"الموت عمل شاق": حكاية جثة تسافر عبر سوريا

28 تشرين2/نوفمبر 2016
 
تعبر جثةٌ الجغرافيا السورية من دمشق إلى ريف حلب الشمالي في ثلاثة أيام كي تُدفن في قريتها. فالأب، صاحب الجثة المسافرة، أوصى أن يُدفن في قبر أخته التي "فضلت" أن تشعل النار في جسدها وترقص رقصتها الأخيرة على أن تتزوج رجلاً لا تحبه.

هذا هو مكثف حكاية رواية "الموت عملٌ شاق" لخالد خليفة (دار نوفل، هاشيت أنطوان، بيروت - دار العين، القاهرة، 2016). لكن الرواية ليست مجرد حكاية، بل تفاصيل، وتوشيات، وحكايات داخل الحكاية، وزخارف، وحوار، ومونولوج؛ كل ذلك في سياقات حكاية الثورة السورية، التي أكلت حتى أخضر أرواح الناس.

الثورة سياقٌ في الرواية، فللناس حكاياتهم دائماً، وليسوا في حاجة إلى ثورة كي يقولوا، يختلفوا، يتشاجروا، يعشقوا، أو حتى يقتلوا بعضهم. حاول خالد خليفة أن يكون السياق خالياً من الكلام السياسي كسبب باطن من أسباب الثورة. وبقليل من التعديلات، يمكن أن تكون خلفية الحدث "حرباً أهلية"، أو تمرداً نشر الفوضى وقسم البلاد الصغيرة إلى بلدات، كما حدث في الحرب اللبنانية، التي لم تكن "أهلية" بالمعنى التام للكلمة.

لكن السياق هنا ليس مجرد موتٍ عابر كما يحدث دوماً، إنه مقتلة سوريين معممة على البلاد كلها، تجنب فيها الروائي الإفصاح عن جهة اصطفاف كل فردٍ من أبطاله، بوضوح، كمَخرجٍ فني كي لا يكون منحازاً لجهة معينة ساهمت بقدرٍ ما في حمام الدم الذي أغرق البلاد كلها، بالفعل، أو القول، أو الصمت.

صراع تحت الشمس

كان أمام الجثة الوقت الكافي كي تبدأ بإطلاق روائحها، حتى في برد الشتاء، فثلاثة أيام كفيلة بأن تتفسخ حتى أرواح أبناء الجثة، حين استحال وقت الرحلة الطبيعي الذي لا يتجاوز ست ساعات إلى ثلاثة أيام.

في هذا الوقت المديد، بدأ الأخوان بلبل – نبيل، وحسين، بإخراج نقائضهما ليكتشفا أنهما بالكاد يعرفان بعضهما. وحين يئس حسين من صعوبات الطريق، فكر أن يدفن الجثة في أقرب حفرة على طريق الرقة – حلب، فاشتبك الأخوان في عراك بالأيدي رسم مشهده "سينمائياً" خالد خليفة على غرار فيلم "صراع تحت الشمس"، وإن كان الأخوان لا يتصارعان على خلفية تنافسهما على حب امرأة واحدة، كما حدث في الفيلم الأميركي.

مصائر أبطال الرواية (جثة الأب، وبلبل، وحسين، وفاطمة) لا تتأطر فقط في موقفهم من الثورة، حيث الأب الذي دافع عن قناعته بأحقية التحول من استقرار أبد السلطة حتى موته على سرير في مستشفى، وحيث حسين الذي قذفته الحياة إلى أن أصبح مجرد سائق لراقصات الملاهي في آخر الليل، وحيث بلبل الذي عشق امرأة من غير "ملته" وظل نادماً على كبت مشاعره حتى جرفته تفاصيل الحياة واستسلم لبرودة مصيره، وحيث فاطمة التي توهمت أن زوجاً ثرياً سيسعدها، فتزوجت مرتين دون حب، ووصلت إلى نتيجة صفر ثروة، وصفر سعادة.

اقتراحات خليفة

اختار خالد خليفة أبطالاً عاديين يشبهوننا جميعاً، في بلد ندّعي أننا نعرفها، وفي ظروف ثورة غيرت مصائر الناس دون أن يصنعوها، أو دون أن يصنعوها كما يجب.

بالطبع، الفن انتقائي، كما هو أصلاً. لذلك اقترح خالد خليفة على قارئه مفردات روايته: هذا مكان روايتي في الجغرافيا السورية، المكان الذي لا يشبه المكان في الروايات المستقرة، وهؤلاء أبطالي، وهذه حواجز الجيش والشبيحة، وهذه حواجز "الإسلامويين"، وهذه حواجز الجيش الحر، وهذه أفكار شخصياتي التي قالت ما تريد دون تدخلٍ مني؛ هذا ما عشته في أربع سنوات داخل سوريا، وهذا خيالي المضاف، كروائي، وسيناريست.

الروائي السوري خالد خليفة

انتقاءات خالد خليفة كانت محكومةً بخبرة العارف أن تقديم مشهدٍ بانورامي أمرٌ متعذر في وقت لا تزال فيه المقتلة قائمة، ففضَّل، ربما، تقديم اسكتش، أو مقدمة، لرواية باردة الأعصاب ستأتي في وقت ما تكون فيه الحرب قد وضعت نهاياتها، وكشفت ما لا نعرفه من أسرارها، وأجابت عن تساؤلات: هل كانت ثورة، أو مؤامرة على بشار الأسد، أو مؤامرة على سوريا، وهل كان الشعب السوري واحداً قبل الثورة حتى كشفت الثورة أنه شعوب، وهل كانت الثورة بداية حقبة جديدة، أم نهاية الدكتاتورية فقط... إلخ

نازية الموت

الخيار الجغرافي لخالد خليفة نصف صليب معقوف يشبه خط رحلة الجثة إلى مسقط رأسها وقبرها، وأسماء القرى "س"، و "ص"، هي محاولة لتجهيل المعلوم، وتعميم الحالة من خارج الرواية التي لا يمكنها في حال تقديم كل المآسي التي تتناسل كل يوم، وكل ساعة.

من المتعذر هنا أن نطالب الناس، حتى في الرواية، بأن يخففوا من قتامة مزاجهم، ومن الإجحاف مطالبة الروائي بسيناريو بديل لما اقترحه روائياً؛ كيف الحال لو تطرق الروائي لمتغيرات السياسة في مسارات "الثورة اليتيمة"، إن كان ثمة سياسة في الواقع!

السوريون اكتشفوا في خمس سنوات أن التباعد الجغرافي في بلدهم الصغير أكبر مما كانوا يتخيلون، وأن المسافات التي وسّعها القمع طالت أبناء الأسرة الواحدة، قبل الحديث عن مللٍ ونحل وطوائف وأحياء ومدن. هذا على الأقل ما قالته الجثة في صندوقها عندما أطلقت روائحها، بعد تلك الرحلة البطيئة القاتلة حتى للأموات.

الدم ولَّد أحقاداً، وثاراتٍ ربما. الأحقاد اتسعت حتى قسمت البلاد إلى قواطع لا يمكن أن تلتئم إلا بجراحات وجراحات متكررة، في بلاد ظن أهلها حتى وقت قريب أن فيها ما يجمعهم غير لغة القمع التي لا يعرفون غيرها.

خيارات الجثة

لم يكن في مقدور الجثة أن تنهض لتدفن نفسها، وتعفي الأحياء من هذه المهمة. ولم يكن في مقدورها أن تمحو وزر قابيل الأول من ذاكرة المصدقين لتلك الرمزية الأولى، كإحدى أهم الدروس التي أتقنها الأحفاد، حين كرروا ملايين المرات فعل القتل، وفعل الدفن، بعدما أتقن القاتل الأول تنفيذ تلميح الجد الأول للغراب.

الجثة سلمت نفسها للإخوة الأعداء الذين حملوها كواجبٍ أخير ثقيل، فاصطدموا بحواجز إخوتهم الأعداء في طريقٍ معبدة بالكراهية، والخوف، والجشع، اكتسبوا فيها مع الوقت خبرةً كافية كاد فيها أن يكون القتل مشهداً عادياً.

الأمناء على الجثة استيقظت ذاكراتهم في الفراغ الذي أحاط بهم، بتحريضٍ من عِبر الموت العادي في كل زمان ومكان، وبتحريض الجغرافيا التي وضعها الكاتب في طريق رحلتهم كي تكتسي الشخصيات بثياب تلونها في المشهد القاتم لعموم مسارات الرواية، حيث قصة الحب المجهضة عند نبيل، وبدايات الشباب المتفائلة عند حسين، وما قبل الاختيارات المتخبطة عند فاطمة.

فقط، عند ليلى، والأب، كان مثال خالد خليفة إيجابياً، أو قريباً من الإيجابية. في هذه الاستعارة الصريحة، والوحيدة، ترجيح لاحتمال ميل الراوي إلى امتداح الثورة، ذلك أن الروائي لا يحمل أفكار الراوي بالضرورة، والروائي لا يملك إطلاق أحكام قيمة على أفعال شخصياته الروائية، تاركاً المهمة للقارئ.

فتاوى المتقاتلين

تمر الجثة عبر حواجز "الإخوة" الذين مازالوا على عهدهم في زمن ما قبل الثورة، تدفع الرشوة، أو الأتاوة، فتمر البضاعة - الجثة، دون أن يختلف الأمر بين حواجز جيش النظام، وميليشياته، وحواجز المعارضين، وميليشياتهم.


حاجز للنظام السوري

خيوط السرد في الرواية تتقدم خطياً حسب خليفة، الذي يختار العودة إلى الوراء منتهزاً الفرصة لإكساء هيكل الشخصية من ذاكرتها البعيدة، فالزمن هنا محكوم بثنائية ما قبل الثورة وما بعدها، والمكان هوَ هوَ، لكن البيوت مدمرة، وبلا سكان.

الطريق من أوله إلى آخره ثكناتٌ متصلة، ولكل حاجزٍ قانونٌ ومزاجٌ وقضاة، هذا "فتواه" بضعة آلاف الليرات، وذاك إجابة تقنعه أنك مسلم تعرف أوقات الصلوات وعدد ركعات كل صلاة، ففي زمن الحرب الاصطفاف ممرٌ إجباري كي تحافظ على حياتك.

مثال ليلى التي شقت ثوبها من المنتصف حزناً على حبيبها جميل، الذي كان قد هجرها مسبقاً ليتزوج بامرأة تناسب مكانته الاجتماعية المستقبلية كضابط، ومن ثم الاحتفاء بجسدها بالنار في ليلة عرسها، يشبه المصير المجهول للبلاد التي تحترق الآن بيد أبنائها المصطفين في أنساق وأرتال تتقاطع فقط عندما تتقاطع نيران أسلحتهم. لكن المثال هنا، رغم مأساوية مصير ليلى، إيجابي، فليلى احتفلت بحريتها حتى آخر لحظة من حياتها، وظلت ممسكة بإرادتها. كذلك سوريا، أو أبناء الزمن السوري الآتي، ربما.

أخت الجثة

ولمثال ليلى وجه آخر، أو تفصيل، ربما، أراد من خلاله خالد خليفة القول إن رمز "أخت الجثة"، عمة الأولاد والبنت، الذين سافروا بـ"الجثة" إلى مسقط رأسها، لتُدفن حسب وصية "الجثة" في قبر الأخت التي كانت تحاجج الشعراء بالعتابا الرقيقة حين كانت حية، وحين ماتت لم تتبخر جثتها، أو تتفسخ، كما تفعل كل جثة؛ نفترض مع خليفة أن ليلى افتدت حريتها بموتها، وأراد الأب - "الجثة" أن يُدفن في قبر أخته التي عاشت حرة وماتت حرة، على خلاف ما عاش الأب – الأخ الذي لم يستطع منع العائلة من محاولة إجبار ليلى على الزواج بمن لا تحب.

مع ذلك، لشخصية فاطمة، إبنة الجثة، جانب إيجابي، كأنها سوريا، فهي ظلمت نفسها كما ظلمت سوريا نفسها حين سكتت على ظلم عمره أربعين سنة، بعد أن "اغتصبها" الديكتاتور الأب، ومن ثم الديكتاتور الابن، ففقدت شيئاً من سوريتها في الحالتين، دون أن يربح أبناؤها المال، أو السعادة.

محاولة تجنب الاستعارات السياسية في الرواية، التي لم ينجح خالد خليفة في تلافيها تماماً، ألجأته إلى قراءة سريعة انتقائية أبعدته عن "الجبل السحري" السوري؛ الجبل السحري الخاص بأدب سوري سيأتي ولو متأخراً، على الرغم من أن عصرنا لا يحتمل ذلك الإنشاء القاتل لأفكار فلسفية بين البشر، والحشرات، والعظاءات الأولى، في ذلك المنتجع السويسري غير البعيد من سوريا، هنا، أو لوزان، هناك.
علي العائد

كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول. متخصص في النقد الأدبي. يكتب مقالات أسبوعية في عدد من الصحف والمواقع العربية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.

تعليقات

  • إبراهيم العلوش إبراهيم العلوش الإثنين، 28 تشرين2/نوفمبر 2016

  • إبراهيم العلوش إبراهيم العلوش الإثنين، 28 تشرين2/نوفمبر 2016

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.