نوافذ السوريين في تركيا و"حشرات" الذاكرة

22 أيلول/سبتمبر 2016
 
يحدث في اسطنبول أن تصعد باتجاه جامع الفاتح فتجد نفسك في حي "المهاجرين" الدمشقي. وإذا مشيت نزولاً ستكون في حي "بلاط" الاسطنبولي، أو باب توما في دمشق، لا فرق. وإذا أعطيت ظهرك للبحر في "كاباتاش" تصعد أدراج طلعة "سلمية"، لتنحدر منها إلى "جهانغير" باتجاه شارع الحمراء.

ولو أبدلت دمشق بحلب ستجد أمامك باب الفرج، أو باب الحديد، أو الجديدة، أو الجميلية. وباستثناء البحر، والخليج، والبوسفور، تشبه تفاصيل اسطنبول تفاصيل حلب ودمشق السوريتين، على الرغم من تهمة الحنين النوستالجي التي سيظل السوري يحملها بين أضلاعه حتى لو طال المقام به في عاصمة العثمانيين، والحاضرة التركية المدهشة.
تضاريس اسطنبول المدهشة تتداخل مع تضاريس ذاكرة السوري المشحونة، كما لو أنه في حلمٍ يسير بلا منطق، ولا تعنيه من الجغرافيا الاتجاهات، ولا من الزمن التقدم، أو التراجع.

السوق المصري / اسطنبول
السوق المصري / اسطنبول

في هذا ما يذكِّر بالروائي السوري خليل الرز، الذي استخدم مكانه الروائي بهذا المعنى، حيث يتحرك أبطاله، في المشهد الروائي نفسه، وبكل سهولة، بين "حارة العجيلي" في الرقة، و"المهاجرين" في دمشق، ثم إلى حي "الجديدة" في حلب، كأحياء عاش فيها الكاتب وعرفها وسكنت في ذاكرته.

اسطنبول السورية

"حشرات الذاكرة" التي حملها السوريون من بلادهم المغلقة تتلاقح الآن مع "حشرات الواقع" في اسطنبول، فمن يفتح نوافذه لدخول الهواء سيضمن أن بعض الحشرات ستدخل بيته. وبين تلك الحشرات بعوضٌ وذبابٌ وفراشات.

بالطبع، استخدام تعبير "حشرات" لا يقتصر على المعنى السلبي بالضرورة، بقدر ما يعني أن الإنسان يسير على أرض، ويحيط به فراغ، وهواء، وفي الهواء كل ما لا يخطر على البال من مؤثرات.

اسطنبول لأهلها دائماً، وللسائحين الزائرين، وللسوريين الآن، أكثر مما كانت للاجئين البوسنيين والأفغان والعراقيين. هي مدينةٌ أوروبية بكل مكوناتها، حتى لو قالت الجغرافيا غير هذا. هي كذلك على الأقل قياساً إلى العمران، والجو الاجتماعي العام، لما نعرفه في مدن سورية وعربية.

واسطنبول هي العاصمة الحقيقية لتركيا، حتى لو كانت أنقرة العاصمة السياسية، وغازي عنتاب العاصمة الصناعية، وأنطاليا عاصمة السياحة، ففي اسطنبول شيءٌ من السياسة والصناعة، وكثيرٌ من السياحة، إضافةً إلى القيمة المعنوية لحيوية المدينة الأكبر في تركيا، وآسيا، وأوروبا، وربما في العالم.

حين يأتي الزائر سائحاً في تركيا لابدَّ له من اسطنبول. وحين يكون الزائر سورياً، ولاجئاً، وفقيراً اقتصادياً، وسياسياً، ستصطدم ذاكرته المُحملة حنيناً إلى البلاد بالصور النمطية عن تركيا، دون أن يدرك أن الحنين نفسه مُحملٌ بصور نمطية عن بلاده التي ينظر فيها سكان حيين متجاورين أن آخر الحي الثاني ينظر إليه كآخر.

غير السوري يستمتع غالباً باكتشاف اسطنبول، ويغادر مع وعد أن يكرر الزيارة. أما السوريون، بل بعضٌ كثيرٌ من السوريين، وجدوا أنفسهم دون سابق تخطيط مجبرين على غرس جذورهم في هذه البلاد، مفضلين بلاداً "يرتفع فيها صوت الآذان" على الشتات الأوروبي الذي تندر فيه رؤية مآذن المساجد!

من هنا، قد تبدو اسطنبول في عين سوري بلداً "عربياً مسلماً" قريباً في حمولته العاطفية من وجدانه غير الواعي للفرق بين الشرق والغرب. وحتى لو عاش هذا السوري في الغرب، وعرفه، فعروبته، وإسلامه، لا تتيح له أن ينسجم مع اسطنبول البيزنطية، ومع مظاهر الحياة الأوروبية في المدينة العملاقة، على الرغم من اختلاف نظرته البعيدة عن "الإكزوتيك" عما يضمره الأوروبي عن اسطنبول.

السوري، هنا، يكتفي بمعرفة بعض التاريخ البيزنطي لتعينه على تفسير المزيج الأليف بين الحضارة المسيحية والإسلامية غير البعيدة عما عرفه من تجاور المساجد والكنائس في معظم المدن السورية، وخاصة في حلب.

بعض دمشق وحلب

اسطنبول مدينة لا تشبه سوى نفسها، مثل مدنٍ كثيرة في العالم، منها دمشق، وحلب، في سوريا.

المدن الثلاث لم تهضم القادمين إليها من المدن والقرى القريبة والبعيدة، وبقيت مغلقةً على أسرارها دون أن تُفشي بذلك للغرباء الغزاة، أو السياح، أو المقيمين.

في دمشق وحلب، بقي الغريب على حافة المجتمع في المدينتين، يكاد يرى شبكة أسرار المدينتين المدهشتين، لكن دون أن يتمكن من الدخول في نسيج مجتمعها وسوقها.

نسبةً إلى ضخامتها، تبدو "اسطنبول الكبرى" كأنها هضمت أكثر من 400 ألف سوري، أو كادت، بعدما ضمّت المدينة التاريخية القرى والضواحي المحيطة بها.

الفرق بين اسطنبول وأعرق مدينتين سوريتين هو الحجم أولاً، ثم الصفة الكوزموبوليتانية (لصفة الضخامة على الأقل) لعاصمة العثمانيين ثانياً، حتى أن دمشق لا تكاد تعادل في مساحتها، أو عدد سكانها، حيين أو ثلاثة بحجم حي "فاتح" في اسطنبول.

عدا صفة الضخامة، لا فرق بين المدن الثلاث، سوى في الأعداد الكبيرة للسياح الذين يزورون اسطنبول. وعلى الرغم من أن السياحة ظاهرةٌ موسمية، ونشاطٌ اقتصادي آني، فإنها تُراكِمُ تنوعاً ثقافياً يُعول عليه على المدى الطويل، خاصةً إذا قرر السياح الإقامة في تركيا فترات طويلة لأسباب ثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية.

أكبر مركزين في اسطنبول: فاتح، وتقسيم، يُشكلان محجاً شبه يومي للسوريين، في مواعيد العمل واللهو، وعقد الصفقات الصغيرة والكبيرة؛ حتى فتيات الليل والنهار، والمثليون والمتحولون والمتحولات من السوريين، يجدون في هذين الحيين، خاصة في المناطق القريبة من تقسيم، المكان والمناخ الحر لاصطياد "الزبائن".

"شاي وحكي"

بالطبع، تنطبق هذه الملاحظة على اللاجئين العراقيين، والأفارقة، وعلى رعايا دول تركية الأصول: أوزبكستان وتركمانستان، وتركستان، وقرغيزستان. فبعض هؤلاء يبحثون عن "رزقهم" في الزوايا الخلفية لليلِ المدينة، أو في قاع نهارها، مما يلحظه العابر في "أكسراي" في ساعات الليل خاصة، وابتداءً من ساعات بعد ظهر كل يوم.

ففي اسطنبول، أسسَّ مثليون، لعل بينهم غير سوريين، منتدىً أطلقوا عليه اسم "شاي وحكي"، يتلاقون فيه بشكلٍ دوري، يتعرف فيه القادمون إلى اسطنبول على من سبقوهم، يتحدثون فيه ببساطة عن همومهم، وحياتهم الجديدة. يلتقون في مكانٍ عام، ويتبادلون المساعدة المادية والمعنوية، كما يفعل "الطبيعيون"، وربما يتخابث بعضهم ضد بعض، كما يفعل "الطبيعيون"، أيضاً.

المنتدى – اللقاء، توقف، بعد مقتل مثليٍ سوري في منطقة "فاتح"، ساعات بعد اختفاء الشاب في 30 تموز الماضي.

غير هذا، أحاط السوق بالسوريين، فمن لا يبيع سيشتري. هنالك من يطبخ، وهنالك جائع. وأكثرُ السوريين بقي وفياً لعاداته في الطعام واللباس، بل وفي طريقة "قتل الوقت" في المقاهي، مع الأركيلة وورق اللعب، قبل وبعد كساد موسم تهريب البشر إلى أوروبا، وتراجع هذا "النشاط الاقتصادي" الذي لعب فيه سوريون وسودانيون وليبيون دور السمسار للمافيا التركية.

مع ذلك، ازدهرت مهنة السمسرة بين السوريين لزبائن سوريين وعرب، فمن يريد الحصول على "إقامة" سيجد من يُسهّل عليه الأمر مقابل مبلغٍ كبير، أو صغير. ومن يريد استئجار منزل سيتدبر أمره سوريٌ بالاتفاق مع مكتبٍ عقاري تركي، لكن بعد رفع مبالغ البدل التي يدفعها المستأجر، كون التركي، المالك أو السمسار، لا يتنازل عن ليرةٍ واحدة مما يريد، حتى لو كان الإيجار الذي يدفعه السوري يعادل ضعف ما يدفعه التركي لاستئجار المنزل نفسه.

حوار سيأتي

في اسطنبول، لا يثيرُ السوريَّ الغنى العمراني والتاريخي للمدينة، ولا الحضارات السبع المنضدة في القرن الذهبي، أو التلال السبعة التي بُنيت فوقها المدينة القديمة؛ المثير هو الطبيعة والضخامة والبحر والخليج والبوسفور.

ستحاول اسطنبول هضم السوريين، بملايينها التي تجاوزت 15 مليوناً، وبالمقيمين فيها من أتراك الولايات الأخرى (يقدر عدد سكان المدينة بـ22 مليون نسمة)، وكلما طال المقام بالسوريين فيها سيكون ذلك ممكناً، بقوة الحياة، أو بقوة القانون لمن أراد الحصول على جنسية البلاد. فالقوة السافرة للقانون ستجبر السوريين على الاختيار بين العيش على هامش المجتمع التركي، أو الاندماج في سوق العمل، والتعليم، والتواصل الآمن مع الأتراك.

ومفتاح اندماج الغريب في أي مجتمعٍ هو اللغة، ليس بألفاظها وقواعدها فقط، بل بمعرفة ظلال اللغة وأسرارها، حيث تظهر عبقرية الناس بالرغم من معاجم اللغة، التي ستستجيب لقوة الحياة مرغمةً ليندمج الشعبي في القاموس، ويزيح الجديد والقوي القديم والضعيف.

خلال خمس سنوات، كابرَ سوريون اختاروا الاستقرار المؤقت في تركيا، فرفضوا، أو أجّلوا، أولوية تعلُّم اللغة التركية، متذرعين بصعوبتها، دون أن يحاولوا. ومنهم من برر مكابرته باقتراب العودة إلى "البلاد"، ومنهم بانشغاله في تدبر أمور عيشه ورزقه وعدم توافر الوقت.

سوريون في إحدى المدارس التركية لتعلم اللغة
سوريون في إحدى المدارس التركية لتعلم اللغة

أما الادعاء السوري الآخر فهو "اتهام" الأتراك بعدم الإلمام باللغة الإنكليزية، وكأن السوريين اعتادوا التحدث بالفرنسية والإنكليزية بطلاقة. هذه الطرفة غير المُفكَّر فيها جعلت أنصاف المتعلمين السوريين، بل والأميين، يتقنون ما يكفي من التركية للتواصل مع الأتراك في سوق العمل غير المغلق، وغير المفتوح، أمام السوريين، على عكس المتعلمين الذين تواصلوا بالعربية مع السوريين والعرب، وبقليلٍ من الإنكليزية، وبأقل القليل من التركية، مع الأتراك.

صحيح أن اللغة التركية غريبة التركيب على من يتقن قليلاً من الإنكليزية، لكن تلك المبررات مجرد ادعاء، خاصة مع استسهال التعامل اليومي مع السوريين والعرب، ومع الأتراك الذين يتكلمون العربية، أو الإنكليزية، والنتيجة بعد سنوات من العيش في اسطنبول، مثلاً، أن معظم السوريين اكتسبوا مئات الكلمات التركية، لكنهم يعجزون عن إجراء محادثة قصيرة مع جارهم التركي.

ينصح أحدهم بعدم التذاكي على الأتراك، وتجنب استخدام كلمات نابية في الشارع، لأن "المسبّات" مفهومةٌ للتركي، وقد تكون مشتركةً بين الشعبين. بينما يعرضُ أحدهم خدماته على "فيس بوك" لتعليم من يريد "المسبات" التركية، ليتقي شرّ الأتراك الذين يصادفهم في العمل، أو الشارع.

آخر يرى أن تعليم الأتراك العربية سيحل مشكلة اللغة، مستنداً إلى إقبال شباب وفتيات أتراك على تعلم اللغة العربية في محاولة لإيجاد فرصة عمل في أوساط الجاليات العربية التي تزداد اتساعاً في اسطنبول خاصة، عدا عن الإقبال الملحوظ للسياح العرب على تركيا في السنوات الخمس الأخيرة.

"حق العودة"

تبدو مسألة تعلم السوريين اللغة التركية حيويةً للغاية، حتى لو افترضنا أن العودة إلى البلاد ممكنةٌ بعد شهور.

الملاحظ في اسطنبول، من خلال التعامل مع عشرات السوريين أن  بعضاً كثيراً منهم  قد أقنعوا أنفسهم أن العودة إلى سوريا أصبحت بعيدة، إن لم تكن "مستحيلة"، على الأقل في المدى المنظور، ومنهم من يسعى إلى الحصول على الجنسية التركية كتأكيدٍ عملي على قناعته.

وهنالك أيضاً أعدادٌ، ربما كانت كبيرة، لا تربط العودة إلى سوريا بعودة الأمان فقط، فالأرزاق والبيوت ضاعت، وهنالك من فقدَ كل عائلته وأقربائه بين قتيلٍ ومشردٍ ولاجئ في شتات دول كثيرة.

بعيداً عن السياسة، وعن الحرب، فرض واقعُ اللجوء السوري على القادمين إلى تركيا الاحتكاك بمزاجٍ ثقافيٍ مختلف، على الرغم من تشابه العادات في الشرق الممتد إسلامياً، ومن تشابه الأنماط الموسيقية، والمطبخ، مثلاً.

وحين وجد السوريون مشكلة في التعامل مع الخبز التركي "الإفرنجي"، استغل مستثمرون سوريون وعرب الظرف وافتتحوا عشرات المخابز التي تنتج الخبز العربي، وهذا استتبع أيضاً الاستثمار في عشرات المطاعم التي تقدم مأكولات حلب ودمشق خاصة، ومما اعتاد عليه السوريون في بلدهم، عموماً.

صورة مطعم سوري في حي يوسف باشا / اسطنبول
مطعم سوري في حي يوسف باشا / اسطنبول

وفي المجمل، ما زال السوريون يقاومون التتريك، خاصة ممن تقتصر معاملاتهم مع السوريين والعرب، أو يتعاملون مع الأتراك الذين يتحدثون العربية.

التجنيس

في هذا السياق، يُلامسُ ما يقال عن تتريك أكثر من 2.7 مليون سوري، يعيشون في تركيا اليوم، هذه التفاصيل أكثر مما يتصل بالمسائل الحقوقية الغائبة للاجئين السوريين. وإن كانت المسألة تشبه، عموماً، مسألة اندماج المهاجرين واللاجئين في مجتمعات أخرى في كل زمان ومكان، حيث تُشكلُ اللغة عتبة التعرف على مجتمع البلد الحاضن وثقافته وجغرافيته، بل وتُشكلُ اللغة مفتاح تقبل المهاجر من قبل سكان البلد المضيف.

ما يحول دون اندماج السوري في المجتمع التركي، وغيره، أن المجتمع السوري قبل الثورة كان شبه مغلق، في عموم الأرض السورية، بل هنالك مجتمعات داخل المجتمع السوري كانت مغلقة على "الغريب"؛ ويمكن تلمس ذلك من خلال الطوائف، وتعبير "غربتلي" الشعبي المستخدم بشكل واسع. بل ومن خلال السياسة، عبر تحويلها إلى فضاءٍ سري ذي طابعٍ طوائفي، يُعدُّ فيه حتى المنتمي إلى حزبٍ آخر "غريباً" في دائرة الحزب الممنوع أصلاً من ممارسة السياسة علناً.

ربما كان انسحاب الناس من السياسة في مجتمعٍ كان مغلقاً، ولا يزال،  أبرز ملامح صعوبة اندماج السوريين في المجتمع التركي، بالرغم من الاتفاق العام على عبارة "نشبههم ويشبهوننا".

الكبت السياسي السابق، والفقر، وضيق أفق المستقبل، وجد متنفساً في التعبير عن مكبوتاته في ظواهر أعلنت عن نفسها هنا في تركيا، حتى لا نقول إنها غريبةٌ عن مجتمعنا. لكن هذه المكبوتات قد تصبح عادةً يمارسها بعض الشباب باستمرار بسبب ضغط الحياة الاقتصادية، وهذا ما جعل بعض السوريين يقعون أسرى عصابات تركية وسورية تتاجر في المخدرات، وفي بضاعة الليل من الجنس والرقيق المباح في شوارع القسم الأوروبي من عاصمة الحضارات القديمة.

بالطبع، هنالك فرقٌ بين التجنيس بالمعنى القانوني للكلمة، باكتساب الجنسية التركية، وبين التتريك والاندماج في المجتمع التركي. والنظر بخصوصية إلى علم البلاد العثماني الذي لم تغيره جمهورية أتاتورك حتى بعد تسعين سنة من الانقلاب الدراماتيكي، على "هوان" آخر سلاطين بني عثمان أمام الغزو الإنكليزي لبقايا السلطنة العثمانية التي تأسست على أنقاضها جمهورية أتاتورك.

والتتريك، قياساً إلى ذوبان السوريين في المجتمعات التي هاجروا إليها منذ نهايات القرن التاسع عشر، سيعني بعد حين إطلاق صفة "من أصل سوري"، بينما لا يعني التجنيس سوى حمل وثائق تركية، بما فيها جواز السفر، إلى جانب الجنسية السورية وجواز السفر السوري. وفي الفترة القصيرة، يبدو احتمال أن يتخلى السوري عن إحدى الجنسيتين وارداً، وفي الغالب سيتخلى عن الجنسية الجديدة إذا كان لابد من ذلك.

الظروف الآن تبدو أسهل للحصول على الجنسية، مقارنةً بعشرات السنين الماضية، التي لا يتعدى فيها عدد الأتراك من أصول سورية المئات أو الآلاف، أغلبهم اكتسب الجنسية بالزواج من تركي/ ـة. فلدى الحكومة التركية توجهٌ من هذا النوع غير محدد المعالم، سيكون على الأغلب انتقائياً، من خلال تسهيل حصول الكوادر السورية المتعلمة والمؤهلة على الجنسية، على خلاف تقبُّلِ دول أوروبية للاجئين بعمومهم، أو معظمهم، بغض النظر عن التعليم، أو السن، أو الجنس، أو الانتماء الطائفي.

حكايات سورية

حكايات السوريين في اسطنبول لا تحتاج إلى تتبع، فأينما تحركت، أو جلست، ستصادف حَزانى، وفقراء، ومتسولين، ومثقفين، وموسيقيين.

وستطرق أذنيك وعينيك سلبيات اللفظ والصورة، ما يجعلك تحنُّ إلى الكبت، حتى الكبت، حين كان الشباب السوري، ذكوراً وإناثاً، يتصفون "بالشهامة والتهذيب"، مضبوطين بأوامر السلطة والمجتمع والأسرة.

اليوم، هنالك آلاف الشباب منذ أربع سنوات يعيشون حياة الشارع بكل ما للكلمة من معنى، دون أن يكونوا مشردين. هؤلاء التقطوا مؤثرات "الحرية" دون ضابط، وبالضدّ من كل ما تعلموه من آداب التعامل طيلة سنوات أعمارهم الأولى.

والآن، هنالك أطفالٌ ومراهقون لم يرتادوا مدرسةً طيلة أربع سنوات، ودون توجيه من الأهل.

لا يعني ذلك دعوة للعودة إلى قمع الأسرة، أو السلطة، أو المجتمع، أو لوماً للشباب والمراهقين على ممارسة سلبيات الحرية في هذا الوقت الاستثنائي. فالجيدُ في هذه الفوضى أن هؤلاء الشباب وقعوا في اختبارٍ هائل للحرية فَتحَ النوافذ على مصاريعها، فدخلت كل أنواع "الحشرات" في رؤوسهم، كما دخلت تلك الحشرات في رؤوس الكبار دون استثناء، خاصةً الفقراء منهم اقتصادياً، الذين لم تتبدل أحوالهم المادية إلى الأسوأ كثيراً.

المفارقة هنا أن فقراء سوريا، بل ومن كانوا يُصنفون بالطبقة الوسطى، ممن لا يزالون في سوريا، أكثر بؤساً، الآن، حتى من فقراء السوريين في اسطنبول.

والسوريون، الآن، في مرجلٍ ممتد من سوريا، إلى تركيا وأوروبا، والعالم، مرجلٍ تختلط فيه أحزان غرباتهم، في الداخل والخارج، بآمالهم، ومرجلٍ تختلط فيه خيبات السوري من السوري، كلٌّ من جهته، ومرجلٍ تشتعل تحته نيران تشبهها نيران اللجوء الفلسطيني، الذي حَوّلَ كثيراً من مفردات اللجوء المأساوية إلى نقاط قوة، دون أن يفقد الفلسطيني حلم العودة إلى البلاد.

SaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSave

علي العائد

كاتب وصحفي سوري مقيم في اسطنبول. متخصص في النقد الأدبي. يكتب مقالات أسبوعية في عدد من الصحف والمواقع العربية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.