بين الرقة واسطنبول.. حيث يرفع الغريب علامة النصر كشائعة صفراء

10 تشرين1/أكتوير 2016
 
في الرقة؛ حربٌ، وغلاء، وبطالة، وأمانٌ مفتعل، وقصفٌ للطيران الروسي، وطيران النظام، وطيران التحالف الدولي.

إذا رفع أحدهم نظره إلى السماء في الشارع، رفع جميع من في الشارع رؤوسهم بالرعب نفسه، حتى لو لم يسمعوا صوت طائرة، كلٌّ منهم يعطي إشارة دومينو لمن يليه كي يبدأ عزف أوركسترا الخوف.

الرقة الأنثى يلتزم فيها الأطفال، والكبار، بيوتهم طوال اليوم، في النهار والليل؛ لا مدرسة، ولا شغل، ولا حديقة.

إذا خرج أحدهم إلى السوق ينبغي أن يتجنب أوقات النهار، فاحتمال الغارات في الليل أقل حسب خبرة السنوات. وإذا أراد الأولاد اللعب في الشارع، أو في حديقة، ومنعه أهله، لا يقتنع سوى بالترهيب: "ها..والطيارة". يكتمُ الرعبُ رغبة الولد، ويقتنع باللعب في البيت.

في الشارع، لم يعد صوت الموسيقى من لزوم ضجيج المدينة. حتى في السيارة لا يغامر أحدٌ بسماع الموسيقى. وفي البيت، يَحذر الناس أن يسمع أحد عناصر الحسبة المنتشرين في الشوارع ذلك فيتعرض للمساءلة، أو العقاب.

المرأة صيدٌ سهلٌ لعناصر الحسبة، تقول صديقة: "طول مو ماشية المرة بالشارع: غَطّي عيونك. كل كم خطوة غطي على عيونك. فتتحول أنوار السيارات من وراء النقاب إلى دوائر متداخلة بألوان تحجب وضوح الرؤية لأكثر من مترٍ واحد".

أما إحدى أكبر مآسي الرقة فهو الزواج المبكر للفتيات، الذي انخفض إلى 14 - 15 سنة.

في اسطنبول؛ انتظار رسائل الواتساب وجبةٌ يومية لمن استطاع ذلك، للاطمئنان على الأهل والأصدقاء. وكلما بث الهاتف صوت رسالة تمتدُّ اليد برجاء ألا تحمل الرسالة خبر مأساة، أو خبر موت عادي، فالناس تموت أيضاً دون حرب.

بحر الواتساب لا يحتاج لسترة النجاة البرتقالية، فمعها، أو دونها، يمكن أن يُغرقنا الانتظار، مثلما حصل لعابري البحر نحو أوروبا.

اسطنبول، خلال الانتظار القلق للرسائل، توفر للسوري كثيراً من القلق العادي، ومن الغيرة من اللاجئين السوريين في مدن جنوب وجنوب شرقي تركيا، كونهم أقرب جغرافياً إلى الرقة، وكون حركة الدخول والخروج من تركيا إلى الرقة واردة، ولو أنها أصبحت تتم في أوقات تتباعد شيئاً فشيئاً في السنتين الأخيرتين، مع ما كان يعنيه ذلك من أخبار أكثر حرارة قد تُشيع نوعاً من الراحة لا تضمنه رسائل الواتساب المكتوبة، أو الصوتية.

في الرقة، الأحاديث تقتصر على الحرب، وعلى التوقعات التي يلتقطها الناس من التلفزيون، أو الإنترنت لمن استطاع ذلك بعد أن منع "تنظيم الدولة"نواشر  النت في الأحياء قبل عام، ومنع مستقبلات التلفزيون الفضائية منذ شهور.

"لو الأكل يصير بالة، كان الناس ارتاحت شوي". تقول صديقتي التي "اختارت" أن تبقى في الرقة.

محلات البالة انتشرت في الشوارع بشكل كبير، حتى العائلات التي لا تشكو من القلة صار خيارُها الأول محلات البالة، دون أن نستثني من ذلك ثياب العيد بالنسبة للكبار والصغار.

أحد شوارع الرقة
أحد شوارع الرقة

وفي أجواء الحرب والحصار، يصبح الحدث اليومي والمتكرر الغلاء، فالعائلة المؤلفة من سبعة أشخاص تحتاج إلى "ربطتي" خبز (4 كغ) ثمنهما وسطياً 400 ليرة. هذا وحده يأكل نصف الراتب، أو أكثر. تقول صديقتي.

في اسطنبول؛ للسوريين نصيبٌ في ازدحام شوارع الحاضرة التركية. يحمل السوري قلقه في يمينه، على شكل هاتفٍ موصوف بالذكاء، أما يساره فمشغولٌ بتفاصيل حياة لا تنطبق عليها أفعال السياح، أو المنتظرين، أو من يتأهبون للقفز خطوة في اتجاه "أوروبا اللاجئين". قلق سوريي اسطنبول إضافة إلى "الوجودية"، كحياة، بعد أفول نجم المدرسة الفلسفية في الأماكن لا تجير فقيراً، حال اسطنبول.

يعاني السوري هنا من قلة عدد السوريين، ومن كثرتهم. فبالمقارنة مع برودة الحياة الاجتماعية التي يعاني منها السوريون، في دول شمال أوروبا وغربها، الحياة هنا أكثر حرارة. لكن أمل العودة إلى سوريا الذي يبدو سهلاً، أحياناً، يصطدم بأمل الاستقرار في بيئة اجتماعية ودينية تبدو أكثر سهولة. فالسوري، هنا، يعيش كامل الحيرة، كونه يعيش في إحدى أجمل مدن العالم، بشهادة العارفين، لكن صدره يكاد ينفجر من حنينٍ وقلقٍ في انتظار لا يشبه الانتظارات، وفرحٍ موارَبِ أقرب إلى الحزن، وابتسامات صفراء أقرب للفصامية منها إلى الانشراح.

في الرقة؛ شوارع تضج بالسيارات، والوجوه، واللهجات، واللغات.

الشوارع مزدحمة على الرغم من أن معظم أهلها هجروها إلى مناطق يسيطر عليها النظام، أو لجأوا إلى تركيا وبلدان أوروبية. أصوات مولدات الكهرباء تنتشر في الشوارع، ملوثةً بضجيجها الآذان، وزاكمةً برائحة الفيول بدائي التكرير حاسة الشم لسكان المدينة الذين اعتادوا على رائحة الغبار في المدينة التي تتوسد ضفة الفرات اليسرى.

تأثير خمس سنوات ونصف، نصفها تحت حكم داعش، طَبعَ وجوه الناس الذين كبروا ضعف ما يعدُّون من سنوات.

في ساعات استرخائهم، يتداولون تفاصيل حياتهم اليومية، وما يجري على أرضهم التي لا يملكون ترف التفكير في مغادرتها. تعليم الأطفال، حتى في سن الدراسة الابتدائية، أصبح حلماً عزيزاً، لأن خيار العائلة الوحيد هو المغادرة إلى محافظة تقع تحت سيطرة النظام. وكلمة "مغادرة" أبلغ هنا من كلمة "سفر"، فالوصول إلى مدينة حماة قد يستغرق 21 ساعة بين حواجز داعش، والميلشيات الموالية للنظام. هذه الرحلة كانت تستغرق حوالي أربع ساعات من الرقة إلى حماة مروراً بمدينة السلمية.

الغلاء، وانعدام أفق الحل، جعلا معظم العائلات تنسى مسألة تعليم الأطفال، وبات تفضيلُ الأب تشغيل الأطفال والشباب في مهنةٍ يدوية لإعانة الأب على تحمل مصاريف المعيشة التي لا تستقر على معدل في حالة التضخم الجامح على كل ضبط.

المغادرة إلى حماة، مثلاً، تحتاج إلى حسابات مالية، عدا خطورة الطريق، ولذلك غادر إليها الموظفون والمعلمون، فالراتب، على قلته، يشكل ضمانةً للاستمرار في العيش هناك، ومن لا يملك راتباً، أو مدخرات، سيفضل البقاء في الرقة، والمحافظة على بيته، إذا كان يملك بيتاً، فبمجرد أن يعلم داعش أن أحدهم غادر المدينة يستولي على بيته لإسكان عناصره.

ورق الشام

في الرقة، يسمع الناس أن من يصل إلى أوروبا سيأكل ويشرب مجاناً، في أمانٍ من قصف الطيران. هذا يعادل الجنة ذاتها. تقول صديقتي.

تتابع: "الواحد منهم يحسبها: إنو أنا باليوم أموت مية مرة مشان الأكل والشرب، ومن الخوف! إذا هاجرت ووصلت عايش، أعيش، وآكل، وأشرب، وأنام.. يا سلام. يعني ما يحس بيها إلا اللي يعيشها، يعني إنو تتمدد على طولك بفراشك من غير ما تفكر بشبح الدمار". "هاي جنة"، تُعلِّق.

التدخين والخبز أبرز بنود تكاليف الحياة في الرقة. ففي تشرين الثاني من 2013، منعَ داعش ظاهرة التدخين في الشارع، أو المقاهي، وشنَّ حملات متكررة على مهربي وبائعي السجائر. سعر علبة الحمراء الطويلة، مثلاً، وصل إلى 500 ليرة في وقتٍ سابق من بداية السنة الجارية، واستقر على سعر 350 ليرة تبعاً للتغيرات في سعر الدولار الأميركي.

تحدثني صديقتي عن "صفط التتن" الذي يعود إلى جدتها "حبابتها"، فأطلب منها الاحتفاظ به كما هو، بورقتي الشام فيه، وببقايا تبغ حموي محفوظة فيه منذ أكثر من 13 عاماً.

إتلاف كمية من الدخان في مدينة الرقة، المصدر، المركز الإعلامي لتنظيم الدولة الإسلامية
إتلاف كمية من الدخان في مدينة الرقة، المصدر، المركز الإعلامي لتنظيم الدولة الإسلامية

صدى داعش

داعش في الإعلام نجم. وعلى حامل داعش، الرقة، أيضاً نجم. ففي مطارات دول الجوار، يكفي أن يكون اسم الرقة على جواز سفرك حتى تتعرض لتحقيق ومساءلة. كذلك الأمر مع من وصل إلى حدود إحدى دول أوروبا.

في مدن الداخل التي يسيطر عليها النظام، يتابع سكان تلك المدن، والنازحون إليها، الأخبار عن قرب تحرير الرقة من داعش، وسؤالهم: من سيحكم المدينة: الأكراد، أم تركيا، أم الجيش الحر، أو النظام السوري؟

في باطن سؤالهم، من هناك، أن النظام أفضل الخيارات، ليس فقط على مبدأ شيطان تعرفه أفضل من "ملائكة داعش"، و"ملائكة تركيا"، أو أي احتلال أجنبي على غرار عراق ما بعد 2003، بل لأن الخوف يمحو التفاصيل التي كان يسكنها الشيطان. فاللحظة كلها داعش، وخلاصُ الناس في خلاص لحظتهم، أو يومهم. وإذا كان كثيرٌ من المثقفين الذين يعنيهم التاريخ كثيراً، ويعنيهم شيءٌ من فقه السياسة، ومن فقه الواقع، ومن فقه الدين، يرون أن مشكلة سوريا كانت في الجامع، وفي مظاهرات خرجت "رمزياً" من الجامع، فلا عتب على الناس العاديين الذين يريدون أن يتزوجوا ويربوا أطفالهم، ويختصروا مهمة حياتهم في تسليم راية الحياة من الآباء إلى الأبناء، وفي أبعد تقدير إلى الأحفاد. ما يعني أن "المهمة التاريخية" للأب والأم المحافظة على النوع – العائلة، وعلى كل جيلٍ اتخاذ ما يناسبه من قرارات، حتى في أمرٍ مصيري وَجَدت البلاد نفسها فيه بإيعاز من التاريخ، بغض النظر عن الروايات المختلفة للمؤامرة الكونية.

عند الناس العاديين، هذا هو التاريخ كله. وعند الناس العاديين، السؤال عن حال الرقة يشتق سؤالاً عن حال النازحين من الرقة خصوصاً، إلى حماة واللاذقية، وطرطوس.

فمدن الساحل، خاصة، المصنَّفة خطأ بـ "حاضنة شعبية للنظام"، بالتعميم، تَستقبل الآن، ومنذ بداية 2013، عدداً كبيراً من النازحين من الرقة. في اللاذقية، تسير حياة النازحين بشكلٍ عادي قد يُحسب للنظام، لأن النازحين لم يتعرضوا لانتقامات تُذكر. هؤلاء النازحون من الرقة مصنفون نمطياً في باب "حاضنة داعش"، أو على الأقل خلايا نائمة من "معارضي النظام".

تقول صديقتي "هم شايفين العندهم أفضل الحلول". وبالتشفير، تقول "يعني الطابق القديم، حتى إذا كارهينو.. بس عرفوه.. يعني شايفين إنو ما رح يكون أصعب من يلي عندنا".

تصف فتاة الرقة شعور أصدقاء في اللاذقية "مرعوبين من وضعنا بالرقة.. إنو ما حدا يوصل لمستوى اللي عندنا.. هيك الفكرة".

وتستدرك "بس الناس ما يفكرون بهم كناس (تقصد داعش).. يعني مستغربين شلون إحنا عايشين معاهم.. الناس برا تصوراتهم خيالية عنـ(هم).. مشان هيك ما في طريقة يتعاملون فيها معهم.. يعني وكأنو مخلوقات فضائية".

السياسة عادة

في الرقة، عدا عن فرض الحجاب والنقاب، لا يتدخل داعش في حياة الناس. مثلما كان الأمر في الماضي مع النظام: لا تتدخل في السياسة، وعِش حياتك باجتراح المعجزات، أو بالسباحة في بحر الرشوة والفساد. مع داعش، لا تتدخل في السياسة، دون رشوة، أو فساد، لكن مع درجة الخوف نفسها، وليس التزاماً بالقانون، أو الشريعة، في الحالتين.

من يَعيش هنا من الصعب أن يقتنع أن هزيمة داعش ممكنة. تقول صديقتي. وتشرح "عندما ترى المساحات التي يسيطرون عليها منذ ثلاث سنوات دون أن تقترب منهم قوات برية، تقتنع أن إمكانية هزيمتهم تعني أمراً واحداً فقط: الدمار الشامل للرقة!".

بشكل عام، تقول "أغلب الناس لا يحبونه (التنظيم)، بس لما تشوف الحياة اليومية، تشوف إنو شوي شوي صارت طريقتهم بالحياة هي الغالبة، والناس بلشت تندمج فيها". تتابع "لسان حال الناس، أو معظمهم: ما عاد بي طرف نثق به، وما حدا مفكر بنا، أو راد علينا. لذلك يهمهم أن ينتهي الوضع إلى الاستقرار بأي طريقة، وأي وسيلة".

رواتب داعش

راتب العازب المنتمي كمقاتل إلى تنظيم الدولة 50 دولاراً، بينما لا يزيد راتب المتزوج على 100 دولار، لكن الزوجة تتقاضى 50 دولاراً، ولكل ولد 50 دولاراً. وهذا حافز للعازبين كي يطلبوا الزواج، فالقبض لايزال بالدولار إلى أن يتم تداول النقود "الإسلامية" التي وعد بها التنظيم منذ سنتين، وهذا يبقي المنتسبين إلى التنظيم في أمان من التأرجح الجامح لسعر الليرة التي يزيد سعر صرفها مقابل الدولار في هذه الأيام على 500 ليرة.

النهايات

في اسطنبول، المنحوتة من بحار، يبدو تأثير البحر المالح أكثر قسوةً من سائر البحار التي يودع على عتباتها المسافرون أرضهم، فالبحر هنا امتزج بدموع السوريين(1).



وفي اسطنبول، صاحبة نهايات عالم الشرق، وبداياته، ينحو الغريب إلى جلده الحي، وأضلاعه التي أنهكها الصعود والهبوط.

في اسطنبول، يرفع الغريب علامات غربته كشائعة صفراء، ويلوذ بفضاءٍ أزرق، أو أخضر، كي يصل ما انقطع من مشاعره الحقيقية.

اسطنبول، وتركيا، أيضاً، عالمٌ افتراضيٌ جميل يحيط بالسوريين، حيث الواقع هناك، في سوريا كلها، وفي الرقة بالمصادفة، وحيث سجادة الخطائين: ".. مرج دموع تثغو فوقها قطعان خطايا"(2).

(1) و (2) - صورتان للشاعر السوري أحمد حافظ.
Save
علي العائد

كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول. متخصص في النقد الأدبي. يكتب مقالات أسبوعية في عدد من الصحف والمواقع العربية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.