الرقة من العشيرة إلى المدينة: المخفر العثماني.. دويلات عابرة.. البعث والجهاديون (1-3)
في مطلع ستينات القرن التاسع عشر، وصل ثلاثة أخوة إلى تلك الأرض اليباب الفارغة من السكان منذ هجوم التتار عليها في القرن السابع الهجري، وتدميرها وقتل سكانها جميعاً، هؤلاء الأخوة هم: (عْلاص الحسون) و(مهاوش الحسون) وشقيقهما الثالث، وهو فتى صغير يافع، اسمه (خلف الحسون)..
وصل الأشقاء الثلاثة الذين ينتمون إلى فرع من قبيلة زبيد اليمنية، (وقد دخل فرعُها باكراً في الحلف العشائري الذي أطلق عليه اسم عشائر العكيدات في ريف دير الزور)، وصلوا مع عائلتهم وبعض قرابتهم المباشرة من بلدة "العشارة" شرقي ديرالزور، إلى هذه البقعة الخالية إلا من بقايا آثار عباسية دارسة، وأطلال حجارة تعصف بها الريح في هذا الخلاء المترامي.
كانت الدولة العثمانية وقتذاك تشعر بالبأساء من هول كل ذلك الفراغ السكاني الممتد من تخوم ساحل الشام ومدنه الداخلية، وحتى عمق مدن العراق. وقد أصاب المنطقة نقصٌ سكاني كبير، واعتراها التَقَرُّع والفراغ من البلدات والقرى والقاطنين، خلا البدو الرُّحل والعابرين الطارئين، فبقيت ملعباً للوحوش ومرتعاً لرعاة الغنم المتنقلين بخيامهم، وملاذاً آمناً للخارجين على القانون وقطاع الطرق، والهاربين من التجنيد الإجباري.
شرعت الدولة العثمانية في تشجيع العشائر الأكثف تواجداً سكانياً في ريف دير الزور الشرقي وبوابة البصيرة، مسرى الفرات وهو ينسرب باتجاه العراق على مَلء فراغ هذه الجغرافية المتسعة الخالية من القرى والمدن، وكفلت لهم حياة آمنة نسبياً، مع بعض الميزات في التملك وسراحة الأغنام وخدمات بسيطة، وكانت الدولة العثمانية قد اتخذت في هذه البقعة من المكان مخفراً صحراوياً صغيراً، يدعى بالتركية "القره قول"، وصار يُختصر باسم "القول".. ومن هذا المخفر العثماني، "القول"، جرى سحب التسمية على كل أولئك الساكنين الجدد والقاطنين بجواره.. فسُميت فيما بعد عشائر "القول"..
أوكل الأخوة الثلاثة إلى الأخ الأكبر (عْلاص) وظيفة الرئاسة التقليدية للعائلة الصغيرة، والتي سوف تتمايز لاحقاً تحت مسمى عشيرة، وبعد بضعة سنوات سوف تخطط لبناء المضافة التقليدية في كل بيت عربي وعشيرة، والتي تسمى محلياً بـ "الأوضة"، كما حمَّلوا شقيقهم الأصغر (خلف)، عبء الاهتمام بمشاغل العمل التقليدي المألوف في متابعة شؤون الزراعة وتربية قطيع الغنم الكبير، وهي أعمال مكلفة ومجهدة.. وبعد سنوات قليلة، سيضاف إلى أعباء الشاب الصغير خلف الحسون عبءٌ جديدٌ، هو بناء "الأوضة" الخاصة بتلك الأسرة التي جعلت تتطور إلى عشيرة صغيرة..
في بقعة من ذلك الخلاء، ظهر أثر قبرٍ قديم محت آثارَه السنون، وبقيت نسبة صاحب القبر الذي تحيط به الشكوك، والموشك على الزوال تحمل كنية (البخاري). ومن المعلوم أن هناك عشرات ومئات من الأعلام والشخصيات التاريخية التي مرت عبر عصور الدول الإسلامية، كلها تحمل لقب (البخاري)، وهي نسبة كانت تطلق على أي رجل يرجع مولده أو موطن سكناه إلى مدينة بخارى، غير أنه لأمر ما، ربما كان تغليب عاطفة دينية تحاول أن تضفي على المكان قدسية الأعلام الراحلين، اعتقد الناس أن هذا القبر هو قبر (محمد بن اسماعيل بن بردزبة)، الشهير بالبخاري، جامع الأحاديث النبوية الصحيحة الأول في تاريخ التدوين الإسلامي.. فأعاد الناس بناء القبر من جديد، ورمموا أثره المتداعي، واعتمدوا على ذاكرتهم التي تلتقط من ذكريات التاريخ وتؤسسها على بنى حجرية تُطَوِّف المكان بالبركة والقداسة.. من هذا الموروث المعتقدي الشعبي خطط خلف الحسون لبناء "الأوضة" في البقعة التي جمعت تلك الحجارة المتداعية التي يسمونها قبر البخاري، فضم قبر البخاري المزعوم، وجعله مشتملاً في واجهة أساسات بنائه، وعند مدخل الباب الرئيسي لـ "الأوضة"، وجعله في زاوية الفناء الواسع لأول أوضة تشاد في المكان الذي سوف يدعى لاحقاً مدينة الرقة، وارثاً الاسم القديم الذي كانت عليه هذه البقعة من الأرض منذ ما قبل الإسلام.
هكذا تمت عملية مقايضة بين القداسة التي ينطوي عليها ما يدعى قبر البخاري وبين العشيرة؛ فمنح القبر للأوضة قداسة متوهمة وقيمة روحية إضافية، بينما كفلت الأوضة له الترميم وعودته بناءً متماسكاً بعد اندثار، وبثت فيه وقار القبور وروحانيتها، وحبته بالفواتح والتوقير، وحَفَّته بالهيبة والمتبركين به، وطفق الناس يتحدثون فيما بعد عن كراماته والمعجزات التي يحملها القبر، وظهوراته المتكررة في المنامات.. (ماتزال الأوضة وقبر البخاري قائمة حتى كتابة هذه السطور).
بعد عشر سنوات تلت بناء الأوضة، أرسل رجال العشيرة الصغيرة إلى مدينة حلب لجلب حجر محفور عليه تاريخ الأوضة، وبالفعل جيء بالحجر الذي حفر عليه هذا التاريخ(بنيت عام 1307 هـ)، وهو العام الموافق في التاريخ الميلادي لعام 1889م، مع أن كهول العشيرة المتقدمين في السن قد أجمعوا على أن فكرة استحضار الحجر المحفور من الحجارين في حلب قد تأخرت إلى ما بعد بناء الأوضة بثماني أو عشر سنوات بعد اكتمال بناء الأوضة، وقد أقدم خلف الحسون على تثبيت الحجر المؤرِخ للأوضة فوق بابها الرئيسي، شاهداً متأخراً عشر سنوات على تاريخ بنائها،(ما يزال الحجر المحفور عليه التاريخ قائماً حتى اليوم).
يُستدل من تاريخ الحجر أن الأوضة قد بنيت حوالي عام 1880 م، وأن الأخوة الحسون وعشيرتهم الصغيرة قد وصلوا الرقة حوالي عام 1865، أو قريباً من هذا التاريخ، مع أن جميع المؤرخين والموثقين التاريخيين، المحليين والرحالة الأجانب والمستشرقين، قد أجمعوا على أن الرقة/المدينة اليوم، لم يكن لها أي أثر قبل عام 1860، ولم يسكنها أي إنسان على الإطلاق منذ غزو التتار لها حتى العصر الحديث، وأن أول القادمين إليها وفد بعد هذا التاريخ الأخير..
بعد أن أوشك بناء الأوضة على الانتهاء، قرر خلف الحسون بناء الجامع، وهو ما كان من أولى أولويات بناء أية قرية صغيرة ناشئة، وقد اختار البقعة والمكان الذي انتوى فيه بناء الجامع ملاصقاً للدور التي سكنها هو وأبناء أخوته وعشيرته الصغيرة، وكانت عادة السكنى حذاء الجامع وإلى جواره عادة قديمة ومألوفة، منذ أوائل تاريخ الإسلام، حيث ظل الناس يلتصقون بالجامع بعد بنائه، أو يجاورونه حين يقدمون إلى بقعة للسكنى فيها، لأسباب معتقدية تشيع طمأنينة وسكون داخلي في الأفئدة بأن البركة والخير في مجاورة بيت الله من جهة، ومن جهة ثانية لأن قرب منازلهم من المسجد يوفر عليهم عناء السير الأطول للوصول إليه أثناء حضور الصلاة، خاصة صلاة الفجر الأكثر مشقة من صلوات النهار.
سافر خلف الحسون إلى مدينة حلب، وقابل الوالي العثماني، وطلب منه الإذن في ترخيص الجامع، ولقد راسل الوالي السلطان العثماني في الأستانة، والذي سُرَّ من نية خلف الحسون ببناء المسجد في البقعة المخصصة، وأرسل السلطان إلى الوالي في حلب بأن يوفر لخلف الحسون كل ما يحتاجه من دعم ومساعدة في هذه المهمة. شرع خلف الحسون عقب عودته في جلب الحجارة اللازمة لبناء الجامع، واستحضار البنائين الكفوئين، وتتابع العمل في بناء أول جامع في البلدة الصغيرة الناشئة.. وقد أكد كبار السن أن بناء جامع الحميدية، الذي أطلَق عليه عامة الناس فيما بعد اسم الجامع الكبير، لأنه يحمل اسم السلطان العثماني عبد الحميد، وهذه عادة مألوفة في كل مدن وبلدات بلاد الشام تقريباً؛ أكدوا بأن العمل في بناء الجامع قد انتهى بعد بناء الأوضة بزمن قصير.
زوّد الوالي في حلب خلف الحسون ببعض المال ليستعين به على إتمام بناء الجامع، وبعد الانتهاء من الأعمال سافر خلف الحسون إلى حلب لمقابلة الوالي واطلاعه على مجريات العمل وكلفة البناء، وردَّ للوالي آخر مبلغ زاد عن حاجته في إتمام بناء الجامع، وهو حوالي 50 مجيدية كما ذكر، وعاد قافلاً من حلب وبحوزته أوراق ودفاتر الحسابات التي تم إقرارُها وختمُها بينه وبين الوالي،(هذه الأوراق، أوراق حسابات الجامع، الممهورة بأختام الوالي وخلف الحسون، ماتزال محفوظة لدى ورثة خلف الحسون حتى اليوم)، وامتناناً من السلطان، وعربون وفاء لهذا الأعرابي الأمي والبسيط الطبع، والمكافح الصلب القوي الشكيمة، أرسل السلطان العثماني إلى الوالي في حلب بتقديم هدية مجزية لخلف الحسون، وفاءً على ما بذل من جهد وما قام به من عمل، فقدم له القائم مقام "صينية" نحاسية واسعة يقارب قطرُها المتر ونصف المتر، مزخرفة بزخارف بديعة بخط مزخرف عريض، أوصى عليها الوالي من سوق النحاسين بحلب، وأمر أن يُحفر عليها اسم خلف الحسون مع تاريخ صناعتها، إلى جانب اسم الوالي والسلطان العثماني، ومع الصينية مجموعة من دلال القهوة المرة والمناقل النحاسية وبعض الأشياء الصغيرة الأخرى (ماتزال هذه الصينية والهدايا الصغيرة محفوظة حتى اليوم لدى ورثة خلف الحسون).
ثم اقتطع خلف الحسون قطعة الأرض التي تقابل فناء الدار الكبيرة، والتي سوف يعمرها الفرنسيون فيما بعد خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، لتكون بناءً مقرراً كمبنى عام للحكومة،(تم اتخاذها فيما بعد كقسم للشرطة الداخلية، ثم المبنى الرئيسي للمتحف والمديرية العامة للآثار والمتاحف)، وهي خلاء فارغ يبدأ من الدار المذكورة منحدراً إلى الجنوب باتجاه الفرات، وقَسَمَها شقين لغرض بناء سوق للمدينة الناشئة، احتاز هو وشقيقاه الأكبران، علاص ومهاوش، الشق الأيسر في الاتجاه المنحدر إلى الفرات، وبنى فيها من الطين والفخار والأعمدة الخشبية، متاجر و"دكاكين" وفرناً للأهالي.. وقد ترك ضفتها اليمنى خالية لمن يشاء من الأهلين أن يعمرها متجراً أو محلاً تجارياً، فكانت بذلك أول سوق رسمية تشيد على أرض المدينة الناشئة حديثاً، ولقد منحته السلطات العثمانية وثائق ملكية بها، ماتزال حتى تاريخ اليوم مسجلة باسمه واسم أخويه، بالتاريخ والطابو العثماني القديم الذي كانوا يدعونه باسم "قوشان".. وما يزال ورثته الشرعيون وورثة أخوته يستثمرون هذه المحلات ويؤجرونها ببدل حتى تاريخ اليوم، وهي مجموعة من المحلات التجارية متصلة البناء، ابتداءاً من مبنى المتحف وحتى زاوية التقاء السوق بشارع هشام بن عبد الملك، مقابل ما يدعى بستان البلدية، وبقية باقية منها ماتزال على بنائها الفخاري الطيني وسقفها المصنوع من الأخشاب، كالشاهدية الآثارية، حتى اليوم. فكانت هذه السوق الصغيرة هي نواة سوق المدينة الذي تفرع فيما بعد، وتمدد شرقاً وغرباً فيما سمي لاحقاً باسم السوق الشرقي، أو "شارع القوتلي "الحالي.
بعد بناء الأوضة والجامع والسوق، فكر خلف الحسون في بناء دار البلدية للرقة، وقد سافر إلى حلب وعرض الفكرة على الوالي الذي شجعها واستحسنها، وأرسل إلى السلطان العثماني يطلب الإذن منه في بناء البلدية، وبعد أن أصدر السلطان أمره بالموافقة على البلدية أرسل بالأمر السلطاني بتعيين خلف الحسون كأول رئيس لبلدية الرقة الناشئة، فعاد خلف الحسون، ومعه الأختام السلطانية الخاصة بالبلدية، وأمراً ببنائها وتعيينه رئيساً عليها،(ماتزال هذه الأختام الخاصة ببلدية الرقة محفوظة لدى ورثة خلف الحسون حتى اليوم)، وحتى يومنا هذا ثُبتت لوحة على واجهة القصر البلدي في الرقة من داخله، يطالعها المرء لدى دخوله الباب الخارجي، وفوق باب المكتب الرئاسي لرئيس البلدية، لوحة مكتوب عليها أسماء كل رؤساء البلديات الذين تعاقبوا على بلدية الرقة، وفي مقدمة الأسماء اسم خلف الحسون بصفته الرئيس الأول للبلدية. وقد تولى مهام البلدية لفترة قصيرة ثم استقال منها (مع أنه طُلب إليه ترؤس البلدية لدورتين؛ الأولى والثالثة، وفي كلتا الدورتين لم يستطع صبراً على متابعة العمل الوظيفي، فاستقال بعد فترة قصيرة من عمله في الدورة الأولى والثالثة).. ونعتقد أن أسباب عدم متابعته في رئاسة البلدية ترجع إلى كونه متفرغاً لشؤون أعماله الزراعية الكبيرة والكثيرة، ومزاولته تربية الغنم التي تحتاج إلى جهد وفير ومتابعة وتنقل خلال فصلي الربيع والصيف في البرية المحيطة بالرقة، بحثاً عن المرعى والكلأ، فضلاً عن حقيقة كون الرجل أمياً، لا يحسن القراءة والكتابة جيداً، قد جعلته يؤثر الابتعاد عن أعمال الحكومة ودوائرها، وقد بدأ يفكر بعد ذلك في بناء حلفه العشائري الخاص به.
كانت قبيلة العفادلة في ريف الرقة الشرقي، وماتزال حتى اليوم، من أكبر القبائل التي سكنت منذ وقت مبكر في ريف الرقة قبل بناء نواة المدينة، وقد استأثرت بالمكان واستقرت بجانب الفرات على شاطئه الشمالي من جهة الجزيرة، وعملت على الاستفادة من النشاط الزراعي من خلال تملكها سرير النهر ومعظم شاطئيه الطويلين من جهة الجزيرة والشامية، وأراضيه الخصبة البكر، في المنطقة الممتدة من غربي الرقة وحتى أقصى حدودها الشرقية، وتعد قبيلة العفادلة اليوم قريباً من ربع مجموع سكان المحافظة أو ربما أكثر من هذه النسبة.
يعود العفادلة بنسبهم إلى أصول يمنية هاجرت على شكل موجات من جهات العراق، منذ أكثر من ثلاثة قرون قبل هذا التاريخ، وتتألف هذه القبيلة التي ترجع بنسبها إلى أصول يمنية من خمس بطون كبيرة جميعها كانت تشاطىء سرير النهر حتى حدود خروجه من المحافظة ودخوله في محافظة دير الزور، وعشائرها الخمس هي: المدلج الظاهر والموسى الظاهر والغانم الظاهر والبريج الظاهر والاحوس الظاهر.. ومع هذه العشيرة الأخيرة، ربطت علاقة وطيدة ما بين خلف الحسون وبين أميرها، أكبر ملاك الأراضي في تلك الآونة؛ "عجيل باشا الحملة"، الذي حملت القرى التي تقطنها عشيرته وأقرباؤه الأدنون اسم "خس عجيل" حتى يومنا هذا، فكان "عجيل الحملة" لا يزور المدينة إلا ليحلَّ ضيفاً على منازل خلف الحسون وأخوته، وليزور أوضتهم، وكانوا دائمي الزيارة والتردد على منزله ومضافته في قريته "خس عجيل". هكذا بدأت الصلة بين (عشيرة الرقة)، المدينة الصغيرة والحديثة، وبين عشيرة الريف القوية والكبيرة، والتي هي فرع من قبيلة العفادلة، تقوى وتترسخ، ما دفع بخلف الحسون إلى التفكير ببناء حلف أقوى صلابة من مجرد الصداقة العابرة، والاتصال بالعفادلة بطريق المصاهرة والنسب، فقرر أن يزوج أصغر أبنائه من إحدى بنات الشيخ "عجيل باشا الحملة"، فخطب منه ابنته "عمشة بنت عجيل الحملة" لابنه ابراهيم بن خلف الحسون،( جد كاتب المادة) ووافق عجيل الحملة مسروراً، وزفت ابنته إلى الرقة المدينة، مغادرة قريتها لتقطن في دار خلف الحسون حتى تاريخ وفاتها.
توفي خلف الحسون في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، بعد أن أسس لبناء العشيرة والمدينة معاً، فقد أسس العشيرة من خلال بناء الأوضة (مع العلم بأنه حتى وفاته لم يتقدم على شقيقه الأكبر عْلاص في رئاسة العشيرة، وآثر التفرغ طوال حياته لأعمال الزراعة وتكثير قطعان الغنم)، وأسس للمدينة من خلال بناء جامعها الرئيسي وسوقها الرئيسي وبلديتها، وقد أورث ورثته وورثة أشقائه من بعده قريباً من خمسين أرضاً زراعية (يسمي أهل الرقة الواحدة منها "زرعة"، وخص ثلاثاً من هذه الزرعات وقفاً حصرياً للأوضة من أجل الإنفاق عليها وتغطية مصاريفها السنوية)، فضلاً عن بضعة آلاف من رؤوس الغنم التي تركها خلفه قبل أن يوارى الثرى.
وهنا لابد أن أشير إلى نقطة هامة، تختص بمسألة اللهجات في المدينة قبل استكمال الحديث عن تاريخ المدينة، وهي أن لهجة البوشعبان عامةً (والعفادلة بصورة أخص لتماسهم المباشر والأكثر بالمدينة، وصلتهم المباشرة بها) قد عملت ما يمكن أن اصطلح على تسميته بـ" المعايرة اللغوية"، أي تقارب الفوارق بين اللهجات المختلفة، وتقاطعها في بوتقة شبه موحدة، لا يكاد المرء يلحظ الفوارق الدقيقة فيما بين لهجات الريف الرقاوي المختلفة من جهة، ولهجة الريف مقرونة إلى لهجة أهل الرقة المدينة، هذه المعايرة الضابطة لوحدة انسجام مخارج الحروف وطريقة التعبير الموحدة لغوياً، تم ضبطها وتعييرها على اللهجة الأم لقبيلة البوشعبان، والأمر نفسه يقاس على موجات الهجرة اللاحقة التي استوعبتها المحافظة بعد عشرينات القرن العشرين، حيث استقبلت أسراً كثيرة من مناطق حلب وريفها: السفيرة وتاذف والباب وأخترين والأتارب، إضافة إلى هجرة أسر كثيرة من معظم محافظات سوريا الداخلية، خاصة منطقة السخنة في بادية حمص، ومحافظات دير الزور والحسكة وحلب وإدلب، فضلاً عن استيطان أعدادٍ من الأرمن الذين فروا من تركيا، في بدايات القرن العشرين، واستوطنوا الرقة، وعايروا لهجتهم المحلية بلهجة أهلها.. حتى أن المرء اليوم، لولا خصوصية التسميات الشخصية والأسرية، لا يكاد يلحظ إلا بصعوبة، الفارق في طرائق التحدث بين البوشعباني والرقاوي المديني(القولي) والأرمني الرقاوي، حين يتحدث الجميع بلهجة شبه موحدة، تمت معايرتها تاريخياً وضبط معظمها على طرائق مخارج اللفظ لقبيلة البوشعبان خلال قرن ونصف.
حارات المدينة:
لأمرٍ ما، أطلق أهل الرقة على أسماء عشائرهم وأماكن سكناها اسم "الحارات".. ربما كان ذلك يعبر عن استعدادات وميول لإحلال المدينة محل العشيرة، واستبدال دلالات العشيرة بدلالات المدينة، فكان هناك حارات البلييبل والعجيلي والبجري.. الخ.. بدلاً من مصطلح العشيرة، الذي يبدو أن التكوين الأول للمدينة قد تنازل عنه بسهولة لصالح المصطلح المديني، وهكذا بدأت تتألف العشائر والأسر وتلتف حول الجامع الكبير الذي بناه خلف الحسون، وتشكل أطواقاً ودوائر حول مركز المدينة الأول: الجامع الكبير.. كما نزلت عائلة من قبيلة البكارة، واتخذت مسكنها إلى الجنوب من عشيرة الحسون(حارة الحسون)، عرفت باسم أسرة الحاضري، وهم جزء من بكارة حلب، استوطنوا الرقة باكراً، وأصبحوا من ملاك الأراضي، حيث امتدت ملكيتهم حتى أطراف "طاوي رمان" والمشلب(الحد الفاصل بين العفادلة وسكان المدينة)، وكانوا يطلقون على أملاكهم الممتدة على تخوم الفرات، بعد الرقة المدينة حتى المشلب اسم "السوافي"، كما سكنت إلى الشرق من حارة الحسون عشيرة الكويدر والشعيب والمحمد الحسن، وعوائل العلوش وبعض الحليبيبن وبعض الحليسات(العليان)، وعائلة المهاوش الماخوذ، وشرقي هذه الأسر امتدت عشيرة الشبلي السلامة التي اتسعت في رحابة المكان حتى حدود المدينة الشرقية، والتي تنتهي عند باب بغداد وسور الرقة الشرقي.
أما غرباً فقد سكنت إلى جوار الجامع أسرة الخوجة التي اختصت بإمامة الجامع والتدريس الشرعي، واشتهر منها مفتي المدينة وإمام جامعها الكبير "الخوجة"، وإلى جوارها عائلة البرجكلية، التي كان من أشهر أسرها السعدو والحاج عبو، وبعدها غرباً امتدت عشيرتان كبيرتان هما البليبل والعجيلي، وغربهما سكنت عشائر البياطرة والبجري، وفي محيطهما توزعت أسر متعددة، التفت فيما يشبه الحلف القبلي حول عائلتي الفواز والخلف القاسم، وسُميَ هذا الحلف باسم عشائر الأكراد، وأشهرهم الحني والجرف والشويخ والكعكجي والصطاف والجدوع والشاهين والكياص.. وبنظرة أولية لدائرة المدينة القديمة، التي كانت حتى ستينات القرن الماضي تنتهي حدودها الغربية إلى ما دون المجمع الحكومي اليوم، وحدودها الجنوبية حتى شارع هشام بن عبد الملك وبستان البلدية، والشرقية حتى شريط السور الأثري وباب بغداد، والشمالية قبل شارع 23 شباط الحالي ودونه.. ولو تخيلنا ذهنياً محيط دائرة المدينة ومركزها الجامع الكبير، ورسمنا في المخيلة دوائر متصاغرة من المحيط حتى المركز، لفسرت لنا هذه الدوائر بعض حركة الهجرة إلى هذه البقعة المهجورة، والتكوين التاريخي المتسلسل والمترادف خلال قرن ونصف مضى على السكان الأوائل الذين قطنوا الرقة.
ولقد تمّ انقسام عشائر(القول)الذين أصبحوا لاحقاً أهلَ الرقة وسكانَها الأولين، فيما يشبه الاتفاق الرضائي بينهم، وبما يشبه أن يكون قسمة أفقية وعمودية.. فمن جهة، تقاسم السكان الأوائل فيما بينهم، بقعة الأرض الزراعية الواسعة التي تقع إلى شمال شرقي المدينة، لتَعذُّر إمكانية استثمارها من قبل طرف واحد أو عشيرة أو أكثر، والتي ظلت تسمى تاريخياً(أرض نكيب)، وتراضت الأطراف على توزيع الأنصبة والحصص حسب أعداد كل أسرة من كل عشيرة، واصطلحوا على تسمية كل جزء (أو"جزو"باللهجة الدارجة، وهو ما يساوي 12,5دونم مساحة)، لكل أسرة في كل عشيرة، فأفرد هذا التقسيم لأرض نكيب الواسعة، تخصيصاً لعشائر(القول) الأولى وتميزاً لها عن عشائر(القول) اللاحقة،(أصبح سكان الرقة بعدها قسمين: رقاويون مالكون في "نكيب"، ورقاويون غير مالكين في أرض"نكيب")، ومن جهة ثانية تعاقد حلف العشائر الأولى الذين وفد معظمهم من منطقة "العشارة" في دير الزور أو ما حولها، فيما بينهم على تسمية أنفسهم بـ(القول العشاريين)، كما تعاقدت بقية الأسر التي تحالفت والتفت حول عائلتي الفواز والخلف القاسم تحت مسمى(القول الأكراد)، (وللعلم فإن معظم(القول الأكراد) لا يعرف من اللغة الكردية حرفاً واحداً ولا ينطقون بها، كما لا يعدهم أكراد المنطقة الشمالية أكراداً؛ وإنما يتعاملون معهم كعرب). وهكذا تم إدراج معظم القول العشاريين في السجل المدني الأول، تحت مصطلح "خانة الحميدية"، كما تم إدراج معظم (القول الأكراد) في السجل المدني للسكان تحت مصطلح "خانة الأكراد". ولما اتسعت المدينة بسكانها، وضاقت السجلات القديمة بأعدادهم المتصاعدة، تم استحداث خانة ثالثة تحت مسمى "خانة الجراكسة".
صورة لنساء من الرقة أثناء طحن البرغل
ما يلاحظ عن الطبيعة السكانية للخميرة الأولى التي شكلت الرقة، أنها لم تسعَ ولم تحاول في أية مرحلة من مراحل تقدم المدينة، أن تطور بنية أو تجمعاً عشائرياً كبيراً، أو تندمج في حلف عشائري له وزن ملحوظ، في بيئة ريفية محيطة كلها مكونة من عشائر كبيرة وذات قوة وعدد.. هذا واقع يدعو إلى الدهشة حقاً، وخلافاً لأسلافهم "العكيدات" الذين قاموا على تطوير حلفهم العشائري إلى مستوى من الاندماج الكامل، بحيث حولوا عدداً من الأسر والعشائر الصغيرة إلى عشيرة كبيرة، وهو الأمر الذي لم يتحمس له الرقاويون(القول)، ولم يسعوا إليه.. (إن لم أجازف بالقول بأنهم كانوا يتطورون تطوراً عكسياً يميل إلى التفكك رغم طبيعة بيئتهم العشائرية الريفية، وجزءاً كبيراً من الخلفية الاقتصادية التي ظلت تعمل على مزاولة أعمال الزراعة وتربية الغنم). ومع أن واقعاً جديداً قد فرضه هذا التجاور والتداخل وجوار السكنى بين جميع العشائر، ومع أن كثرة الاختلاطات القائمة على المصاهرة والزواج فيما بينهم جميعاً، والتي أحدثت صلات قربى شديدة التداخل وكثيرة التعقيد، رغم كل هذا الواقع فإن تطوير فكرة العشيرة الصغيرة إلى عشيرة كبيرة بين عشائر(القول)ظلت حلماً ميتاً وأملاً معدوماً.. على سبيل المثال هناك بعض عشائر(القول)تصل نسبة النساء المتزوجات فيها من عشيرة أخرى مجاورة إلى ما يقرب ربع نساء العشيرة، وبالعكس.. مع كل هذا فإن واقع العشيرة لم يتطور إلى أحلاف كبرى، إن لم أقل كان تاريخياً يتراجع في سمة مضطردة، وكلما تقدم الزمن بالمدينة أكثر، إلى الحد الأدنى من علاقات "ذوي قربى"، لا أكثر.. وهكذا أصبحت المضافة بالنسبة لعشائر القول(الأوضة)، تفقد مضمونها العشائري بالتدريج، وتتنازل عنه بمرور الزمن، وذلك لتحيل(الأوضة)إلى ما يشبه مجالس السهرات (التعليلات) لقلة قليلة من أبناء العشيرة الواحدة.
ورغم أن هذه العشائر قد طورت شكلاً من الصداقات والتفاهمات والعلاقات المتبادلة مع عشائر الريف المحيطة، الكبيرة والقوية، والقائمة على مصالح مشتركة أحياناً وعلى تخالط ومصاهرات وصداقات طارئة أو تاريخية، ورغم أن الرقة قد شهدت بعض المراحل المضطربة التي تخللتها صراعات عشائرية، خاصة بين عشائر البدو التي كانت مهيمنة في الجزء الشمالي من المحافظة، وبين عشائر الريف التي كانت متمترسة تاريخياً بالفرات وحوضه الذي يُعدُّ من أخصب الأراضي على مستوى العالم، رغم كل ذلك فإن عشائر الرقة واقعاً، ظلت تمتاز في طرائق عيشها بميزتين: الابتعاد عن الصراعات المحيطة، وعدم التقارب من الحكام والقوى المسيطرة والفئات المهيمنة على مقدرات المدينة من جهة، وكذلك عدم الصدام المباشر وإشهار العداوة، وترك مسافة فاصلة من الحذر والريبة، وعدم التخالط أو منافسة الحاكم والمهيمن على أقدار المدينة سياسياً وإدارياً من جهة اخرى.. بوسعنا اليوم أن نعمم هذه القاعدة السابقة فيما يشبه القانون العام، من حيث شكل العلاقة بين سكان الرقة والقوى الأخرى المسيطرة، على أهم مراحل الانتقالات السياسية والإدارية التي عاشتها المدينة خلال قرن ونصف مضى، والتي يمكن تقسيمها على الشكل التالي:
ــ مرحلة السيطرة العثمانية على الرقة.
ــ دولة "حاجم بن مهيد"، بعد خروج العثمانيين مباشرة، وبداية بسط سلطة الانتداب الفرنسي على سوريا. (سنتحدث عنها في حلقة لاحقة).
ــ "الدولة الغفانية"، أو"فلتة 4 تموز"، كما جرت العادة على تسميتها؛ وهي حركة فوضوية عارمة دامت بضعة أيام، على إثر استقلال سوريا وجلاء الانتداب الفرنسي عنها، لكنها تحمل دلالات كاشفة، ومضمون تاريخي عميق للطبيعة البنائية للمجتمع الذي تشكل في الرقة/المدينة.
ــ الحكومات الوطنية التي جاءت بعد الانتداب الفرنسي حتى مرحلة وصول البعث إلى السلطة.
ــ مرحلة حكم حافظ الاسد وبشار الأسد، حتى اليوم.
ــ مرحلة دولة "داعش" الحالية.
يمكن وصف جميع هذه المراحل، والقوى التي تم ذكرُها، بأنها لم تجدْ أعداءً أو مقاومين لها، ومتصدين لمشروعها، بالموازاة تماماً مع فكرة أنها لم تجد أنصاراً لها، متحمسين أو داعمين معاضدين لوجودها من بين الرقاويين، وعلى سبيل المثال، كان حكم البعث في سوريا بعد عام 1963 يجد في الرقة مناخاً هادئاً وغير مقاوم بالمطلق، قياساً إلى كثير من المدن والبلدات والبيئات السورية، ولكن كان يُغيضُه في الوقت نفسه، ذلك البرود وعدم الحماس أو التأييد والنشاط لفكرته ولإدارته ولمخططاته في المدينة طيلة سنوات.. حتى أن البعثيين الأوائل في الرقة كانوا يعدون على الأصابع، لقلتهم وعدم الاكتراث بهم. الأمر الذي حدا بسلطات البعث أن تفكر بمشاريع شبه انتقامية، وفيها كثير من الكيدية، كردة فعل على المدينة وأهلها اللامبالين، ولقد نجحت كثيراً في سياساتها التي كانت تقوم على مبادئ، أهمُها: الإهمال، واستثمار المحافظة بطريقة تشبه السطو عليها وسرقة مقدراتها، وتفكيك بنية مجتمع المدينة والريف، عبر خطة ومنظومات فساد وإفساد مدروسة وممنهجة، وإغراق المدينة بموجات من الهجرة المفتوحة لتعويم سكانها وتهميشهم ولفظهم، مثل كَمٍ مهمل لا قيمة له خارج كل معادلة اجتماعية أو سياسية أو إدارية (وعلى سبيل المثال، خلال أكثر من ستين عاماً من حكم البعث، لم يشغل منصب المحافظ، أو أي من رؤساء الفروع الأمنية أو الشرطة، أيٌّ من أبناء المدينة).
تحميل المادة بصيغة PDF:
معبد الحسون
باحث سوري ومعتقل سياسي سابق. ويشرف حالياً على رئاسة تحرير موقع الرقة بوست.
مواد أخرى لـ معبد الحسون
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.