أيلان و عمران : عن الصور و أبعد منها..

23 آب/أغسطس 2016
 
منذ أواخر القرن التاسع عشر، و مع اختراع التصوير الفوتوغرافي، أصبحت للبشرية القدرة على توثيق فظاعاتها أكثر من أي وقت سبق. وبتتالي السنوات و الحماقات والجرائم تكوَّنَ لدينا ألبوم صور مخيف بشكل يفوق  أفلام الرعب الأكثر خيالاً.
و بعد أن كان أجدادنا يكتفون بصور"بيضاء وسوداء" ضبابية تأتيهم بعد أيام أو شهور، أو حتى سنوات، من تاريخ وقوع الحدث فإننا، ومن "حسن حظنا"، نعيش نعمة  التطور التكنولوجي وصار بإمكاننا  متابعة المعارك والمجازر على شكل بثٍ حي وبتقنيات عالية الجودة.

التدفق العالي لصور الحرب والدمار والدماء على شاشات أجهزتنا الذكية و"الغبية" جعلها شيئاً فشيئاً تفقد القدرة على "إزعاجنا"، وأصبحت مجرد أخبار تضاهي في "اعتياديتها" أخبار البورصة والدوري الاسباني لكرة القدم. قليلةٌ جداً هي الصور القادمة من ساحات الحروب التي تستطيع أن تنقلنا من دائرة الاستهلاك البصري إلى دوائر التفاعل الحسي والأخلاقي والفكري. أغلب الصور "الحربية" التي تعلق بالذاكرة عادةً ما تكون متعلقة بشخصٍ واحد أو بتفصيلٍ واحد، فمشاهد الجتت المتكدسة وأنقاض المباني المقصوفة "فقدت" قدرتها على الخلخلة.

الثورة السورية التي تم تحويل وجهتها إلى حرب "أهلية" دموية أنتجت هي الأخرى الآلاف من الصور "العادية" التي تشبه صور أخرى لحروب أخرى. لكن هناك على الأقل  صورتان استطاعتا الإفلات من "النمطية" والاستهلاك البصري، لتتحولا إلى ما يشبه الأيقونات التي تَعلق بالذاكرة: صورة الطفل أيلان الكردي وصورة الطفل  عمران الحلبي. صورتا اللاجئ الغريق والمحاصر المقصوف تمكنتا من ثتبيت أعين العالم، وأجبرتاه على النظر اليهما ملياً. ورغم أن السياق محزن فان تأثير هاتين الصورتين يبقى مفرحاً لعدة أسباب: أولاً لأنه يعيد للأزمة السورية شيئاً من وجهها الإنساني، بعد أن أصبحت في نظر العالم رقعة شطرنج، وثانياً لأنه يطمئننا بعض الشيء على حياة الضمير الإنساني، وثالثاً، لأنه يحرج المجرمين ويزيد في عزلتهم.
 
بعيداً عن هوية الضحية والجلاد والمصور، وبعيداً عن حسابات "الاستثمار" السياسي والأيديولوجي، سنحاول في هذا المقال أن نعاود قراءة هاتين الصورتين.  سنمعن في البداية النظر أكثر في التفاصيل والألوان والخلفيات، ثم سنسعى  في مرحلة ثانية إلى النظر إلى الجهة الأخرى من الصور، علّنا نرى ما خلفها.
 
1. ثقل الصورة الذي لا يحتمل

فلنعترف أولاً أن التحديق في صور الطفلين سيجعل مزيجاً من الأحاسيس المتعبة تنتابك عندما تطيل النظر. حزنٌ وغضبٌ وخجل وعجز، حتى أن الأمر يصبح مازوشياً بعض الشيئ. ولكن، إذا حاولنا تجاوز الانفعالات، فإننا نجد بين الصورتين الكثير من الأمور المشتركة: عمر الطفلين (3 و 5 سنوات)، الإطار الزماني (بضعة أشهر تفصل التقاط الصورتين)، الظرفية (الحرب في سوريا و ما تبعها من دمار و نزوح و لجوء). يمكن في مستوىً أول من القراءة أن نقول أن الصورتين تتشابهان جداً، وأنهما مشهدان من مأساةٍ واحدة، ولكن عندما نعاود النظر والتدقيق سنلاحظ فروقات عديدة تجعل من كل منهما صورة فريدة لها قدرتها الخاصة على "إيلامنا".
 
 
- صورة أيلان :
طفلٌ ملقى على شاطئ البحر يبدو كنقطةٍ حمراء صغيرة وسط مجال مفتوح يوحي بالامتداد. وجه الطفل يلتصق بالشاطئ ولا يمكن تبين ملامحه، يبدو و كأنه نائم. لا يمكننا تبين ملامح إيلان في الصورة، فهو "مجرد" جسدٍ صغير وحيد لا تفسير منطقي لوجوده في ذلك المكان. عندما ننظر إلى الصورة، بعد أن نفهم الظرفية التي التقطت، ربما نحمد الله أننا لسنا مجبرين على النظر في وجه طفلٍ ميت، وضعية جسد أيلان تعفينا من هكذا محنة.  وحتى عندما يُتعبنا النظر الى الطفل المسجى، يمكننا أن نهرب ببصرنا إلى الخلفية البحرية المفتوحة حتى نرتاح قليلا. ربما الحديث عن خلفيةٍ ليس دقيقاً بالنسبة لهذه الصورة، فأيلان يظهر كخط تماس ما بين خلفيتين: البحر و اليابسة. رأسه في الماء باتجاه البحر وقدماه في الشاطئ باتجاه الأرض. وهو هكذا يجسد (بالمعنى الحرفي للكلمة) مأساة الآلاف من اللاجئين السوريين الذين يركبون قوارب الموت كل يوم حتى لا تتناثر أشلائهم داخل أرض الوطن، فيموتون غرقى بجسد "سليم" و "كامل".  صورة أيلان لوحده، ومن دون خلفية وتعليق أسفل الصورة ليست صادمة:  نحن نستطيع مثلا أن نستعمل أدوات الفوتوشوب و"نقتطع" جسده ثم "نزرعه" في إطار آخر. فلو وضعناه، مثلاً، على سرير في غرفة نوم أطفال مزدانة بالألعاب وصور شخصيات الكارتون، سنبتسم بحنان لمرأى هذا الطفل الذي يرتدي ثيابا جميلة وينخرط  في سبات عميق، بعدما أضناه اللعب طوال اليوم. نفس وضعية الجسد تصبح تعبيرة مأساوية عندما نضعها في إطارها الحقيقي: طفل سوري هارب من الحرب فيغرق في البحر. قصة حياة أيلان القصيرة تنتهي داخل إطار الصورة. ظَهرهُ الى السماء ووجهه الى الأرض: ليس هناك أي امكانية للتواصل معه مما يجعلنا نتألم أكثر.
 
 
- صورة عمران :
قد يبدو ثمة تناقضٌ في الأمر، لكن صورة عمران أكثر "ازعاجا" من صورة أيلان، فالأول رغم كل شيء مازال حياً، فيما الثاني قد رحل عن عالمنا. عمران يضعنا أمام مسؤولياتنا، في حين ان أيلان يضعنا عراةً أمام عجزنا. ثورة عمران لا تقبل أي نوع من التأويل: طفلٌ صغير مغطى بغبار الأنقاض، ووجهه ملطخ بالدم يجلس مصدوماً في عربة إسعاف. نحن لا نستطيع أن نستعمل الفوتوشوب لاقتطاع جسد عمران من السياق الأصلي، ومن ثم نقله إلى السياق الآخر، فوجه عمران وبقية جسده هما "السياق" في حد ذاته. أغلب الذين شاهدوا فيديو أو صور لعمران يجمعون على أن اكثر تفصيلٍ هزّ قلوبهم هو تلك النظرات الحائرة والعاجزة عن استيعاب ما حدث وما يحدث من حوله.
 
في حالة أيلان لم نكن مضطرين لتحمل نظرات طفل خذله العالم، وهو لا يدرك حتى معنى الخذلان. عمران له وجه وملامح وتعابير لايمكن الهرب منها عبر الهروب بعيوننا إلى الخلفية، فاللون البرتقالي الطاغي لن يزيد إلا في حالة القلق التي تنتابنا، كما أن الصورة التُقطت في مكان مغلق بحيث لا يمكن لتفاصيل أخرى أن تزاحم عمران ووجه عمران وحيرة عمران. نظرات عمران الصامتة مليئةٌ بالأسئلة: ما الذي حدث؟ مالذي أفعله هنا؟ لماذا ترمي الطيور الضخمة بيتنا بالنار؟ لماذا ثيابي متسخة بهذا الشكل؟ لماذا يسيل الدم على وجهي؟ صورة غيلان مخزية، وصورة عمران محرجة: كيف سنجيب على كل تلك الأسئلة بإجابات يقبلها منطق الأطفال السليم؟ وهل نملك أصلا أجوبة واضحة؟ عمران مازال حياً، وحلب مازالت تحت القصف، والحرب في سوريا مازالت مستعرة، والعالم مازال يدفن رأسه في التراب، ولا شيئ يضمن لنا أننا لن نرى قريبا صورة جديدة لعمران تشبه صورة أيلان.
 
2. ما خلف الصورة

صور أيلان و عمران، ورغم حدتها ورمزيتها، تبقى قطع ميكروسكوبية في فسيفساء ضخمة و مرعبة، الملايين من أطفال سوريا هم/ مشاريع قتلى أو جرحى أو لاجئين أو مهاجرين "غير شرعيين" تطحنهم كل يوم آلة جهنمية صنعها "الكبار". يبدو أنه من الترف، وحتى من العبث، الحديث عن الصحة النفسية لأطفال سوريا في وقتٍ هم مهددون أصلاً  في سلامتهم الجسدية وحياتهم. وما يعيشه الأطفال السوريون اليوم لا يبعث على التفاؤل بمستقبل بلادهم حتى وإن توقفت الحرب غداً. فالجروح الغائرة التي تركتها سنوات الحرب ستترك بدون شك آثاراً نفسية يصعب التعافي منها حتى بعد سنوات وعقود طويلة.
 
- أطفال بلا طفولة :
السوريون الذين ولدوا قبيل أو أثناء الحرب يُحرمون من حقهم في أن يكونوا أطفالاً عاديين يلهون ويرتكبون الحماقات ويتعلمون ويملأون الشوارع صخباً. أطفال سوريا يُحرمون من حقهم في سماء زرقاء لا تعكر صفائها طائرات مقاتلة. كيف يلعبون في شوارع تعبرها الدبابات وتحكمها الميليشيات ويستهدفها القناصة؟ كيف يستطيعون أن يمارسوا حياة عادية ومستقرة إذا لم يكن هناك أي شيئ ثابت في عالمهم؟ حتى أفراد عائلاتهم و اصدقائهم ومدرسيهم قد يختفون فجأة بسبب السجن أو غارة أو محاولة عبور الحدود إلى بلدان آمنة. كيف سيثقون في الآخرين بعد أن تعلموا طيلة سنوات أن يَحذروا من الجميع؟ هل من الممكن أن ينشأ الطفل سويا في مناخ من العنف والرعب اليوميان؟  كل هذه الأسئلة وعشرات أخرى تشبهها تبدو إجاباتها واضحة بشكل مخيف. البنية التحتية المادية المدمرة يمكن على المدى القصير و المتوسط إعادة بنائها، لكن البنية التحتية البشرية المتشققة يصعب ترميمها حتى على المدى الطويل.
 
 
- سوريون لا يعرفون سوريا :
قد تنتهي الحرب غداً أو بعد أعوام، و سيكون على جيل أيلان وعمران أن يعاودوا بناء وطن لا يعرفون عنه شيئاً، فهم قد ولدوا زمن الحرب، و ترعرعوا في أشلاء وطن لا يشبه سوريا آبائهم وأجدادهم. الأمر يصبح مقلق أكثر عندما نلاحظ أن "صندوق باندورا" الطائفي قد فتح، وأن كلمة "سوري" لم تعد ترضي الكثيرين، بل أصبحوا يفضلون عليها هويات "ما تحت" أو "ما فوق" وطنية. قَدرُ جيل أيلان وعمران أن يولدوا ويكبروا في وطن شاء التاريخ أو شاءت الجغرافيا أن يصبح أرضا لمعركة "عالمية" يراد منها اعادة تقسيم مناطق نفوذ القوى الكبرى، والأمل أن يسفه أطفال سوريا أحلام كل مصاصي الدماء، وأن تكون عزيمتهم أكبر من عجزنا وتشاؤمنا، ربما بحكم أن لاشيء يخسرونه.
 
ختاماً

من المؤكد ان هناك آلاف الصور المشابهة لصورتي أيلان و عمران، لكنها لم تجد من يلتقطها، أو ربما التقطت ولم تجد سبيلاً إلى وسائل الإعلام والضمير الانساني. لم تنتهِ الحرب بعد، ولا أحد يستطيع ان يجزم متى وكيف ستنتهي. لكن بقية إنسانية توجب ألا تستمر الحرب أكثر حتى لا يصبح لدينا ألبوم صور شبيهة بتلك التي التقطت لأيلان وعُمران. تكفينا الصور "العادية".
SaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSaveSave
محمد رامي عبد المولى

باحث تونسي ، حاصل على الماجستير في اللغة و الآداب الفرنسية سنة 2011 . يعد حالياً رسالة دكتوراه حول الأدب المغاربي الفرنكوفوني (جامعة باريس 8).

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.