المعرفة والثورة والسلطة: التحولات المتوقعة للمعرفة داخل بلدان الربيع الديمقراطيّ

12 كانون2/يناير 2018
 
كتب كوندورسيه (Condorcet)، أحد أبرز وجوه الثورة الفرنسية وأبرز ضحاياها كذلك، من داخل سجنه: " كلّ شيء يؤكد لنا أننا على أبواب عصر ثورات كبرى للجنس البشري..."1.

وجاء في إحدى التعليقات البليغة والمعبّرة في وصف قوة الإرادة حينما تمتزج بتوقع الغد الأفضل والإمكان الدائم في خلقه، قول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط: "إنني أنطلق من مسلمة: وهي أن أعمل ما في إمكاني لأجل هذا الهدف [يقصد السير نحو تقدم الجنس البشري] ولهذا دفعته ثقته وإيمانه هذا -إن شئنا التعبير بهذا اللفظ- إلى تغليط الفكرة المعتقدة بأن الوضع الراهن وضع أبديّ"2.

الطريف في المسألة أن الثورات التي تموج داخل عالمنا العربي والإسلامي والمستمرة في النجوز عبر صور وأشكال وعلى مستويات وأصعدة تفاعلية عدة، مغايرة لسالف ثورات الشعوب؛ وبعيدة كلّ البعد عن رومانسيّة النزوع اليساري ومثالية المد الطوفانيّ الدينيّ؛ لأنها هذه المرة تغيرات ستغرقنا -بتعبير الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو (Gianni Vattimo)- في مسار لا يمكن أن ننظر إليه من الخارج3. فانكشاف وهوم السرديات الكبرى4 حول رؤانا للعالم جعلنا في محك مسؤوليّة التأويل مجدداً، تأويل طريف يؤول حسب كلّ النهايات إلى نتيجة واحدة مفادها: وإن استمرت السيطرة فإنها لا محالة منزوعة الهيمنة5، أو بعبارة أقل تفاؤلاً، فإن نهاياتنا تسير نحو التخفيف من وقع الهيمنة على وعينا وشعورنا ورؤانا تجاه ذواتنا وكلّ ما يحيط بنا، بل والتخفيف من الهيمنة في أنماط استعادتنا لتاريخنا وتاريخ الأفكار والأحداث والشخوص عندنا.

لذا؛ فهذه السرديّات الكبرى المهيمنة على تصورنا للعديد من مفاهيمنا اللصيقة بواقعنا ومستقبلنا مثل "الإصلاح" و"التحديث" و"النهضة" و"التقدم" و"الانحطاط" و"الحضارة" و"الدّين" و"الحكم" و"الدولة" و"الخلافة‘‘، إلخ سيؤول وضعها المعرفيّ لمعاودة النظر/التأويل، بحيث سنجدنا قد تخلصنا تدريجيّاً من جملة الاستنتاجات والمصادرات المغلوطة التي يردّدها العديد من الدارسين ويقتبسها منهم الزعماء الأيديولوجيون لغايات أخرى، كما سنتخلص من شعور الإحباط الذي كرسته السرديّات النهضويّة، الإصلاحية منها والتحديثية [...] والتي تحولت لـ "سوسيولوجيا الهزيمة"6. بذلك، فإننا نعيد تموضعنا المعرفيّ مجدّداً ونعيد ترسيم سقف معارفنا في التأويل والسؤال والاستنتاج والتوقع، دون فصل لكلّ ذلك مآلاً عن مستقبل هذه الشعوب.

قد يُطرَح السؤال هنا: ما علاقة هذه الفرضيات أعلاه بإنتاج المعرفة داخل مجتمعاتنا؟ وعلاقة كل ذلك بإنتاج المعنى عندنا؟ وعلاقتها بمستقبل وجودنا وتشكّلنا الحضاري؟ وعلاقة كلّ هذا إجمالًا بالمدنيّة والسّلطة؟ حسب الجمع المقصود لهما عند الأكاديمي الإيطالي أرماندو سالفاتوري (Armando Salvatore). 7

والحال أنّها أسئلة نعتقد بقيمتها التأويلية الراهنة، لكنّنا تعمدنا [على سبيل الإجابة القبلية] التقديم لهذه الدراسة بهذا الأفق الذي ترسمه هذه المقولات، لنؤسس لفرضية مركزية مفادها: أن ما يمكن أن يتجرأ الأفراد على الحلم به، وتتكون لديهم إرادة في خلقه، مرتبط دوماً بأفق واقعهم في انفتاحه، فبعد أن اختلف باراديغم الرؤية -على وقع ثورات المنطقة8- الذي كانت انسدادات تاريخهم الإسلاميّ المتأخر قد صنعته، وبعد أن اختلفت رؤاهم تجاه مآزق راهنهم القريب القوميّ واليساريّ والليبراليّ المرتبط بالنشوء المأزوم للدولة الوطنية المتولدة بعد المرحلة الكولونيالية المباشرة، فإن واقع ثورات مجتمعاتنا، أو حراكهم أو ما شئنا من التسميات، ستسهم في انزياح تاريخيّ آخر في تعاطينا مع هذا التاريخ وفي تغيير أشكال معاودة الاستعادة المعرفيّة الممكنة له، وتسهم في الآن نفسه في توقع المستقبل البعيد عبره. ولهذا، فما سنكتبه وما سننتجه من معرفة مستقبلاً ستنسدلُ عليه دون شكّ ظلال هذا الأفق الجديد.

لتجنّب تفاهة فكرة الحتميّة التاريخية هنا، فإننا ندعي أنّ أُفق التوقّعات الذي نفترض أنه سيتشكل ليس وليداً لمكان أو زمان شديد الراهنية والمحايثة، وإنما هو صياغة اندماجية جماعية فوضويّة حققتها مدافعات تراكميّة كثيرة لجميع شعوب الأرض دونما ممايزة من أي نوع كانت، دون أن نستثني التنويه المضاعف بالمدافعات النقديّة للمدرسة الديكولونيالية (De-colonial) الجديدة أو توقعات دراسات التابع الهنديّة والنقد الشَقيّ لما بعد الاستشراق الكلاسيكيّ.
 
 
إن هذا الأفق في المغايرة والحلم والقدرة على امتلاك وعي إمكان المشاركة في إنتاج المعرفة وإعادة جدارة الاختيار الحضاري ذي الأفق المتعدّد والمختلف، ليس رهيناً بالمستقبل أو خاصّاً به، بل هو مديات مستقبليّة، كما أنه ماضٍ وحاضر انسيابي يُدمج الكل ليخلق عملية استيعاب مكرورة يقوم بها الكائن لجميع ما يُكون ذاته تاريخيّاً ولغويّاً ومعرفيّاً وسياسيّاً... إلخ، عملية تتكرر -بمنطق الاختلاف- بدفع من مغايرات نسق الوعي المرتبط بتجدّد أفق توقع مستقبل الكائن البشري دوماً.
 
واضح أنّنا في المحاولة التحليليّة أعلاه نحاول أن نتلمس منافذ مفاهيميّة وتعبيريّة تنتمي لسوسيولوجيا المعرفة الجديدة في مجتمعات ما بعد الاستعمار وبعد الحراك الديمقراطيّ عندنا. لذا، وقصد حصول مزيد فهم مخاتل لهذه الصورة يمكننا التدليل بأمثلة للفهم، وأبرز مثال يحضرنا في ذلك ما كُتب حول الإصلاح وأطروحاته عند باحثينا ومفكرينا وعلماء الأمة العربيّة والإسلاميّة، حيث بتنا نستوعب اليوم كلّ ما كتبوه عند استرجاعه نِسب قتامة أفقهم كما نستوعب، بشكل جلي، ضيق تمثلهم لراهنهم ومستقبلهم. قد نقر بأن الأمر كان متجاوزاً أفق تفكيرهم بمعنى اندراجه في ما لم يكن ممكنا التفكير فيه عندهم أو غير مفكّر فيه، وإن كنا لا نحسم بهذه الاستحالة كليّة، ولكنها انطبقت إلى حدّ ما على جلّ تفكير هؤلاء ممّن كتب بالعربية على وجه الخصوص، أو فكّر في ما سُمّيَ بالانحطاط والأزمة الحالّة بنا، إلخ.

لكن، وبفضل ما تشهده عوالمنا ما بعد الاستعماريّة من تحولات متسارعة تتضح لنا يوما بعد آخر معالم الربط الممكن فيها بين مفاصل تاريخ هذا العالم بشقّيه، العالم الإسلامي ذي الأفق العالميّ الذي غيّب9 كأفق بمرجعية ذات تحيز مفاهيميّ حضاريّ إسلاميّ، لكنه تواصليّ تعددي وعالمي، أو بعبارة توماس باور عالم ذي مرجعيّة تأسست على ثقافة الالتباس10 بعيداً عن كلّ معايير الأحاديّة والقولبة المتسلّطة، وبعيداً عن كلّ ما يُروج له من وُهوم حول انسدادات آفاق هذه المجتمعات.

كأنّنا بمراحل تطور حضارات الفرد المسلم وحضارات العالم الذي يتقاسم العيش فيه مع غيره سَيُعاد سبكها في مخياله -كمدخل للتركيب الأكثر تكاملية في قادم الأيام- مجدداً. ولهذا، فإنسان المنطقة يعيد تموضعه داخل كل ذلك مجدداً، فعل تموضع معرفيّ جديد يتخذه ضمن مجزوءات العالم؛ تموضع أشبه بالخروج من حالة اللا اعتراف بإمكان التموضع أو القدرة عليه في الأصل، أي التحرر من وهم سردية العجز المتأصّل أو مستحيل الارتفاع، والتوجّه إلى حال يعيد لرصيد الثقة والاعتراف الحضاريين أثرهما الحفريّ في وعي/لاوعي إنساننا. ولعلّ عدم تفكير الكثير من الباحثين -إن لم نقل جلّهم- في حاجتنا لهذا الفعل (التموضع الجديد من داخل الذات واعترافاً بقدراتها الكامنة) ذي الأثر المعرفيّ، جعلهم يعتقدون بعدم الحاجة إليه مجدداً، والتأكيد على عبارة (مجدداً) ههنا تعني بأنّنا نعي كينونتنا الحضارية فقط عندما نعاود تموضعنا تحت سقف هذا العالم.

بناءً على هذا التغييب القسري الذي غالب المُفَكّر فيه عند باحثينا، ارتمينا نبحث في كلّ جوانبنا وعوالمنا الممكنة واللا ممكنة دون جدوى، فكانت جلُّ أبحاثنا وأطروحاتنا المعرفيّة لا تزيد الأمر دوماً إلا سيولة وضبابيّة، كما تزيد من توثيق عِقالنا ضمن حيّز ثابت أقرب لعقيدة التوقف أو الاكتمال السابق للعدم.

ولعل وصف الضياع قد يُقارب الصواب في الاتّصاف به في ذلك، لكنه ضياع اعتقدناه عبر هذه الكتابات خاصّاً بنا، لكن تبيّن أنه تبدّى ظاهراً -في اعتقادي- عندنا فقط لكوننا في جزء الدائرة الظاهر والمتكشف حتى لا نقول الأضعف، أما جزأُها الآخر فيشاركنا الضياع نفسه عبر تكريسه اعتقاد تحكمه وتوجيهه للعالم بشكل أحاديّ متمركز على الذات، وإيمانه عقديّاً بخلاصه الوحيد في إنتاج المعرفة.

إذاً، يمكننا أن نتوقّع تحت وقع تأثير رصيد الثّقة بمسار هذا التاريخ الذي تجدّد فعل تأويله عندنا بأنّ مساراً تاريخيّاً جديداً يتشكل، يبعدنا بما لا يدع مجالاً للريبة عن يقينيّة كانت سائدة لطالما اصطبغت بنَفسٍ من السوداويّة المدثرة بالنظريات والمعارف الأكاديميّة، وهي إن شئنا القول حتمية بأثر رجعيّ كانت قد أسْلمت -في عمقها- قياد التفكير للفزع والحيرة وعدم القدرة على الاختيار أو التفكير في إمكان انوجادها في الأصل.

لهذا؛ فكلُّ ما ستبدعه شعوبنا اليوم ليس له من حيادٍ عن استبطان هذا الوعي الجديد؛ فالإنسان كائنٌ يمكننا القول إنّه ذو وعي شِقيّ تمازجيّ قصد أن يمنح كل أفعاله ثقة وعزيمة في البقاء والعطاء والإبداع، وقد ينكمش على وقع لا انتمائه التاريخي والمعرفي وإن كان بين البشر يسير في الأسواق ويأكل الطعام فتخمد بذلك عنده نوازع الإبداع والأمل والبقاء. بعبارة أخرى، إنّ صيرورة الزمن وأحداثه تغالب أحياناً حيويّة فعل التفكير عند الإنسان مهما بلغَ من الإبداع، فتجعله رغم امتلاكه لرصيد تاريخيّ/حضاريّ هام رهين سقف زمنيته الآنية، دون أن تؤثر قراءات التاريخ القريب أو البعيد فيه، وهنا قاعدة تطبع إبستمولوجيّات التفكير البشري تتمثل في عدم اكتمال هذه السلسلة من الوعي إلّا على وقع انفراجات مثل هذه قد تفتح أفق المستقبل وتغيّر راهن الواقع.

هذه الفجوات هي ربطُ من نوع آخر بين مراحل تاريخ الكائن تتداخل دوماً لتؤثر فيه إيجاباً عند تواجدها وتؤثر فيه سلباً عند افتقادها، إنّها روح تَحْرِيريّةٌ نتيه تيهان قوم موسى عندما نفقدها.

ما سبقَ قوله أعلاه ينطبق، حسب افتراضنا، على ما كان يكتب عن الإصلاح وما كُتب من خلاصات مغلوطة حول فشله عندنا، بمعنى أننا نتحدث عن وصف الكتابة الأكاديميّة والثقافيّة عامة هنا ورصيدها المعرفيّ في هذا المجال وما قدمته كمنتج للمعرفة. حلقات تترابط لتمتد بين ما هو معرفيّ وسياسيّ وحضاريّ عامّ، لا نود وصفه بعبارة سالفاتوري وتيرنر ( Turner Bryan) "تعالق السلطة والمعرفة"؛ وذلك لأنّ الأمر في نظرنا أكبر من ذلك، بينما قد نعبر عنها بالمجاز المقبول في دائرة الوصف داخل هذا السياق فنقول هي أشبه بروح -كما سبق القول- يمكنها أن تنوجد ويمكنها أن تنعدم، ولوجودها من عدمه أثر مفصليّ.

هذه المنطلقات التي لا زالت تحتاج مزيد تحليلَ وتأمل ونقاش قصد فهمها أكثر، وفهم مآلات أثرها فينا، هي مدخلنا في معاودة تعريف الإصلاح عندنا، ومعاودة تبين علائقه أهي دينيّة أم مدنيّة أم ما دون ذلك، إن لم يكن الإصلاح عينه مطلباً واهماً وليس في هذا التوقع أيّ مبالغة، فقد تقتضي العملية معاودة تعريف كليّة تنسجم ومداخل هذه الفرضية التي تقتضي دوماً قابليّة تأويل المفهوم وتعريفه في صيغ وتأويلات جديدة، بل وضحْده إن اقتضى الأمر، فيستحيل بذلك الإصلاح غير الإصلاح والدين غير الدين والتاريخ غير التاريخ والمعرفة غير المعرفة، وسيستحيل حضورنا نفسه بعدها مغايراً في تمثله لماضيه وحاضره ومستقبله.

أما مسار الشعوب واختياراتها ومنازع التأثر والاندماج بينها في هذا العالم، فذلك موضوع آخر لا تودّ هذه الورقة التطرق إليه ونقاشه.
 
دائرية التفكير العلميّ/الحضاريّ عند جيل ما بعد الاستعمار
 
لا بدّ من إعطاء أمثلة في سبيل مزيد من الفهم لفرضيتنا، أمثلة من رصيد ما كتب عندنا، ويمكن التمثيل حصراً بكتابات مرحلتين ذات تقارب وتقاطع زمني كبير: الأولى تشمل مشايخ النهضة ومنظريها كما يسميهم البعض، والثانية تشمل الجيل الذي تلاهم من تلامذتهم أو من كتب عنهم أو حاول تقفي أثرهم.

فالملاحظ في كتابات جيل المشايخ الأول، سواء الأفغاني وتلميذه عبده أو شبلي شميل وسلامة موسى ورشيد رضا، إلخ. إنّهم رغم استضمارهم لفكرة الامتداد الحضاري للإسلام، فإنهم محاصرون واقعيّاً بصور ظلت تتوغل في مخيالهم شيئاً فشيئاً حول النموذج الغربيّ بكل أبعاده ذات منازع القوة العلميّة والسياسيّة؛ ولهذا مالَ جلّهم في الجانب العلمي لفكرة توطين علوم الغرب واستيعابها لمعاودة الدمج، ومال جلهم في الجانب السياسي لاستجلاب مفاهيم المدنيّة الغربيّة من حريّة وديمقراطيّة وعدالة، إلخ، والبحث لها في المحصلة عن توافقات ومقارنات تنزيلية ممكنة.
 
 
هذا الطموح والأمل في التجديد والإصلاح سيستمر، لكنه سيأخذ في الحَديّة أكثر مع تطورات تنزيل الخطاب الماركسي والقومي، وسيأخذ في التحول نحو حلول متقابلة متضادة من قبيل تحييد الدين أو من قبيل تديين المجتمع عند الأصوليات المقابلة لهم، شيئاً فشيئاً ستأخذ معالم الدرس المعرفيّ في الاندراس لصالح انبعاث الإيديولوجيّات الفاقعة التي تدعي امتلاكها الإجابات المغلقة كليّة. وبحسب عبارة الباحث رشيد بوطيب، فـ"ستدخل هذه الثقافة عصراً جديداً، قد نسميه بـ (الحقبة الغربيّة)، التي ستفرز حركات أيديولوجية، كفاحية، مغلقة، كالحركة القومية العربية والحركات الإسلاموية واليسارية، وهي حركات تشترك في رفضها للثقافة الإسلامية الكلاسيكية، وستعمد إلى استنساخ النموذج الديكارتي، المعادي للالتباس والمنافح عن الحقيقة الواضحة والواحدة"11.

وبعد فشل كل ذلك، ستنبلج عندنا أبحاث جيل اليأس، وجيل البحث عن الحلول الأيديولوجية المغلقة أحادية الأفق، ولهذا نعد -عبر هذا المسار الجيلي المتأخر- أن ما قدمه الجابري والعروي وأركون وغليون وتيزيني ونصر حامد أبو زيد وفهمي جدعان وغيرهم من الباحثين تمثلات لنهاية نفق اليأس الذي أصاب دائرة إنتاج المعرفة عندنا.

فكم خُط حول تبيئة العلوم، وكم خُط حول إعادة قراءة القرآن، وكم خُط حول العلمانية وإعادة قراءة التراث أو القطيعة معه، إلخ. لكن كل ذلك استبطن - لمن كان يتابع بحصافة ما يعتمل في العمق- نوعاً من الانحسار حتى صار جُل مبدعي وباحثي عالمنا العربي الإسلامي يجدون أنفسهم يعاودون الدوران في حلقات جيل سبق دون أن يجاوزوهم، ويبثون أفكاراً أثبتت أنها جوفاء من المعنى والتأثير في واقع معيشهم وتستحيل كلما حاولنا تفعيلها نوعاً من المعرفة فاقدة الروح والمعبرة عن كل شيء إلا ذاتها وامتدادها الحضاري، دون أن ننفي قيمتها بكل تأكيد في مسيرة التراكم، لكنها على أقصى درجات التفاؤل أطروحات مأزومة ظلت تبحث عن الفجوة التي سبق أن افترضنا ولادتها اليوم؛ فجوة لم تراود بعضهم إلا على وقع تداخلات جوانب تأثيرية أخرى في جسم المدنية والاجتماع العربي الإسلامي (انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، واختلاف انساق التواصل بين الشعوب، وتطور أشكال تقارب الوعي بينها، وتطورات الوعي الحقوقي، وأهمها الحراك الديمقراطي في المنطقة العربية الإسلامية... إلخ).

لا يمكننا أن ننكر قيمة التراكم في العلوم كإجرائية معرفية تسهم في دخول من أراد دائرة إنتاج المعرفة، وإسهامه في نسج المعنى داخل هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن هذه المراكمة نفسها لم تتحقق عندنا بالشكل المطلوب لكوننا لم نستطع توليد علوم بإمكانها المراكمة، إلى جانب حالة التيه وانعدام الثقة في جدوائية ما ننجزه من مشاريع؛ إذ كان الكلّ يراهن من موقعه ويضرب بكل قوته فيه وهو يعتقد في عمقه باستحالة ضمنية في إيجاد أفق معرفيّ واقعيّ يمكن للمعرفة أن تضطلع به عندنا وداخل دائرة تداخل المعرفة والمدنية وتمازجهما.

عندما نقيس الصورة على تراثنا، نجده قد حقق -بجلاء- نوعاً من هذه المراكمة واستطاع الدمج لعناصر المعرفة والمدنية وبناء الحضارة12، والدليل بيّن في ما تمّ أخذه من حضارات أخرى، وما استقدموه من علمائهم وما تم دمجه من مفاهيم وما تم توليده بالمقابل من امتدادات حضاريّة واقعيّة لذلك. بينما فرضيات ونظريات كل الجيل المتأخر في التجديد والإصلاح راوحت مكانها، إن لم ينتهِ الأمر ببعضها -كما تحقق واقعاً- بالانخراط في تبني عكس ما ظلّ يكتب كثيرون في الدفاع عنه، بل ونقض غزله أنكاثاً والارتماء في أحضان الاستبداد وقبول تكسير قواعد الحريات، فقط -وعلى أحسن تقدير- من أجل أن تستمرّ فكرتهم أو نظرياتهم الأيديولوجيّة في السيطرة. بينما حوّل آخرون الدينَ عن وجهة العبادة والدفع نحو الحضارة صوب خلق تديُنات شكليّة تحاول اقتحام مجالات معرفيّة لتحولها إلى دور عباديّة لا مكان للعمل الأكاديميّ فيها ولا قيمة له بينها في نظرها.

على إثر ذلك، لا بدّ لنا -في المقابل- من إعادة نظر في العديد من المفاهيم التي رسخت حولها الكتابات الغربيّة مفاهيم معينة، وإعادة النظر فيما استنسخته كتابات مفكرينا في المرحلة التاريخية الحديثة والمعاصرة، إعادة تنسجم ومسار أفق العالم كما نراه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وكما نتصور وسعه بعد ثورات المنطقة العربيّة والإسلاميّة، وبعد تمثل إنتاجات المدارس النقديّة الجديدة في الغرب التي تجاوزت في جزء كبير منها تراث الاستشراق الذي صنعته، بالأخص ما كان منه مسدود الأفق وممركزاً على الغرب كأفق وسقف وغاية.

وعلى هذا النهج، يمكن أن نعاود النظر في مفاهيم أخرى كثيرة، وهي التي لطالما اعتبرناها من البدهيات التي لا تحتاج التدليل على معانيها، وما زادها وضوحاً كما يُعتقد تلبسها بالرؤية الغربية للعالم كرؤية تحاول الارتكاز على نفسها باعتبارها أرقى ما يمكن للعقل البشري بلوغه. لذا ينبغي لنا حسب عبارة سالفاتوري "المخاطرة بتحديث نظري لهذا المفهوم عن الحضارة [على سبيل المثال] المشبع سياسيّاً"13. فمفهوم الحضارة صِيغَ بعد استعادته داخل فروع علميّة كثيرة وفق بنائية مخياليّة غربيّة وكولونياليّة إلى حدّ كبير، فراوح المفهوم في تمثله بين الطرح الغربيّ الأوروبيّ لمفهوم الحضارة المنبني على عقيدة التفوق ومشعل المدنية المعاصرة، وبين الترسبات الجمعية التي تحاول إرجاع المفهوم إلى حظيرة تعدديّة رؤى العالم وتواريخه14.

وعليه، ليست المهمّة سهلة. والمطلوب معرفيّاً اليوم يستحق الكثير من الحزم الأكاديمي، قصد بلوغ درجات من المراكمة التي هي سبيلنا الوحيد للخروج من دوامة أيديولوجيات جيل القوميات والحزب الواحد والهويات المغلقة.

دون أن يعني ما سبق قوله أعلاه أنّنا نغفل هنا قيمة العلوم الإنسانيّة في تطوير قدراتنا العلمية وتثمين دورها في مساعدتنا على الخروج من أزمة علومنا التي صارت غير قادرة على الإجابة على الكثير من أسئلة واقعنا، ولعلها إن سارت في هذا المسعى ستخلق ثروة معرفية يمكن أن تُستثمر في كل مجالات اجتماعنا البشري، سواء دينيّة أو ثقافيّة أو مدنية وغيرها، وتجنبنا وهم ضرورة الإصلاح الدينيّ إن أردنا التقدم والازدهار كمدخل لزوميّ. فهذا الأخير وفق فرضيتنا سيكون تحصيل حاصل حينما نصمد في عملية توطين فكرة المراكمة والحزم الأكاديمي وحين نوطن قيمة تموضعنا الحر ونوطن قيمة العلوم الإنسانيّة داخل كل أفرع معارفنا.

يمكن توصيف مطمحنا، ههنا، بأنّه رغبة في إرباك اطمئنان عالم الاجتماع اليوم، الأنثروبولجي والمؤرخ والفقيه الفيلسوف، إلخ، تجاه هذا الإسلام الذي اعتقد الكثيرون أن تخيّله قد اكتمل ولا يحتاج لمعاودات تخيل وتأويل أخرى. لذا، لم نلتفت لدلالات ثقافة "العالم الإسلاميّ" العابرة للحضارات15 والجامعة بينها في الآن نفسه، ولم ننظر لمفهوم المؤسسة من داخل الإسلام في أبعادها الحضارية، ولم نعر اهتماما لمسألة مخيال المدينة في اجتماعنا الإسلاميّ الحضاريّ، وغير ذلك من الولادات المفاهيمية الجديدة، التي بدأت تُزال عنها كوابح الأيديولوجية وعقدة المركزية الغربية، إلى جانب دفعة الأفق الحر الذي ولدته ثورات جيل ما بعد الاستعمار.

كلها مولدات عالم جديد سيعاود تأكيد حضوره، لا بمنطق الصراع، ولكن بمنطق يجعل من الإسلام حسب هودجسون (Hodgson, Marshall G.S. 1974. The Venture of Islam) مغامرة يمكن استثمارها دوماً في مهمة التأمّل وبناء ذاتنا الحضارية، وفي توليد مفاهيم يمكنها أن تعود لتتزاحم في هذا العالم وتتلاقح مع غيرها من رؤاه الكونية16.

لا يمكن أن ندعي ابتداء حس النقد الشَقِيّ هذا، وإن صح التعبير تجوزاً "صحوة الضمير المعرفي فينا" مع حراك ثورات الربيع الديمقراطي، وإلا سنكون بذلك جاحدين للتحولات التي تقع في عالم الدراسات الإسلاميّة والتاريخيّة والحضاريّة غربيّاً، وما يقع منها على صعيد دراسات ما بعد التابع الهندية. فالكثير من الدراسات الغربية ابتدأت الأمر منذ منتصف القرن الماضي، لكن الجديد في المسألة اليوم مع ثورات الحراك الديمقراطي، يتجسد في إمكان التكهن أن الإسهام سيكون مزدوجاً هذه المرة، حيث ستنخرط نخب علمية شابة جديدة في عملية التجاوز هذه أو عملية العصيان المعرفي كما أسماها والتر دمنيولو (Walter D. Mignolo)17. إذ عاجلًا أم آجلاً سيعي هذا الجيل أن صيرورة النقد يمكنها أن تتوطن عندهم وفق رؤية علمية سيسهمون -من منطلق حقهم في ذلك- في توطينها وتطويرها، وهي وإن كانت تكهناً فلسنا نقامر هنا، بل المسألة تلمح لذلك في اتجاهات علمية عديدة، وأخص بالذكر الدراسات الإسلامية نفسها والتحولات المعرفية الحاصلة فيها والتي نتوقع تطورها وحصول مزيد انزياحات معرفيّة فيها فيما سيأتي في قادم الأيام.

دون أن نغفل الالتقاط النابه لبعض مفكرينا لهذه التحولات وهم الذين غمرتنا كتاباتهم لفترات زمنية سابقة بالدعوة للإصلاح والتجديد والنقد ومعاودة القراءة للتراث... إلخ، لكنهم اليوم تلقفوا بذكاء تغيرات واقعنا المعرفي والمدني الجديد والآخذ في التشكل. ولعل أبرز من يحضرنا في ذلك اسم الباحث اللبناني رضوان السيد الذي تشي كل دراساته ومحاضراته الأخيرة عن رغبة واعية في إعادة تركيب الصورة من جديد، في ربط وجد نفسه مدعوّاً دون مماحكة لنقاشه وهو سؤال الدولة الوطنية وشرعيتها وسؤال التغيير في اقترانه بالدين والمعرفة والتقليد الإسلامي، دون أن نغفل قيمة الأسماء الأخرى لكن باحثنا آنف الذكر كان المثال الأبرز في الصدح بأفكاره وإثارة الجدل الإيجابي حول آفاقها.
 
 
ختاماً، نعتقدُ بأنّه "قد أصاب عالم السياسة جان بيير فيليو عين الصواب حين وصف الثورة العربية بالانقلاب الكوبرنيكي الذي قطع مرة وللأبد مع مبدأ الزعيم، مؤكدا أولوية الإنسان وكرامته"18. ونضيف أيضاً بأنها قد قطعت مع نَفَس معرفيّ بائد وفتحت أعيننا على رحابة التأويل من جديد لكل ما يحفُّ عالمنا.

الهوامش:
 
1 علي أومليل. أفكار مهاجرة. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت- لبنان. ط1. 2013م. ص 68.
2 المرجع نفسه. ص 70.
3 فتحي المسكيني. المعاني المتضاربة لعودة الدين لدى الفلاسفة الغربيين المعاصرين. مجلة التفاهم، مجلة فكرية إسلامية، عدد 51. شتاء 2016م. ص146.
4 نفسه. ص 146.
5 ديبيش شاكرابرتي. مواطن الحداثة، مقالات في صحوة دراسات التابع. ت. د. مجيب الرحمان. هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة). ط1. 2011م. ص 56.
6 محمد الحداد. نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح. دار الطليعة. بيروت – لبنان. ط1. 2006م. ص 23.
7 أرماندو سالفاتوري. سوسيولوجيا الإسلام، المعرفة والسلطة والمدنية. ترجمة ربيع وهبة. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ط1. 2017م.
8 كثيرون سيعيبون علينا -وعلى غيرنا- التقرير بقيمة هذه الثورات، بل سيعيبون علينا الاعتقاد بأنها ثورات اجتماعية حقيقية، ويبلغ بهم الأمر حد عدم قبول تسميتها بالثورات، وهذا في نظرنا تحليل مناقض كلية لتصورنا تجاه ما حصل، إذ نعتبرها ثورات عظيمة ممتدة الأثر والفعل كذلك، ولهذا، سنكون واهمين إن اعتقدنا بانحصارها أو انقضائها أو عودة التسلط مجددا- وإن تبدت الأمور ظاهريا وراهنا كذلك -، فكل حيثيات العالم تؤكد عبورنا نحو واقع عالمي جديد، اختلف فيه كل شيء: الفاعلون والسياسة والمجتمع والمعرفة والمستقبل نفسه. لذلك، فما نحاول صوغه هنا، يدخل في دائرة التوقع الذي يحاول رصد إمكانات التحولات المعرفية التي تنتظرنا، والتي على وقعها سنشهد تغيرات سياسية ومدنية كبرى.
9 يتحدث أرماندو سالفاتوري في مجمل كتابه "سوسيولوجيا الإسلام" عن مفهوم العالم الإسلامي كمقدمة مغايرة لـ مفهوم العالم اليوم – مستمدا هذه الفكرة من صاحبها مارشال هودجسون -، ويعتبر الحضارة الإسلامية قد أشبعت هذا المصطلح بآفاق أخرى تخالف ما عليه تحيزات العلوم الاجتماعية والإنسانية ذات الخلفية الغربية/الاستشراقية اليوم. انظر كتابه سوسيولوجيا الإسلام. مرجع سابق.
10 انظر توماس باور. ثقافة الالتباس. نحو تاريخ آخر للإسلام. ت، رضا قطب. دار الجمل. بيروت. ط1. 2017م.
11 رشيد بوطيب. ثورة الكرامة ونهاية العلمانية. ضمن مؤلف جماعي " في سؤال العلمانية، الإشكالات التاريخية والآفاق المعرفية". ابن النديم للنشر والتوزيع. دار الروافد الثقافية- ناشرون. ط1. ص 310.
12 غير بعيد عن أنظار الباحثين قيمة المزج بين المعرفة والسلطة في الإسهام بإنجاز تحولات مدنية باهرة، ولهذا خصص كل من “دارن عاصيمو أجلو” و”جيمس روبنسون” في مؤلفهما  “لماذا تفشل الأمم، أصول السلطة والازدهار والفقر” حيزا هاما في مجمل الكتاب لتبيين كيفيات تشكل المؤسسات وتأثيراتها على التحولات الاقتصادية والازدهار والتقدم، في تبيين باهر للمزج الذي كان يحصل آنذاك. ويمكن الرجوع كذلك لما كتبه أفنير كريف Avener Grif عن أهمية التمازج التجاري/المعرفي وأدوار التحالفات في تحقيق الازدهار داخل بنيات المؤسسات المدنية، أنظر دراسته:
Reputation and Coalitions in Medieval. Trade: Evidence on the Maghribi. Traders. The Journal of Economic History, Vol. 49, No. 4 (Dec., 1989), 857-882.
13 سوسيولوجيا الإسلام. ص 45.
14 نفسه. ص 44.
15 سوسيولجيا الإسلام. ص 30. 31.
16 نفسه. ص 60.
17 والتر د منيولو. العصيان المعرفي، التفكير المستقل والحرية الدي-كولونيالية. ترجمة فتحي المسكيني. ترجمات قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة. مؤسسة مؤمنون بلا حدود. 28 سبتمبر 2016م.
18 رشيد بوطيب. ثورة الكرامة ونهاية العلمانية. ص 308.
عبد الله هداري

باحث مغربي، ومدير مركز أفكار للأبحاث والدراسات، المغرب.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.