ماذا يجري في واشنطن بخصوص دمشق؟ الواقعية السياسية عنواناً للموقف الأمريكي من الوضع السوري الجديد
واشنطن - تجدر هنا الإشارة إلى أن المُستخلصات الواردة في التقرير تحاول مقاربة واقعٍ متغيرٍ بشكل سريع، وفيه الكثير من السيولة والحركة المتعددة الأهداف. وبالتالي، فإنها، أي المستخلصات، تظل محصورةً في الفترة الزمنية الراهنة.
بغض النظر عن المواقف المُعلنة، يبدو مصطلح realpolitik هو الحاكم الرئيس للسياسة الأمريكية الراهنة تجاه الوضع الجديد القائم في دمشق. بمعنى الاستناد إلى "الأشياء" و"الحقائق" التي تفرض نفسها على أرض الواقع، باعتبارها المعطيات والظروف "المادية" التي تنبني صناعة السياسة عليها، بعيداً عن الاعتبارات النظرية والافتراضات المُسبقة.
هذا النوع من الواقعية السياسية، والذي نعرض ملامحه في هذا التقرير، يبدو واضحاً في خلفية المشهد السياسي الأمريكي المتعلق بما يجري في سوريا حالياً. وهذا على مستوى النشاط الحثيث الجاري، بعيداً عن الأضواء، ليس فقط في أوساط مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية، وهو كثير، وإنما أيضاً في وحدات التحليل والاستشارة داخل الدوائر ذات العلاقة في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
ويبدو واضحاً، في هذا السياق، الاهتمام بالرسائل المباشرة وغير المباشرة القادمة من دمشق، والتي تدرسها هذه الجهات. وهي رسائل لا تقتصر على ما ينقله الوسطاء، الإقليميون تحديداً، وإنما تشمل أيضاً دراسةً دقيقة وشاملة لمجمل الممارسات والقرارات والمواقف التي تصدر عن القيادة الجديدة في دمشق.
واستمراراً للمنهج المعتمد في التقرير الأول عن تطورات الأحداث في سوريا*، لا يمثل التقرير التالي بحثاً علمياً ولا توثيقياً للموضوع، وإنما يأتي مبنياً على جملةٍ من اللقاءات والحوارات الخاصة، والاطلاع على بعض الوثائق والتقارير، فضلاً عن الاستفادة من مصادر معلومات مفتوحة، خلال الأسابيع القليلة الماضية، وإلى يوم نشر هذا التقرير. وقد تم اختصار الموضوع وتجنب التفاصيل المتعلقة بنقاط التقرير الرئيسة، وذلك بغرض تسهيل قراءته والاطلاع عليه. والاحتمال وارد بالمتابعة في عرض مثل هذه التقارير في حال وجود تطورات تقتضي ذلك خلال المرحلة القادمة.
تجدر هنا الإشارة إلى أن المُستخلصات الواردة في التقرير تحاول مقاربة واقعٍ متغيرٍ بشكل سريع، وفيه الكثير من السيولة والحركة المتعددة الأهداف. وبالتالي، فإنها، أي المستخلصات، تظل محصورةً في الفترة الزمنية الراهنة. وهذا بحكم وجود جهاتٍ إقليميةٍ وأمريكيةٍ، وبدرجةٍ أقل سورية، تدفع، في واشنطن، باتجاه تأكيد وترسيخ مقولة "ضرورة استمرار الوضع القائم الجديد في دمشق". وذلك في مقابل وجود جهات أخرى، تدفع بشراسةٍ وقوة في الاتجاه المعاكس.
في هذا الإطار، تبدو عناصر المشهد السياسي المتعلق بسوريا في واشنطن مبنيةً، حتى الآن، على المعطيات التالية:
أولاً. مسارات صناعة السياسة
كما هو الحال دائماً فيما يتعلق بصناعة القرار في مسائل السياسة الخارجية الأمريكية، تتعدد الأطراف الفاعلة، ومعها مسارات وسياقات ومنهجية العمل. لهذا، ليس غريباً رؤية مظاهر متنوعة في طريقة تعامل الأطراف المختلفة مع تطورات المشهد السوري. نحن هنا بإزاء منظومةٍ كبيرة تتداخل فيها البيروقراطية مع التنافس الشخصي بين الإدارات والأقسام المختلفة، ويسود في بعض أوساطها الجهل الواضح أحياناً بحقيقة أبعاد الظاهرة محط الدراسة. وهي بمجملها منظومةٌ تتعرض للضغوط من مراكز قوى متنوعة داخلية وخارجية تهدف للتأثير على معطيات التحليل نفسه حتى قبل أن يؤدي التحليل إلى صدور قرار سياسي.
كثيراً ما أدت هذه الحقيقة إلى إخفاقات كبرى في السياسة الخارجية، وهذا يبقى مصيراً محتملاً حين يتعلق الأمر بسوريا. لكن من طبيعة هذه المنظومة نفسها أن تحاول استيعاب ما يمكن أن يبدو فوضى، وبحيث يصب نهاية المطاف في تحقيق أهداف السياسة الخارجية. أما النتيجة النهائية لتلك المحاولة فإنها تبقى في علم الغيب.
وفي حين يركز هذا التقرير على ملامح الرؤية الواقعية التي يتم تداولها في بعض الأوساط الأكثر رصانةً في المنظومة، غير أن هذا لا يعني الغفلة عن ظواهر أخرى نطرح منها مثالين، مبكراً، لتجنب مظنة الاختزال في التقرير، وإمكانية قفزه على مثل تلك الظواهر، والتي ينظر البعضُ من زاويتها، فقط، إلى مجمل عملية صناعة القرار السياسي الأمريكي تجاه سوريا الجديدة، وهو ما نحسبه بعيداً عن المنهجية.
ففريق سوريا في وزارة الخارجية، مثلاً، يقوم بنشاطات ولقاءات داخل سوريا سيكون على بعضها ملاحظات كبيرة لدى السوريين، ويغلب أن يكون رد الفعل عليها سلبياً. هنا أيضاً يختلط، داخل الفريق، الاستعجال بالجهل والعلاقات الشخصية. لكن مثل هذه النشاطات تُستوعب نهايةَ المطاف في مقولة انفتاح أمريكا على مختلف مكونات الشعب السوري، وسيكون تكبيرُ دلالاتها وإدخالها في خانات التآمر أمراً مُبالغاً فيه.
في مثالٍ آخر، تتداول وسائل الإعلام الأمريكية مقاطع تتعلق بالعديد من الانتهاكات التي يتم تصويرها، وأحياناً من قبل المقاتلين أنفسهم. وتحديداً في مقام عمليات التمشيط التي جرت، ولاتزال تجري، في مناطق سورية في الساحل وحمص ودمشق وريفها. لا شك أن هذه الممارسات خاطئة، لكن مثل هذا التداول لن يكون حالياً مدخل صناعة السياسة تجاه الوضع الجديد في سوريا. فمن ناحية، تدرك الأوساط الرصينة التي نتحدث عنها حقيقة إمكانية التلاعب والتزوير في مثل هذه المقاطع، وهو ما أشار إليه بتفصيل كبير، مثلاً، تشارلز ليستر Charles Lister أحد أكبر الخبراء الأمريكيين بالثورة السورية بشكل عام، وبهيئة تحرير الشام على وجه الخصوص.
ولكن، من جهةٍ أخرى، سيبقى كل ماله مصداقية من المقاطع المذكورة محفوظاً في ملفات خاصة يُمكن أن تفتح مستقبلاً عند الضرورة، وفي حال حصول تضارب استراتيجي كبير مع دمشق. وستبقى معها في الملفات، وحتى الحوارات الراهنة، دلالات بعض القرارات الحساسة مثل تعيين البعض من غير السوريين كضباط كبار في الجيش السوري الجديد.
رغم ذلك، ينبغي الإدراك بأن واشنطن تنظر حالياً إلى المشهد السوري في سياقٍ استراتيجيٍ إقليميٍ شامل يتعلق بملفاتٍ عديدة معقدة ومتداخلة، خاصةً بعد أحداث العام المنصرم الذي تغيرت فيه معطيات النظام الإقليمي بشكلٍ جذري. وبالتالي، فإن مثل تلك الظواهر وملفاتها ستبقى موضع تساؤلٍ يحتاج لإجابات من دمشق، لكنها لن تكون مدخل الحكم على الواقع الجديد والتعاون معه. لأن التعامل مع ذلك المشهد المعقد يتطلب أقصى درجات البراغماتية والواقعية السياسية الشاملة.
ثانياً. دلالات التاريخ
تحاول القيادة السورية الجديدة في رسائلها المستجدة، المباشرة وغير المباشرة، البناء على ما هو متوافر لدى الأوساط الأمريكية ذات العلاقة من معلومات وتحليلات واتصالات تتعلق بالسنوات الماضية، فيما يتعلق بممارسات "هيئة تحرير الشام" وقيادتها، خاصةً فيما يتعلق بالمهمات الأساسية التي وضعتها القيادة المذكورة بمثابة أهداف استراتيجية منذ عام 2018، وهي لا تخرج عن "محاربة الإرهاب" و"إسقاط نظام الأسد".
ويدرك الطرفان، في دمشق وواشنطن، أن لدى الأخيرة حجماً كبيراً من المعلومات عن السياق التاريخي المتعلق بملابسات إنشاء "هيئة تحرير الشام" والتطورات التي تلت ذلك على مر السنوات الماضية. وتأتي، كمثالٍ بارزٍ عليها، الخبرة الشخصية المتطاولة للسفير جيمس جيفري. وهو السفير الأمريكي السابق لدى التحالف لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في عهد إدارة ترامب، والسفير السابق إلى تركيا والعراق. وهو حالياً زميل زائر في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وعضو في المجلس الاستشاري الخارجي لوكالة المخابرات المركزية، وعضو في "مجلس العلاقات الخارجية".
يُعتبر السفير جيفري أكبر شخصية سياسية أمريكية مطلعة على الأوضاع في شمال سوريا. وكان قد أنهى لقاءً طويلاً مع شبكة PBS News في مارس 2021 عن الهيئة وقائدها بقوله: "الأمر الأخير الوحيد الذي سأقوله هو أن الجولاني وهيئة تحرير الشام يمثلان أفضل مثال على الحركات المعقدة التي توجد في الشرق الأوسط، حيث لا توجد دول قومية تقليدية، وقواعد وأعراف وسلوكيات دولية تقليدية. لا يزال يتعين بذل جهد من أجل نوع ما من النظام.. وعندما لا يكون هناك الوجود الطبيعي للدول القومية والمعايير والقواعد الدولية والسلوك والقانون الدولي، فإنك تنتهي إلى مجموعات مثل هذه، قد تفعل أشياء لا تحبها، ولها تاريخ مقلق. ولكن في الحاضر، أنت تبحث عن الأشخاص الذين يتعين عليك التعامل معهم لتجنب أشياء أسوأ. خاصةً وأن إدلب هي واحدة من أهم الأماكن في سوريا، وسوريا هي واحدة من أهم الأماكن في الشرق الأوسط الآن".
ويبدو أن واشنطن ليست غافلةً عن التحولات الكثيرة، العقائدية والفكرية والتنظيمية، التي تقَّلبَ في دوائرها أبو محمد الجولاني، قائد "هيئة تحرير الشام"، كشخصيةٍ محوريةٍ مؤثرة، وفي دلالات تلك التحولات. وهي دلالاتٌ تجري عمليات دراسة وبحث وتحليل متطاول، حالياً، للإمساك بخيوط ارتباطها بأحداث سوريا خلال الأسابيع القليلة الماضية. تمتد هذه التحولات على مساحةٍ من الوقائع والأحداث، وتتضمن الكثير من التفاصيل. لكن أحد أهم مؤشراتها يتمثل في حصول قرابة ستين عملية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" قامت بها الهيئة منذ عام 2018، فضلاً عما نُقل عن السفير جيفري أن معلومات استخباراتية من الهيئة هي التي ساعدت أمريكا على قتل البغدادي زعيم تنظيم الدولة. وهي كلها معلوماتٌ أدت لقيام آرون زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والمتخصص في الجهادية الإسلامية، بتقديم بحثٍ له العام الماضي 2023 بعنوان "الجهادية المكافِحة للإرهاب: هيئة تحرير الشام" قال فيه: "إن الحجة لصالح إبقاء هيئة تحرير الشام على قائمة تصنيف الإرهاب ليست واضحة كما كانت عندما تم تصنيف الجماعة لأول مرة باسم جبهة النصرة قبل أكثر من 10 سنوات. بل ومن المعقول أنه لو تم تشكيل هيئة تحرير الشام من العدم عندما تم الإعلان عنها في عام 2017، فربما لم يتم تصنيفها على الإطلاق بناءً على أفعالها على مدى السنوات الست اللاحقة".
ثالثاً. الملفات ذات الأولوية
أحيطت واشنطن علماً بأن الملفات التي تحتل الأولوية، حالياً، في دمشق تتمثل في الملفين السياسي (المحلي والإقليمي والعالمي) والأمني (المحلي والإقليمي)، ومعها الملف الاقتصادي (المحلي المعيشي). مع الإشارة إلى أن مجمل "القرارات والمواقف والممارسات" المطروحة في دمشق خلال الأيام الماضية تدخل في إطار التعامل مع تلك الملفات.
بالمقابل، وفي هذا الإطار نفسه، تتابع واشنطن تقييم درجة انسجام "القرارات النظرية والممارسات العملية" الصادرة في دمشق مع الخطوط الرئيسة التي وضعَتها هي كمقياسٍ للتقويم. ومن أهمها، كما أوضح وزير الخارجية أنتوني بلينكن، نبذ العنف، وعدم السماح للجماعات الإرهابية بالتمركز في سوريا، واحترام حقوق الأقليات والنساء، ووصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين إليها، فضلاً عن ترسيخ عناصر السلام مع دول الإقليم وعدم العبث باستقرارها، وأخيراً تأمين مخزونات الأسلحة الكيماوية وتدميرها.
ومع الإبقاء على سوية الحذر الشديد في عملية التقويم حتى الآن، غير أن ثمة تفهماً متزايداً لمواقف دمشق بناءً على التحليل الشامل لمسائل يجري القفز عليها في الأوساط الإعلامية. وفي مقدمتها دلالات ما جرى، وما لم يجرِ، خلال وبعد إسقاط الأسد في كافة المناطق السورية، عسكرياً وأمنياً واجتماعياً. بل يمكن القول إن هناك نوعاً من "الدهشة الإيجابية" في معرض المقارنة بين الأحداث في سوريا، وما كان متوقعاً أن يحدث فيها قياساً للتجارب العالمية ذات العلاقة. وبحسب مختصين في أحد مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تتابع الوضع السوري عن قرب، فإن "ما حصل في سوريا بعد سقوط الأسد إثر ثورةٍ مسلحة، ويدخل في باب العنف والانتهاكات والخروق العسكرية والقانونية المعهودة تاريخياً، لا يصل إلى نسبة 5% من النسبة المعتادة في مثل تلك التجارب. وعندما يكون التركيز على أول شهرٍ بعد نجاح ثورةٍ مسلحة، وهو عادةً أسوأ فترة، فإن النسبة لا تكاد تصل إلى 1%".
ورغم ما يجري من خصمٍ (discounting) لهذه الحقيقة المُعبّرة في أوساط التحليل الإعلامي في المنطقة، بل وحتى، للمفارقة، في أوساط السوريين الذين تعاملوا معها على أنها أمرٌ مفروغٌ منه (took for granted)، غير أن هذا العنصر يبدو دفعةً مُعتبرة تصب في رصيد دمشق الجديدة في نظر واشنطن، والتي تراقب صورة الحدث وتحلله بدرجةٍ من الشمول.
فضلاً عن هذا، لا تُخفي هذه الأخيرة وجود تقاطعات واضحة، يبدو أنها تتسع باضطراد، بين عناصر التقويم التي تحدث عنها وزير الخارجية بلينكن وبين "القرارات النظرية والممارسات العملية" للقيادة الجديدة في دمشق. إذ تجري عملية "مَوضَعة" للقرارات والمواقف والممارسات التي تصدر عن دمشق في مكانها من الخارطة المتعلقة بتطورات الوضع السوري، وبحيث يمكن ملء الفراغات تدريجياً وبشكلٍ منهجي، بغض النظر عن العناوين الإعلامية. هذا مع التذكير دائماً بإبقاء سوية الحذر مرتفعةً، بل وإبقاء "الشك" عنصراً رئيساً في عملية التحليل والدراسة والمتابعة، بحيث لا يجري تجاوز عنصرٍ ألا بعد التأكد من طبيعته بأكثر من شاهد. وذلك لضمان الوصول إلى صورةٍ شاملةٍ ومتكاملة، تكون أرضيةً للمواقف السياسية الراهنة والمستقبلية.
رابعاً. في "المشروعية" السياسية
يندرج في هذا السياق تركيز واشنطن على ضرورة استمرار تماسك وانضباط "هيئة تحرير الشام" بعناصرها وقيادتها كجهةٍ تقود عملية التحول في المرحلة القادمة. وهذا يفسر غياب المناداة "الصارخة"، أمريكياً، بضرورة الانتقال في سوريا إلى عمليةٍ سياسيةٍ "ديمقراطية". إذ ترى واشنطن أن الواقعية السياسية تقتضي وجود الجهة التي أثبتت قدرتها على الإنجاز والقيادة، وبانضباطٍ، عسكريٍ وأمنيٍ واجتماعيٍ غير مسبوقٍ ولا معهود، مقارنةً بما هو سائدٌ في المنطقة، في دفة القيادة على المدى المنظور.
وينبني هذا الموقف على جملة عناصر تبدأ بخوف واشنطن الشديد من استمرار إمكانية ظهور فوضى أمنية عارمة في سوريا، يمكن أن تمتد سريعاً إلى دول الجوار، في حال اختفاء الجهة القادرة حالياً على الضبط. وهو محظورٌ يمثل خطاً استراتيجياً أحمر لا يمكن السماح بحصوله حالياً، في ظل الخلخلة الهائلة الحاصلة في المنطقة بعد الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان. مع الإدراك بإمكانية فَلَتان هذه الفوضى بدرجةٍ كبيرة، وبما يمكن أن يكون المدخل الأكبر لقدرة إيران على استخدامها. سيما مع توارد معلومات استخبارية عن صراعٍ سياسي متصاعد في طهران بين فريقٍ، لايزال محدوداً، ويسعى إلى لملمة الخسائر الإيرانية، مع التأكيد على ضرورة الانحسار إلى داخل البلاد، وفريقٍ آخر تمثله أغلب رموز السلطة الراهنة، ويزداد قناعةً بحتمية اللجوء إلى "خيار شمشون" وهدم المعبد على الجميع إذا اقتضى الأمر.
المهم في هذا السياق إدراك أن هدف تجنب الفوضى، والدور الإيراني الممكن فيها، لا ينحصر في الرغبة في الاستقرار المعاكس للفوضى المذكورة، وإنما يتجاوز ذلك إلى منع إيران من تغيير المعادلة الاستراتيجية التي تبدو قادمةً في المنطقة، وأحد مشاهدها لا يكمن فقط في محاصرة الدور الإيراني داخل إيران، بل ويمتد إلى خلق الظروف المؤدية إلى إسقاط نظامها. بمعنى أن الفوضى ستكون ورقةً في يد إيران لإشغال من يخطط لتغيير نظامها، في حين أن غياب الفوضى المذكورة يمثل عنصراً مساعداً أساسياً لبقاء كل الخيارات مفتوحةً لتحقيق ذلك الهدف.
أما العنصر الثاني الذي يعضد الرؤية المذكورة فيتمثل فيما رَصَدته واشنطن، ولاتزال، من تصاعد "الشعبية الجماهيرية" الواسعة التي يبدو الجولاني / أحمد الشرع في وارد بنائها بشكلٍ سريع وغير مسبوق. فالرصد الدقيق والشامل لتوجهات السوريين، حتى قبل لحظة سقوط بشار الأسد، يظهر درجةً من الإجماع على الرجل من الغالبية العظمى من شرائح المجتمع السوري. ومما يلفت النظر امتداد دوائر تلك الشعبية إلى شرائح واسعة غير متدينة في الطائفة السنية، وفوق ذلك إلى شرائح مُقدَّرة في الطوائف الأخرى. وهو ما يبدو عنصراً إضافياً يساعد على تحقيق شروط تجنب الفوضى غير المرغوبة.
فوق هذا وذاك، تبدو بعض الأوساط مهتمةً بالتحولات التي يجري متابعتها في صفوف عناصر الفصائل المختلفة. وثمة تحليلٌ، في هذا الإطار، يؤكد على إمكانية حصول تغييراتٍ "ثقافية" جذرية، وسريعة، لدى عشرات الآلاف، ليس فقط من عناصر "هيئة تحرير الشام"، بل وكل العناصر المنضوية في إطار غرفة إدارة العمليات العسكرية. ويبدو واضحاً لدى محللين يرصدون ظاهرة "الجهادية الإسلامية" وتحولاتها، في سوريا تحديداً، خلال المراحل الماضية، أن هذه الأعداد الكبيرة من عناصر الهيئة والفصائل الأخرى تشعر بنوعٍ من "الصدمة الثقافية" مع رؤية درجة التفاعل الإيجابي معهم، ومع ما حققوه، من قبل ملايين السوريين على طريق التحرير، وفي مختلف المحافظات، من حلب إلى دمشق. فهؤلاء المقاتلون، حسب المحللين، يملكون خلفية إسلامية لا تنسجم كثيراً مع الظواهر الاجتماعية والثقافية الكثيرة والمعقدة والشديدة التنوع، والتي وجدوا أنفسهم مضطرين للتعامل معها فجأةً. ويبدو أن هذا التفاعل الإيجابي من السوريين، ومعه الترحيب والاستقبال الكبيرين لهم، يهز بعض مكونات "التشدد الإسلامي" في تكوينهم العقائدي، في معرض حكمهم على ظواهر المجتمع السوري وطريقة حياته المدنية المتنوعة. وحسب أحد المحللين، قد يمكن اختصار الظاهرة في عبارة it’s working التي تتفاعل في دواخل هؤلاء المقاتلين، وإن لم يُعلنوا عنها. بمعنى شعورهم بأن ما كنا نحسبه "تنازلاتٍ دينية بحكم الضرورة" خلال عملية التحرير هي في الحقيقة الأقربُ لتحقيق الهدف. ومما يؤكد إمكانية حصول هذه التحولات، في رأي بعض المحللين، الإدراك بأن "الخلفية الثقافية الإسلامية" لغالبية المقاتلين تبقى مغروسةً فيما يُسمى "إسلاماً سورياً". وهو إسلامٌ قد يكون تأثر في السنوات الماضية بتفسيراتٍ عابرة للحدود، خاصةً من "الوهابية السعودية"، لكنها تبقى في جوهرها، وتاريخياً، أقرب للتمدن والاعتدال بحكم التعايش المُستدام في سوريا بين شرائح متنوعة للغاية.
وعلى الصعيد الشخصي، ثمة إشارات مُعبّرة تتابعها بعض الجهات التي تدرس الإطلالات السياسية والإعلامية العامة لأحمد الشرع، وإلى أثرها في السوريين. حيث استعمل البعض كلمة "عامل مُهدّئ" calming factor في معرض التدليل على التأثير الذي يُحدِثهُ في الناس عند ظهوره المتكرر، والذي يبدو مدروساً، خاصةً في أعقاب الضجيج المتصاعد حول بعض الأحداث أو التصريحات أو القرارات التي تتكرر وتشغل السوريين بين حينٍ وآخر.
أخيراً في هذا السياق، يبدو الإدراك متزايداً في أوساط البحث بأن الشعبية الكبيرة المستجدة لأحمد الشرع في أوساط السوريين يمكن أن تؤمن له غطاءً داخل الفصائل، يقلل احتمالات الخلافات التي كان متوقعاً ظهورها على أرضيةٍ دينيةٍ عقائدية، حين يتعلق الأمر بالقرارات والممارسات التي كان وراءها بقوة، وعلى صعيدٍ شخصي. وفي حين يبدو الولاء محسوماً داخل صفوف "هيئة تحرير الشام" للرجل، يبدو أن أغلبية المقاتلين، حتى في الفصائل الأخرى، باتت مقتنعة بآرائه وطروحاته بناءً على ما يمكن تسميته بشرعية الإنجاز. وهو أمرٌ بات جميع قادة الفصائل يأخذونه بعين الاعتبار.
خامساً. ملامح المرحلة
في سياقٍ موازٍ، يبدو التفهم سائداً في واشنطن بتفاصيل ما تحدث عنه أحمد الشرع بعد ذلك في مقابلته مع قناة "العربية" فيما يتعلق بالترتيبات الداخلية القادمة. فهناك، من جهة، تقديرٌ واحترامٌ من قبل دمشق للدور المستقبلي الممكن والمطلوب للأمم المتحدة في أكثر من مجال. لكنها عملياً الآن تُعتبر خارج العملية السياسية التي سيتم رسم ملامحها بين السوريين أنفسهم. وهذا بناءً على سجلِّها السابق من ناحية، وعلى ما تم في أرض الواقع من تحقيق روح قرار مجلس الأمن 2245، وانتفاء الحاجة، والإمكانية العملية، لتطبيق بعض بنوده.
وفي معرض توسيع دوائر مشاركة السوريين تم توضيح مسألةٍ تتعلق بهياكل المعارضة السياسية السورية السابقة، وتتمثل في وجود ملاحظاتٍ شعبيةٍ ونخبويةٍ واسعة بين السوريين على أدائها في الفترة الماضية، وهو أداءٌ كان يصدر أغلب الأحيان عن نفس "الثقافة السياسية البعثية" التي قامت الثورة عليها. رغم هذا، يبقى الترحيب قائماً بأفرادها بشكلٍ كامل للمشاركة في صياغة المرحلة الجديدة بما لديهم من خبرات وتجارب وقدرات، سيرى السوريون أنفسهم درجتها، ويكونون هم الحكام عليها. أما الهياكل فقد انتفت الحاجة لوجودها نهائياً، كونها تهدف أساساً لمعارضة نظام الأسد، الذي سقط نظامه بشكلٍ كامل.
وفي سياق التطورات الداخلية، يبدو أن دمشق حرصت على إيضاح تصوراتها فيما يتعلق بملاحقة فلول نظام الأسد، وخاصةً في حمص والساحل. ذلك أن رؤيتها تتمثل في أن طبيعة النظام السابق لم تسمح ببناء دولةٍ عميقة في سوريا يمكن أن تكون أداةً لثورةٍ مضادة في البلاد. كما أن عملية فرار بشار الأسد بالكيفية التي حصلت، وما شاهده العالم من ممارسات نظامه الإجرامية بعد السقوط، سحبا أي مشروعية محلية أو إقليمية أو دوليةٍ قد يفكر البعض في تلبيسها للأسد الذي انتهى دوره نهائياً، وبدون عودة.
وفي ظل انحسار الوجود الإيراني المسلح بشكلٍ كامل عن الأراضي السورية، يبدو واضحاً لدمشق، وفق المتابعة والمعلومات الاستخبارية، أن أي جهات، من إيران أو غيرها، يمكن أن تفكر بسيناريوهات الثورة المضادة ستركز على توريط السوريين من طائفة الرئيس السابق في منطقة الساحل السوري تحديداً. وعليه، فإنها تركز على تلك المنطقة بمزيجٍ من السياسات التي تضمن، من ناحية، ملاحقة مثيري الشغب وفلول النظام السابق بشكلٍ حاسم. ومن جهةٍ ثانية، التواصل الكثيف مع رموز ووجهاء الطائفة للتعاون معهم بكل وسيلة على إجراءات عملية تحقق لهم أمانهم وتضمن لهم حقوقهم، مع الإدراك بأن الغالبية العظمى من أبناء الطائفة باتوا يدركون حقيقة ما جرى في سوريا بعد التحرير، وأنهم يريدون الاندماج في عملية التغيير الجديدة.
* "ماذا جرى في سوريا خلال الأسبوعين الماضيين: قراءةٌ في تطور الأحداث".
د. وائل مرزا
رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات.
مواد أخرى لـ د. وائل مرزا
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.