سوريا: حرب "الخارجين عن القانون" (١-٢)
"أصبح النزاع السوري ميدان التدريب الممتاز لتجريب خصائص معدات [الأسلحة الروسيّة] وقبل كل شيء معدات جديدة" نائب وزير الدفاع الروسي يوري بوريسوف، بترجمة ركيكة على موقع وزارة الدفاع لروسيا الاتحاديّة، شوهد 17،12، 2017
تقديم
كلّما شرعت في الكتابة عن بلادي شعرت بحاجة ملّحة للرثاء. لا أنتمي لزمن محايد ولا لمكان محايد ولا لهيئة خبراء. واللغة المحايدة، بالمعنى الفيزيائيّ للحياديّة، لغة ميْتة، أو بالأحرى لغة لم تولد بعد. وهذا يشترط بأنّ اللغة التي تدّعي الحياد مفرطةً حيال قضيّة ما هي بالضرورة اللغة الأشدّ لا حياديّة أو الأشدّ بلادة. وبالنسبة لما سأقدّمه في هذه المقالة الموجزة عن الحرب والمحاربين في بلادي؛ قد لا تكون هذه المقدّمة ضروريّة، ولكنّها مناسبة في السياق الكليّ الذي تتجمع فيه مفردات خطابات غير متجانسة لملاحظة طبيعة المواقع التي يتخذّها مختلفون بالنسبة لقضيّة حيّة وجليلة، وللإشارة إلى أنّ تلك اللغة الشائعة التي توظّف مفردات مثل النزاع والأزمة والحلّ وأطراف النزاع وأطراف الصراع وأطراف الحلّ، وما يشبهها، هي ليست فقط لغة غير حياديّة، وإنّما هي لغة متعفنّة تنهل من قاموس متخمة موادّه بالجنف والحيف، وإنّها حين تتظاهر بالحياديّة والتقنيّة فإنّها تفعل فقط كي لا تنتمي لسؤال الضحيّة، وكي لا تقول أيّ شيء مفيد، وهي بما هي عليه عاجزة على أيّة حال عجزاً أساسيّاً عن قول أي شيء مفيد. لكنّي أنتمي لسؤال الضحيّة.
سوريا عشيّة ثورة 2011؛ الحيويّة الخرائطيّة والمُوات السياسيّ
»[سوريا] مرآةُ المصالح المتنافسة على المستوى الدوليّ؛ فهي تستحقّ عناية خاصّة. وفي الحقيقة فإنّ شؤونها الداخليّة غالباً لا تحظى باهتمام ما لم ترتبط بسياق أوسع، يمسّ جيرانها من العرب والقوى الإقليميّة والدوليّة المعنيّة«. باترك سيل، الصراع على سوريا 1965. [the Battle for syria, C. Philips: 2016]
بهذا المعنى، يصف باترك سيل 1965 الافتراق الأساسيّ بين موقع سوريا الجيوسياسيّ على الخريطة وقيمة هذه البلاد السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة في العالم. إنّ مثل هذا يمكن ملاحظة معادلات له في بلدان عربيّة مختلفة من المحيط إلى الخليج. لكن، والحديث عن سوريا، فلقد كان من الملاحظات المضطردّة التي سجلّت من قبل مختلفين، أنّ التعامل الأوليّ مع الحدث السوريّ، ثورة ربيع 2011، لم يعثر بداهة على تمايزات [ولا بالحدّ الأدنى من النضج] من تيّارات وأحزاب وكتل ومذاهب سياسيّة، جاهزة أو سابقة، من يمين ويسار، من محافظة وليبراليّة، وغير ذلك، لنقل ومعالجة هذا الحدث. ومهما كان الأمر سيئاً في البلدان التي تشبه سوريا إلى هذا الحدّ أو ذاك في تطورّها السسيوسياسيّ في القرن الأخير من تاريخ البلاد والدول العربيّة؛ فإنّه أكثر تمايزاً من سوريا -قارن مصر وتونس، في المقابل سوريا وليبيا وهذا انعكس في الشعارات العفويّة وغير العفويّة المعبرّة عن حسّ بالتشابه العام.
يمكن المضيّ لحدّ القول بأنّ مجزرة عظيمة في سوريا يمكنها أنْ تقع دون أن يرتكس لها أحدٌ؛ إذا ما تمكّن جزّارها أنْ ينهي الأمر في أيام معدودة بعقامة ودون ضجيج. هذا لا يعني بالضرورة، بأنّ "عدالة دوليّة" مفترضة تستجيب حكماً استجابات متغايرة معتبرة بين أفضل وأسوء بين حالات متقاربة قابلة للمقارنة، إذْ لا يمكن أساساً وأصولاً تصوّر "عدالة دوليّة" أو "قانوناً دوليّاً" خارج السياسيّ والحالات المخصوصة. وإنّما يعني فقط الإشارة إلى الافتراق المشار إليه، وإلى مطاله الأعظميّ. في بلد آخر، سيكون من المريح أكثر تصوّر تفعّل توازنات أو تفعيل إجراءات اقليميّة ودوليّة، سياسيّة قانونيّة، تحدّ من تمادي الأمر، بصرف النظر عن تهديده التام أو عدم تهديده للنظام الإقليميّ أو الدوليّ بعامّة. هذا الافتراق، يذكّر به مثلاً التصريح الذي أدلى به تقريباً كلّ ساسة العالم، حتى الذين لا ضرورة لهم، بأنّه يجب الحرص على الحدّ من مستوى العنف كي لا يتسع نطاقه ويهدد النظام الإقليميّ، ومنه الدوليّ. لم تعد مؤخرّاً في نظري سوريا مجرّد قطعة أرض ذات أهميّة جيوسياسيّة لجملة كبيرة من الفاعلين الخارجيّين المسعورين وغير المسعورين، ولا يحظى شأنّها الداخليّ إلّا باعتبار وأهميّة قليلين، بما فيه قيمة مجموع السكان كبشر لهم أرواح وعقول وكرامة ومصائر ليست قيمتها الصفر المطلق؛ وإنّما أكثر من ذلك،صارت بعد عقود مريرة ومخجلة من حكم الأسديّة، إلى مجرّد قطعة جيو-أمنيّة، تضطلع به "دولتها"، التي نهبها نظام الأسد نهباً كليّاً وفرّغها من أي محتوى سياديّ سياسيّ جدير بالاحترام، بجملة وظائف أمنيّة مخابراتيّة ذات أبعاد شبه سياسيّة، لا سيما في العقد الأخير؛ وبجملة من وظائف الدولة الأوليّة، الخدمات والرعاية والحماية، القاصرة والمتراجعة والفاسدة فيما يتعلق بالداخل.
لقد تراجع بشكل ملموس في العقد الأخير من تاريخ سوريا مستوى حضور "الدولة" بوصفها الكيان السياسيّ الأكثر أهميّة في حياة السوريّين، على حساب فراغات سياسيّة بؤريّة غزيرة، غير مشغولة، أو مشغولة نسبيّاً وجزئيّاً انشغالاً معيباً –لارتباطها [الفراغات] مباشرة بتحكم الجهاز الأمني للنظام لا بمجال سياسيّ حيويّ أقرب للسليم- بفاعلين مستجديّن من طبائع مختلفة، دينيّة ومذهبيّة، وشبه أهليّة ومدنيّة، وخلال ذلك من رؤوس الأموال القديمة والمستجدّة. [راجع لمعاينة إحدى جوانب ذلك: حدود "التحديث السلطوي" في سوريا: توماس بيريه - كيتيل سيلفيك: موقع معهد العالم للدراسات: 16 أكتوير 2016] و [نهاية العقد الاجتماعي البعثي في سوريا بشار الأسد: لورا رويز دي إليفيرا - تينا زينتل: موقع معهد العالم للدراسات: شوهد 30 نوفمبر 2016].
أمّا على المستوى الرسميّ العام، فلقد فقدَ خطاب الإصلاح [السياسيّ والاقتصاديّ]، ركيك اللغة، والذي أريد منه تبرير أو تمرير التوريث في الجمهوريّة بريقه الزائف بسرعة، ولم يعد على الأقلّ يحظى بمصداقيّة يمكنها أن تملأ الخرق في السياسيّ الذي تفاقم بعد ثقب التوريث، ولا أن يبلغ جماهير واسعة ويحظى بشرعيّة ومشروعيّة وازنة، وفشل في بث الروح في الحياة السياسيّة في البلاد ولو بالحدّ الأدنى. وما لبث بشار الأسد أن انقلب عليه في مقابلات رسميّة اتهمّ فيها الحراك النخبويّ القليل فيما عرف بربيع دمشق ب"العمالة":
» عندما تكون نتائج أيّ فعل تمس الاستقرار على مستوى الوطن، فهناك احتمالان... احتمال أن يكون الفاعل عميلا يخرّب لصالح دولة ما أو أن يكون إنسانا جاهلا ويخرّب من دون قصد. النتيجة أن الإنسان في كلتا الحالتين يخدم أعداء بلاده. وهنا في هذه الحالة أي على مستوى الوطن يكون التعامل مع النتيجة مباشرة. وهنا يتحمّل الفاعل المسؤولية كاملة بغض النظر عن النيات والخلفيات». [من مقابلة لبشار الأسد في الشرق الأوسط، فبراير 2001 تعليقاً على وصف "المثقفين" بالعملاء المرتبطين بالسفارات الأجنبيّة].
في المحصلة ولد ما سمّي بالإصلاح السياسيّ ميتّاً. وأمّا الإصلاحات الاقتصاديّة، فكانت طبيعتها نيوليبراليّة سلطويّة على أرضيّة من الفساد والمحسوبيّة في دولة مخابراتيّة وحكم أولغارشيّ بمركّب طائفيّ -ماليّ، وللمرء أن يتصوّر النتيجة "الخلاقّة" والمرعبة عن مثل ذلك.
» أدّت الممارسات النيوليبرالية لمخلوف وأمثاله إلى القضاء على المستوى المعيشي للمواطنين السوريين في الأعوام العشرة الماضية. فتركُّز الثروات هو الأكثر تفاوتا على الإطلاق منذ مرحلة الجمهورية العربية المتّحدة، مع سيطرة خمسة في المئة من السكّان على خمسين في المئة من الثروات. في الوقت نفسه، عملت الطبقة الحاكمة على تحقيق انتقال مهم إنما تدريجي من الاقتصاد المخطّط إلى اقتصاد نيوليبرالي تسبّب بوصول معدّل البطالة إلى ما يزيد على 30 في المئة وارتفاع نسبة الأشخاص الذين يعيشون دون خط الفقر من 11 إلى 30 في المئة (ويلاند 2006: 63) « [بدايات، العدد الأول، شتاء 2012، النيوليبراليّة والاستبداد في سوريا].
وهذا يعني بالنتيجة تصفية ما تبقى من معالم مشوّهة لـدولة الرعاية، وخسارة النظام المتحققّة أو المتوقعّة لفئات وشرائح أخرى من قواعده [لا سيما خارج طائفة الأسد]، واقتصار ذلك بشكل متفاقم في مكونّه الحقيقيّ على مركّبات طائفيّة وماليّة وأهليّة قليلة، مركّزة أساساً في جهازيّ الجيش والمخابرات مع امتداداتها الاجتماعيّة وخلفياتها اللانظاميّة العضويّة والطائفيّة، وفي بيروقراطيّة متراجعة للدولة السوريّة، وفي حالات وبنى ووظائف مدينيّة وريفيّة تتبعثر ذات صلة بتلك الأولى [مال ووجاهة ودين وشبيّح، مع ترتيب مختلف]، مع مركّبات أهليّة دينيّة أقلّ أهميّة رسميّة أو مرسمنة [الرسميّ هنا نسبيّ في الحالة السوريّة المتأخرة] أثْرت أو توسّعت في العقد الأخير. السمة العامّة في هذه هي صفتها منزوعة السياسيّ بمعنى محدد، على المستوى غير البدائيّ لما يسمّى سياسيّ. فلم يعد من الممكن الحديث حتّى دولة ومواطنيها، ولا عن جماهير حزبيّة، "الحزب القائد أو الحاكم"، مثلاً تناصر مشروعاً وطنيّاً أو قوميّاً، أو حتى إسلاميّاً مؤدلجاً على سبيل المبالغة، تعبّر عنه الدولة أو معبّر عنه في الدولة. ف"الإيديولجيا" التي تجمع هؤلاء هي حبّ السلطة والمال الجشع، أو تفضيل السلامة والخمول التابعين، كما هي عليه في الحالة الأسديّة، أي دون أي طموح يزيّن مثل هذا الجشع ودون زهد يجمّل هذه السلامة الخاملة. ولنتذكر بأنّ الشعارات الأولى المرفوعة في مظاهرات 2011 تعلّقت أيضاً بالفساد المسمّى في أقارب للأسد. وتركت التغيّرات المتسارعة والمعتبرة في تفكير عموم السوريّين، لا سيما الاجيال الشابّة، فيما يتعلّق بأوضاعهم ومواقعهم واهتماماتهم، ورؤيتهم للعالم؛ أثرها على مدى تقبّل البروباغندا الجوفاء المفرطة حول الأسد القائد وحول "الممانعة"، بوصفها الرمزيّ الذي يعطي شرعيّة مضافة أو تعويضيّة على نظام الحكم، وصار من الملاحظ بأنّ مثل هذا الخطاب لا يحظى باهتمام ولا يستقبل بجديّة حتى داخل الفئات المحسوبة على النظام، ما لم يتعلّق صراحة أو مواربة بانقسامات طائفيّة الطبيعة، ذات صلة بالارتكاس على الإهانة الأولى بعد زمن طويل التي وجّهت للنظام الأسديّ بعد "المكانة المبالغ فيها لحافظ الأسد" عند أنصاره، فيما عنى تقليع قوّات النظام من لبنان، وهذا ما صار يُلمس بيسر فيما أذكره أيام حياتنا الجامعيّة 2002-2010، وخاصّة بعد حرب تموّز 2006، في الكلام اليوميّ. وكان يمكنك أن تلاحظ ذلك في السنوات الأخيرة ما قبل ثورة 2011، عبر حظور سافر لرموز مذهبيّة وطائفيّة، صور وملصقات في الشارع وظهور في الإعلام الرسميّ مختلف الدلالة، في سياق سياسيّ ينافس بشار الأسد، دون رغبة منه أو من النظام السياسيّ بالضرورة، ولا من منتسبي أو منسّبي حزب البعث، "الحزب القائد"، والذي فقد ثقله الصوريّ. وهذا يعني بأنّ "الممانعة" لم تعد مرتبطة مباشرة وحصريًّأ ب "الدولة السوريّة" بوصفها ذلك الكيان السياسيّ والسياديّ، ودولة حماية وأمن، محتلّة جزءاً من أراضيها. فالموقف أو الخطاب حيال مرتفعات الجولان المحتلّة، والانتهاكات المتكرّرة للعدوّ الصهيونيّ على السيادة السوريّة، ضعف وبهّت، أو بالأحرى انكشف خواءه، وانحسر حماسةً ومصداقيّة وأهميّةً على نحو ملموس، وصار ذكر الاحتلال عموماً يرتبط ولا بدّ بـــ "مقاومة حزب الله"، فلم يعد يجد له تعبيرات ونشاطات سياسيّة مهمّة "وطنيّة" كما في الماضي. وفي المحصلّة صار ينافس "الدولة" على شغل واجب ووظيفة "المقاومة والممانعة"، أيّاً كانت مصداقيّة الخطاب المتعلقّة به وقبوله، [الحماية]، لاعبون آخرون لا نظاميّون، أو غير رسميّين، محازبون للنظام [لدولة الأسديّين] في سوريا وفي الإقليم، وصارت سوريا مجرّد عضو فيما يسمى محوراً، لكنه عضو فيه تبعيّة، ووزنه يقترب من أوزان فاعلين آخرين غير دولتيّين.
هذا يمثل بالتأكيد، ومنذ البداية، منافسة على الشرعيّة النابعة من احتكار الدولة لواجب ووظيفة الحماية والأمن، وبالتالي استحقاقها الحصريّ للولاء والطاعة، وشغلها الكليّ أو قرب الكليّ للحيّز السياسيّ والسياديّ. فالمحارب اللا-نظاميّ، أيّاً كان نوعه وسياقه، ينافس الدولة على سيادتها بمجرد ظهوره. »لا يعبّر اللانظاميّ/المشايع [لدولة ما] رفضاً تامّاً لدولة ما. إلّا إنّه يمثل ترافقاً من حالة نفي وإثبات لهذه الدولة« [ Schulzke 2016a, 11]. وبالتالي، حين يحظى هذا اللانظاميّ المشايع بشرعيّة ما ومصداقيّة، داخل حيّز هذه سيادة الدولة الماديّة والرمزيّة، فهو يعبر عن قصورها الأساسيّ في الحماية، "الممانعة"، وحسماً في سيادتها أساسيّ ومعتبر. إنّ تقليع النظام السوريّ من لبنان، وتعاظم الهيمنة الإيرانيّة وسفورها، لم يتوقّف على الحدود بين دمشق وبيروت، بل جعل الحالة الحزبلاويّة تنتشر أو تنتقل لتصيب الحالة السوريّة إصابتين، النظام السوريّ ذاته، في عهد بشار، تأثر بذلك، وفقد وعيه بأهميّة "الدولة وسيادتها"، حتى بالمقارنة مع الأسد الأب، ونسي كثيراً من الحيل والسياسات الضروريّة لصيانة الشأن الداخليّ فيما يتعلق باستقرار مديد لنظام الحكم. والإصابة الثانيّة، متداخلة مع الأولى، هو التمدد الحزبلاويّ، وتواجد أعداله، من مؤسسات وتنظيمات أيرانيّة رسميّة وغير رسميّة، خلال المجتمع السوريّ،بشكل مواز ل"الدولة"، واختراقه لفئات متنوعة مذهبيًّا. هذا بالمحصلّة أصاب وأثار كثيراً من الحساسيّاًت في المجتمع السوريّ، غير المضطر بالضرورة للتعامل مع مثل هذه الحالة، والذي يودّ أن يتعامل على أيّ حال، ولو صوريًّأ، مع "دولته" أي كانت كدولة غير مصابة بإصابات آفات ذات خلفيّات وعقابيل مخيفة عنده.
لقد فاقمت، وهذا ما أحاول أن اقوله هنا، لأنّه مهم تفحصّ هذا الجانب أكثر، جملة كبيرة من التغيّرات من الافتراق بين اقتصار أهميّة "الجمهوريّة السوريّة" على الأهميّة الجيوسياسيّة، الخرائطيّة، بل وشبه اقتصارها على اهميّة جيو-أمنيّة، من جانب، والثقل السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ لشعبها، أو ل"أمتّها" إن جاز التعبير، من جانب آخر. وهذا بالمجمل سيترك أثره بطبيعة الحال على مقومّات الهويّة الوطنيّة وصورة الدولة السوريّة في عيون شعبها وعيون العالم. وسينعكس بسرعة بعد الثورة، أو أيّ اهتزازت وقلاقل اجتماعيّة واقتصاديّة داخليّة أو خارجيّة، على طبيعة التعامل السياسيّ –القانونيّ المتاح أو المتبقيّ لنظام الحكم مع الشأن العام منذ البداية، ومن ثم مع الحرب على مبدأ وأسلوب وطبيعة الأعمال الحربيّة، وظهور صاحب أو أصحاب السيادة الفعليّين، أجانب أو محليّين، ومن لهم الأمر في آخر الأمر. فاللانظاميّة المشايعة [بمعنى المحازبة]، والتي بلغت مستويات المافيويّة الصريحة، مؤسسّة تماماً في الأوضاع المتدهورة لحال الدولة والسلطة في سوريا على كلّ الأصعدة، في أجهزة المخابرات والجيش، وفي السوق والمؤسسّة، وفي المجتمعات؛ في الهوامش وغير الهوامش الريفيّة والمدينيّة، فيما صار يعرف بمركّب إفساد ومن ثم ترييف وتطييف الحالة على مستويات عدّة.
لقد فاقمت، وهذا ما أحاول أن اقوله هنا، لأنّه مهم تفحصّ هذا الجانب أكثر، جملة كبيرة من التغيّرات من الافتراق بين اقتصار أهميّة "الجمهوريّة السوريّة" على الأهميّة الجيوسياسيّة، الخرائطيّة، بل وشبه اقتصارها على اهميّة جيو-أمنيّة، من جانب، والثقل السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ لشعبها، أو ل"أمتّها" إن جاز التعبير، من جانب آخر. وهذا بالمجمل سيترك أثره بطبيعة الحال على مقومّات الهويّة الوطنيّة وصورة الدولة السوريّة في عيون شعبها وعيون العالم. وسينعكس بسرعة بعد الثورة، أو أيّ اهتزازت وقلاقل اجتماعيّة واقتصاديّة داخليّة أو خارجيّة، على طبيعة التعامل السياسيّ –القانونيّ المتاح أو المتبقيّ لنظام الحكم مع الشأن العام منذ البداية، ومن ثم مع الحرب على مبدأ وأسلوب وطبيعة الأعمال الحربيّة، وظهور صاحب أو أصحاب السيادة الفعليّين، أجانب أو محليّين، ومن لهم الأمر في آخر الأمر. فاللانظاميّة المشايعة [بمعنى المحازبة]، والتي بلغت مستويات المافيويّة الصريحة، مؤسسّة تماماً في الأوضاع المتدهورة لحال الدولة والسلطة في سوريا على كلّ الأصعدة، في أجهزة المخابرات والجيش، وفي السوق والمؤسسّة، وفي المجتمعات؛ في الهوامش وغير الهوامش الريفيّة والمدينيّة، فيما صار يعرف بمركّب إفساد ومن ثم ترييف وتطييف الحالة على مستويات عدّة.
الثورة وطبيعة الارتكاس الملقّم عليها؛ تراصف العداوة والبغضاء سوريّاً
روي لي أيّام كنت أمارس عملي كطبيب في مشفى دمشق الجامعيّ بأنّ مجموعة من الأطباء جمعوا أمرهم وراجعوا سكرتير المدير العام في مسألة تتعلق بمناوباتاهم أو شيء من هذا القبيل، وكان ذلك بعيد ثورة تونس، فلّما رآهم وفداً، خاطبهم بجدّ يشبه المزاح الثقيل، تريدون مثل تونس. المدير والسكرتير معروفة مواقعهم وأوزانهم الأخرى من الدولة/النظام ولا مشكلة في ذلك في سياق غير طبيعيّ من الأساس. والكلام كيف ما وردت صيغته فيه حمولة سلطويّة ثقيلة، فيه تخوّف وترقّب وتوتر، وفيه تذكير بتاريخ من الغشم والجبروت، والجريمة. الجميع يعلم، أعمال النظام كما الناس العاديّون كانوا يشعرون بترقب "حدث" ما. شهادة مقتضبة
إلى أنّ ينتبه الناس، الفاعلون منهم والمنفعلون، إلى أنّ خروجاً ما على وضعٍ قائم ما، يمثل انشقاقاً عميقاً، وغير عكوس، في التركيب السِسيوسياسيّ والسِسيواقتصاديّ لذلك الوضع؛ يكون التعامل، أيّ تعامل، مع الأوضاع الجديدة بأدوات الوضع القديم، أو النظام القديم، قد أصبح فكرة فاشلة ومؤذية، وعاملاً إضافياً في تفاقم الأمور. ولكنّ الأمور بكل الأحوال، لا تعود خاضعة لقوانين ثابتة محددّة، والناس لا يتعلمّون بسرعة قوانين الأوضاع المستجدّة، وإن كان في تلقائيّتها وذاتيّتها ما يماثل حالات متقاربة معاصرة أو تاريخيّة، لكن الفويرقات تجعل من تنزيل القوانين العامّة على الحالات المخصوصة المستجدّة دون ملائمة وتكييف؛ تجعل منه الملقّم الراجع الإيجابيّ. ومن هنا، فإنّ التعامل مع كلّ حدث تاريخيّ، مع كلّ حدث، بوصفه حدثاً بكراً وفريداً،انبثاقاً على المجهول، هو مذهب معتبر في مدارس كتابة التاريخ. وربّما، هذه الفجوة أو هذا المجال الزمنيّ، الذي يبلغ بالأمور العتبةَ، هو ما يجعل الطغاة، وكلّ الفاعلين على أيّة حال، لكنّه عذر الطغاة على نحو خاص، في مناعة قويّة ضد "درس التاريخ". لا درس جامعاً مانعاً في التاريخ إلّا هذا الدرس.
إنّ حالة فرط الاستثارة التي كانت تعتري النظام [دولة الأسديّين] بسبب ثورة تونس، جعلته يرتكس بالطريقة التي لا يعرف غيرها. المرويّات الغزيرة عن مجمل الكلام والترميزات والحركات والسكنات والأحداث واليوميّات ما بين اندلاع ثورة تونس إلى ثورة سوريا 18، مارس 2011، تشير بطبيعة الحال إلى نذر ومبشرّات، حسب الموقع، الحدث المرتقب. ولكنّ الأمور لم تكن لتبلغ العتبة حتى أطلق النظام المتهيّج رصاصة عنف أخرى في جسد سياسيّ ميْت، يوم اعتقل أطفال درعا وعذبّهم بكراهية وحقد. وأخطر من العنف اشتعالَه في جسد منزوع السياسة.
»إنّ حالة منزوعة السياسة لا تعني تقليل أو إلغاء إمكانيّة العنف، وإنّما على العكس تماماً، تنذر بانتشار واحتداد العنف« [Archambault عن Rae 2015, 2 عن شمت].
لكنّ Rae يشير على ما يبدو لحالة حميدة من نزع السياسة، بمعنى هو يتعامل مع فرضيّة تفضّل نزع التسيّس كوسيلة لتقليل احتماليّة الصدام العنيف، ويحاول أن يثبت وآخرون، بأنّ السياسيّ هو في حدّ ذاته جُنّة من العنف اللابد في الاختلاف والتعدد الأنطولوجي للوجود الاجتماعيّ، أو الحالة الطبيعيّة هوبزيّاً [المفترض ما قبل السياسيّ]. في حالتنا، هناك نزعٌ للسياسة والتسيس خبيث، ليس الأمر هنا عمليّة ومعالجة تبشّر بطوبا اللاإختلاف واللاتسيس، وإنّما بقتل للحياة السياسيّة، وللسياسيّ، عبر النكوص المصنّع إلى حالة بدائيّة، بدائيّة لكنّها ليس على "الفطرة"، وإنّما بدائيّة وحشيّة أو متوحشّة مشوّهة. لقد تمّ كبت وقتل وتشويه الاختلاف والتعدد الأساسيّ الثاوي في الاجتماع البشري، وهنا في المجتمع السوريّ، كبتاً أو قتلاً وتشويهاً، لا معالجة أو احتواء في مجال سياسيّ من نوع أو آخر.
وقد تكون هذه الفكرة إشكاليّة، حيث تنعقد المقارنة مع حالات قديمة أو عتيقة، لا ينطبق عليها بحرفيّة توصيف الحياة السياسيّة أو المجال السياسيّ، أو العمل السياسيّ كما يسمى فى السنن الماركسيّة؛ مما قد يقال فيها بأنّ العنف كان أقل احتمالاً وأقل شدّة نطاقاً. الأمر، إلى حدود معينّة يمكن القبول به، لكنّه بالكليّة يقع على مغالطة صريحة، في طبيعة وسنن تصريف الاختلاف والتعدد، بين الدولة والمجتمع، وطبيعة الاختلاف بين المجتمع المدنيّ والأهليّ، بين الأحقاب والأشكال المختلفة للأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة. ففي دولة حديثة سياديّة وسلطويّة مطلقة يكون مثل هذه الإماتة للسياسيّ، على حساب التعامل المباشر بين أجهزة العنف والإكراه، مع مكونات قبْليّة، مثل العوائل والعشائر والطوائف، الطريق لتحول هذه المكونّات ذاتها إلى كيانات سياسيّة متذررة. لكنّ الإضافي هنا، وهنا يكمن الفرق، في سياق دول مركزية وسلطويّة ومتغولة، متمكنة تقنيّاً وبشريًّا من التغول؛ هو إلغاء دور المحلّة والمحليّ والأهليّ المكتفي بذاته، في ممارسة السياسيّ، والقضائيّ، أي السياسيّ القانونيّ، ممارسةً فيها جُنّة من التفشي اللامعقول للعنف. هذه الحدثيّة أو العمليّة كانت مزمنة في التطور التاريخيّ السياسيّ والمجتمعيّ في سوريا. والمعنى، الموات السياسيّ، عبر نزع وتخريب دور المحلّة والمحليّ، والأهليّ المدينيّ، وبالمقابل، عدم تطوير القانونيّ –السياسيّ المركزيّ، ومواصلة تطويره بحيث يتم تخليق مجالات جديدة للسياسيّ.
»إنّ حالة منزوعة السياسة لا تعني تقليل أو إلغاء إمكانيّة العنف، وإنّما على العكس تماماً، تنذر بانتشار واحتداد العنف« [Archambault عن Rae 2015, 2 عن شمت].
لكنّ Rae يشير على ما يبدو لحالة حميدة من نزع السياسة، بمعنى هو يتعامل مع فرضيّة تفضّل نزع التسيّس كوسيلة لتقليل احتماليّة الصدام العنيف، ويحاول أن يثبت وآخرون، بأنّ السياسيّ هو في حدّ ذاته جُنّة من العنف اللابد في الاختلاف والتعدد الأنطولوجي للوجود الاجتماعيّ، أو الحالة الطبيعيّة هوبزيّاً [المفترض ما قبل السياسيّ]. في حالتنا، هناك نزعٌ للسياسة والتسيس خبيث، ليس الأمر هنا عمليّة ومعالجة تبشّر بطوبا اللاإختلاف واللاتسيس، وإنّما بقتل للحياة السياسيّة، وللسياسيّ، عبر النكوص المصنّع إلى حالة بدائيّة، بدائيّة لكنّها ليس على "الفطرة"، وإنّما بدائيّة وحشيّة أو متوحشّة مشوّهة. لقد تمّ كبت وقتل وتشويه الاختلاف والتعدد الأساسيّ الثاوي في الاجتماع البشري، وهنا في المجتمع السوريّ، كبتاً أو قتلاً وتشويهاً، لا معالجة أو احتواء في مجال سياسيّ من نوع أو آخر.
وقد تكون هذه الفكرة إشكاليّة، حيث تنعقد المقارنة مع حالات قديمة أو عتيقة، لا ينطبق عليها بحرفيّة توصيف الحياة السياسيّة أو المجال السياسيّ، أو العمل السياسيّ كما يسمى فى السنن الماركسيّة؛ مما قد يقال فيها بأنّ العنف كان أقل احتمالاً وأقل شدّة نطاقاً. الأمر، إلى حدود معينّة يمكن القبول به، لكنّه بالكليّة يقع على مغالطة صريحة، في طبيعة وسنن تصريف الاختلاف والتعدد، بين الدولة والمجتمع، وطبيعة الاختلاف بين المجتمع المدنيّ والأهليّ، بين الأحقاب والأشكال المختلفة للأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة. ففي دولة حديثة سياديّة وسلطويّة مطلقة يكون مثل هذه الإماتة للسياسيّ، على حساب التعامل المباشر بين أجهزة العنف والإكراه، مع مكونات قبْليّة، مثل العوائل والعشائر والطوائف، الطريق لتحول هذه المكونّات ذاتها إلى كيانات سياسيّة متذررة. لكنّ الإضافي هنا، وهنا يكمن الفرق، في سياق دول مركزية وسلطويّة ومتغولة، متمكنة تقنيّاً وبشريًّا من التغول؛ هو إلغاء دور المحلّة والمحليّ والأهليّ المكتفي بذاته، في ممارسة السياسيّ، والقضائيّ، أي السياسيّ القانونيّ، ممارسةً فيها جُنّة من التفشي اللامعقول للعنف. هذه الحدثيّة أو العمليّة كانت مزمنة في التطور التاريخيّ السياسيّ والمجتمعيّ في سوريا. والمعنى، الموات السياسيّ، عبر نزع وتخريب دور المحلّة والمحليّ، والأهليّ المدينيّ، وبالمقابل، عدم تطوير القانونيّ –السياسيّ المركزيّ، ومواصلة تطويره بحيث يتم تخليق مجالات جديدة للسياسيّ.
إنّ الذي يحدث في مثل هذه الحالة هو انفلات العنف بسبب موت السياسيّ، أو بسبب خراب السياسيّ، لأنّ السياسيّ لا يموت في المعنى الكليّ. والعداوة، والخصومة، السياسيّة تستحيل إلى بغضاء وحقد منتشرين ذوي طبائع سيكولوجيّة تحمل بحمولات سياسيّة، تستشري بين البنى القبْليّة للمجموعات البشريّة. على أيّ حال، يمكن سوق أمثلة غزيرة على ذلك من السنوات السبع الماضية في سوريا، ويمكن في الوقت ذاته توصيف ديناميّات معقدّة في الحالات المختلفة، لكن الظاهر والعيانيّ، أنّه ومنذ اليوم الأوّل، عومل الأمر، بمنطق "الخروج على القانون" في "دولة معافاة"، وهذا المنطق كان واعياً بعاهته وعيبه. و"الخروج على القانون" يعني التعامل مع "مجرمين" وإرهابيّين" و"لصوص" وعصابات أجنبيّة" و"خونة مسلحيّن" و"قطاع طرق" وغير ذلك من مفردات جادت بها بروباغندا النظام. وهذا يعني، منذ اليوم الأوّل تم نفي وإنكار السياسيّ، وبالتالي تمّ شرعنة المذبحة الكاملة ضدّ "عدوّ غير سياسيّ"، ضد "مجرمين"، وإنْ كانوا ألوفاً أو ألوف الألوف، قرى ومدناً ومناطق. هذا المنطق، يؤسّس، بحسب شمت، للعداوة الحقّة أو العداوة الصرفة، وهي خلافاً العداوة الاعتياديّة السياسيّة والتي ترتبط بالحرب الاعتياديّة المحدودة بين أطراف متكافئة في كرامتها وأهليتها السياسيّة؛ يؤسّس لحرب يكون هدفها استئصال التهديد السياسيّ للطرف المقابل كليًّأ، القضاء التام على هذا العدوّ السياسيّ الوجوديّ. لم يتعامل نظام الحكم، الذي يشغل الدولة العامّة كسلطة أمر واقع فقدّت شرعيّتها، مع الأمر كأمر سياسيّ يحتاج لإصلاحات دستوريّة ذات طبيعة انتقاليّة، وكان هذا من نافلة القول. تعامل معه ودون مقدمات أو تبريرات كجريمة يرتكبها سوريون كثيرون، ملايين، وإذاً طالت "ملاحقة المجرمين" الملايين، بهدف إلغاء التهديد السياسيّ الوجوديّ منهم عليه.
وهذا المعنى المؤسس للاستباحة ورد حرفيّاً في كلمة لرأس النظام بشار الأسد أمام عدد من رجال الدين في لقاء متلفز: » إذا انطلقنا من حقيقة واحدة بأننا أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين، أنا لا أتحدث عن إرهابيين أتوا من الخارج، فعندما نتحدث عن عشرات آلاف الإرهابيين فهذا يعني أنه خلف هؤلاء حاضنة اجتماعية. هناك عائلة، هناك قريب وجار وصديق وأشخاص آخرون. يعني نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين، ولو كان مليوناً نقول ملايين. قد لا يبدو الرقم كبيراً، ولكن عندما نتحدث على المستوى الوطني عن مليون أو أكثر، أو حتى مئات الآلاف، في مجتمع عدد سكانه 23 مليون، فهذا يعني أننا أمام حالة فشل أخلاقي واجتماعي«.
لا تستلزم العداوة السياسيّة البغضاءَ والكراهيّة والحقد، وإنْ كانت قد تصاب بها، فالعدوّ السياسيّ بحسب شمت هو عدوّ عام يتم التقرير بحس الظرف بأنّه عدوّ، ويعامل كذلك، وهذا المعاملة لا تقتضي إذاً اسقاط الكرامة والاعتباريّة والاحترام له. ويعرّف شمت بشكل أساسيّ مثل هذه العداوة بأنّها عدواة ما بين الدول السياديّة، تحت القانون الدوليّ والإقليميّ، لكنّ المتابعات عليه وملاحظته هو، تضيف إلى هذه المفاهيم العامّة الحالات الخاصة والمتفرعة عنها. يبدو في هذا السياق أنّ نظام الحكم في سوريا، يغالط التاريخ بوقاحه وبوجه المجرم السافر، حين يقرر وضع الانتفاضة الشعبيّة في سوريا، بوصفها خروجاً عن أو على القانون لا يستحق سوى العقوبة، فيرفض مجرماً ومتجبرّاً الاعتراف بالجوهر السياسيّ للمشكلة التي صنعها بيديه، وإذ مضت الأمور، وإذ يتبيّن له، ولآخرين، بعد قليل بأنّ الانشقاق عميق وغير عكوس، يتحول إلى حالة لا يحاول فيها حتى ممارسة دور الدولة التي تفرض "القانون" على "المجرمين"، بعد أن تجاوزنا السياسيّ تماماً كما قدّمنا أعلاه؛ إلى حالة من الأعمال الانتقاميّة والإجراميّة الصرفة، طافحة وصارخة، في المرويات الغزيرة وفي الوثائقيّات وفي النقل المتلفز المباشر -الأمر الذي يحوّل "الحدث" إلى تأويل مباشر متاح للجميع-؛ قتلٍ وتنكيلٍ في الشوارع والبيوت والحواجز والأحياء الطرفيّة. ويعمل، كي لا يوظّف الجيش بشكل أسرع من الممكن، منذ وقت مبكر على إطلاق العنان للتكوينات واللجان الشعبيّة والحزبيّة، والمليشيات الطائفيّة، من الشبيحة، وفي الحالات الجهويّة يُعمِل يده الفاسدة في البنى الأهليّة ليزيد في تخريبها. هذه الاستقالة التامّة، ليس من وظيفة وهيئة "الدولة"، بل حتى من الادعاء والصورة، جعلت من العداوة بغضاء وكراهية منتشرة، فحتى "الأجهزة الرسميّة" لم تعد تحاول ضبط انفعالاتها وبدائيّتها وهمجيّتها، رسمنتها وقوننتها لتخليصها من جوهرها البدائيّ القارّ، وصار القادة الميدانيّون لنظام الأسد يدلون بتعليقات كراهية وانتقام، كما بتحليلات وقراءات حول العموميّ، ركيكة وسوقيّة وفاضحة عمل النظام بجهد مضاغف لعقود على تركها حبيسة أقبية صيدنايا وتدمر وفرع فلسطين، وفي أحاديث بعض السوريّين الليليّة.
كان تدّخل الجيش الواسع، مسألة وقت، وبالمحصلة جاء مبكراً هو الآخر، والحقيقة، إنّ محاولة إضافة تعليق آخر عليه سيعطي انطباعاً خاطئاً بأنّ الجيش شيءٌ مختلف عما سبق توصيفه، والأمر،إنّه "قوّة غير نظاميّة" مدربّة ومسلّحة ومهيكلة، »[ترييف] الجيش واختراق العلاقات الطائفيّة والجهويّة وغيرها هياكله وصفوفه من باب تجنيد الولاءات والصراعات في الجيش« [بشارة: الجيش والسياسة: الفصل الثاني]. أي أنّه ظهر لنا أنّه يفتقر للوضعيّة السياسيّة والقانونيّة والمؤسسيّة للجيوش الرسميّة الحديثة. ومهما حاولنا من إضاعة الوقت لتلطيف هذه الحكم، فإنّنا سنتوصّل إلى فويرقات يجعل منها ما آل إليه الأمر في السنتين الاخيرتين مجرّد فويرقات مبهمة.
وهذا المعنى المؤسس للاستباحة ورد حرفيّاً في كلمة لرأس النظام بشار الأسد أمام عدد من رجال الدين في لقاء متلفز: » إذا انطلقنا من حقيقة واحدة بأننا أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين، أنا لا أتحدث عن إرهابيين أتوا من الخارج، فعندما نتحدث عن عشرات آلاف الإرهابيين فهذا يعني أنه خلف هؤلاء حاضنة اجتماعية. هناك عائلة، هناك قريب وجار وصديق وأشخاص آخرون. يعني نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين، ولو كان مليوناً نقول ملايين. قد لا يبدو الرقم كبيراً، ولكن عندما نتحدث على المستوى الوطني عن مليون أو أكثر، أو حتى مئات الآلاف، في مجتمع عدد سكانه 23 مليون، فهذا يعني أننا أمام حالة فشل أخلاقي واجتماعي«.
لا تستلزم العداوة السياسيّة البغضاءَ والكراهيّة والحقد، وإنْ كانت قد تصاب بها، فالعدوّ السياسيّ بحسب شمت هو عدوّ عام يتم التقرير بحس الظرف بأنّه عدوّ، ويعامل كذلك، وهذا المعاملة لا تقتضي إذاً اسقاط الكرامة والاعتباريّة والاحترام له. ويعرّف شمت بشكل أساسيّ مثل هذه العداوة بأنّها عدواة ما بين الدول السياديّة، تحت القانون الدوليّ والإقليميّ، لكنّ المتابعات عليه وملاحظته هو، تضيف إلى هذه المفاهيم العامّة الحالات الخاصة والمتفرعة عنها. يبدو في هذا السياق أنّ نظام الحكم في سوريا، يغالط التاريخ بوقاحه وبوجه المجرم السافر، حين يقرر وضع الانتفاضة الشعبيّة في سوريا، بوصفها خروجاً عن أو على القانون لا يستحق سوى العقوبة، فيرفض مجرماً ومتجبرّاً الاعتراف بالجوهر السياسيّ للمشكلة التي صنعها بيديه، وإذ مضت الأمور، وإذ يتبيّن له، ولآخرين، بعد قليل بأنّ الانشقاق عميق وغير عكوس، يتحول إلى حالة لا يحاول فيها حتى ممارسة دور الدولة التي تفرض "القانون" على "المجرمين"، بعد أن تجاوزنا السياسيّ تماماً كما قدّمنا أعلاه؛ إلى حالة من الأعمال الانتقاميّة والإجراميّة الصرفة، طافحة وصارخة، في المرويات الغزيرة وفي الوثائقيّات وفي النقل المتلفز المباشر -الأمر الذي يحوّل "الحدث" إلى تأويل مباشر متاح للجميع-؛ قتلٍ وتنكيلٍ في الشوارع والبيوت والحواجز والأحياء الطرفيّة. ويعمل، كي لا يوظّف الجيش بشكل أسرع من الممكن، منذ وقت مبكر على إطلاق العنان للتكوينات واللجان الشعبيّة والحزبيّة، والمليشيات الطائفيّة، من الشبيحة، وفي الحالات الجهويّة يُعمِل يده الفاسدة في البنى الأهليّة ليزيد في تخريبها. هذه الاستقالة التامّة، ليس من وظيفة وهيئة "الدولة"، بل حتى من الادعاء والصورة، جعلت من العداوة بغضاء وكراهية منتشرة، فحتى "الأجهزة الرسميّة" لم تعد تحاول ضبط انفعالاتها وبدائيّتها وهمجيّتها، رسمنتها وقوننتها لتخليصها من جوهرها البدائيّ القارّ، وصار القادة الميدانيّون لنظام الأسد يدلون بتعليقات كراهية وانتقام، كما بتحليلات وقراءات حول العموميّ، ركيكة وسوقيّة وفاضحة عمل النظام بجهد مضاغف لعقود على تركها حبيسة أقبية صيدنايا وتدمر وفرع فلسطين، وفي أحاديث بعض السوريّين الليليّة.
كان تدّخل الجيش الواسع، مسألة وقت، وبالمحصلة جاء مبكراً هو الآخر، والحقيقة، إنّ محاولة إضافة تعليق آخر عليه سيعطي انطباعاً خاطئاً بأنّ الجيش شيءٌ مختلف عما سبق توصيفه، والأمر،إنّه "قوّة غير نظاميّة" مدربّة ومسلّحة ومهيكلة، »[ترييف] الجيش واختراق العلاقات الطائفيّة والجهويّة وغيرها هياكله وصفوفه من باب تجنيد الولاءات والصراعات في الجيش« [بشارة: الجيش والسياسة: الفصل الثاني]. أي أنّه ظهر لنا أنّه يفتقر للوضعيّة السياسيّة والقانونيّة والمؤسسيّة للجيوش الرسميّة الحديثة. ومهما حاولنا من إضاعة الوقت لتلطيف هذه الحكم، فإنّنا سنتوصّل إلى فويرقات يجعل منها ما آل إليه الأمر في السنتين الاخيرتين مجرّد فويرقات مبهمة.
على أيّة حال، لم يرغب كثير من السوريّين المنتفضين، وغير المنتفضين بطبيعة الحال، وكثير منهم يؤكدّ ذلك في مرواياته حتى اليوم، إلّا أنْ يكون هذا الصراع والنزاع في المستوى الوطنيّ وفي المستوى السياسيّ، وإلّا أن يتعاملوا مع مؤسسّات رسميّة يمكن الوثوق بها. والحقّ، أنّ ذلك متأثراً بتونس ومصر، قدّم مظاهر من مناجاة الجيش والدولة، للتعقّل، لوضع الأمر في النصاب السياسيّ. لكنّ نظام الحكم الذي يرى في مفردات "القائد" و"الرمز" و"الأب" و"الخالد" و"الأمين" التوصيف الأمثل لشرعيّته الأسطوريّة، وفي الشعب الشعب الساذج والبسيط والخائف والمرعوب والمنزجر، الذي يتلقى الأعطيات والمكرمات والتوجيهات والمنح، ويبايع ويجدد البيعة، يمددها للأبد ويقبل بالابن الخالد وإهانة التوريث؛ هذا النظام يرى أنّه لا داع لفهم وتفهم أيّ شيء. وسيقرر إذاً كما سوّلت له نفسه أنْ يخرج [مدعيّاً] ليس فقط عن القانون، بل عن الإنسيّ، بهذه الطريقة، ليعيد "الخارجين على/عن القانون" إليه بزعمه، ثمّ يعود هو إليه إنّ أراد.
أفول " السلم الأميركيّ" (Pax Americana)
"ليست أميركا مجرد مواطن عالمي. إنَّها السلطة المهيمنة في العالم، وأكثر هيمنة من أي قوة أخرى منذ عهد روما. [..] فإنَّ أميركا في وضع يؤهِّلها لإعادة تشكيل المعايير وتغيير التوقعات وخلق حقائق جديدة، [..]عن طريق إظهار إرادة غير اعتذارية لا سبيل إلى تغييرها" الصحفي المحافظ Charles Krauthammer
ربّما تمثّل الحرب السوريّة بداية الانهيار الحتميّ السريع لـــ"السلم الليبراليّ". يمكن فهم الليبراليّة والديمقراطيّة من زاوية محددة بما هي الحامل السياسيّ لقوننة الهيمنة ألأمريكيّة الأوربيّة التي استفردت بالعالم في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ونهاية السلم السوفيتيّ Pax Sovietica الموازِن. لا يمكن فهم النظام والقانون الدوليّ العام بعيداً عن تنظيم الإمبراطوريّة المنتصرة والمهيمنة للشأن العالميّ. وكما أمكن النظر في السلم الرومانيّ Pax Romanica، وفي الصراعات السياسيّة الأوربيّة في العصر الوسيط، »بوصفه الصراع عند روما، لا الصراع على روما« [ناموس الأرض: شمت].
يمكن النظر بطريقة مماثلة للهيمنة الأميركيّة الأوربيّة في نظام أحاديّ القطبيّة. لكن المتغيّرات، التي تكمن طبائعها ومنذ البداية في ما نسميه بالثوابت ـــــ فالمتغيرات التي تعصف بالهيمنة الأميركيّة المحكمة والمطلقة تكمن ومنذ البداية في طبائع وسنن ومقومّات هذه الهيمنة-؛ هذه المتغيّرات بدأت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ترسّم ملامحها الجديدة. لقد قادت التدخلّية المفرطة للمحافظين الجدد في أفغانستان والعراق، إلى تخريب عميق لمنظومات إقليميّة وتوازناتها، دون تمكنّها هي من "استعمار" العراق وأفغانستان، والاضطلاع المباشر بالأدوار الحيويّة والسياديّة، بما فيه صيانة التوزان الإقليميّ الآخذ بالتداعي. إنّ نعت الغزوّ الأمريكيّ للعراق بالفشل صدر بشكل صريح أو مضمر عن الربط بين دعوى نشر الديمقراطيّة الليبراليّة والنجاح. وهذا، برأيي، يعبر عن تصديق مغفّل وساذج لادعاء الساسة الأميركان بأنّ هدفهم من غزو العراق هو نشر الديمقراطيّة تحديداً، وبالتالي فإنّ عدم انتشار الديمقراطيّة سيسمّى فشلاً مزدوجاً بحسب التوصيف الشائع؛ فشل العراقيين بتقبّل "فضائل الديمقراطيّة"، وفشل إدارة بوش [تحديداً] في التبشير بهذه الفضائل. وفي واقع الأمر، وكما قد أرى، فإنّ الحاجة الملّحة لاستخدام كلمة الفشل، والتي يبدو بأنّه لا بد منها، يجب أنْ تنصرف إلى فشل استعمار العراق، ليس [فقط] لتوفّر المقاومة وعوامله، لكن قبل ذلك لعدم توفر المنظور والمنظومة السياسيّة في السياق الدوليّ الحديث للاستعمار، أو فشل صيانة التوازن الإقليميّ المتوفّر بعد نقض عروته الأخيرة. وهذا يفيدنا في عدم الإقرار "بقانونيّة الحرب الأمريكيّة" على العراق من جانب آخر، وفق العرف والقانون العام المعمول به، والمزعوم صيانته من قبل حكومات البيت الأبيض. وإنّما توصيفه بوصفه الإمبرياليّ الحقيقيّ، والحديث، أي الذي يأخذ الطابع البوليسيّ. الهيمنة الامريكيّة السياسيّة هيمنةٌ بوليسيّةٌ وماليّة على العالم. هذا لا علاقة له بتفضيلات بين الأنماط الإمبراطوريّة المختلفة، وإنّما بتحديد ملامح الاختلافات. وبالتالي توصيف النجاح والفشل، إن كان لا بدّ منه، وفقاً لذلك. وبرأيي فإنّ مثل هذا الفشل يكمن هنا.
ثمّة توسع وتوسعيّة اميركيّة عالميّ وإمبرياليّ، في زمن غير إمبرطوريّ دوله دول أمّة/قوميّة سياديّة؛ توسع نمطه هو النمط الهيمنة المحمول بحريّاً جويًّأ، وعبر اختراقات اقتصاديّة وماليّة ومصرفيّة للأسواق وعولمتها،مرافقاً لنزع عميق وواسع للإقليميّ وللمحليّ، ما يخلخل البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقانونيّة على هذين النطاقين. وإنّ هذه ليس بالجديد تماماً، الذي لا مثال سابق له، حيث يمكن الرجوع به خلفاً إلى تنامي التصنيع والتقنيّة الحربيّة، التصنيع والتقنيّة عموماً، البريطانيّة وانعكاسها المباشر على قانون الحرب والسلام. ما يهمنا هنا، حتى لا نسهب، هو تعداد جملة المتغيرات التي تدلل على هذا الأفول [على الأقلّ في العالم العربيّ]. والتي انعكست على المشرق العربيّ، عبر تبدد "السلم الأمريكيّ" فيه، أي التوازنات التي تصان من هذه القوّة بشكل فاعل. الفشل في العراق، ولكن وفق المعنى الثاني، هو، برأيي، فشل له طابع توفرّه البنى والمفاهيم السياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة السائدة في الأمر الدوليّ. تصاعد دور إيرانيّ إمبرياليّ مرافق، محمول مذهبيّاً. انهيار الدور السوريّ في لبنان، السلم السوريّ، وهو انهيار شغلته الهيمنة الإيرانيّة بسرعة. الأزمة الماليّة عام 2008 وانعكاساتها، واستراتيجيّات نقص الاعتماد على النفط الخليجيّ أميركيّاً. وانتخاب أوباما الذي جاء بأجندة سياسيّة ارتكاسيّة على التدخليّة الحربيّة لسلفه. تصاعد الطموح والدور التركيّ وظهوره كعلامة لاحقة للتوتر والانشقاق الطائفيّ في المشرق العربيّ. وتغيّر طبيعة الدور السعوديّ. تنامي القوّة الصينيّة عالميّاً، وعدم وجود استراتيجيّة فاعلة للتعامل معها أمريكيًّأ. وعود الدور الروسيّ. لا يمكن دوماً إقامة روابط سببيّة مباشرة بين هذه المتغيّرات والمستجدّات، أو السيرورات لا فرق، ولكنّ ترافقها الزمنيّ والمكانيّ، الذي سبق ورافق ثورة عام 2011، واندلاع الحرب السوريّة، هو ما سيحدد بعض الملامح العامة والواضحة لهذه الحرب. [راجع the Battel for Syria: 2016]
وما يهمنا هنا، الدور الإيرانيّ والدور الروسيّ، واستمراريّة أفول "السلم الأميركيّ" بين أوباما وترامب بمنطقين مختلفين. إنّ الانسحابيّة الأوباميّة المدّعاة، كما أرى، مع ثورات 2011، التي استقبلت على نطاق واسع في بداياتها كثورة تحرريّة ديمقراطيّة، واستقبلت من قبل روسيا وإيران تحديداً بوصفها [فقط] "أدوات للهيمنة الغربيّة الأميركيّة"؛ مثلّت بعد فشل المحافظين الجدد في العراق، والذي فُهم واستقبل هو الآخر مغالطة أو غلطاً، بوصفه فشل الدمقرطة في ذاتها؛ مثلّت أقول التبدد الواهي لملامح الحامل العالميّ للهيمنة الأمريكيّة. لكنّ هذه الانسحابيّة جاءت منقوصة وخبيثة في نواياها أو نتائجها. على المستوى العراقيّ، فما فعلته هذه السياسة هو استقالة المحتلّ الأمريكيّ من الاضطلاع بدوره في حفظ التوازن وحماية المتبقي من السلم الأهليّ، وتوفير خدمات الصحّة والتعليم والمشاريع التحتيّة بشكل ملموس وفعّال. يتعلّق ذلك أساساً بطبيعة الحرب الجويّة والفضائيّة والبحريّة التي شنّها الأمريكان 2003 على العراق والتي اسقطت نظام الرئيس صدّام حسين في ظرف 3 أسابيع. إنّها حرب تدّمر الأرض ولا تتفاهم معها، وتدمر مقومات السياسيّ والاجتماعيّ. الحرب الجويّة حربٌ مستقيلة ومستغنيّة بشكل جوهريّ عن الأرض، فلا يمكن بحسب شمت تصوّر أنّها تطبق أو تؤسس القانون والنظام. أعقب ذلك، دخول العراق في دوامة حرب أهليّة عرقيّة وطائفيّة، وانهيار شبه تام في المرافق، وتكامل الهيمنة الإيرانيّة المنقولة طائفياً، وغير المعنيّة هي الأخرى باستصلاح واستعمار أرض العراق ولا بأي معنى. ما فعله أوباما، مع رغبته الشبقة المرافقة بإتمام الصفقة النوويّة مع إيران بأيّ ثمن، هو انسحاب تخريبيّ من العراق، وفق هذه المفهوم. وليس ذلك من نمط انتصار "المقاومة العراقيّة"، كما يحلو للبعض تقديم الأمر، والمعنيّ هنا [عند هذا البعض] في هذا الانتصار، وهذه المقاومة، هو "مقاومة طائفيّة – إيرانيّة" مدّعاة، ليست في واقع الأمر سوى حكومة احتلال طائفيّة وفاسدة وتابعة لطهران.
في سوريا، ترجمت الانسحابيّة الأوباميّة في النهايّة بالاتفاق السافل والرخيص المرعيّ اسرائيلياً، بين روسيا وأميركا، والمتعلّق بتسليم بشّار للسلاح الكيمياويّ، مقابل [ضمناً] إطلاق يده، التي لم تغلّ أساساً، وهذا، مترافقاً، مع الحصار أو الضبط الأمريكيّ لحلفاء [طرف واحد]، وهم الحلفاء الطبيعيّين في سياقهم الإقليميّ والتاريخيّ للقوى المناهضة للأسد وإيران في سوريا، وهي قوى محليّة تخلّقت في خضّم انتفاضة شعبيّة واسعة؛ هذا فُهم من الأسديّين والإيرانيّين بوصفه إطلاق يد. استمرّ بعدها توظيف الكيمياويّ كلّما دعت الحاجة له، وأمّا "الفيزيائيّ" فبلغ كلّ مبلغ، واستمر ضخّ المليشيات غير النظاميّة و"جيوش الخبراء" الإيرانيّة، واعتياديّة تدخليّة حزب الله. هذه الانسحابيّة الشِّقيّة الخبيثة، إذاً، مثلّت عامل القلقلة الأخطر للنظام الإقليميّ. وعلى المستوى العالميّ فُهمت بتخليّ الولايات المتحدّة الامريكيّة عن الادعاء أو الحامل الإيديولجيّ، حتى بشكل الدعائيّ الطابع، لحامل الهيمنة، أو لقوننة هيمنتها، وتصرفها السابق كوصي وكبوليس حيال القانون الدوليّ العام. وإنّ طريقة ترامب، المعبّر عنها في شعار أميركا أولاً، وفي حمائيّة اقتصاديّة، وفي شعبويّة أصلانيّة يمينيّة معادية للأجانب [وللمسلمين تحديداً]، وفي عقليّة ربحيّة دكاكينيّة فيما يتعلّق بالأمن القوميّ والسياسات الأميركيّة الكونيّة؛ لم تصبّ في النتيجة إلاً في تعزيز هذا التبدد في حوامل الهيمنة الأميركيّة، وانحسار غشاء "السلم الليبراليّ"؛ والمعنيّ نشر "القيم الاميركيّة أو الدفاع عنها"، وتصوير الحكومة الأمريكيّة لنفسها كما لو أنّها مكرسّة لحماية القانون الدوليّ. هذه الاستمراريّة بين الليبراليّ الغرّ أوباما، والشعبويّ الأرعن ترامب - نمطين نموذجيّين من تردي المهنة السياسيّة مؤخرًّأ-؛ عززت بدورها بشكل متبادل، من تنامي القوى التي تتمدد إلى المواقع الشاغرة أو شبه الشاغرة. روسيا بين أوباما وترامب مثال جيّد، فبوتين تمكن في الحالتين من تقديم نفسه للروس وللعالم بوصفه القيصر العائد.
إنّ الطموح الإيرانيّ الإمبراطوريّ لم يعد يحتاج لدليل في ذاته، إلّا إذا كنّا نصدّق حوامله الدعائيّة، والمعنيّ دعاية مقاومة المشروعات الصهيونيّة والأمبرياليّة [الأخرى]. تخوض إيران بشكل رسميّ غير رسميّ حروبها الخاصّة دفاعاً عن مصالحها الحيويّة وتعبيراً عن إيديولجيّتها السياسيّة وبما يتفقّ مع رؤيتها للعالم. ولا تبدو إيران، والتي أشير لجوانب ادوارها في سوريا في سياقات مختلفة من هذا المقال؛ لا تبدو، حتى تاريخه، مُحاربَةً ومُقاومَة بشكل قويّ وفاعل من أعدائها المختلفين، رغم الفرق الهائل في موازين القوى، ورغم إظهار الحرب السوريّة لمدى قصور الأدوات والقوى الإيرانيّة، حيث تمّ انقاذها روسيًّا سبتمبر 2015 دون اعتراض أو عرقلة غربيّة تذكر، من بعد ما تبيّن انكسارها وحليفها في حروب الجبهتين الشماليّة والجنوبيّة أمام فصائل مسلّحة غير نظاميّة وغير متجانسة وغير متناغمة ضعيفة العدّة والعتاد والظهير. ولقد تمّ لها من قبل ذلك، ومن بعده، العراق حيث استدمجت امتداداتها العقائديّة والمليشياويّة والسياسيّة، العضويّة والوظيفيّة، على نحو فعّال في الحكومات العراقيّة تحت الاحتلال الأميركيّ، وفي "الحرب على الإرهاب"، بوصف هذه "الحرب على الإرهاب" المقولة السياسيّة المبررة والحاملة لمناورات وحروب الهيمنة والتدّخل منذ 11/9.
ولم يستدع احتلال الحوثيّة لصنعاء ارتكاساً دوليّاً، يقارب في شكله وهدفه ارتكاس العدوّ لعدوّه الأخطر. صحيح أنّ تحالف حكومة المملكة السعوديّة ما كان له أنْ يتمّ إلّا بموافقة أميركيّة، لكنّ مثل هذا التحالف تشكلّ في ظرف إقليميّ اضطراريّ، فُهم بوصفه تهديداً مباشراً على هذه المملكة. أيّ أن هذه الموافقة وهذا الدعم، الذي لا يسلم من انتقادات ومحاذير وحدود، لم تكن في سياق سياسة عامّة فاعلة أو استراتيجيّة مطبقّة لواشنطن ضدّ مواقع وأدوات النفوذ والهيمنة الإيرانيّة، بمقدار ما كان ارتكاساً في موضعه.
أيفان الرهيب Ivan the Formidable، توفي 1584، الذي أصبح عاهل مملكة موسكوفيا وهو بعد في الثالثة من عمره،ومن بعدها نصّب نفسه قيصراً لروسيا وهو أوّل من تسمّى بالقيصر. واتبّع سياسة إمبراطوريّة توسعيّة حربيّة دمويّة فضمّ سيبريا وتترستان، وكان يرمي للسيطرة على حوضي قزوين والبلطيق، والتمدد نحو مملكة السويد وإقامة علاقات نديّة مع أوربا. طوّر البيروقراطيّة الروسيّة، وجعل من روسيا امبرطوريّة متراميّة الأطراف، ومن موسكو العاصمة. وكانت وسيلته المفضّلة للتعذيب قطع وتهشيم الأقدام وترك ضحاياه، لا سيما من الارستقراطيّين، يزحفون ويطلبون حتى الموت الرحمة. ترهبن في آخر أيّامه قبل موته. بوتين،
» ليس قومويّاً عصبويّاً. مقاربته تكمن في التقاليد الإمبراطوريّة متعددّة الإثنيّات لروسيا القيصريّة والسوفيتيّة، قال بوتين في لقاء متلفز 2015 "القوميّة -هذه ظاهرة مضرّة ومخربّة لسلامة الدولة الروسيّة"، فهو يعتبر بأن الأمّة الروسيّة ومنذ البداية هي أمّة متعددة القوميّات« [ Von Uwe: Rückkehr des Imperiums Putin: Der Spiegel Geschichte: Nr.6/2016].
لقد عبّر بوتين في مقال له في المجلّة الأسبوعيّة Sawtra عن طروحات نقديّة حيال السوفيتيّة،وعن مديح وحنين لروسيا القيصريّة. ويتابع Von Uwe في مقاله الموسّع توصيف معالم "قيصرة روسيا" الجارية، فيتكلّم عن "بونابرتيّة" البوتينيّة، التي تمثلّت في صعود شخص بوتين، رجل المخابرات القويّ، وكيف صفّى الأولغارشيا الحاكمة بالنفي، وكيف يعمل على إعادة بناء أو تقوية أو بعث البيروقراطيّة الصلبة للدولة القيصريّة، أو التي تمتد جذورها وتقاليدها في الدولة القيصريّة. هذا المركّب من الجنون والدم والندم والرهبنة والدمويّة والمرض هو الأقرب ربّما للبوتينيّة وهي تزهو بنفسها على معالم الأنقاض. لا يمكن أن نفهم الجيوبولتيك الروسيّ من دون إعادة الاعتبار ل"مملكة موسكو"، وعاهلها إلى الأبد، التي صارت مدينةً دولةً رأسماليّة، من دون أيّة إدعاءات عالميّة، مع نزعة إمبرياليّة غير توسعيّة وغير استعماريّة بالمعنى التقليديّ.
» لم تتبن روسيا أيديولوجية عالميّة بديلة للشيوعيّة، ولم تسد فيها ديمقراطية لبرالية. وهي في مسعاها لاستعادة دور الدولة العظمى تبنت فكرة الدولة والسيادة والمجال الحيوي بذاتها، وكأنّها أيديولوجية، لقد أصبحت مصالح الدولة في مجالها الحيوي فوق كلّ شيء« [بشارة: مجلة سياسات عربيّة: العدد 17: ص5]. إنّ إيدولوجيا بوتين هي السلطة والسيادة. والسيادة صارت حامل مشروعه الإمبرياليّ على ما يبدو، حيث صارت هذه اللفظة التعويذة الشيطانيّة التي تبرر كلّ من موسكو [وطهران] بها تدّخلهما الحربيّ العدوانيّ في سوريا والتي يرددّها الساسة الروس والفرس على مسامعهم [هم] في كلّ مناسبة: "حكومة الجمهوريّة العربيّة السوريّة طلبت إليهما، أو التمست عندهما، العون والدعم، وتفعيل الاتفاقيّات المشتركة".
برأي موسكو، وإيران، فإنّهما قوّات في حلف عسكريّ كلاسيكيّ ووجودهما شرعيّ، وأمّا القوّات الأخرى فهي "قوات أجنبيّة" غير شرعيّة، "تنتهك السيادة"، لم توافق عليها حكومة بشار الأسد. وبعيداً عن مدى تهافت هذا الادعاء، وعدم ثباتيّة ووضوح مفهوم أو مبدأ السيادة في الميزان الجيوبوليتكيّ العام، سواء لناحية التدخل لتوازن القوى أو لعدم التدّخل صيانة لمبدأ السيادة، فالسيادة أساساً مفهوم سياسيّ، نشأ في ظروف حقبة معينّة، ثم تمّ قوننته من قبل فقهاء القانون الدوليّ. فهو، رغم ذلك يخضع دوماً لموازين وأحجام وقدرات الدول، ومدى استطاعتها على التأثير في مجالها الحيويّ، وفي فرض وجودها في الميزان الدوليّ. فالدولة لا تعود سيدّة، ولا حتّى مستقلّة، حين تسيطر على كلّ مفاصل القرار ومرافق البلد قوّات دول أجنبيّة أكبر منها حجماً بعشرات أو بمئات المرّات. بعيداً عن ذلك أقول، فإنّ التدّخل البوتينيّ بدأ الشكل الرسميّ الحربيّ المعلن والمكثّف سبتمبر 2015، بعد ظهور علامات إنهاك "جيش الأسد" تمثلت في مشاهد الهروب الكيفيّة والمخزية المصورّة لجنوده على الجبهات الأماميّة في إدلب ودرعا وشماليّ حماة واللاذقيّة، وذلك رغم الإمداد الإيراني بالرجال والأموال والأسلحة، والحماسة الطائفيّة. هدف روسيا الجيو-استراتيجي ببساطة احتلال سوريا، ولكن ليس بالمفهوم الاستعماريّ التقليديّ، أو بمعنى توسع إقليميّ أرضيّ، وإنّما بالمعنى الجيو-سياسيّ، أي فرض وقائع جديدة في الجيوبوليتيك الدوليّ تلعب من خلالها روسيا دوراً تاريخيّاً كدولة عظمى. فكما يلاحظ Von Uwe كان هذا هو المنطق حتى في أقاليم متاخمة مثل جورجيا أو أوكرانيا، ما يميّزه عن السوفييت في هنغاريا 1956 وافغانستان 1979.
وهذا [الفرض] يتمّ عبر تدّخل محدود للجيس الروسيّ، مع استراتيجيّات حرب هجينة مخصخصة ولا نظاميّة، ودعم لانظاميّين مشايعين على الأرض، لفرض دول وكيانات أمر واقع، عبر تدخليّة ترسم ملامح إمبرياليّة حاملها السياسيّ "ألسيادة". هذه الماكروسياسة أو الاستراتيجيّة انتهزت أساساً الانسحابيّة الشِّقيّة الخبيثة الإراديّة والاضطراريّة للأمريكان لاستعادة موقع على الساحة الدوليّة، أي هي جاءت في حالات فراغ في الجيوبولتيك؛ فراغٌ ليس إراديّاً بالضرورة. ومثل [هذه السياسة] متداخلة مع طبيعة النظام والقانون الدوليّ تشكل بدورها بيئة جيدّة لحروب اللانظاميّين الأجانب والمحليّين، الحروب الهجينة والمخصخصة. في سوريا، اتبعت إذاً موسكو طريقة الحرب الهجينة، معتمدة بريّاً على المليشيات اللانظاميّة، والتي زادت طهران من جوقلتهم إلى جنوبيّ حلب تلك الأيّام، حيث بدا أنّ حلب صارت في متناول يد الثوار. ومن جهة الطريقة الإيرانيّة كما في العراق، فإنّ قطع الطريق على الهيمنة الكاملة لموسكو يكون بإغراق الأرض بــــ اللانظاميّين العقائديّين، أجانب ومحليّين، محليّين جاهزين أو مصنّعين.
فموسكو لن تعمل، كما لم تعمل واشنطن في العراق من قبل في الوقت المتأخر من الحرب، على الزج بقوّات بريّة نظاميّة كبيرة لمدّة طويلة، وستعمد بالنتيجة - وستضطر للتنسيق مع هذه المليشيات- على الضربات الجويّة التكتيكيّة والاستراتيجيّة. ولم تكن سياسة موسكو الحربيّة إلّا تلك، والتي دعمت بقوات بريّة قليلة، للقيادة والتحكم في قواعد عسكريّة في حماة واللاذقيّة وطرطوس. ويبدو بأنّ السياسة الحربيّة الروسيّة نجحت. لكن، هذا حدث فقط لأنّ أحداً لم يعمل على عرقلة موسكو، حيث ظهر بأنّ الدول الإقليميّة مكبلّة من واشنطن فيما يتعلّق بسياستها في سوريا مع التدّخل الروسيّ. وموسكو التي زارها نتنياهو قبل انطلاق عمليّاتها الكبيرة قد قدّمت الضمان لعرّاب السياسة الأمريكيّة في المنطقة. وسوريا، برأيي، كانت ولا زالت كما بيّنت أعلاه مجرّد قطعة جيو-أمنيّة بالنسة للقوى الغربيّة وغيرها. في المحصلّة يبدو أنّ النحو الذي اتخذته الأمور هو تطور حالة من السلم الروسيّ المقبول به والمعترف به دوليّاً، بشكل أو بآخر.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (1050 تنزيلات)
طارق العلي
باحث وطبيب سوري.
مواد أخرى لـ طارق العلي
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.