لكن تناول الثورة التي طالت أولى أيامها أكثر من خمسة أعوام، يجعل عين الريبة تنظر إلى ذلك مشوبة بتهمة التسرع في البحث عن ريادة ما، أو التورط بالدخول في حلبة المنافسة مع الصورة في نزال غير متكافئ في الفترة القصيرة.
وكي لا نخلط بين الروايات التي تزامن صدورها مع سنوات الثورة الأولى، والروايات التي تناولت الثورة كحدث فاجأ الجميع، نفرق بين روايات رصدت مقدمات الثورة دون توقع حدوثها، وروايات حاولت مواكبة الثورة فوقع كتابها في ورطة المنافسة مع الصورة.
على سبيل المثال، تقع رواية "من لا يعرف سيمون" لعمر قدور في باب الروايات الاستباقية، إن جاز التعبير، كونها تسرد روائياً حياة مضيفة طيران تحولت إلى فنانة، وارتباطها برجال نافذين في النظام السوري، في محاولة لتقديم صورة عن ارتباط الفساد بالطموح الجامح في ظل انسداد الأفق السياسي الذي يقع في القلب منه مبدأ تكافؤ الفرص الغائب.
فرواية عمر قدور تسرد حقائق متخيلة تنتمي إلى حالة "الأبد" التي تسلمها الابن من الأب في حكم "الجمهورية العربية السورية"، بما في ذلك تكريس الفساد في الاقتصاد والمجتمع، وما يتبع ذلك من انهيار متسارع لأي مقياس أخلاقي متعارف عليه كبديهية في مجتمعنا الذي يختلط فيه السياسي بالديني بالاجتماعي؛ حيث العلماني نفسه يلتزم بمعايير اجتماعية يراعي فيها نظيره المتدين، ويحترم الأخلاق العامة للمحيط، دون وجود نص دستوري، أو قانون، ينظم العلاقة بين الأفراد بوضوح كما هو الحال في المجتمعات الغربية.
تقع شخصيات قدور في نطاق تتنازع فيه الضحية مشاعر الندم والرغبة في الحياة السهلة، سبب الندم رفض غير معلن للتعامل مع رموز الفساد في سلطة تقول كل المقدمات إن نتائجها "ثورة ما" ستأتي متى وصل عدد الضحايا كافياً لقيامها، أو أصبحت قدرتهم على الاحتمال معدومة.
كذلك تقع رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" لخالد خليفة ضمن نطاق رواية "الأبد المستقر"، حيث تسرد عالماً سابقاً على حدث الحبكة الروائية، مقدمة ما يشبه خطاً "كرونولوجياً" لتردي الزمن السياسي في سوريا انطلاقاً من خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي للعراق، وذهاب أحد شخصيات الرواية للقتال هناك، والعودة بقناعات مختلفة عما ذهب به.
روايات الثورة
ويمكن تقسيم روايات الثورة إلى فئتين، الأولى اتسمت بأنها كانت منجزة قبل الثورة، كلياً، أو جزئياً، لكنها لم تنشر قبل مرور سنة، أو سنتين، من بدء الثورة السورية في آذار 2011، ومنها رواية "السوريون الأعداء" لفواز حداد، و"سراب بري" لعبدالرحمن مطر؛ الفئة الثانية روايات مكتوبة كلياً بعد بدء الثورة، والغالب على هذه أن كتابها يخوضون التجربة الروائية لأول مرة، وبزخم جعلهم ينشرون روايتين، وثلاثاً، بين 2013 و2015، منهم محمود حسن الجاسم بثلاث روايات في سنتين ("غفرانك يا أمي"، و"نظرات لا تعرف الحياء"، و"نزوح مريم")، وثلاث روايات لعبدالله مكسور (أيام في بابا عمرو - عائد إلى حلب - طريق الآلام).
ومن حيث أن الرواية مجرد حكاية، كما يعتقد بعض الكتاب، أغرت أحداث الثورة المتدفقة في كل لحظة، و"الدراما فوق الواقعية"، بعض المتعلمين في التورط بكتابة ما يعتقده رواية، متجاهلاً أن الريبورتاجات الصحفية تسبقه في كل لحظة، مدعومة بالصورة، والفيديو، في كثير من الأحيان.
تشبه هذه الظاهرة ظاهرة المواطن الصحفي، التي نشأت بحكم الأمر الواقع، حين أدى شباب وفتيات دوراً خارقاً للعادة من حيث درجة المخاطرة التي أحجم عنها صحفيون محترفون، خاصة في جو انعدام الأمان، ليس بسبب الحرب وحدها، بل بفعل تعدد سلطات الأمر الواقع، وتغيرها في فترات متقاربة، الأمر الذي جعل حتى من نسج العلاقات مع هذه السلطات أمراً خطيراً، فعندما تأتي السلطة البديلة تحمل معها كل العداوة لكل ما هو محسوب على السلطة السابقة.
في الرواية، لا يمكن التصالح مع فكرة "المواطن الروائي"، إلا إذا كنا أمام موهبة خارقة. كما لا يمكن مهادنة "الروائي القناص"، كون الرواية وثيقة مكتوبة لتبقى، فإنْ لم تبق ستكون مجرد كلمة في حقل البحث على "غوغل"، قد تظهر للباحث عنها، أو لا تظهر، وإنْ ظهرت يكون الزمن قد سبقها وتقادمت مثلها مثل الخبر الصحفي الذي يفقد أهميته ليصبح مجرد خلفية للخبر التالي إلى أن يتلاشى الأول نهائياً.
نزوح مريم
المثال على ذلك رواية "نزوح مريم" لمحمود حسن الجاسم، وهو اسم روائي جديد حاول في روايته تقديم مشهد شديد التفصيل للريبورتاج المستمر الذي تعيشه الرقة في زمن تبدل السيطرة عليها منذ خروجها من يدي النظام في ربيع 2013. هذا اقتضى من كاتبها التنويه إلى أن أي تشابه في الأحداث والشخصيات هو مجرد مصادفة. مع ذلك، ارتكب الكاتب هفوات في الاعتماد على الذاكرة لترتيب الأحداث التي مرت فيها مدينة الرقة في انتقالات السيطرة عليها بين النظام وكتائب إسلامية، ومن ثم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). ولأن الحدث لا يزال يتناسل، لا يمكن تبرير تلك الهفوات بالخيال الروائي، فأبطاله إنْ كانوا حقيقيين، أو متخيلين، لا يزالون يعيشون الحدث، أو يشاركون في صناعته، فاعلين، ومنفعلين.
في التوطئة للحدث الروائي المستمر في "نزوح مريم"، سارة معلمة مسيحية من مدينة محردة تقع في حب مدير المزرعة التي تعمل فيها في نواحي مدينة مسكنة، القريبة من الرقة. سارة تتزوج هاشم مدير المزرعة. وحين تصل الثورة إلى الرقة تكون ابنتهما مريم ثمرة هذا الزواج في سن لا تدرك فيه تماماً ما يجري حولها، لتكتفي بالتعبير عن مشاعرها بالخوف والكوابيس.
تأتي الرواية على شكل رسالة من الأم لابنتها كتبتها في سرير المرض بعد سلسلة من الأحداث بدأت باعتقال زوجها ثم وفاة جدة ابنتها، وعودتها إلى أهلها في رحلة مليئة بالأهوال، وصولاً إلى وفاة جد مريم لأمها في محردة، وخوض سارة تجربة الهجرة إلى أوروبا مروراً بلبنان، ووقوعها في براثن عصابة، حتى إنقاذها من قبل خفر السواحل التركي قبل غرق القارب، وإيداعهم في أحد المخيمات على الحدود السورية التركية. ومهما تكن نهاية الرواية، يمكن كتابة "نقطة انتهى"، سواء من قبل الكاتب نفسه، أو القارئ.
الموت عمل شاق
في رواية "الموت عمل شاق" لخالد خليفة، الأبطال هم: جثة الأب، وأبناء الجثة: بلبل، وحسين، وفاطمة. مصائر هؤلاء لا تتأطر فقط في موقفهم من الثورة، حيث الأب الذي دافع عن قناعته بالثورة حتى موته على سرير في مستشفى، وحيث حسين الذي قذفته الحياة إلى أن أصبح مجرد سائق لراقصات الملاهي في آخر الليل، وحيث بلبل الذي عشق امرأة من غير "ملته" وظل نادماً على كبته مشاعره حتى جرفته تفاصيل الحياة واستسلم لبرودة مصيره، وحيث فاطمة التي توهمت أن زوجاً ثرياً سيسعدها، فتزوجت مرتين دون حب، ووصلت إلى نتيجة صفر ثروة، وصفر سعادة.
تبدو رواية خالد خليفة، في نظرة ما، "فيتشر" (قصة صحفية خفيفة)، وفق الفنون الصحفية. هذا طبيعي، كون الثورة لم تضع أوزارها بعد، ولا يمكن استخلاص نجاحاتها وخيباتها مهما اجتهد الكاتب في تخيل ذلك. ولذلك اكتفى خالد خليفة بتقديم مشهد إنساني شديد التراجيدية والرعب، مكتفياً بإشارات إلى الحدث الدائر دون تفاصيل تشير إلى مآلات السياسة، أو العسكرة، كي لا يقع في حفرة الانحياز إلى أيديولوجيا هذا القاتل، أو ذاك؛ على كل حال، قام أبطال خالد خليفة بالتلميح إلى موقفه من الثورة، حين قاده الأب إلى الكتابة عنه بموقف أخلاقي، وحين انتقد فاطمة وبلبل لتردد خياراتهما حتى في حياتهما السابقة على الثورة، وحين يصف الحفرة التي نجح حسين في الوقوع فيها مكتفياً بحياة الليل التي لا يجرؤ صاحبها على مواجهة صورته في مرآة النهار.
السوريون الأعداء
رواية فواز حداد "السوريون الأعداء" تبدو مكتوبة في فترة مديدة سابقة للثورة. يأتي هذا الظن من دقة نسج أحداثها الممتدة من سنة تدمير النظام السوري لمدينة حماة في شباط 1982، بعمرانها وإنسانها، ورصد حياة وزع فيها الجلاد مصائر أسرة مؤلفة من الجد وابنيه وزوجة الابن والحفيدين، بين الموت والسجن ومعتقل الحياة المفتوح، بشيء لا يخلو من "خيال هندي" من حيث غرابة المصادفات، حتى لو كان الحدث حقيقياً بكل تفاصيله.
فالضابط الذي أراد أن يجرب القتل بيديه بعد أن تدرج في خدمة قائد الأبد بكل أنواع الخسة، يقتل الجد والأم وأحد طفليها، بينما يرسل الأب الطبيب إلى المعسكر ليُعدم هناك. ينجو الرضيع في حضن أمه، فتتسلل عجوز لتأخذه أمام عيني القاتل، حين كان فتى يرمي الحجارة من وراء ساتر ترابي على القاتل ليشاغله عن متابعة العجوز. تنجح العجوز في الوصول بالرضيع إلى جامع (خالد بن الوليد) في حمص، لتسلمه لإمام المسجد مع اسمه وعنوان عمه القاضي في دمشق. يصل الرضيع إلى عمه، بينما يكون الأب الطبيب في طريقه إلى تدمر مروراً بعدد من فروع التحقيق. وبعد عشرات السنين، يخرج الأب من معتقل تدمر، فيقودنا فواز حداد إلى حالة شديدة الخصوصية ذات وجهين شديدي الإيجابية، الأول حين يقع الضابط في يد الأب، فـ"يعفو" عنه الطبيب حين يكتشف مدى جبن القاتل في مواجهة الحقيقة، الوجه الثاني حين لا يبرر الطبيب – الضحية لنفسه أن يتحول إلى مجرد قاتل، أو منتقم.
كل هذا يضع الرواية في غير سياق الثورة، وروايات الثورة، سوى أن الكاتب جعل من كل ذلك الحدث الحقيقي والمتخيل مقدمة طويلة جداً وصولاً إلى أيام الثورة الأولى التي أتت كآخر فصل في الرواية.
سراب بري
تشترك رواية عبدالرحمن مطر "سراب بري" مع رواية "السوريون الأعداء" في أنهما تعرضان للقمع والفساد السابق للثورة في ليبيا وفي سوريا. كتب مطر "سراب بري"، وهي روايته الأولى، في المعتقل الليبي الذي قضى فيه عشر سنوات بسبب كتابته مقالة عن معتقل "أبو سليم" الليبي الذي قتل فيه أزلام القذافي 1269 معتقل رأي في 29 حزيران 1996.
بطل الرواية (عامر عبدالله) كاتب صحفي يقع ضحية تضارب مصالح أطراف في الدولة الليبية. الصورة المكملة للرواية تأتي مما عاشه مطر بعد سنوات انقضت في المعتقل، حيث عاد إلى سوريا سريعاً في الأيام الأولى للثورة الليبية، ليقضي أياماً تحت التحقيق قبل أن يخرج باشتراطات وقائمة تحذيرات، لكنه يقضي شهراً في الاعتقال بعد شهور من بداية الثورة السورية، اختار بعدها الخروج من سوريا دون عودة حتى اليوم.
والربط بين ما عاشه بطل الرواية في المعتقل، وما عاشه الكاتب نفسه على لسان الراوي في سوريا، هو الفصل المضاف، أو الصفحات المضافة، بالرغم من أن جسم الرواية الأصل يقتصر على سرد ما عاشه عامر عبدالله من مقدمات وتفاصيل عشر سنوات تنتهي في شباط 2011.
روافد نظرية
الشائع أن الرواية تحتاج إلى بيئة مستقرة يرسم فيها كاتبها مصائر شخصياته بعين الرائي البعيد بارد الأعصاب، بحيث تتجول هذه الشخصيات، وتتكلم، وتفكر، من داخل شروطها الخاصة، التي قد تتطابق مع تفكير كاتبها، أو تتناقض.
فالانفعال مع حدث قد ينتج قصة، أو قصيدة، أو لوحة، أو صورة فوتوغرافية، وحتى مسرحية. أما الرواية، وبغض النظر عن حجم صفحاتها، فإن انفعالاً واحداً لا يكفي لكتابتها، كونها ترصد تشابك قصص كثيرة، وشخصيات، وبيئة عامة، ضمن مقولة واحدة كبيرة، بمعنى أنها ليست مجرد حكاية، بالرغم من ضرورة الحكاية فيها لكسب القارئ وإغرائه بمتابعة فكرة الكاتب التي لا تنتهي إلا مع نهاية السطر الأخير من الرواية.
هذا فوق أن الرواية تحتاج إلى تنقيح وتجويد في اللغة مرات ومرات، بل وتغييرات محتملة في مسار الأحداث، وسلوك الشخصيات، بحيث تقدم صورة موسعة عن المكان والزمان الذي تنشأ فيه وتعيش. وقد يضيف الكاتب فصولاً، ويحذف أخرى، ويعطي مساحة أكبر لشخصية ما، ويقلص دور شخصية أخرى، أو يحذف شخصية ويضيف أخرى، بحيث تعبر النتيجة النهائية عن لوحة فنية متكاملة من وجهة نظر الكاتب عن حركة مجتمعها الافتراضي، أو الواقعي، وهو ما لا يُتاح لكل قارئ بالمستوى نفسه من الرؤية والمعلومات، ومن حيث الأسلوب الفني سهل التناول والبعيد عن تسرع الميديا في جريها وراء السبق، وعن الدراسة من حيث التأصيل النظري الذي قد يشوبه جفاف المادة التي تنفر حتى القارئ الصبور من القراءة.
وفي عصرنا الرقمي، يبدو التحدي الأكبر أمام الرواية هو الصور التي تضخها الميديات على أنواعها في كل لحظة دون توقف.
فالريبورتاج الصحفي المدعوم بالصور أقوى تأثيراً على المدى القصير، وأي "بلاغة" قد تلجأ إليها الرواية ستسقط غالباً أمام "بلاغة" كاميرا موبايل التقطت صورة لمجزرة هنا، أو برميل متفجر هناك، أو أنة جريح وإغماضة قتيل هنالك.
استعجل كتاب سوريون، غير ملومين، تقديم روايات عن الثورة السورية، وحرب النظام عليها، ولا علم لنا بتقديم أي روائي سوري وجهة نظر روائية تتبنى وجهة نظر النظام، أو حتى وجهة نظر محايدة، إن كان هنالك من حياد أمام حجم المقتلة السورية المستمرة.
عدد الروايات التي صدرت في خمس سنوات من الثورة يقارب، أو يزيد على المعدل الذي اعتدناه من السوريين قبل الثورة، لكن الحصول على كل هذا النتاج، وقراءته بما يستحق من الوقت، لمحاولة تقييمه، في سنوات الشتات السوري، مهمة صعبة حالياً، خاصة أن عدد هذه الروايات يزيد على ثلاثين رواية خلال هذه السنوات، وفق الدكتور أحمد جاسم الحسين (الرواية نت – 2 نيسان 2016).
ومن هذه الروايات "نفق الذل" لسميرة المسالمة، و"بانسيون مريم"، و"موت رحيم"، لنبيل ملحم، و"جداريات الشام/ نمنوما" لنبيل سليمان، و"كان الرئيس صديقي" لعدنان فرزات.
يضاف إلى الروايات كتب تقع في باب القصة الصحفية، أو الريبورتاج، وشيء من يوميات الحرب التي عاشها كتابها، على غرار كتابي سمر يزبك "تقاطع نيران"، و"بوابات أرض العدم"، أيضاً "جنة البرابرة" لخليل صويلح.