كيف تُدار المراحل الانتقالية؟

05 كانون2/يناير 2024
 
نتناول في هذا المقال مشكلتين أساسيتين من مشكلات إدارة المرحلة الانتقالية في عمليات التغيير التي شهدتها بعض الدول العربية خلال موجتي التغيير عامي 2011 و2019، وهما يتصلان بمن يدير المرحلة الانتقالية، وبشرعية الانتخابات قبل التوافق.
من يدير الانتقال؟

في حالات الانتقال التي شهدتها دول في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وصل الفاعلون السياسيون الذين قادوا عمليات التغيير إلى السلطة أو شاركوا فيها، وذلك عبر أحزاب أو ائتلافات أو حركات مجتمع مدني. كما فضّل رجال الأعمال الديمقراطية على الحكم الفردي عندما أدركوا أنها ستحمي حقوق الملكية ومصالحهم التجارية، وتقلل من عنصر اللايقين، وتضمنُ حل الصراعات السياسية عبر قنوات سلمية ويمكن التوقع بشأنها.[1] كما أن القوى التقليدية غيرت برامجها، ففي إسبانيا وأوروبا الشرقية مثلا غيرت الأحزاب الشيوعية برامجها ودعمت التغيير الديمقراطي.

أما في الحالات العربية فلم يصل من قاموا بالثورات إلى السلطة أو شاركوا فيها، ومثّلت القوى القديمة مصدر التهديد الأول للديمقراطية. إن الخوف المتبادل بين التيارات المختلفة مهّد السبيل لهذه القوى المعادية للديمقراطية، فغلب، من ناحية، خوف القوى الليبرالية واليسارية، وكذلك القوى الخارجية، من صعود الإسلاميين واحتمال تكوين "نظام ثيوقراطي"، وغلبَ، من ناحيةٍ ثانية، خوف الإسلاميين من اقصائهم وبناء نظام علماني. ومثلُ ذلك خوف اليساري من اليميني واليمني من اليساري، وهكذا.



لقد تصدرت الأحزاب السياسية التقليدية والقوى المحسوبة على الأنظمة القديمة المشهد السياسي وقادت المراحل الانتقالية. جاء هذا بعد أن أشعلت القوى الاحتجاجية الشبابية الثورات بناءً على نجاحها (عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والاستفادة من تجارب التغيير غير العنيف) في التعبئة وراء القضايا الحقوقية وإشعال الثورات. وساعدها (أي القوى الاحتجاجية الشبابية) في هذا تحررها من القيود الحزبية بأمراضها التاريخية والأيديولوجية، وتمسكها بقدر من السيولة التنظيمية واللامركزية. غير أن هذه القوى الاحتجاجية أخفقت بعد سقوط رؤوس الأنظمة القديمة في البقاء كفاعل سياسي، وفي الإبقاء على الحالة الثورية وتوسيعها، ولم تهتم بتشكيل أحزاب أو تكتلات تمثلها، وانشغلت بمعارك جانبية.

وكان الأسوأ هو أن خطاب بعض هذه الحركات كان منصباً على "نواتج" النظام السياسي المرغوب، وليس على بناء النظام ذاته الذي يمكن من خلاله الوصول إلى تلك النواتج لاحقاً. إذ كانت مطالب المحتجين، في مصر مثلا، تتمثل في استجابة غيرهم (أي القوى السياسية والنخب والجيوش) لمطالبهم وإنجاز العدالة الاجتماعية والقصاص من قتلة الثوار. وفي الجزائر كان الشعار والمطلب "يتنجوا قاع"، أي المطالبة بأن يرحل الجميع. وفي لبنان كان شعار مماثل هو "كلن يعني كلن".

أما الأحزاب السياسية (التي كانت قائمة قبل الثورات أو تلك التي ظهرت بعدها) فقد كانت ضعيفةً نتيجة إرث الأنظمة الاستبدادية القديمة، وكذا نتيجة سياسات التمويل الأجنبية التي استهدفت تقوية منظمات المجتمع في قضايا محددة (كالمرأة والأسرة والبيئة وغيرها) والتي ساهمت بالمقابل في إضعاف الحياة الحزبية. هذا فضلاً عن تراجع ظاهرة الأحزاب بشكل عام في العالم وصعود دور الحركات الاجتماعية.[2] وهذا عكس الحال في حالات الانتقال في جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية حيث كانت هناك أحزابٌ قوية إلى حٍد ما في كثير من الحالات.

في المقابل، نجحت القوى التقليدية المحسوبة على الأنظمة القديمة، بحكم تحكمها في أجهزة الأمن والمخابرات والإعلام، إمّا في البقاء رسمياً كجزءٍ من المشهد السياسي (كما هو الحال في اليمن مثلاً)، أو في إقامة تحالفات مع طبقة من رجال الأعمال وتشكيل نخب تجارية وإعلامية جديدة معادية للثورات ولها تحالفات خارجية قوية (كما هو الحال في مصر وتونس ثم الجزائر والسودان).

ففي مصر، تحرك أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تماما كما حدث بالجزائر عام 1991، وانفردوا أولاً بإدارة الفترة الانتقالية[3]. وبرغم أنهم أعلنوا أنهم سيحققون مطالب الثورة في إقامة دولة ديمقراطية، بيد أنهم في الواقع نَزَعَوا فتيل الثورة في 11 شباط/ فبراير2011، وحفظوا بقية النظام من الانهيار، ثم فرضوا خارطة طريق قوّضت مسار الديمقراطية، موقفين بذلك الصراع من أجل الحرية السياسية، بعبارات آصف بيات.[4] ولم يقفز جنرالات الجيش على السلطة عام 2013 إلا بعد أن هيأوا المجال، وحصلوا على دعم قوى سياسية ودعم خارجي.

وتكرر الأمر مع الموجة الثانية من الانتفاضات، ففي أعقاب انتفاضة السودان عام 2019 استولى العسكريون على السلطة بعد فترة وجيزة من التوافق بين العسكريين والتيار المدني وبعد أن تم استبعاد الإسلاميين. وفي انتفاضة الجزائر عام ،2019 ظلت قوى الشارع تطالب بالتغيير الشامل وتتجنب تنظيم صفوفها في شكل تحالف أو تكتل سياسي إلى أن حلت جائحة كورونا التي فرضت إغلاقاً عاماً مَنَعَ التظاهر، ما مهّد الطريق للعسكر إلى العودة عبر دستور وانتخابات تحت السيطرة. 



الانتخابات قبل التوافقات

ساهمت اختيارات القوى التقليدية التي تصدرت المشهد السياسي في عرقلة عمليات الانتقال، نظرا لأن مسارات الثورات العربية تحولت سريعاً –وبمجرد سقوط رؤوس الأنظمة القديمة– إلى الحديث عن مطالب ما قبل الثورات، أي الإصلاح وإجراء الانتخابات في أسرع وقت لاختيار رؤساء جمهورية وبرلمانات جديدة. كان هذا يعني اختيار شرعية الانتخابات قبل شرعية التوافق، الأمر الذي أدى إلى تنافس الفاعلين السياسيين مبكراً على مكاسب الانتخابات، ما أوجد أوزاناً حزبية، وسمح لقوى الثورة المضادة باختراق الصفوف، ورَفَعَ من حالة اللايقين.

وتقترب الحالات العربية هنا مما اصطلح على تسميته في أدبيات التحول "الثورات الانتخابية" (electoral revolutions)،[5] التي تشير إلى حصر الديمقراطية ومطالب التغيير في الانتخابات واختيار الحكام، بدلاً من الاهتمام بكل أركان الديمقراطية المتعارف عليها. أي أن المشكلة ليست في الانتخابات ذاتها، وإنما في التسرع في إجرائها على أسسٍ دستورية وقانونية مرتبكة، أو لم تحظ بقدرٍ كافٍ من التوافق والمشاركة.

وكما كتب روبرت دال، لا تعني الديمقراطيةُ حصول الانتخابات فقط، فالانتخابات ركنٌ واحد من أركان الديمقراطية وهي المرحلة الأخيرة لها[6]. ويعبر عن هذا حقيقة أنه منذ 1999 أجريت الانتخابات بشكل دوري في عدد من الدول في افريقيا جنوب الصحراء وتم استبدال أكثر من 30 رئيساً، على الرغم من أن الكثير من هذه الدول لم يصبح دولاً ديمقراطية حتى الآن[7].

وقد بدأ اللجوء إلى شرعية الانتخابات في مصر مبكراً جداً، فبمجرد سقوط رأس النظام، سادت قناعةٌ عامة ومعلنة بين مختلف القوى السياسية بأن ما لا يتم الحصول عليه الآن لن يتم الحصول عليه أبداً. وبين عامي 2011 و2014 أجريت في مصر عدة استحقاقات انتخابية. أما في في تونس، فقد اختار الفاعلون السياسيون إدارة المرحلة الانتقالية اعتماداً على شرعية الانتخابات التي تمثلت في انتخاب مؤسسات انتقالية.[8] وهكذا، أوجدت الانتخابات أوزاناً حزبية، أثّرت بدورها بالسلب على المشهد السياسي. لكن هذه الشرعية الانتخابية فقدت تدريجياً مصداقيتها لدى قطاعات كبيرة من الشعب لأسباب عدة، ثم كانت شرعية التوافق والحوار التي أنقذت البلاد في عام 2013. وبعد سنوات من الاستقطاب السياسي والأزمات الاقتصادية، جاءت انتخابات 2019 لتصل إلى منصب الرئيس شخصيةٌ شعبويةٌ أعادت البلاد إلى التسلطية، وذلك بعد أن حصلت أيضاً على دعم قوى سياسية ونقابية وكذلك الأمن والجيش ودول إقليمية ودولية.

في الخلاصة، يبدو واضحاً أو قوى الثورة والتغيير العربية بحاجةٍ إلى إعادة النظر في أولوياتها، على صعيد الفكر السياسي والممارسة السياسية، حين يتعلق الأمر بإدارة المراحل الانتقالية. ويأتي في هذا الإطار التعارف الوثيق، سياسياً، بين القوى الجديدة، بمختلف خلفياتها السياسية والثقافية، قبل الوصول للمرحلة الانتقالية، تجنباً للوقوع في مشاعر الخوف من بعضها، بحيث يُصبح هذا سبباً للتحالفات الانتهازية مع الأحزاب التقليدية الأكثر مهارةً في سياسة التحالفات والمناورات، وبالتالي، الأكثر قدرةً على اختطاف الثورات في المراحل الانتقالية.

كما يجب عليها التركيز على عملية على بناء النظام السياسي ذاته، قبل البحث السريع عن نتائج ذلك النظام، والوقوع في أخطاء كبيرة تنتج عن ذلك الاستعجال. هذا مع التركيز على بناء أحزاب سياسية وازنة تعتمد على رؤيةٍ سياسيةٍ واضحة، وتكون ضامناً من عودة الأحزاب التقليدية، وقوى الدولة العميقة، للقفز إلى السلطة بسبب عدم وجود البدائل الحقيقية. وتبرز هنا أهمية التوازن في التعامل مع "آلية" الانتخابات، وبحيث لا تُصبح هي، بحدّ ذاتها، الهدف من العملية الديمقراطية، وإنما تكون فعلاً "أداةً" يأتي استعمالها بعد وضع أسسٍ دستورية وقانونية راسخة، وحصول قدرٍ كافٍ من التوافق بين القوى الجديدة، ومشاركتها الشاملة.

الهوامش:

[1] Philippe Schmitter, "Democratization and Political Elites or Political Elites and Democratization or The Process of Democratization and the Role of Elites or the Role of Elites in Democratization or Democratization: The Role of Elites," European University Institute, n.d., available at: Link    
[2] Phillipe C. Schimtter, "Ambidextrous Democratization and its Implications for MENA," the author’s page, Sept. 2015. Link
[3] انظر: عماد الدين شاهين، "محصلة التحركات من أجل الديمقراطية: حالة مصر" في الديمقراطية المتعثِّرة: مسار التحركات العربية الراهنة من أجل الديمقراطية، على الكواري وعبد الفتاح ماضي (محرران) (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014) 111-163.
[4] Asef Bayat, "Revolution in bad times," New Left Review 80 (2013), p. 55-56. Link
[5] انظر في هذا الشأن:
Valerie Bunce and Sharon L. Wolchik, "Favorable conditions and electoral revolutions," Journal of Democracy, Volume 17, Number 4, October 2006, p. 5-18, Katya Kalandadze and Mitchell A. Orenstein, “Electoral protests and democratization: beyond the color revolutions,” Comparative Political Studies, March 1, 2012 45: 312-340, Valerie Bunce and Sharon Wolchik, “Diffusion and postcommunist electoral revolutions,” Communist and Postcommunist Studies, 39, no. 3 (September 2006): 283¬304, and Vladimir Tismaneanu, “Electoral revolutions,” Society, Nov/Dec.1997, vol. 35, issue 1: 61-65.
[6] Robert A. Dahl, Polyarchy: Participation and Opposition (New Haven: Yale University Press, 1971).
[7] Pauline H. Baker, The Dilemma of Democratization in Fragile States, UN Chronicle, Vol. XLVIII No. 4 2011, December 2011. Available at: https://bit.ly/2J5ZA96 (June 25, 2018).
[8] Hamadi Redissi, “The decline of political Islam's legitimacy: the Tunisian case,” Philosophy Social Criticism 2014 40, 384.

"الآراء الواردة في المواد المنشورة في موقع معهد العالم للدراسات تُعبِّرُ عن رأي أصحابها، ولا تُعبِّرُ بالضرورة عن آراء المعهد والقائمين عليه"
د. عبد الفتاح ماضي

أكاديمي وباحث من مصر
عمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة الإسكندرية، ومنسقا لمشروع التحول الديمقراطي، وباحثا في مركز وودرو ويلسون في واشنطن، وجامعة دنفر الأمريكية، والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ومعهد قرطبة للسلام بجنيف، ورئيسا لتحرير دورية "حكامة للإدارة والسياسات العامة".
حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كليرمونت للدراسات العليا في لوس أنجلوس عام 2005، وهو مختص في نظم الحكم. ومن اهتماماته البحثية: التحول الديمقراطي، والعلاقات المدنية-العسكرية، والتنمية السياسية، والصراع العربي-الصهيوني، الإسلام والسياسة، والحريات الأكاديمية وحقوق الإنسان.
خلال الفترة من 2003 إلى 2023، شارك ماضي بـ (44) ورقة بحثية مُحكّمة في مؤتمرات علمية أو ورش عمل، عربية ودولية. ونشر (17) بحثًا في دوريات مُحكّمة، عربية وأجنبية، فضلا عن العديد من الأوراق غير المحكّمة في دوريات عربية وأجنبية. وله (5) كتب، هي "الديمقراطية والبندقية: العلاقات المدنية-العسكرية وسياسات تحديث القوات المسلحة" (2021)، "عثرات في الميدان: كيف أخفقت ثورة يناير في مصر؟" (2020)، و"العنف والتحول الديمقراطي في مصر بعد الثورة" (2015)، "عمليات الحوار بعد انتفاضات 2011 العربية" (2016)، و"الدين والسياسة في إسرائيل" (1999).
كما حرّر، وشارك في تحرير، ثمانية كتب عن التحول الديمقراطي في الدول العربية، منها: "المسألة الدستورية والانتقال الديمقراطي" (2023)، "العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي- مجلد 1" (2022)، "العامل الخارجي والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية" (2021)، و"الشباب والتحول الديمقراطي" (2019)، "منع التطرف العنيف في الشرق الأوسط والساحل الافريقي، المجلد الأول: دور العلماء المسلمين" (2018)، "الديمقراطية المتعثِّرة: مسار التحركات العربية الراهنة من أجل الديمقراطية" (2014)، "نحو كتلة تاريخية ديمقراطية في البلدان العربية" (2010)، "لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر العرب؟" (2009). وكتب (21) فصلا في كتب جماعية مُحرّرة، عربية وأجنبية، خلال (2008-2023).

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.