ماذا يعني "المترو بوس" للاسطنبوليين؟
ترجمة: يسرى مرعي
استمراراً لملاحظاتنا على مستوى الشارع في الحياة التركية، أود أن أكرّس بعض المساحة لموضوع شكّل جانباً مهماً للغاية في حياتي على مدى الأعوام الخمسة عشرة الماضية: المواصلات (وسائل النقل) العامة في اسطنبول.
عندما انتقلت إلى اسطنبول في عام 1999، لم يكن هناك مترو أنفاق أبداً. وقد يكون ذلك مفاجئاً بالنسبة لأولئك الذين قضوا وقتاً في اسطنبول مؤخراً واستخدموا نظام النقل بالسكك الحديدية العام المتوسع باستمرار. إذ أنه من الصعب جداً الآن تصوّر التنقل في أرجاء اسطنبول من دون أنظمة مترو الأنفاق.
في عام 1999، كانت أنظمة النقل بالسكك الحديدية الوحيدة الموجودة في اسطنبول، خط القطارات الخفيفة والذي امتدّ في ذلك الوقت من يني بوسنة إلى إيمينونو فقط، بالإضافة إلى خط القطار القديم والذي سار عبر سيركجي إلى ضواحي اسطنبول الغربية، والتي كانت في الواقع النهاية الشرقية لقطار الشرق السريع*.
وكانت النتيجة، أنه للوصول إلى أي مكان تقريباً في اسطنبول، كان على الشخص أن يستخدم الباصات العامة. وبالنسبة للباصات العامة في تلك الفترة لم يكن هناك سوى خيارين: باصات (Ikarus) الهنغارية الصنع الحمراء والبيضاء والباصات ذات اللون الأزرق المائي (تُدار فنياً من قبل القطاع الخاص) والتي كانت أجدد. وغالباً ما كانت مقاعد باصات (Ikarus) خشبية، بلا تكييف، وبلا نظام تعليق حرفياً. لكن غالباً الناس الذين خبروا اسطنبول فقط في الأعوام الخمسة أو الستة الماضية، لم يروا واحداً من هذه الباصات الحمراء والبيضاء، إذ بداية من عام 2004، تدفقت بانتظام باصات جديدة (أولاً الخضراء ومن ثم الصفراء والأرجوانية) إلى قوافل باصات اسطنبول؛ أمّا الباصات الحمراء والبيضاء الأقدم، فقد نُقلت تدريجياً إلى خطوط تخدم الضواحي البعيدة، ومن ثم سُحِبت تماماً تدريجياً. أما الباصات ذات اللون الأزرق المائي فقد كان من الممكن رؤيتها على الطرق مثل خط (500T)، وهو الأطول في اسطنبول، ومع ذلك لا يوجد فيها مكيف هوائي.
وقد عنى الواقع في ذلك الوقت، أن كلا الخيارين كانا تعذيب: فحركة المرور في اسطنبول، إذا كان يمكن للمرء أن يتصور، كانت أسوأ بكثير لمستخدمي وسائل النقل العام، أي، الطبقات العاملة والكثير من الطبقات الوسطى. وكانت الأسباب تكمن في نقص خيارات السكك الحديدية، مما أنتج ازدحاماً شديداً على الباصات، وازدحام سير خانق على الشرايين الحضرية الأساسية، وخاصة الطريق السريع (E-5).
منذ خمسة عشر عاماً مضت، كان يجب على الشخص عموماً أن يحسب ساعتين لينتقل من مجيدية كوي إلى مطار أتاتورك عبر الطريق السريع (E-5)، ومن ثم يصلّي لكي لا تصادفه حوادث على الطريق. وكان على الشخص أن يتوقع الإنهاك من الرحلة بسبب الوقوف لمدة في الباصات الشديدة الازدحام لأن الحصول على مقعد كان من النوادر.
حسّنت خيارات السكك الحديدية الإضافية ذلك الوضع بشكل كبير خلال الأعوام الخمسة عشر التي مضت، ولكن التطوّر الأعظم كان المتروبوس. وسأشرح السبب تالياً.
يتيح الطريق السريع (E-5) امكانية الوصول إلى كل المناطق المركزية الأساسية في اسطنبول تقريباً، من أفجيلار (Avcilar) في أقصى الغرب إلى كارتال (Kartal) وبِنديك (Pendik) في الشرق البعيد. إنه المعبر الذي يستخدم جسر البوسفور الأول ليصل طرفي المدينة.
كما يوفر الطريق (E-5) وصول وسائل النقل إلى أغلب المناطق ذات الكثافة السكانية العالية في اسطنبول، خاصة أحياء مثل (Avcilar, Esenler, Bagcilar, Gungoren, Bahcelievler, Zeytinburnu). اذ يقيم ملايين من الناس في هذه المناطق من المدينة، أما على الطرف الآسيوي من المدينة، يسير خط (E-5) بين أحياء "Gold Coast" على شاطئ بحر مرمرة من مودا (Moda) إلى دراغوس (Dragos)، والأحياء الداخلية للطبقة العاملة من عمرانية (Umraniye) إلى بِنديك (Pendik). وإقراراً بأهمية خط (E-5) للنقل، فإن أول قطار أنفاق (مترو) بُنِي في الجانب الأناضولي من المدينة (والذي افتُتِح في أواخر 2012) يتتبع في غالبه ال (E-5).
بُني خط المتروبوس على عدة مراحل بدءاً من عام 2006. أولاً، أُنهي الخط من أفجيلار (Avcilar) إلى توب كابي (TopKapi) وافتُتح في عام 2007. ثم مُدّد إلى زنجيرلي كويو (Zincirlikuyu) في عام 2008، وأخيراً من زنجيرلي كويو (Zincirlikuyu) عبر جسر البوسفور الأول إلى (Sogutlucesme)، التي تقع قرب ملعب نادي فنار بهتشة (Fenerbahce) الرياضي في كاديكوي (Kadikoy)، في عام 2009.
يسير المتروبوس ضمن ممرين واسعين مبنيين في منتصف الطريق السريع (E-5)؛ يمنع سياج على كل طرف حركة المرور العادية من الانحراف نحو ممرا المتروبوس. ولأن طريق (E-5) مهم بشدة للنقل في اسطنبول، فقد خلق إنشاء المتروبوس مشاكل مرورية هائلة إضافة إلى التي كانت موجودة أساساً. تنقلت مراراً لسنوات عديدة على طريق (E-5)، خلال إنشاء المتروبوس، لعنت الفكرة مع كل شخص آخر. ولكن ما أن افتُتح المتروبوس، وأصبحت قادراً فجأة على الانتقال من مجيدية كوي (Mecidiyekoy) إلى مطار أتاتورك خلال 30 إلى 35 دقيقة قابلة للتنبؤ (انتقالاً إلى خط السكك الحديدية الخفيف في شيرين إيفلار(Sirinevler)/آتاكوي (Atakoy)) بدلاً من ساعتين، سرعان ما غيّرت رأيي. ببساطة، كان المتروبوس تغييراً جذرياً في مواصلات اسطنبول. إذ فجأة أصبح التنقل من ضواحي اسطنبول الغربية البعيدة إلى مركزها سهلاً وسريعاً.
يعمل المتروبوس بالشكل التالي: تنتقل حافلات مزدوجة الطول في مجموعات من محطة إلى محطة على الخطوط، وليست الفجوة الزمنية بين المجموعات طويلة؛ غالباً ليس بأكثر من دقيقة إلى اثنتين. فالفكرة هي تأمين نموذج على السطح، سريع، ويمكن الاعتماد عليه، من قطار الأنفاق (المترو) النموذجي. وقد نجح النظام في ذلك بشكل مذهل. فبينما كان ركاب اسطنبول الذاهبين إلى أعمالهم يومياً (مرة أخرى وللتأكيد، فإن ذلك يعني الطبقة العاملة وغالبية الطبقة الوسطى في اسطنبول) معتادون على قضاء ساعات مُرهقة وقوفاً في باصات متهالكة، انخفضت الآن ساعات الانتقال انخفاضاً كبيراً. الباصات مُريحة أكثر، وتعمل بشكل أفضل، وفيها مكيّفات هوائيّة، وتعمل 24 ساعة يومياً.
الآن، أي شخص يقوم ببحث على غوغل حول متروبوس اسطنبول، سيجد سريعاً شكاوي كثيفة حوله. وهذه الشكاوي هي ما سأناقشه تالياً.. النقد الأساسي هو حول الازدحام الكبير في الباصات، خاصة خلال ساعات الذروة. في الواقع، فإن الباصات تكون مزدحمة بشدة في ساعات معينة. ولكن نأخذ بعين الاعتبار بعض الحقائق.
قبل كل شيء وكما وصفت سابقاً، يسير المتروبوس على طريق (E-5)؛ وهو أكثر الطرق السريعة أهمية في اسطنبول. إذ لا يتعلق الأمر فقط بكونه يسير عبر كل المدينة من طرف إلى آخر، ولكنه أيضاً يوفر وصول وسائل النقل الجماعي إلى أكثر مناطق المدينة اكتظاظاً بالسكان. بعبارة أخرى، فإن الطلب على الباصات عالي، ويؤمن المتروبوس وسيلة نقل سريعة إلى ملايين الناس حرفياً. وبالنتيجة، فإنها يمكن أن تكون مزدحمة تماماً مثل وسائل النقل العام في المدن الكبرى العالمية الأخرى.
إن الطلب على المتروبوس كبير لدرجة أن عمدة اسطنبول، قادر توب باش (Kadir Topbas)، ذكر في الماضي أن خط مترو حقيقي سيُنشئ تحت طريق المتروبوس على (E-5)(1). ومن الآثار الهامة لرواج المتروبوس أن معظم سكان اسطنبول باتوا أكثر حركة وأقل تقوقعاً في أحيائهم. وقد زاد هذا من الإمكانية والرغبة للتنقّل محليّاً، وخاصة بالنسبة للطبقات العاملة. وأيضاً كنتيجة؛ فقد اختلطت الطبقات العاملة والطبقات الوسطى بشدّة أكبر بكثير من الماضي. وقد زادت أيضاً أنظمة السكك الحديدية المبنية في السنوات الخمس عشر الماضية من هذا الأثر.
ويبدو أن لهذا الميل الى الموقف والتغطية السلبية تجاه المتروبوس أساسان اثنان، وهذا ما سأناقشه تالياً.
لماذا يحظى المتروبوس بصحافة سيئة كهذه؟
“الرجل في الشارع، لطالما اشتبه أبولّون آبولّونوفيتش أن شيئاً صغيراً يطير خارج الفتحات المصقولة لعربته... والآن كل الفضاءات أمامه قد تبدلت: فجأة أحاطته حياة الرجل في الشارع بقناطر وجدران... وقد أبدى أبولّون أبولونوفيتش اهتماماً بالرجل في الشارع، وكانت هناك لحظة بات مستعداً فيها ليطرق الباب الأول، من أجل أن يجده؛ لكنه عندها تذكر أن الرجل في الشارع كان يستعدّ لينفّذ له الموت بأكثر طريقة مذلّة... عرف أبولو أبولونوفيتش من التجربة أنهم كرهوه (صباحاً ومساءً سار مغلّفاً بضباب حقدهم). ولكن من كانوا هم؟ حفنة صغيرة تافهة، كريهي الرائحة مثل الجميع؟ ... أندريه بيليه، رواية بطرسبورغ، الفصل الرابع "رجل في الشارع"...
ناقشت فيما سبق سبب كون المتروبوس تجربة ثورية بحق في النقل الجماعي. ومن ثم ذكرت أنه على الرغم من تأثير المتروبوس الإيجابي والهائل في النقل في اسطنبول، فقد بقيت قطاعات من الصحافة التركية عازمة على تصوير ذلك بشكل سلبي تماماً، وحتى بوصفه فشل.
يبدو أن التقييم السلبي للمتروبوس ينبع من مصدرين أساسيين. الأول هو الكراهية الشديدة والعنيدة للمعارضة لأي شيء يفعله حزب العدالة والتنمية. في الواقع، فإن المتروبوس هو نظام ناجح بشكل كبير، سهّل حياة ملايين من قاطني اسطنبول، وقد أنشأته بلدية اسطنبول الكبرى، في ظل عمدة (منتمي ل) حزب العدالة والتنمية قادر توب باش. ولكنك لن ترى إقراراً كهذا في الصحافة المعارضة.
في الحقيقة، لا يزال من المستحيل نفسياً بالنسبة للشريحة "العلمانية" من المجتمع التركي، أي هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم يحوزون "الحضارة" على النقيض من بقية المجتمع التركي، أن يقرّوا أن هؤلاء الناس يمكنهم أن ينجزوا أشياءً عظيمة. وهذا أيضاً هو جوهر معارضة هذه المجموعات لمشاريع البنية التحتية مثل الجسر الثالث فوق البوسفور، ونفق مترو مرمرة تحت مضيق البوسفور، والجسر فوق الطرف الشرقي لبحر مرمرة، والقطارات السريعة، ومطار اسطنبول الجديد... الخ. أستطيع أن أؤكّد التالي، لو كانت كل هذه المشاريع برعاية حزب الشعب الجمهوري (CHP)، فلن تجد المجموعات "العلمانية" في المجتمع التركي أي صعوبة على الإطلاق في تأمين الثناء السخي.
وهذا يقود إلى السبب النهائي للشكاوي حول المتروبوس: الطبقة الاجتماعية. واقع مهم يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار، ألا وهو أن المتروبوس يفيد الطبقات المتوسطة والعاملة. إذ أن الطبقة العليا تملك مسبقاً سيارات وغالباً ما تقودها (يستطيعون تحمل كلفة الوقود أيضاً)، وبالتالي فهم ينظرون للمتروبوس من بعيد، وبازدراء... وعندما تتخطاهم الحافلات مسرعة بينما يجلسون في الزحام على طريق ال (E-5): "ماذا؟ كيف يعقل أن تحصل الجماهير الغوغاء على وسائل نقل أسرع منّا بكثير؟؟؟" تجرّأ القليل من نخب اسطنبول على صعود الحافلات فعلاً بما أن ذلك يعني الاحتكاك مع الأدنى منهم اجتماعياً. تزودهم أيضاً الصحافة المعارضة ووسائل التواصل الاجتماعي بالكثير من الأعذار لعدم الصعود: الاكتظاظ، وسوء النظافة الشخصية للطبقات العاملة، ومضايقة النساء، الجريمة الصغيرة النادرة. ولكن الحل المقدّم من البلدية بتوفير حافلات معيّنة خصيصاً للنساء لاستخدامها كبديل، قُوبِل بصرخات "الشريعة!"، كأحد تعابير المرض النفسي لنخب المجتمع التركي.
النتيجة الإجمالية هي التيار الأساسي للتغطية السلبية، من ثم سردية خبيثة مستمرة تظهر في أي وقت يتورط المتروبوس فيه بحادث ما ف وعندما تُقترح حلول حقيقية لمشاكل حقيقية، يُواجه الاقتراح بالسخرية ونقاط الخطاب الكمالية المبتذلة. لم يتغير هذا على مدى عشر سنوات.
لإنهاء هذه المقالة، أود ببساطة أن أشجع القرّاء على تجربة المتروبوس عندما تسنح لهم الفرصة. سيكون مزدحماً خلال ساعات الذروة في الصباح والمساء، ولكن سيكون أقل ازدحاماً خلال باقي أوقات اليوم. في النهاية، سوف تصل إلى مكان ذهابك بسرعة، وهذا هو بيت القصيد.
حواشي الترجمة:
* قطار الشرق السريع: هو قطار لنقل المسافرين لمسافات طويلة، أُنشِئ عام 1883. تغيّر مساره ومعداته عدة مرات. ومع أن قطار الشرق السريع كان في البداية مجرد خدمة سكك حديدية دولية عادية، ولكنه مع مرور الزمن أصبح يُرادِف الإثارة والسفر الفاخر. ومن أبرز المدن التي يربطها قطار الشرق السريع هي باريس والقسطنطينية (اسطنبول).
المصدر الأساسي للمقال: انظر الرابط.
الهوامش:
1 انظر الرابط و الرابط.
2 انظر الرابط.
4 انظر الرابط.
يسرى مرعي
مترجمة من سوريا، تترجم عن اللغتين الإنجليزية والروسية. تركز في ترجماتها على الدراسات التي ترصد علاقة الحداثة بالعمارة في الشرق الأوسط. إضافة إلى الاهتمام بالدراسات حول الإسلام اليومي والاستشراق.
آدم ماك كونيل
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.