يتخذ موقفاً حدياً رافضاً لإعطاء أيّ طابع طائفي للحراك من قبيل الهتافات واللافتات والرايات التي ترفع خلال المظاهرات، ومنهم من كان يرى أن النظام يستهدف الثورة بشكل طائفي واضح، ولم يعد ممكنا التستّر وراء العبارات الوطنية، ويجب الرد عليه بالطريقة ذاتها… في الحقيقة كان الجميع على حقّ، وكل كانت له مبرراته في ذلك الحين تحت وقع الرصاص وشبح الموت.
في هذه المرحلة، حصلت انقسامات حقيقة بين النشطاء، وانشق بعضهم وشكلوا تنسيقيات أخرى ضموا إليها من يشبهونهم، وصارت هناك أكثر من تنسيقية في المدينة نفسها، إحداها ذات طابع مدني وتنشر على صفحاتها ما يؤكد على أهداف الثورة الوطنية، والأخرى ترى الحراك من زاوية الاستهداف الطائفي، وتتبنى الخطاب الدينيّ بكل إسقاطاته الأيديولوجية وحوامله الفكرية، وتنشر منشورات ورايات ولافتات ذات طابع ديني بحت.
فازداد الشقاق والخصام بين المناهج، سيّما مع توافر بيئة عامة ذات بعد ديني، بات الناس يعتقدون أنه هو المستهدف من حرب النظام.
التغذية الخارجية:
ضغط النظام نحو تطييف الحراك، وتحويله إلى صراع يستهدف البيئة السنّية، وجد قبولاً وإسقاطاً مباشراً عند كثير من الناس، سواء كردّ فعل على سلوكيات النظام الطائفية، أو لمجرد أن وافق هذا الاستهداف ما يعتقدون به أصلاً، أو أدبيات مكتوبة يؤمنون بها، لناحية المؤامرة، والصراع بين الكفر والإيمان، مستذكرين بذلك ممارسات النظام السابقة ضد الإسلاميين في الثمانينيات، وكذلك الأنظمة القومية في العراق ومصر وليبيا التي حاربت الإسلاميين.
هنا كان للتحريض الخارجي دورٌ مؤثرٌ في تطييف الحراك، وظهر ذلك واضحاً عبر مجموعة من القنوات الفضائية مثل وصال التي تبنت شعار (الشعب السني واحد)، وكان الشيخ السوري المقيم في السعودية عدنان العرعور وعبر برنامجه الذي يمتد لساعة عبر القناة، محط أنظار ملايين من السوريين، وأصبح اسم العرعور يسمع في المظاهرات، واستجاب الناس لدعوته لكتابة عبارة (الله أكبر) على العلم السوريّ.
كما ظهرت قنوات مماثلة في مصر بعد نجاح مرسي في الانتخابات، كانت تدعم الخطاب والتوجه ذاته.
ولم تكن التغذية الخارجيّة إعلاميّة فقط، بل مالية أيضاً، فقد صرفت ملايين الدولارات على التنسيقيات لتتبنى شعارات معينة في مظاهراتها، وكذلك الكتائب لتسمي نفسها بأسماء إسلامية… كانت معظم عوامل التغذية هذه تتوجه نحو هدف واحد، وهو تطييف الحراك، خصوصاً مع تدفق الكتائب الشيعية من العراق ولبنان إلى الساحة السوريّة.
كانت تلك الأحداث والتراكمات أكبر من قدرة النشطاء المدنيين على استيعابها وضبطها، فانفلتت الأمور من أيديهم، وشيئاً فشيئاً وجدوا أنفسهم هم خصوماً للحراك المتأسلم في المناطق التي تم تحريرها من سلطة النظام، فانفرط عقد الجمع، وتفرق النشطاء، فمنهم من تحوّل مع تحوّل الحراك، ومنهم من فضّل النجاة بنفسه والخروج من سوريا، فضلاً عن الآلاف من النشطاء الذين تم اعتقالهم.
هذا مرور تأريخيّ سريع على أهم ما حصل على صعيد نشطاء الثورة السورية من تحولات؛ وهي تحولات سنجد أنها مآلات منطقية، وخواتيم مدروسة لما جاء في الوثيقة الأمنية إياها التي أشرت إليها في مطلع هذه المادة.
إياد شربجي
كاتب وصحفي سوري.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.