الإسلام وشريعة الجهاد: قراءة في النصوص الدينية والسياقات التاريخية

29 حزيران/يونيو 2017
 
الجهاد الأصغر (القتال): دوافع إحياء المفهوم في واقعنا العاصر.

تحول الجهاد كغيره من المفاهيم التي تم استرجاعها بأشكال مغلوطة من قبل الحركات الأصولية إلى جهاد بعيد عن معاني "الجهاد الأكبر" الذي كان يوصي به الرسول باعتباره أم الرسالة الإسلامية وعمود حياة هذه الأمة واستمرارها،
أي جهاد النفس وتغيير ما بالأنفس مما يحفر عميقا في كل واحد منا؛ حسدا وحقدا وكراهية ورغبة في الاستعلاء والاستكبار وبخلا وتواكلا.. الخ، (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد (11).

فالتغيير الحقيقي هو تغيير الأنفس نحو الصلاح وحب الخير والإعمار والبعد عن كل ما يضيع مصالح الناس أو يفوتها.  ولعل الإمام أبى حنيفة وغيرهم من علماء المسلمين الأوائل لم يخالفوا الصواب حين أسموا فقه العقيدة وما يتعلق بنقاش العقيدة عند المسلمين بـ "الفقه الأكبر" لأن تقويم المعتقد سبيل لتقويم الفعل وسداده، فلا نستغرب إذن ذلك الارتباط المنهجي الدائم في القرآن بين الإيمان والعمل في أكثر من موضع.
 
أسهم واقع المسلمين الحالي وحنقهم عليه في جعلهم يتحولون نحو الجهاد الأصغر أي المرتبط بالقتال، فصار الجهاد الأبرز والمعبر عن الجهاد الحقيقي عند الكثيرين من متبنيه، بل اعتبروه الاختبار الأكبر لإيمان الفرد وقوة عقيدته.

وقد وجد الكثير من الغاضبين من الإسلاميين بعد بحث طويل مكاناً مناسباً لترجمة كل أفكارهم ورؤاهم إلى أرض الواقع، مكانا يمكنه أن يكون نقطة انطلاق الخلافة الإسلامية ألا وهي أفغانستان، فهي بمثابة دار الهجرة التي تأسس فيها أول تجمع إسلامي كامل الأركان. هذا، ودون تأمل فيمن كان يؤيد هذا الجهاد ضد السوفييت ويموله، وما هي الأهداف بعيدة المدى منه، وأي مصالح يخدم؟.

قد يكون للأمر في اعتقادهم غايات مصلحية تبرر ذلك قصد انتظار لحظة استجماع الأنفاس والتقوى فحسب. فأخذت بذلك عقيدة الجهاد بمعناه القتالي تتجذر بين الشباب المسلم وبعض المنتمين للحركات الإسلامية، ولا يمكننا تناسي مقاطع الفيديو الكثيرة حول معجزات المجاهدين في أفغانستان ضد الكفار، وخطب عبد الله عزام التي كانت متوافرة بكثرة ومتاحة لأي كان دون حرج يذكر.

أخذت عقيدة العنف والغضب وعقيدة الانتقام في الانتشار والظهور، وصار الجهاد القتالي وسيلة وحيدة لتحرير كل أرض إسلامية محتلة مثل "فلسطين" و"الشيشان" وغيرها، بل تحولت الدول الإسلامية قاطبةً في ذهنية أصحاب الفكر الجهادي إلى دول محتلة ينبغي تحريرها من يد المستبدين الذين صاروا بمثابة كفار يباح دمهم وينبغي جهادهم بكل ما أوتي المؤمن من قوة.

أمام صورة كهذه، لا محيد لنا عن التساؤل حول معاني الجهاد في التراث الإسلامي، كيف فهمه علماء الأمة الإسلامية وكيف تمثلوه، كيف فهموا مرحلة النبوة في المجتمع الإسلامي الأول، ولماذا وكيف قاتل الرسول قريشاً والمشركين عامة؟، وما قيمة الجهاد الأصغر في حياتنا اليوم؟ وما هي المغالطات الشرعية والفكرية التي حورت عبرها حركات التطرف الديني مفهوم الجهاد عن أصوله الدينية والتاريخية؟ وكيفيات توظيفهم لاتجاهات فقهية داخل التراث الإسلامي وإعادة تدويرها لتتناسب ومراميهم الآنية؟
 
الجهاد: المفهوم والتاريخ والشريعة.

بداية لابد من العروج على سيرة الرسول وبدايات نشوء مفهوم الجهاد، والآيات الأولى التي عالجته. فقد عايش الرسول غزوات كثيرة وشارك فيها كما هو معلوم، بلغت سبعا وعشرين غزوة، وسريات كثيرة لم يشارك فيها.

لكننا دائما ما نقرر تسمية معارك الرسول الحربية بتسمية الغزوات تمييزاً لها عن السرية دون أن نحاول الاطلاع بالفعل عما تميزت به هذه الأحداث حقيقة من الناحية التاريخية، وهذا للأسف مما يجعلنا عرضة لتقبل الكثير من المغالطات التاريخية والفكرية حول سيرة الرسول (ص).

لن يعدم المتأمل في واقع سيرة الرسول (ص) وبالأخص في جانبها المرتبط بمواجهة مشركي قريش، أن قتال الرسول لهؤلاء إنما كان دوماً بدافع الدفاع عن النفس، أي حماية المسلمين من الإذاية التي يتعرضون لها، والتي كانت تتزايد مرة تلو أخرى حسب تطور مراحل الدعوة الإسلامية وتوسع رقعة المسلمين، لهذا كان يتحاشى الرسول الدخول في صراع مع مشركي قريش ما أمكنه ذلك، لا خوفاً منهم ولا خنوعاً، ولكن ليبين للمسلمين بأن الإسلام جاء ليرسخ حقيقة مفادها ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ) الكهف (29)، وقوله تعالى ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل، فسوف يعلمون) الحجر (2).

إذن فالرسول مبدئيا حاول أن يرسخ عقيدة الجهاد بالدعوة أي (الجهاد الأكبر)، بمعنى تقديم النصح والموعظة والجدال بالتي هي أحسن دون قسرٍ أو إجبارٍ ودون أن تشوب معتقد أي من المسلمين شائبة الإكراه ( فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر، إلا من تولى وكفر فنعذبه العذاب الأكبر) الغاشية (21-22-23)، والعذاب الأكبر هنا لن يتأتى في الدنيا ولا حق لأحد في إنزاله على الناس، ما دام رب العباد قد خولهم هذه الحرية ليتحملوا بسببها عواقب اختياراتهم، وهو ما ينسجم ومفهوم النبوة الخاتمة التي تجاوزت منطق العقاب الإلهي بعد كفر الناس ورفضهم الإيمان والتوحيد، فمع رسول الإسلام صار للقناعة القيمة الأكبر، وصار للعقل مكانة كبرى في الاعتقاد لأنه السبيل الوحيد للإيمان عد انقضاء النبوة وانقضاء الوحي. فلا سبيل دونه للتأمل فيما بعث به النبي من وحي يحمل الدلالات الكبرى للخلق والهداية الربانية. ولهذا عاود القرآن تذكيرنا في مرات عدة بهذه القاعدة (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا، إن عليك إلا البلاغ) الشورى (48).

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جسده الرسول في تنزيله للوحي على أرض الواقع باعتباره كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان قرآنا يمشي على الأرض، سواء في المرحلة المكية أو المدنية، وعبر كل الغزوات التي خاضها.
 
مفهوم الجهاد: مغالطات في التأويل والتوظيف.

بداية، لتضح لنا الصورة، لابد من تصحيح تصورنا حول الغزوات من الناحية التاريخية، حيث سيتقرر عند المتأمل في تاريخ غزوات الرسول (ص) أنها لم تكن قتالية إلا في أربعة منها، بينما الغزوات الأخرى والتي بلغت تسعة وعشرين غزوة في مجملها انتهت بصلح أو اندحار الطرف الآخر دون أن يلح الرسول (ص) أو يصر على مقاتلتهم. وهو ما يؤكد سلمية الدعوة وقيامها على مبدأ الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن كما سبق لنا تقرير ذلك.

وتحضرنا هنا، موقعة صلح الحديبية التي وقف فيها عمر بن الخطاب موقفاً دفعه للشك في الإسلام حسب قوله، والتي أقر فيها الرسول (ص) بمضامين الصلح التي تمنع المسلمين من دخول مكة في تلك السنة، كما تلزمهم بأن يردوا من جاءهم من المشركين، بينما الطرف الآخر غير مجبر على رد من جاءهم من المسلمين. لكن حكمة النبوة ورحمة الرسالة الإسلامية أكدت في المحصلة نجاح الخيار السلمي من قبل الرسول (ص) والذي انتهى بازدياد أعداد المؤمنين.

إذن، مواقف كثيرة تؤكد هذا البعد السلمي في رسالة الإسلام عكس ما يحاول الكثير من أصحاب الفكر الجهادي تصويره. ولهذا، فالدافع الأساسي دائما من غزوات الرسول سواء الدفاعية وهي الغالبة، أو الهجومية على قلتها، إنما كان دفع الحرابة أي ما يمكنه أن يتهدد استقرار المسلمين وأمنهم، ومن دخل تحت وصايتهم وفق معاهدات مختلفة.

والحرابة ليست حدثا عادياً بل هي خطر بالغ قد يمس أمن المسلمين وحرمتهم الاعتبارية، لكن هل الحرابة هي الاعتداء الواقع فعلياً؟ أم يدخل فيها ما يمكن اعتباره تهديدا ًوكيداً متوقعاً لمصالح المسلمين؟.

 يقر الكثير من علماء المسلمين وفق ما استخلصوه من سنة الرسول الكريم (ص) كما في غزوة مؤتة مع الروم الذين سابقهم الرسول بالقتال؛ أن الدافع في كل ذلك التحسيس بقيمة المسلمين الاعتبارية وقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم بعد أن بلغه العلم بما يدبر له الروم وما يخططون له تجاه هذا الجسم الإسلامي الذي بات يتمدد في رقعة شبه الجزيرة والشام مما يتهدد مصالح الروم ومناطق نفوذهم.

إلا أن تقرير الجهاد ووقوع الحرابة هنا، لا يتأتى إلا من قبل إمام المسلمين وذوي الحل والعقد من أئمتهم وعلمائهم، بمعنى أننا قد نفسر المسألة بلغة معاصرة، فنقول أن الأمر اختصاص حكومتهم المنتخبة أو من يتولى شؤون البلد السياسية والإدارية.

هذا، لأن الحرب عند المسلمين من حيث المبدأ ووفق ما قررته الكثير من الآيات القرآنية، إنما هي لحفظ مقاصد الشريعة المتمثلة في جلب المصالح ودفع المفاسد المتوقعة. وليست أصلاً في علاقتنا بغيرنا من أصحاب الديانات السماوية الأخرى، أو غيرهم من الأقوام المختلفين عنا عرقاً وديناً وجغرافيةً، وإنما الأصل في علاقتنا بهم التعارف وحسن الجوار.

لتأكيد هذه القاعدة يمكننا التأمل في الآيات التي أوردت القتال:

- (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة (190).
- (إن الذين أمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله) البقرة (218).
- (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) التوبة (5).
-
(ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم أول مرة..) التوبة (13).
-
(وقاتلوا المشركين كافة، كما يقاتلونكم كافة) التوبة (36).
-
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) الأنفال (39).
-
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) الأنفال (45).
-
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) الأنفال (60).
-
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) محمد (4) [1].
 
في الآيات السابقة يتضح بجلاء أن الحديث يتعلق بـ "مقاتلة" لا " قتل"، وهذا مما لم يستوعبه الكثيرون ممن اختصروا الإسلام في الجهاد القتالي. والمقاتلة تعني الدخول في قتال مع من بدأك بالقتال وليس التوجه إليه بداية قصد قتله، وهذا ما يؤكد إلى جانب الكثير من مواقف الرسول (ص) الفعلية كون الإسلام دين السلام والحريات في أصل العلاقة بالمخالف دينيا عكس ما يصور عنه اليوم [2]. بل إن الآيات نفسها التي قد يستدل بها البعض على عكس الذي سبق تقريره آنفا، من سورة التوبة كما في قوله تعالى:

- (قاتلو الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة (29).
 فالحديث في الآية يتقاطع وآيات قرآنية أخرى مما يدخل في دائرة تفسير القرآن بالقرآن، وهو أولى مناطات التفسير التي ينبغي على المفسر الالتزام بها، كما أرساها مفسروا الإسلام الأوائل وعلى رأسهم الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، بل هي مورد للطعن في تفسير المفسر عند تعارض أقواله فيما بينها. ولهذا حري بنا أن نتساءل كيف يمكن أن تتقاطع هذه الآية مع آيات قرآنية أخرى كما في قوله تعالى:

- (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون...، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين..) التوبة (6-7).
-
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة (256).
-
(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة (8-9).
-
ولا تنحصر الآيات الداعية للتخفيف والعفو والرحمة والسلم [3] وحسن الجوار على ما ذكر، بل تبلغ خمسا وسبعين آية، أدعى أصحاب الرأي القائل بأن أصل العلاقة مع المخالف عقديا هو الحرب نسخها كلها بما أسموه آية السيف، وهي حسب أصح الأقوال قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) التوبة (5) [4].

ولعل أبرز ما قد يبين لنا عن مقصودهم بنسخ هذه الآيات بآية السيف، تأويل ابن العربي المالكي الذي ذهب لكون النسخ يفيد تدرجا في تجاوز حكم كل آية بالتي تليها، حسب شدة بأس المسلمين وعددهم وضراوة العدو وقلة النصير، إلى أن بلغ بنا إلى آية السيف الناسخة للآيات جميعها بقاعدة مفادها – حسب ابن العربي دائما - أن " .. أصبح القتال يساق به الناس إلى الإيمان رغم أنوفهم" [5].

رأي ابن العربي هذا قال به: الشافعي، وبعض أصحاب أحمد، والإمام الشوكاني، والجصاص الذي يقول: (ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين، إنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره) [6]. وابن جرير الطبري أيضا، والحافظ بن كثير، والقرطبي [7].

هذه التصورات آنفة الذكر تتموقع في دائرة الإشكالات الخطرة، والتي يقع أمر معاودة تأويلها وقراءتها وتجديد النظر فيها في صلب الاهتمام الفقهي والإسلامي المعاصر. لذا، علق الباحث محمد الناصري على ما تثيره وجهة النظر المنتصرة لأصل الحرب على السلم في العلاقة بالمخالفين بأن القول بالنسخ؛ فيه إخلال بإطلاقيه القرآن وحسن تفصيله أولاً، وإقرار بتناقض آيات القرآن فيما بينها ثانياً، وتعارض مع خلود القرآن وصلاحه لكل زمان ومكان ثالثاً. إذ كيف يستقيم والحالة هذه أن نعمل بعض الآيات القرآنية ونعطل البعض الآخر [8]. ويتساءل الباحث مستنكراً – في علاقة السنة بالقرآن- كيف لنا أن نقبل نسخ الثابت القطعي بخبر الآحاد [9]، بل كيف نقبل نسخه بالسنة التي هي ظنية في ثبوتها إجمالاً [10].

إذن، فالآيات المتعلقة بالجهاد عموماً، وقتال الكفار والمشركين خصوصاً، تستوجب دراية بسياقات النص الداخلية، أي تكامل دلالات آيات القرآن فيما بينها أولا، ثم سياقاتها التاريخية والجيوسياسية، والأنثروبولوجية ثانيًا. وحسب الناصري "فالموضوع والسياق يدوران حول فريق خاص من مشركي قريش الذين نقضوا صلح الحديبية الذي عقده الرسول (ص) معهم مما أعاد حالة الحرب التي كانت قائمة قبل الصلح" [11]. وعند التأمل في السياق العام لسورة التوبة نجد الخطاب موجهاً أيضا للبدو ممن شملتهم شبه الجزيرة العربية، وممن تميزوا ببعض الصفات التي يرفضها القرآن بشدة.

من هذه الصفات نجد: الكفر، والنفاق، بل هم الأشد نفاقاً، وهم المعذرون في اختلاقهم الدائم للأعذار حدود الاعتياد والتطبع على هذا الخلق المخاتل، وهم المتربصون بالمؤمنين الدوائر لاقتناص الفرص والانقضاض على المغانم، وهم المتخلفون عن رسول الله، والراغبون بأنفسهم عن نفسه، وهم من يتخذ ما ينفق مغرما.

لهذا، فلا نستغرب أن يُؤمر الرسول بالتعامل معهم بغلظة، حسب قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبيس المصير) التوبة (74). فذلك هو اللون السلوكي الذي قد يفهمونه، فـ " الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ". التوبة (98).

ولعل المتتبع لما كانت عليه شبه الجزيرة، وطبيعة البداوة التي كانت غالبة على جل سكانها، حدود انعدام الحضر فيهم، بل وحسب جواد علي لم يكن يطلق اسم " أهل الحضر" إلا على سكان اليمن لاشتهارهم بالصناعة والحرف والتجارة، أما الأعراب فكانوا يتفاخرون بتسمية "العربي الحر" الذي لا يزاول الحرف وغيرها من الأعمال، إلى جانب طبع البداوة الذي شكل عائقاً ومشكلاً ليس للمسلمين فحسب بل للإمبراطوريتين الرومانية والفارسية [12] فالبدوي لا يحب حياة المستقرات الحضرية، ولا الالتزام بغير ما ألفه من طبع الترحل وحياة المغنم والمغرم [13].

فلا يمكننا من ثم أن نعتبر الدعوة للقتال هنا، لعلة كفر هؤلاء ومخالفتهم دين المسلمين أو رفضهم الدخول فيه، وإلا ما استثنت الآيات منهم من ظل على عهده من غير المسلمين، من مشركين وأهل الكتاب، قال تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) التوبة (4). فالأسباب واضحة هنا وراء الدعوة لقتال هؤلاء، أولها مقابلة قتالهم بقتال مثله، ونكثهم لعهودهم، وبدأهم بالاعتداء، واستنصارهم بغيرهم على المسلمين [14]. والآية الثامنة من سورة التوبة واضحة في ذلك: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ..).

وأما الجزية [15] الواردة في الآيات القرآنية رمز للدخول في السلم والتوقف عن الحرابة فيما يهدد أمن المسلمين واستقرارهم، بل وما يهدد استقرار أي نظام اجتماعي أراد التطور والنمو. فإن تكامل المعاني القرآنية واضح في المسألة، فكيف يمكن لعاقل أن يتقبل توافق دعوة الله المسلمين لإجارة المشركين وبين دعوته لمقاتلهم، إن لم يكن الأمر المقصود ليس استهداف غير المسلمين بالقتل فقط لمجرد كفرهم أو مخالفتهم لنا في الدين، سواء من المشركين أو اليهود أو ما دونهم من الأمم والطوائف، وإنما القصد قطع دابر الحرابة والتأسيس لمجتمع ابتدأ من نقطة المدينة المنورة كاجتماع إسلامي أول يتأسس على الاختلاف والتنوع والحرية والاختيار الديني المبني على قاعدة مفادها: القناعة والبرهان لا على القسر والإكراه.

والاستقامة كما ورد في الآية (7) من سورة التوبة يجعلها القرآن محل تبادل تقابلي بين الطرفين، لئلا يقول البعض بأن مثل هذا الرأي يجرد الإسلام من كل قوة ويصوره دين الخنوع والضعف، وبأن أمثال هذه التفاسير هو سبب ما عليه المسلمون اليوم من استكانة وهوان.

إذن، ولندفع هذه التأويل المجحف؛ نقرر بأن الاستقامة تقوم على احترام العهود المتبادلة بين المسلمين وغيرهم، ولذا، ورد عن الرسول (ص) في بنود ميثاق المدينة مع اليهود "إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرين عليهم"، وقد برع البوطي في تحليل هذا البند، حينما اعتبر "كلمة (تبعنا) تعبير عن الانضواء في هذا النظام والتعامل المخلص معه؛ وليس تعبيرا عن التبعية في العقيدة وعن التحول من اليهودية إلى الإسلام" [16].

ويؤكد الرسول عليه الصلاة والسلام هذا التناصر في بند آخر، بقوله " إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة" [17].

ولهذا، فليس تعبير "صاغرون" في الآية (9) من سورة التوبة تعبير عن إذلال أو تبعية، وإنما يخص من دخل في حرابة المسلمين ممن بدأ بقتالهم، تأكيداً بأن تأديته لها في المحصلة إنما هو إرغام على الدخول في عهد النظام العام من الأمان والسلم بين كل من شملهم عهد المسلمين، وليس الإرغام على الدخول في الإسلام. بل إن الرسول الكريم قرر ليس التناصر بين المتعاقدين على هذا الميثاق فحسب، وإنما زاد موثق النصيحة المتبادلة فيما فيه صالحهم جميعا، ما يؤكد قيام هذا الميثاق على أصل واحد، هو السلم والصالح المشترك، والعيش الكريم الذي يضمن قيمة كل إنسان يعيش تحت لواء المسلمين سواء اعتقادا أو دولة ونظاما للحكم.

لهذا، فالمتأمل في تاريخ المسلمين، وفي تجربة الرسول ومعاركه، يتأكد لديه بما لا يدع مجالاً للشك أن الجهاد في بعده القتالي الصرف مما درج على الترويج له أصحاب الفكر الجهادي إنما هو استثناء وليس أصلا، (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم إن اللّه عليم خبير) الحجرات (13).

فالتعارف يقتضي السلم والحوار والأمن والاستقرار. ولذلك فالتركيز على بعد الجهاد القتالي دونا عن غيره من الأشياء الكثيرة التي يقدمها الإسلام للمسلمين وللعالم، إنما هو من قبيل سلوك ذلك الطريق الأخير والمختصر للحل، دون أن يعني ذلك نجاعته. حيث إن العجز الذي يحس به الشباب في كل ما يحف بهم، والواقع الذي سيطرت عليهم تجاهه رؤى اليأس في تغييره نحو الأحسن، جعلهم عرضة للقبول بسهولة ودون التثبت فيما يقدمه تراث وتاريخ المسلمين في هذا الجانب، ودون النظر في كيفيات تأويل علماء الإسلام الأوائل لنصوص الجهاد الواردة في القرآن أو السنة، أو الاختيار بين التأويلات التراثية العديدة الميالة لجهة السلم والعفو واللا إكراه.

ولعل ما يدحض هذا الرأي، وهذا الإحباط الذي خيم على عقول الكثير من شبابنا، ما نعيشه اليوم من حراك تغييري ثوري سلمي في الكثير من الأقطار العربية الإسلامية، التي لم يكن أحد يتوقع أن يقع فيها ما وقع بالفعل، وهو حدث إيجابي يعني فيما يعنيه انصراف المسلمين نحو داخل مجتمعاتهم وأوضاعهم المحلية والتنموية قصد تغييرها وعدم القبول في الاستمرار فيما هي عليه، لأننا بذلك وبكل تلقائية سنغدو مجتمعات أكثر قوة وتماسكاً وبنائية في العلاقات الاجتماعية والثقافية والتنموية، وهو ما قد يجعل من مجتمعات قادرة على الدفاع عن مصالحها بلغات كثيرة  منها العلمي والمعرفي قبل كل شيء، ومنها الصناعي والتنموي، ومنها السياسي في أبعاده الديمقراطية والحرة، ومنها الاجتماعي في تجاوز الفقر والبؤس الذي يحفنا. فهذه عتبات في سبيل التقدم، ليس مخولاً لأي كان تجاوزها إن أراد أن تكون له قيمة تذكر بين أمم العالم اليوم. وإلا فإننا إن سابقنا لما هو استثناء وليس أصلاً ولما نعتقده طريقا مختصراً وصحيحاً أي الجهاد القتالي فإننا لن نعدو أن نكون قطاع طرق وعصابات مشتتة تزيد من أوضاعنا المأساوية استفحالاً، ولنا فيما عليه المنتمون لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من الشباب المسلم اليوم خير دليل، حيث يموتون تباعاً دون أن تتحقق مناهم وآمالهم، بل الكثير منهم صار سجيناً يُجبر على القتال دون عقيدة ودون مبدأ،  لقد تحول شبابنا لمقاتلين مأجورين لصالح أجندات تتجاوز ما يمكنهم هزمه اليوم، يخدمون كل ما يمكننا تصوره إلا الإسلام والمسلمين. ودون أن ننسى الصورة التي تزداد التصاقاً بالإسلام بسبب هذا النوع من التفكير، وكأن الإسلام الذي صنع الحضارة وقدم للعالم الحرية والعلوم والمعرفة لم يكن يوما موجودًا.

وختاماً نقرر ما خلص إليه الباحث محمد الناصري – بكل طمأنينة معرفية - في موضوع أية السيف والقتال؛ بأن مقولة نسخ آيات العفو واللا إكراه لا تستند إلى دليل واحد قطعي الدلالة سواء من القرآن والسنة، وأن السلم من ثم هو الأصل في العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، والحرب حالة استثنائية لا يُصار إليها إلا عند الاقتضاء والضرورة، فليس هنالك إذن داع وسبب شرعي ينطوي على ما يبرر أو يجيز مقاتلة غير المسلمين لمجرد بقائهم على غير ديانة الإسلام [18].

الهوامش:

[1]  ومن الأحاديث نقرأ -  حسب ما أورده الباحث محمد الناصري – قوله (ص): " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". وقوله (ص): " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى نعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري". محمد الناصري. النسخ وشرعة السيف. مجلة التفاهم. ع 46. خريف 2014م. ص 384.
[2]  "خلص وهبة الزحيلي إلى أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، والحرب عارض لدفع الشر، وإخلاء طريق الدعوة ممن وقف أمامها، وتكون الدعوة إلى الإسلام بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان". الطيب البوهالي. مفهوم السلام في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. مشر مشترك لمؤسسة مبدع-المغرب. ودار السلام-مصر. ص 84.
[3]  يخلص الباحث الطيب البوهالي إلى اعتبار السلام مفهوما مركزيا ضمن مفاهيم الوحي؛ فهو من شعب الإيمان، وهو مصطلح متسع يكفيه أنه يحتوي لفظ الجلالة (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام) الحشر 23. ويقصد الباحث هنا ما خلص إليه أصحاب الوجوه والنظائر حول معاني السلام: فهو اسم من أسماء الله تعالى/ وهو السداد في القول/ والثناء/ والخير/ والإخلاص والتعري من الآفات الظاهرة والباطنة. للتوسع في مفهوم السلام في القرآن ينظر محمد البوهالي. مفهوم السلام. مرجع سابق. ص 155-156.
[4]  محمد الناصري. النسخ وشرعة السيف. ص 385.
[5]  محمد الناصري. النسخ وشرعة السيف. مرجع سابق. ص 390-391.
[6]  نفسه. ص 387.
[7]  نفسه. ص 387.
[8]  نفسه. ص 391.
[9]  محمد الناصري. النسخ وشرعة السيف. ص 392.
[10]  للتوسع في الموضوع أكثر يمكن الاطلاع على: يوسف القرضاوي. السنة مصدرا للمعرفة والحضارة. دار الشروق. القاهرة. ط 3. 2002م.
[11]  الناصري. النسخ وشرعة السيف. ص 395.
[12]  لمزيد التفصيل في طباع البداوة وأخلاق وصفات العرب والأعراب انظر: جواد علي. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج 1. ط2. طبع بمساعدة جامعة بغداد سنة 1987م. ص281 إلى 286.
[13]  رضوان السيد. الهجرة والفتوحات ودار الإسلام والمتغيرات. قراءة في الاعتقاد والفقه والجغرافية السياسية. مجلة التفاهم. ع 33. صيف 2011. وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. سلطنة عمان. مسقط. ص 16. وقد ورد في الأثر مرويات تشدد على طبع التعرب والعودة إليه بعد تأسيس مجتمع المدينة. ومنه قول بريدة بن الحُصيب لزميله الصحابي الذي رجع إلى البادية سلمة بن الأكوع: ارتددت على عقبيك؟ تعربت؟ فأجابه سلمة: معاذ الله، إني والله في إذن من رسول الله. وفي الحديث أيضا أن من الكبائر: التعرب بعد الهجرة.
[14]  محمد الناصري. النسخ وشرعة السيف. ص 396.
[15]  موضوع الجزية من المواضيع المثيرة لإشكالات فقهية كبيرة، تحتاج دراسات فقهية وفكرية اجتهادية تعيد النظر في الكثير من الالتباسات المعرفية فيها. والجزية هي ما يؤخذ من أهل الكتاب والمعاهدين، حسب اختلاف بين الفقهاء فيمن تجب عليه. وعلل وجوبها. وهو ما يستحق دراسة مستقلة في بابها.
[16]  محمد سعيد رمضان البوطي. الجهاد في الإسلام. كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ دار الفكر دمشق. ط1. 1993م. ص 90. 91.
[17]  البوطي. الجهاد في الإسلام. مرجع سابق. ص 92.
[18]  محمد الناصري. النسخ وشرعة السيف. ص 401.
عبد الله هداري

باحث مغربي، ومدير مركز أفكار للأبحاث والدراسات، المغرب.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.