إسلام الرياح الموسمية وغلنر والراوي المحلي
"كأن هذا الانفجار قد حدث في قلب إبراهيم". هكذا قال حكيمٌ مسلم من بغداد، وبهدوءٍ تام، عشية الاعتداء على برجي التجارة في نيويورك يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
كان هذا الحكيم المسلم بتقاطيع وجهه الناعمة، وبلحيته البيضاء التي تذكر بوجوه فلاسفة مسلمين كثيرين، لا يُخفي مظاهر سخطه واستنكاره للحدث برمته، غير أن استعادة الوعد الإبراهيمي في هذا المكان، وفي هذا الوقت بالذات هو الذي أقلقني، ولم أكن أعلم يومها أن منفذ هذا الاعتداء، كان قد بعث برسالةٍ مقتضبة إلى والده، يخبره فيها أنه ذاهب إلى الموت ليكون أضحيةً لإبراهيم.
إنها عودةٌ للأسطورة السامية مجدداً إذن، حيث لا يتلاشى الفرق الخطّي بين إبراهيم وإبراهام فقط، إنما يتسع، ليصبح الموظفون في مانهاتن أضحيةً أخرى لهذا الوعد الديني، ويصبح أبناءُ هاجَر المطرودين من هذا الوعد موتاً محققاً لهؤلاء الموظفين المساكين. وهم موظفون على أية حال، أميركيون بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، يُكرسون جُلَّ وقتهم لمتطلبات الحياة اليومية، ويشيدون وجودهم على المظاهر العاطفية، ويهتمون بتفاصيل الحياة الصغيرة. إنهم الموظفون البسيطون الذين يعيشون حياةً لا تزويق فيها على الإطلاق، حياة صعبة نوعاً ما، يقضونها في شقق رخيصة الإيجار، يشاهدون التليفزيون ويقرؤون الروايات البوليسية ويستمعون إلى موسيقى البوب.
يا للسخرية إذن، إن أضحية الوعد الإبراهيمي كما جاءت في القرآن هم نادلات في مقاه على جوانب الطريق، وموظفو تحصيل في محال السوبرماركتات، وعمال بناء، وسكرتيرات.
ولا يتوقف الإيمان الزائف عند هذا الحد، إنما تحصد الأسطورة السامية ضحايا آخرين، هم فلاحون بؤساء من أفغانستان، ومسحوقون من الفاقة والفقر في قندهار وكابول، فرضت عليهم حياة قروسطية تنعدم فيها أية مظاهر حقيقية للحياة.
إنهم ضحايا طالبان أولاً، ضحايا مماثلات متسرعة ومطابقات زائفة وتلفيقات مشبوهة للدين تَسَارَعت وتيرتُها في مجتمعاتنا مع تسارع دخول الحداثة إليها، وحصيلة هذه المطابقات هي هيمنة فكرٍ أيديولوجي ديني، بكل ما في البنية الإيديولوجية من عيوب مثلنة، وتقوم على تقديسٍ وهمي للجماعة التي تعتنقها، وأبلسة خصومها. وخصومها هنا ليس الغرب وحده، إنما مسلمون آخرون لا يشاركونهم إيديولوجيتهم، وهؤلاء الضحايا أصلاً لحكومتهم الدينية أصبحوا فيما بعد ضحايا للطائرات الأميركية، أصبحوا ضحايا لضحايا الأسطورة الدينية ذاتها.
إسلام بلدان الرياح الموسمية
لقد أعادتني جملة هذا الحكيم المسلم، والمكثفة لأسطورة تاريخية قديمة، إلى لويس ماسنيون، المستشرق الذي خبر إسلام هذه المنطقة، وقد أطلق عليه عنواناً جغرافياً لافتاً: "إسلام بلدان الرياح الموسمية"، ويقصد بها البلدان الممتدة من الجزيرة العربية ذات البخور، إلى إندونيسيا ذات التوابل، حيث كانت تجارتها تقوم على زمن الرياح الموسمية التي أوصلت سفنها الشراعية إلى آسيا الوسطى. وماسنيون هو أول من عبَّرَ بكتابه "صلاة إبراهيم" عن سلسلة الإبدال بين الإسلام والمسيحية، فقد كانت الأساطير الشعبية السلفية حية في ذاكرته وهو يكتشف هذا الدين في الرموز الدينية المماثلة للثقافة التقليدية لدى الفلاحين في العراق.
وطوال رحلته عند تخوم الصحراء العربية، وحتى عند وقوعه أسيراً عند حقول الرز في العراق، كان ماسنيون يعيش الومضات الخفيفة عند الفجر لتلك الأساطير الشعبية السلفية، دون أن يعرف، بطبيعة الأمر، أنها ستستخدم، في يومٍ ما، على الطريقة التي استخدمها بها محمد عطا قائد الاعتداء ومدبره، بل ولم يكن يعرف وهو يكتب أكبر دراما عن شهيدٍ مسلم "الحلاج"، أن الأهواء الإثنية والقومية والدينية ستتفاقم إلى هذا الحد. وعبر الأسطورة ذاتها ستصبح الكليشهات والتعميمات مفرطة، وستُشجِعُ الثقافات، كلها تقريباً، نوعا من المانوية البدائية، بل سترسخ هذه الثقافات نوعاً من الثنائية المحقرة التي يتم فيها، وسم العدو، دونما تمييز، وسيتم من خلال هذه الكليشهات سجن كلّ فردٍ في فئة محكوم عليه سلفاً أن ينتمي إليها. سنجد فجأة أن هنالك عرب ومسلمون أشرار، وهنالك من الطرف الآخر أميركيون أو غربيون أشرار.
شعرت بهذا الأمر مباشرة، وعشية هذا الانفجار، سواء من التصريحات السياسية، أو من مداخلات المثقفين حيث كنت يومها في عمان، لحضور مؤتمر عن الحوار بين الشرق والغرب، ويا لمفارقة هذا العنوان الذي جاء وكأنه صورة خلفية لهذا الانفجار الذي أراد أن ينسف كل شيء!
حوارٌ وأخطار محتملة
كان المثقفون من الشرق والغرب يتناقشون، بينما كانت هنالك مجموعات سرية، يقبعون في غرف مغلقة وهم يخططون!
كنت للمرة الأولى التي أخرج فيها من العراق، وبسبب هذا المؤتمر الذي كان مُعداً لأكاديميين وكتاب من أنحاء مختلفة من العالم، ومنهم أكاديميون عرب ومسلمون قادمون من الغرب، وكنت العراقي الوحيد القادم من بلدي عشرين ساعة من الطريق المرهق بسبب الحصار ذلك الوقت على العراق، وبسبب المعاملة السيئة على الحدود.
كانت وقائع المؤتمر قد بدأت قبل يومٍ واحد من الانفجار، وشرع المثقفون مستعيدين رطاناتهم القديمة دون أن يدرك أيٌ منهم ما هو مخبوء تحت الوقائع الحقيقية للحياة، فالأفكار تنظم عالماً مريحاً ومشذباً وخالياً من الصراع، بينما الواقع مملوء بالتناقضات. واليوم أشعر أكثر من أي وقت مضى كم كان الكلام المكتوب مفارقاً للواقع، لقد كان عبارة عن كتابات قليلة الحساسية، وكان الكلام قليل الوضوح على نحو لافت، وبلا إضاءة تقريباً، أما النقاشات فقد كانت نتاج دوغمائيات كثيرة أكثر مما هو حصيلة مَعرفة عميقة.
كان أكثر المتحاورين هم من مغتربين عرب ومسلمين مع متخصصين بالشرق والإسلام من أوربا وأميركا. وكان النقاش يجري على الطريقة المفتعلة التي نراها دائماً بين المثقفين، سواء في التشديد على مخارج الأصوات، أو بحركات اليدين، أو بالرطانة الأكاديمية الزائفة، وعلى هذا النحو كنت أدير رأسي نحو هذا فيقول لزميله:
-عليك أن تعترف أن الشرق كان فردوساً بِصيغةٍ مَا، وقد قسا عليه مؤلفون غربيون، هل تنكر هذا؟ فيجيبه لا لا الشرق لا وجود له.. إلاّ من خلال اختراعٍ ثقافي.. من خلال تخييل ابتدعه غربيون، لا شيء آخر.
يرد ثالث يا سيد أنت تتكلم عن خطابٍ حول الإسلام، غير أن هذا الخطاب لا يُخبرنا عن العالَم الإسلامي، وإنما عَنْ مؤلفيه الغربيين..
كانت وقائع المؤتمر قد حدثت في فندقٍ راقٍ وسط عمان، تحيط به حديقة وارفة، والوقت هو سبتمبر الدافئ الذي تتخلله نسمات باردة منعشة، وهنالك الكثير من المغتربين العرب، القادمين من متروبولات أوربية كبيرة، كانت وجوههم مفعمة بالصحة، يدخنون السجائر ويرتدون الملابس الفاخرة. وقد فتنت مباشرةً بشخصياتهم المتعددة، فهم يعرفون نوعاً من القطيعة مع ثقافاتهم الأصلية، ويعيشون تعدديةً معقدة بشكل خاص، وقد انبهرت حتى بأسمائهم، حيث يحمل بعضهم نصف الإسم أوربياً والنصف الآخر عربياً. لقد فتنت بهذا التمازج الذي لا نظير له في ثقافتنا الواحدية، لا بل وجدتهم على اختلافٍ شديد عن أولئك "السنوب" في ثقافتنا، أقصد بهم المتغربنون بلا وعيٍ حقيقي، وجُلهم ممن درس في مدارس أوربية في الشرق كانت مخصصة لنخبةٍ صغيرة من أبناء الأعيان بقصد الاحتقار أو رفض الثقافة المحليّة.
نقاشٌ وجدال.. وعالمٌ آخر ينمو على السطح
كان النقاش والجدال محصوراً في واقع الأمر بين المغتربين من جهة والغربيين من جهة أخرى، وهذا ما جعلني أشعر بالإحباط، وربما بالحسد أيضاً، لأنه نقاشٌ بين غربيين في واقع الأمر، فهؤلاء وإن كانوا عرباً أو مسلمين لكنهم جزءٌ من ثقافة الغرب. إنه الغرب وهو يناقش نفسه. كانت مشاكل المغتربين تختلف كلياً عن مشاكلنا، إذ أن القيمة الرئيسية لِجدالهم تتمثل في المساواة، بينما أنا القادم من العراق كانت السلطة هي التي تقلقني. كنت أتمسك وأتعلق بشكل خاصّ بالحرية الفردية، فصراعات هؤلاء المغتربين مع الأوربيين لم تكن تهمني على الإطلاق، إنها صراعات بين أغنياء، بين بِيض، بين أوروبيين، بين مجموعتين مرفهتين، ماذا يهمني بهذا النقاش؟ كنا نخوض كمثقفين في بلداننا صراعات أكثر قوة، هي التي ستنتج العنف على النحو الذي رأيناه بعد يوم في نيويورك، غير أني شعرت بأن قضيتنا كمثقفين في الداخل نحيا صراعات مع سلطات متعددة، مع اتجاهات إسلامية تنمو على نحو مفرط وسلطة تتوحش لم تكن تَحْظَى بِأدنى شعبية، كنا ننتمي إلى قضية مجهولة.
ربما نبهتني تلك الأيام إلى هذا الرابط الدقيق ما بين المثقف والمَنفي. فالمثقف هو منفيٌ على الدوام، منفيٌ عن مجتمعه، وهذا نوعٌ من المصير المقلق والموحش على نحو دائم، يطلق عليه إدوارد سعيد المصير الأكثر كآبةً وحزناً في التاريخ. وهو محقٌ في ذلك، لأن المنفى مهما كان، ليس حالة من القلق فقط، إنما هو حركة مزعزعة على نحو متواصل، لا تزعزعك فقط إنما تزعزع الآخرين أيضاً، وتجعلك في مساءلة دائمة لوجودِك، وفي نفي أبدي لشرطك المولدي، يسميها رولاند بارت La natalité، وقد أدركت أن مفهوم الوطن أو فكرة المنزل المبالغ في تقديرها لدى الكتاب الذين كانوا خارج بلدانهم، تأخذ منحىً آخر لدى الكتاب المنفيين عن مجتمعاتهم. وبعد سنوات حين خرجت نهائياً من العراق، أدركت كم كنت منفياً في بلدي، ذلك لأنني لم أجد كتاباً منفيين حقيقيين في أوربا، لقد أصبحوا كلهم برجوازيين محترمين، سواء أكانوا من العرب أو من الأتراك أو من الأفارقة أو من الهنود أو من الباكستانيين.
أما الشيء الوحيد اللافت في هذا المؤتمر هو مرجعيات هؤلاء وهؤلاء، بينما كان العرب يولون سلطة أكبر وأهمية أعظم لكتابات فرانز فانون لأنها صادرةٌ من تربة الكفاح الجماعي للثورة الجزائرية، كان الأوربيون يشيدون بتدخل أدوارد سعيد وفوكو الباهر الذي يشبه العصيان المسلح، ربما لأنه تدخل فردي عن الحجز والإقصاء والهيمنة.
ما عدا هذا فقد كان الأمر كله هو نقاش مثقفين في الهواء الطلق على الطريقة الدادائية.
غلنر وسعيد ومعارك سبتمبر
وفي المساء السابق لأحداث سبتمبر كان قد أُعلن عن محاضرة عن آرنست غلنر، لأكاديمي عربي قادم من جامعة أوربية، وكنت قرأت قبل هذا الوقت كتابين لافتين لغلنر: "القوميات والأمم" و "مجتمع مسلم"، وكنت متحمساً لسماع هذا الأكاديمي المغترب الذي بهرني بوجهه المفعم بالصحة، وببذلته على آخر طراز، وبعطره الباريسي الذي يملأ الصالة.
وقد هرعت قبل الجميع لأجلس إلى جانبه قبل بدء المحاضرة، وشعرت لحظتها بأن مشهدي يبدو مضحكاً مقارنة به، أنا النحيف بملابسي الرثة التي جئت بها من العراق، وبشعري غير الممشط، بينما هو قد صفف شعره بطريقة (أوربية) شعرة إلى جانب شعرة!
وكم أصبت بالخيبة عندما رأيته يردد ما ورد في نقدٍ سابقٍ وشهير كان قد وجهه إدوارد سعيد إلى آرنست غلنر، كتبه على أثر مراجعة الأخير لكتابه الإمبريالية والثقافة. كانت حجج وأسانيد غلنر هشةً ولا ترقى إلى أعماله العلمية الباهرة، غير أن كتابة إدوارد سعيد هي الأخرى كانت هجومية على نحوٍ قاس، وفيها استعراضٌ صحفي للقوة على نحو ملفت، كما أن سعيد استعاد فيها انتقادات عديدة كان قد وجهها طلال أسد لكتاب مجتمع مسلم، ولا شيء آخر، وهي ذاتها التي يرددها بعض الأكاديميين إلى اليوم، من قبيل:
لا وجود لمجتمع مسلم، هنالك مجتمعات، ولاوجود لفرد مسلم إلا بصورة عبادية، فالأفراد يختلفون فيما بينهم في إطار أية ثقافة، وبالتالي ماذا تقصد بمجتمعٍ مسلم هل إسلام تونس، أم إسلام السعودية؟ ومن هذه العبارات التي وردت من الأنثربولوجيا، والتي يرددها كتابٌ مرموقون أيضا.
نعم، أقر بأن كلمة مسلم مشربة بِكْليشيهات تتنقل، وهنالك قراءات تبسط الشعوب الإسلامية إلى أقصى حدٍّ، ولكن بالمقابل هل يمكن استحالة التعميم انطلاقاً من تجارب فردية؟ صحيح نحن مختلفون ولكننا من الصحيح أيضاً أننا نتقاسم سمات عديدة تفقأ العيون.
وكنت متشوقا عقب أحداث سبتمبر أن أرى ماذا يقول زميلي الباحث الأكاديمي عن غلنر، لا سيما أن إطروحة غلنر الأساسية عن الإسلام يمكنها أن تكون محوراً جيداً للنقاش بعد أحداث منهاتن، ذلك أن غلنر اعتبر الاسلام ديناً نصياً وأُخروياً، ويتميز بنزوعٍ طهوري شديد، وهذه الطهورية لا يخفف من حدتها وحروفيتها إلا التقليد الأكثري للسُنّة في صورة توازن بين الأعراف المدينية والسلطة والعلماء. لكن في الأزمات الاجتماعية أو السياسية، يعود النص إلى البروز، ويظهر علماء منشقون أو متشددون يتسلحون بالنص من اجل استعادة الطهورية أو البراءة الأولى. وكنت أعرف أن هذه النظرية قد تعرضت إلى انتقادات شديدة، من قبل غيرتز، وهولداي، وطلال أسد، وسامي زبيدة، ولكن ما يهمني الآن، أن هذا الحدث بالذات يتطابق بصورة معقولة مع رأي غلنر. ولكن يبدو أن الأحداث الكبرى بعيدة حتى الآن عن رؤية الأكاديميين.
مطعمٌ صحي وعالَمٌ ملوَّث
في مساء أحداث سبتمبر كانت صالة المطعم تضج بالمدعوين، وكان زميلي الذي قرأ بحثاً عن غلنر، يقف عند طاولة أطباق الطعام الصحي، يعب صحناً كبيراً بالفواكه والسلطات، وكنت أقف عند طاولة الطعام العادي، فأنا للمرة الأولى أعرف بأن هنالك نوعاً من الطعام غير الصحي، أنا القادم من بغداد حيث كان الحصار على أشده، وكانت رؤية بيضةٍ على طبق هي واحدة من المعجزات.
أدركت لحظتها أن الكتابة شيء ووقائع الحياة شيء آخر، فجميع المشاركين لم يغيروا حرفاً واحداً مما كتبوه على أوراقهم المكتوبة قبل أحداث منهاتن، ربما لأنهم أجهدوا أنفسهم قبل المجيء إلى هنا في كتابتها، وأجهدوا أنفسهم في ترتيب المصادر بدقة، فالأكاديمي يبذل جهداً في ترتيب المصادر حسب الحروف الأبجدية، والخطأ من هذا القبيل يعتبر خللاً علمياً لا يُغتفر، بل إنهم يعيرون هذه الشكليات أهمية أكبر من أية واقعة على الأرض، مع ذلك فإن الأحداث السياسية في تفاقمٍ مطرد، وكان بوش على شاشة التلفاز يعدد محور الشر، وكان العراق واحداً منها.
محور الشر.. العراق وأميركا
إن محور الشر الذي أطلقه بوش ربما هو الذي جذب مشاركتين أميركيتين لمحادثتي، وأتذكر كيف أدهشتني رؤية أكاديميات شابات أميركيات، للمرة الأولى في حياتي، ومن المهم أن أقول أنهن لفتن نظري قبل هذا بحضورهن الجسديّ. كن طويلات نسبياً، وبسيطات الملبس، ويمتلكن لباقةً خاصة في الحديث، غير أن مظهرهن الذي لا علاقة له بمظهر الأكاديميين الأنيقين، والذين يتعلقون بالشكليات، هو الذي جعلهن متميزات، وقد دهشت أيضاً حين رأيت واقعيتهن في النظر إلى الأحداث، إذ طلبن مني أن أصحبهن للنزول إلى الشوارع لمعرفة رأي الناس، وقد سررت بهذا الأمر جداً، وربما في هذه اللحظة غير المناسبة للقائنا كنا عَثَرنا على وسيلة لتقريب وجهات نظرنا.
كان هذا الاعتداء- على العكس مما قالت عنه بعض الصحف الأميركية اليمينية- قاد إلى إفلاس هذه الديماغوجيات والعصبيات الدينية والأثنية في العالم العربي والإسلامي، وكانت زميلتاي قد أدركن ذلك بسهولة عبر أجوبة الباعة وعمال المطاعم وشوفيرات التاكسي. ربما لم يصدق إلا قلةٌ منهم أن مسلمين هم الذين قاموا به، ولكن القول بأن رقصاً في الشوارع حدث ابتهاجاً بهذا الحدث، لا صحة له على الإطلاق. وهذا أمر طبيعي، فحتى لو سلمنا أن الثقافتين الغربية والإسلامية مختلفتان، لا في انتمائهما إلى رؤيتين مختلفتين، إنما حتى في طريقتين متناقضتين في حضور العالم، أو لرسمهما لعالمين، أو بنيتين فكريتين متنابذتين، تَحُولُ فجوةٌ عميقة دون لقائهما أو تواصلهما، وهذه الفجوة عقلية وأنطولوجية، فهي لا تفصل بين مجتمعين يعيشان ظرفين تاريخيين أو سياسيين مختلفين، بل ما يفصل بينهما نظرتان متباينتان حول الوجود والكون والحياة والنفس.
ولكن من الناحية الإنسانية ما هو الفرق بين رعاة البقر الأميركيين الذين لا يجدون عملاً في مانهاتن أو برينستون، وهؤلاء الرعاة الذين يأكلون الإدام الرخيص في قندهار؟
ما هو الفرق بين هؤلاء البؤساء الذين لم يجدوا شيئاً يفعلوه سوى الصلاة في جوامع شبه متداعية عن أولئك الفقراء الأميركان العاطلين عن العمل الذين يتسولون بضعة دولارات من أجل أن يلعبوا البنجو ويلتهموا شطائر التشيزبرجر؟
معرفة المجتمعات
ومع أن لهْجَةَ التدخلات السياسية كانت صَارِمَةً وجذرية ذلك الوقت، وما كان من الممكن أن تنحو نحوا معتدلا أو تتحدد بالفعل السياسي الذي يوفق بين مصالح مُخْتَلِفَة، لكن هذا الحدث أفضى إلى شيئين إيجابيين:
الأول هو محاولةٌ غربية لمعرفة هذه المجتمعات عن طريق ما يقوله الناس فيها، وهذا مهمٌ جداً، فللمرة الأولى نجد اهتماماً غربياً باللغة العربية وبالأدب العربي، وبالرواية على نحو خاص، وهو أمرٌ مهم، لأن العلوم الإنسانية في العالم العربي سَحَقتها السلطات العربية، وجعلتها ترزح تحت ضغوط متعددة، بينما الرواية عملٌ فردي، وقد انفلتت تقريباً من هيمنة السلطة.
من جهةٍ أخرى، إن انفتاح الغرب على آداب ليست غربية أمرٌ ليس سهلاً. كلنا يعرف، أن الغرب ظل رازحاً زمناً طويلاً ومستسلماً لأفكاره عن نفسه، ويجسد هذه الفكرة كل من أريخ آورباخ وإرنست روبرت كورتيوس، فالآداب الأوربية عند الأول تقوم على أساسٍ توليفى للأعمال الأدبية الأوربية منذ هوميروس حتى جويس، وعند الثاني على عودة متصلة لموضوعات بعينها تحيل الآداب الأوربية إلى ما يشبه توحداً صوفياً بذاتها اللاتينية الوسيطة، وبالتالي فإنها آداب مكتفية بذاتها ومتحصنة عن كل معرفة وكل تأثير، وهي نظريات خضعت في السنوات الأخيرة لنقدٍ شديد.
الشيء الثاني هو انفلات موجة نقدٍ في العالم العربي طالت الكثير مما كان مقدساً فيما مضى، السلطة، الدين، التاريخ الإسلامي، وهنالك رغبة عند الكثير من الناس بالاعتراف على الملأ والقول بأننا لسنا مجتمعات براءة خالصة قد قسا علينا مؤلفون غربيون، إنما علينا أن نشهر بعيوبنا، وأن نبحث جدياً عن حلول ناجعة لمأزق الفكر التقليدي وعثراته وقصوره عن مواكبة العصر، وأن ندشن نقداً حقيقياً للأطر السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي، بل هنالك رغبة لدى العديد من المثقفين بتطوير استعدادٍ للاعتراف بأخطائنا، والذي يتطلب الكراهية الذاتية، فالمجتمعات التي لا تمارس هذا الاستبطان قلما تتجرأ على تمزيق نفسها.
كل شيء يسقط في المطارات حتما
ماذا بقي أخيراً، إنها تلك الأشياء التي تسير بصورة واهنة. ذلك أن عمل الفكر غيرُ عمل الواقع، ما الذي يجري في الواقع يمكنك أن تراه في كل مطار من مطارات العالم، ولكن أن تراه شيء، وأن تعيشه شيء آخر.
إنه في الواقع ما أشعر به وأحسه على نحو دائم، فأن تكون عراقياً فإنك لن تشعر بالراحة أبداً، إنه تهديد مُسَلَّطُ ودائم، إنه نوع من الشعور الدائم بالإذلال من المعاملة التي تنتقص من وجودك، ومن كيانك الفردي، وتختزلك على الدوام في مستوى سهل الاستعمال. فليس سهلاً أن تجلس في المطار مشكوكاً بك، مشكوكاً بسحنتك، وباسمك، وبهويتك.
أُوضعُ، أحياناً، ساعات وساعات في صالات انتظار كبيرة، جالساً على مصاطب صلبة، محروساً من قبل شرطي أحياناً، وأحياناً أخرى محاطاً بأعين مرتابة بي، ثم أقاد إلى ضابط ليحقق معي ويتفحص أوراقي، وأنا أجرجر بحقائبي الثقيلة، وهي في الغالب مملوءة بالكتب ولوازم بسيطة من الملابس، ثم أجبر على فتحها لتفتيشها، وأمضي ساعات على إعادتها، ذلك لأني في الغالب أمضي ساعات في تصفيفها على أدنى فراغ، لتحمل أكثر ما يمكن من الكتب، وعملية غلقها تكون شاقة، وهكذا أتعجب أحياناً كيف استوعبت الحقيبة كل هذه الكتب، ولكن بعد حزمها مرةً أخرى، أمام شرطة المطار، أراها قد لفظت مجموعة من الكتب ولم تعد تستوعبها.
هكذا أظل وحيدا مختنقاً بالأسى، حيث يذهب الأوربيون الشقر، أو زملائي المغتربون الذي يحملون جوازات سفر أوربية، وهم يرمقونني بنظرات خاطفة، وأنا أجلس خجلاً، وحيداً، شاعراً بالإرهاق، وبنوعٍ من الإذلال أيضاً، فأردد في نفسي ما قاله المفكر الإيراني علي شريعتي "أنا لا أنسى ولكني أغفر".
نعم أغفر، ذاك لأني أعرف أن الأمن بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبح مقلقاً حقاً.
لا أعرف، ربما من حق هذه المجتمعات أن تدافع عن نفسها، (ولكن أن أوضع أنا تحت طائلة الشك هو ما لا أستطيع احتماله)، مع تفهمي وخشيتي على هذه البلدان من أي أذى تتعرض له، فلم يعد الغرب حكراً على الغربيين وقد قدم عبر إنتاجه الفكري أو المادي أهم ما يمكن وهو كرامة الإنسان.
صحيح أني أعاني هنا وبكرامتي أصلاً، ولكني أشعر بأن الغرب سينفتح حتماً على آليات فكرية ومفاهيم ومنظورات جديدة للكون والتاريخ، نعم أنه له وحوشه من الإسلاموفوبيا، ومن العنصرية ومن الاستعمار، ولكنه قادر على تحطيم وحوشه، الغرب يفتش على الدوام عن ذنوبه فاخترع نظريات تساعد على فهم وتدمير وحوشه، وبما أنه يتعمق في أسوأ سجلاته الماضية فإن مسيرة التاريخ آيلة إلى اتساع وشمولية، وإلى تبدلات وتحولات في جميع الميادين، وهي ستطال لا محالة كل الأطر والمعايير والقوانين، كما أن أنماط الحداثة الغربية في تقدمٍ مستمر داخل المجتمعات الإسلامية، لكنها حداثةٌ لا تملك لساناً، كما قال مرة أوليفييه روا.
الأشياء السيئة وحدها التي تدوم
ما هو واضح اليوم أن الحداثة لم تعد مضغوطة داخل تاريخٍ للعقل الغربي، كأنها مجرد مسرح تتجابه فيه بضراوة قوى السيادة وقوى العمل، فالغرب في تغيرٍ مستمر، وسيتمكن حتماً من إنتاج حداثة كونية مشتركة، إنسانية الطابع، ومتعددة الأطياف. بل لدي يقينٌ كامل إن الرهان على الكلية الإنسانية التي راهن عليها أدورنو لا تهزم، ربما لن تنتصر أبدا، ولكني لا أظن أنها ستتلاشى أو تتقهقر، مع ذلك فإني أخشى أن الأشياء السيئة سواء التي صنعها غربيون، أو التي صنعها مسلمون في الحادي عشر من سبتمبر، ستأخذ وقتا أطول لكي تزول، فالأشياء السيئة ربما لا تزول بسرعة كبيرة كما قالت صديقتي النيويوركية في هذه الممازحة:
كنا التقينا صدفة، بعد سنوات من مؤتمر عمان وأحداث سبتمبر، وفي مؤتمر آخر، في إحدى العواصم الأوربية، وبعد الغداء، كنت سألتها باهتمام بالغ، فيما إذا كانت هناك مكتبة تبيع الكتب المتخصصة بالعالم العربي والإسلامي فزمت شفتيها، وقالت مازحة:
ماذا تقول؟ عرب.. إسلام.. ألا تعرف أنك في أوربا وهذه الكلمات من المحرمات؟
فضحكت وقلت لها ساخراً على طريقتها:
نعم أعرف ولكن عليك أن تعرفي أيضاً أني أفتخر بأني عربي مسلم ..
-أوه، عليك أن تفتخر بأنك شابٌ ووسيم أفضل مما تفتخر بهذه الأشياء..
-وكيف أفتخر بأشياء غير مضمونة، وهي مرهونة بالزمن، ولكني أضمن لك بأن صفتي كعربي وكمسلم مضمونة ما دام وجودي في الحياة.. فضحكت وقالت مازحةً:
-نعم صدقت، طالما الحديث عن الهويات، فإن الأشياء السيئة وحدها التي تدوم!!
علي بدر
كاتب وروائي، درس الفلسفة والأدب الفرنسي في جامعتي بغداد وبروكسل، صدرت له ثلاث عشرة رواية ترجمت إلى أكثر من عشر لغات، حاز على العديد من الجوائز العربية والعالمية، وصدرت مقالاته في اللموند، ليبراسيون، نيويورك تايمز، الاندبندنت، الصنداي تايمز. شارك في العديد من الحوارات مع مفكري الغرب حول العلاقات السياسية والثقافية بين العرب وأوربا.
مواد أخرى لـ علي بدر
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.