على أعتاب كارثةٍ ماليةٍ عالميةٍ جديدة: أزمات هيكلية في النظام الاقتصادي والمالي العالمي

19 آذار/مارس 2023
 
قلائل الذين يعلمون بحجم الكارثة المالية العالمية التي ربما أمكنَ تجنُّبُها، حتى الآن على الأقل، خلال يومي العطلة الأسبوعية الماضية. وهي أزمةٌ كان يُمكن لها أن تشتعل في أمريكا صباح الإثنين الفائت، وتمتد إلى جميع أنحاء العالم، كما حصل مع الكارثة المالية العالمية عام 2008. هذا رغم عودة ملامحها إلى الظهور مع الاهتزاز الكبير لبنك "كريديت سويس" السويسري المشهور صباح الأربعاء، ومعه كل البنوك الأوربية ثم الأمريكية في وقتٍ لاحق من اليوم. وما صاحبَ ذلك من انخفاض أسعار النفط وانهيار أسواق الأسهم في أوروبا وأمريكا وآسيا.
في جميع الأحوال، يأمل كثيرون بأن يكون العالمُ قد تجنبَ كارثةً اقتصاديةً كُبرى جديدة، لكن هذا لا يبدو مضموناً على الإطلاق. ما هو مضمونٌ أن حصول مثل هذه الكارثة، مع كلَّ عقدٍ من الزمان، باتَ سجيةً للنظام الاقتصادي والمالي العالمي لا يمكن تجنبُها، أقلهُ خلال نصف القرن الفائت، ومع تصاعد موجة العَولمة.

وإجمالاً، يؤكدُ الحدثَ، أكثر من كونهِ ينفي، وجود جملةٍ من الأزمات الهيكلية في ذلك النظام لا يبدو أن لاعبيه الكبار في وارد إصلاحها جذرياً على المدى المنظور. رغم وجود صيحاتٍ هنا وهناك، تصدر عن أفراد أو مؤسسات، يسكنهم جميعاً همُّ واقع الفوضى الاقتصادية الذي يظل العالم عالقاً في دواماته التي تشبه الحلقة المفرغة.

ما يلفت النظر هنا، ودائماً، هو إهمال الغالبية العظمى من العرب، وتحديداً الباحثين عن الإصلاح السياسي والاجتماعي منهم، فيما يتعلق بإدراك أهمية هذا النظام (الاقتصادي والمالي)، وفَهمِ مفاصله وآلياته ومآلاته الراهنة والمستقبلية، رغم التأثير الشديد، السلبي غالباً، لمجرياته على حاضرهم ومستقبلهم. مع الزهد البالغ في التفكير بأي مساهمةٍ ممكنة من قبل متخصصيهم في أي محاولات ممكنة لإصلاحه، رغم ما هو ظاهرٌ من تداخله، وتدخُّلهِ، الوثيق والجذري في كل إصلاحٍ يبحثون عن قيامه في مجتمعاتهم.


تكمن الأزمة الأولى، الأهم والأكبر، في قلب النظام وجوهره الأساس: حرية السوق ورفض التدخل الرأسمالي الحكومي "ليزيه – فير" في النشاط الاقتصادي، وبالضرورة في السياسة النقدية، بدعوى أن "اليد الخفية للسوق" تؤمن دائماً توازناً مطلوباً بين العرض والطلب للسلع والخدمات في أي مجتمع، بما يحقق له النمو والاستقرار نهاية المطاف.

ففي حين تؤكد الغالبية العظمى من المنظّرين الاقتصاديين، ومعهم غالبية رجال المال والأعمال، على ضرورة تطبيق هذا المبدأ في حركة الاقتصاد المعاصرة، ويخلصون إلى أن تدخل الدولة هو طريقٌ للانتقال التدريجي إلى النظام الاشتراكي الذي يؤدي إلى رأسمالية الدولة بمعنى ملكيتها الكاملة للاقتصاد وتحكمها بفعالياته. يبدو الواقع العالمي، ومعه حفنةٌ من الاقتصاديين، في وارد التأكيد على استحالة إلغاء تدخل الدولة عملياً. ويكررون بأن هذا سيكون مدخل أزمات كبرى كارثية لايمكن أن توجد لها حلول بمعزلٍ عن ذلك التدخل.

يهدف الفريقان، نظرياً، إلى الحفاظ على توازن الاقتصاد بشكلٍ يحقق مصلحة الجميع ويُخفف الأعباء على عامة الناس. وإن كان الأمر يُذكِّرُنا في هذا المقام، وحين ننظر إلى تأثير النظام الاقتصادي على المجتمعات المعاصرة، بمقولة الاقتصادي الأمريكي العريق: John Kenneth Galbraith : "في ظل الرأسمالية يستغل الإنسانُ الإنسانَ. أما في ظل الشيوعية، فالأمر على عكس ذلك تماماً!". 

كيف بدأت وتطورت الأزمة؟

ظهرت الملامح الأولى للأزمة بشكلٍ خفيف مع انهيار بنكٍ صغيرٍ في ولاية كاليفورنيا اسمه (Silvergate Bank) يوم الأربعاء الماضي. وقيل إن سبب انهياره تمثل في تركيزه المبالغ فيه على تداول العملات الرقمية التي انخفضت قيمتها بدرجةٍ كبيرة، الأمر الذي ظهر على شكل نقصان كبير في محفظته المالية مؤخراً، وأدى إلى تدافع المودعين لسحب أموالهم ما أدى بدوره إلى قرارٍ للبنك ببيع أصوله وتصفية أعماله.

بعدها بساعات، تفاجأ السوق بخبرٍ بدى جانبياً وقتها، يتمثل في أن بنك (Silicon Valley)، البنك الرئيسي في وادي السيليكون المشهور، أيضاً في ولاية كاليفورنيا، يُحاول جمع مبلغ  2.25 مليار دولار لدعم ميزانيته العمومية.

تأسس بنك Silicon Valley في عام 1983، وكان قبل الانهيار بقليل، البنك التجاري السادس عشر في أمريكا. وقدَّمَ على مدى أكثر من أربعة عقود خدمات مصرفية لما يقرب من نصف جميع شركات التقنية الجديدة والتكنولوجيا الحيوية وغيرها من الشركات التي أصبح الكثير منها عملاقاً خلال السنوات الماضية. هذا فضلاً عن تواجدٍ قوي للبنك في كندا والصين والدنمارك وألمانيا وأيرلندا والسويد والمملكة المتحدة.استفاد البنك، المُسمَّى اختصاراً SVB، بشكل كبير من النمو الهائل لقطاع التكنولوجيا في السنوات الأخيرة، مدعوماً بتكاليف الاقتراض المنخفضة للغاية (تُسمى في أمريكا Free Money لأن الفائدة صفر)، ومعها الازدهار الناجم عن جائحة كورونا في الطلب على الخدمات الرقمية.وزادت أصول البنك، التي تشمل القروض، أكثر من ثلاثة أضعاف، من 71 مليار دولار في نهاية عام 2019 إلى ذروة 220 مليار دولار في نهاية مارس 2022، وفقًا للبيانات المالية. كما تضخمت الودائع من 62 مليار دولار إلى 198 مليار دولار خلال تلك الفترة.

حصل هذا بسبب حجم السيولة المالية الضخمة التي ضختها الحكومة في الاقتصاد الأمريكي لتخفيف أعباء الجائحة وتجاوزت قيمتها قرابة 6 ترليون دولار، إن على شكل نقدٍ فوري للمواطنين، أو عن طريق شراء البنك المركزي (الاحتياطي الفيدرالي) للديون والأوراق المالية الطويلة الأجل من البنوك والمؤسسات المالية لإنعاش الاقتصاد.

استفاد عشرات ملايين الأمريكان من الطبقات الفقيرة والمتوسطة من حملات إنقاذ الاقتصاد المذكورة، لكن طبيعة النظامين السياسي والمالي المتداخِلَين في أمريكا بشكلٍ معقد سمحت للملايين من الأثرياء ولمئات الشركات الضخمة، ومنها المؤسسات المالية الكبيرة، بالاستفادة من تلك الأموال بدرجاتٍ مُضاعَفة، إن بشكلٍ مباشر من خلال حصولها على تعويضات وقروض بفائدة 0٪، أو من خلال إيداعات الأفراد، ومعهم المؤسسات، الذين استفادوا جميعاً من المال الحكومي.

وجدت إدارة البنك نفسها تمتلك كل هذه السيولة، فأصابها الطمع وقررت، بدرجةٍ فيها الكثير من الاستسهال، الاستثمارَ في سندات الخزينة الأمريكية طويلة الأجل. وجاءت نقطة تحول البنك يوم الأربعاء، عندما أعلن SVB أنه باع ما قيمته 21 مليار دولار من تلك الأوراق المالية بخسارة تقدر بنحو 1.8 مليار دولار، قبل استحقاق أجلِها. وقال إنه بحاجة إلى جمع 2.25 مليار دولار لتلبية احتياجات سحب العملاء وتمويل الإقراض الجديد. أثارت تلك الأخبار موجةً من الذعر، وفي غضون يوم واحد، سارع كبار أصحاب صناديق رأس المال الاستثماري إلى سحب إيداعاتهم، ودعوا زبائنهم ومعارفهم إلى سحب الودائع عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فتم سحب أكثر من 42 مليار دولار في ذلك اليوم. وكانت النتيجة أن انخفض سهم SVB بنسبة 60 ٪، وأدى ذلك إلى خسارة أكثر من 80 مليار دولار في أسهم البنوك على مستوى العالم، يومها فقط.

للتوضيح، يجدر القول إنه عندما ترتفع أسعار الفائدة، فإن أسعار السندات تنخفض، وبالتالي فإن القفزة السريعة والكبيرة في أسعار الفائدة، والتي كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وراءها، أدت إلى تآكل قيمة محفظة سندات SVB. فقد كانت المحفظة تحقق متوسط ​​عائد 1.79٪ الأسبوع الماضي، أي أقل بكثير من عائد سندات الخزانة لأجل 10 سنوات والبالغ حوالي 3.9٪. أي أن بيعها قبل استحقاق تاريخها، وهو ما حصل، يُسبب خسائر كبرى.في الوقت نفسه، أدَّت القفزة المذكورة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، مما يعني أن الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا اضطرت إلى توجيه المزيد من الأموال لسداد الديون، بدلاً من توظيف أموالها لتطوير أعمالها، بينا هي تكافح، في الوقت نفسه، لجمع تمويل جديد لرأس المال الاستثماري الذي أصبح أكثر صعوبةً في وجهها بسبب الذعر المتزايد من قبل البنوك حول عدم قدرتها على تسديد ديونها.

من هنا، يتبنُ لنا أن تدخل الحكومة، الذي كان عاملاً رئيساً في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي مع ظهور جائحة كورونا، هو نفسهُ الذي صار عاملاً رئيساً في انفجار الأزمة. وهذا مأزقٌ لا يعرف أحد كيفية الخروج منه.

ربما كان ذلك سبب تصريح (كين جريفين)، مؤسس صندوق التحوط Citadel الضخم، لصحيفة (فاينانشيال تايمز) إنه ما كان ينبغي للحكومة الأمريكية أن تتدخل لحماية جميع المودعين من SVB بعد انهيار البنك. حيث قال في مقابلةٍ بعد يوم من تعهد المنظمين الأمريكيين بحماية جميع المودعين في SVB: "من المفترض أن تكون الولايات المتحدة اقتصاداً رأسمالياً، وهذا ينهار أمام أعيننا".المفارقة أن أعضاء الحزب الجمهوري المحافظ يرفعون دائماً شعارات بأنهم مع حرية السوق وضد التدخل الحكومي فيه، لأن هذا يحمل شبهة النظام الاشتراكي، لكنهم كانوا جميعاً في هذه الحالة مؤيدين لقرارات إدارة بايدن، بل إنهم قاموا بإطرائها، على أساس أنها حمت الاقتصاد الأمريكي من الانهيار.وبتعميم هذه الصورة عالمياً، تتضح حيرةُ، وربما نفاقُ، كل مؤيدي الأسس النظرية لمنطق حرية السوق في النظام الرأسمالي في تطبيق هذا المبدأ فعلياً عندما تَفرضُ إكراهاتُ الواقع البشري الحيوي نفسها على مجتمعٍ من المجتمعات، مهما كانت درجة قوته الاقتصادية، والتزامه (الدستوري) بأسس النظام الرأسمالي. 


دور بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي

لكن ثمة أزمةً هيكلية أخرى في النظام الرأسمالي الاقتصادي والمالي العالمي تتمثل في أهلية مؤسسات التدخل الحكومي، بحد ذاتها، وفي هيكلها وطبيعة عملها وملابسات تدخلها بالمسائل السياسية، وبالتالي، في قدرتها على تحقيق الهدف الذي أُنشأت لأجله. ننتقل هنا إلى مستوى آخر من التحدي الذي يواجه النظام الرأسمالي عندما يعمل على بناء مؤسساته التي سيحقق من خلالها أهدافه.

فالجدير بالذكر، على سبيل المثال، أن أمريكا شهدت 9 فترات ركود منذ عام 1961. والمفارقة أن البنك المركزي (الفيدرالي) الأمريكي، وهو المؤسسة الأكبر والأقوى والأكثر شهرةً في العالم لضبط قوانين ذلك النظام، تَسبَّبَ بـ 8 من فترات الركود المذكورة. حصل هذا لنفس السبب، ويتمثل في أن البنك يحاول، في كل مرة، التعامل مع فترة تضخم للاقتصاد، وذلك من خلال رفع أسعار الفائدة بشكلٍ سريع وكبير، لتخفيف اندفاع الاقتصاد وضبط التضخم، لكن هذا يؤدي إلى قلب الأوضاع رأساً على عقب. وهذا هو السيناريو الذي تشهده أمريكا خلال السنة الماضية. فقد بقي البنك يصرُّ على إبقاء أسعار الفائدة قريبةً من الصفر خلال أزمة جائحة كوفيد.

أكثر من ذلك، خرج رئيس البنك، (جيروم بأول)، على الإعلام بعد اجتماع مجلس إدارة البنك بتاريخ 10 يونيو / حزيران عام 2020 وأدلى بتصريحٍ بات مشهوراً قال فيه: ""نحن لا نفكر حتى في مجرد التفكير برفع أسعار الفائدة"، وأشار إلى وجود إجماع داخلي في مجلس الإدارة بشأن عدم حصول ذلك قبل عام 2023 على أقرب تقدير.ما الذي حصل بعدها؟ بدأ التضخم يرتفع، وصدرت نداءات لرفع أسعار الفائدة مبكراً وبشكلٍ تدريجي، لكن البنك بقي يتجاهلها إلى بداية عام 2022، حيث بات التضخم واضحاً وسريعاً، فتعامل البنك بمنطق ردود الأفعال مع الموضوع، وقام برفع سعر الفائدة 7 مرات خلال عام واحد بحيث صعدت بشكلٍ صاروخي من نسبة 0% إلى أن وصلت إلى النسبة الحالية البالغة أكثر من 4.5%.

الغريبُ في الموضوع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي هو جهازٌ ضخمٌ يعمل فيه أكثر من 23 ألف موظف، منهم المئات من حملة شهادة الدكتوراة في كل مجالات الاقتصاد، والمال والأعمال والتخطيط! وهو يُدير ميزانية عمومية تتجاوز 8.3 تريليون دولار، كما يظهر من تقاريره في شهر يناير / كانون الثاني لهذا العام 2023. ورغم وجود كل هذا العدد من المستشارين والخبراء، فإن من يتخذ القرار النهائي فيه هو مجلس الإدارة المؤلف من 11 شخصاً.

ينقسم البنك إلى 12 بنك احتياطي فيدرالي، وفروعها الـ 24، التي تُعتبر أذرع التشغيل لنظام الاحتياطي الفيدرالي. ويعمل كل بنك احتياطي ضمن منطقته الجغرافية أو المقاطعة الخاصة به في الولايات المتحدة، وذلك لضمان أن تكون للبنك رؤيةٌ شاملة لمعطيات الوضع الاقتصادي في القارة الأمريكية الواسعة. سيما وأن هناك أكثر من 4200 بنك في أمريكا تتعامل رسمياً مع بنك الاحتياطي الفيدرالي ومؤمَّنة لديه.يتمثل دور بنك الاحتياطي الفيدرالي، ومعظم البنوك المركزية في دول العالم التي تتبنى النظام الرأسمالي، باعتبارها سلطة السياسة النقدية في البلاد، في مراقبة مخاطر النظام المالي وينخرط في الداخل والخارج للمساعدة في ضمان دعم النظام لتأمين اقتصادٍ صحي للأسر والمجتمعات والشركات. وكذلك العمل على توافر وتكلفة المال والائتمان لتعزيز الاقتصاد السليم.

وفي أمريكا أعطى الكونجرس مجلسَ الاحتياطي الفيدرالي هدفين متكافئين للسياسة النقدية
أولاً، توفير الحد الأقصى من فرص العمل.
وثانياً، تأمين أسعار مستقرة للسلع والخدمات في البلاد، أي الحفاظ على تضخمٍ منخفض ومستقر.

باختصار، على البنك الحفاظ على موازنة دقيقة بين التضخم والبطالة في البلاد.

وكأداتين رئيستين، يتحكم الاحتياطي الفيدرالي بأمرين: كمية تدفق الاحتياطي المالي الضخم الذي يديره، وأسعار الفائدة.

المفارقة هنا أن ثمة تناقضات خفية، ولكن هيكلية، في معادلة التضخم والبطالة. فتخفيفُ البطالة يتطلب تحفيز الاقتصاد لكي توفر الشركات فرص عمل للناس، أي تتطلبُ ضخ المال في الاقتصاد. وأحد أهم أنواع الضخ يتمثل في تخفيض الفائدة، بحيث يتمكن الأفراد والشركات من الاقتراض بسهولة لتنشيط حركتهم الاقتصادية، سواء تعلق الأمر بضروريات الحياة، أو تعلق بمسائل ترفيهية تشتد الرغبة فيها على جميع المستويات. وعندما يحصل هذا يتم توفير الفرص لعدد كبير من الناس، فيعطيهم ذلك قوة شراء كبيرة، بحيث يزيد طلبهم على مختلف أنواع السلع والخدمات، ومع زيادة هذا الطلب ترتفع الأسعار. وهذا الارتفاع أحياناً مايكون طبيعياً لأن مُعدَّلهُ يمكن أن يصبح أسرع من معدّل الإنتاج، لكنه كثيراً مايكون مُصطنعاً، لأن أصحاب الأعمال يجدون زيادة الطلب مع قلة المعروض فرصةً ذهبيةً لرفع الأسعار دون مبررٍ حقيقي، وانطلاقاً من الطمع والجشع.

تتضح هذه الصورة بقوة عند الحديث عن منطق التعامل مع العائدات في سوق الأسهم. فحين تكون الشركات مطروحةً في هذه السوق، تواجهُ مقاييس عالية المستوى لأدائها حين تُعلن عن عائداتها وأرباحها نهاية كل ربع عام. فمثلاً، يضعُ المحللون الماليون توقعات بأن تربح الشركة 10 سنت على كل دولار. وإذا صدر التقرير وكانت الشركة تربح 9 سنت عن كل دولار، فإن سعر السهم يهوي! وبالتالي، فإن القيمة السوقية للشركة (الرابحة) يتناقص، وأحياناً بدرجةٍ كبيرةٍ وغير معقولة، ويُقال بأن الشركة لم تُحقق توقعات المحللين والخبراء. نحن هنا بإزاء شركةٍ رابحة. ولكن ربحها كان أقل من المتوقع بنسبة 10٪. ورغم ذلك تُعاقَبُ الشركة، ومعها مدراءها وحملة أسهمها على هذا التقصير الكبير!هذا (الهوس) بعملية النمو المستمر والسريع الذي لايعترف، من قريبٍ أو بعيد، بمفهوم "القناعة"، ولو بمعناه البراغماتي الواقعي، يبقى على الدوام حافزاً مستمراً على تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من الأرباح، ولو كان المدخل درجاتٍ من الطمع قد تنتج عنها ممارسات غير أخلاقية، وأحياناً غير قانونية، وذلك بغرض استمرار منحنى النمو في الصعود بشكلٍ أقرب ما يكون للمنحنى العامودي.

ولإكمال المعادلة: مع استمرار الزخم الاقتصادي، ترتفع الأسعار إلى درجةٍ كبيرة. فيبدأ الناس بالشكوى منها، ويُصبح الأمر عبئاً على السياسي الحاكم، وورقةً بيد السياسي المعارض يُعير بها خصمه. فيبدأ البنك المركزي في سحب المال من الاقتصاد من خلال رفع سعر الفائدة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض الاقتراض من قبل الأفراد والشركات، وهو ما يجعل السيولة المالية في يدهم ضعيفة، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف الطلب على السلع والخدمات، بحيث يُصبح معدله أقل من معدّل العرض، وتعود الأسعار للانخفاض، ومعها التضخم.

وهكذا، يستعمل النظام الاقتصادي الرأسمالي المعاصر أداتي "الاقتراض / الدَّين" و "الفائدة" بشكلٍ مفرط، وأساسي، وجامد، بحيث يكونان محرك الاقتصاد الرئيسين، دون اعتبار لعوامل أخرى كثيرة يمكن أن تزيد عدد الأدوات التي يمكن استعمالها لتحقيق مزيدٍ من التوازن الحقيقي، ودرجةٍ من الاستقرار الاقتصادي الذي لا يتضارب مع النمو المعقول. نستخدم صفة "المعقول" لأن النمو السريع، وبالأحرى الصاروخي، بات تدريجياً، كما ذكرنا، هدفاً طاغياً على سياسات المؤسسات المالية، والشركات بكل أنواعها، كغايةٍ صارت هي الأصل في عمليات التخطيط. مع كل ما يؤدي إليه ذلك من الاستعجال وحرق المراحل وحتمية اللجوء إلى المخاطرات بكل أنواعها، وبطبيعة الحال ظهور كل أنواع الفساد.

تُثير هذه التركيبة بأسرها كثيراً من الأسئلة، خاصةً إذا عرفنا أن البنك الفيدرالي يملك، نظرياً، استقلاليةً كاملةً، نظرياً، عن السياسيين من الحزبين. والمفروض أنه يتخذ قراراته بشكلٍ مستقل، وفق مايراه من مُعطيات وتطورات وإحصائيات، ويقوم به من دراسات.

لكن هذه الاستقلالية، ومعها الأعداد الكبيرة من الخبراء، لا تبدو ضمانةً لنجاح عمليات الرقابة والمتابعة المالية والإدارية والقانونية. ثمة أمثلةٌ لا تحصي خلال العقود الماضية على ذلك، وأشهرها الأزمات الكبرى عام 1998 و2008، وهو مايتكرر الآن بشكلٍ فاضح.

ذلك أن البنك الفيدرالي بكل فروعه لم ينجح في مجرد الانتباه إلى ما يجري في مؤسسات ماليةٍ كبرى مسجلةٍ لديه من ممارسات تخرق قواعد العمل البنكي، وأصول الصفقات النقدية التي يجب اتباعها، وأحياناً تلك التي تمثل منها ألف باء الضبط النقدي. فقد أخفق بنك الاحتياطي مثلاً في تنبيه بنك SVB إلى أن أكثر من 90٪ من إيداعاته غير مغطاةٍ بأي تأمين، خاصةً وأنها تأتي من أصحاب المال الاستثماري Venture Capitals التي ذكر، مثلاً، رئيس بنك Wells Fargo أنه لا يجعل نسبتها أكثر من 5٪ من إيداعاته. وظهر الخطر من هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم أحياناً "المستثمر الملائكي"، ومن درجة جشعهم، رغم أنهم هم أنفسهم الذين خدمهم البنك لعقود، عندما أشاعوا حملةً من الفزع البنكي، وقاموا بسحب أكثر من 42 مليار دولار خلال ساعات، الأمر الذي كان القشة التي قصمت ظهر البنك.

الجدير بالذكر أن الحديث يتصاعد في أمريكا اليوم عن الدور السلبي لوسائط التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات، صحيحةً كانت أو مبالغاً فيها، بين الناس بسرعة البرق، الأمر الذي ساهم في حصول الذعر البنكي، وكان يمكن له أن يساهم في كارثةٍ أكبر لولا التدخل الحكومي يوم الأحد الماضي.

ولايقف تقصير بنك الاحتياطي عند الغفلة عن متابعة مايجري في البنوك والرقابة الصارمة عليها، بل يبدو أنه كان غافلاً عن الموضوع تماماً وواثقاً بنفسه بشكلٍ أقرب للغرور الذي يتجاهل الحقائق. ذلك أن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي (جيروم باول) ظهر أمام الكونغرس في جلسة اجتماع قبل الأزمة بأسبوع، وأعاد مراراً وتكراراً التأكيد على متانة وصلابة وقوة وتماسك قطاع المؤسسات المالية والبنكية في أمريكا!

وقبل الأزمة بيوم، كانت وزيرة المالية (جانيت يلين) تعيد التأكيد على ماذكره رئيس البنك. والمفارقة أنها أكَّدت على قناة CBS في البرنامج الشهير Face the Nation صباح الأحد الماضي (12 مارس / آذار) على أنه لن تكون هناك أبداً عملية إنقاذ للبنك بسبب أخطائه التي ارتكبتها إدارته!

ثم إنه لم تمضِ ساعات حتى أعلنت الإدارة الأمريكية (بتوصيات رئيس البنك ووزيرة المالية) عن صفقة إنقاذٍ ضخمة، ليس فقط للبنك المذكور على حساب دافع الضرائب الأمريكي، بل وأنها ستُغطي بنفس الطريقة كل بنكٍ آخر يتعرض لمثل تلك الهزة! وهكذا، بواسطة التدخل الحكومي، تم حل مشكلةٍ كان يمكن أن تكون كارثيةً بشكلٍ غير مسبوق.

حصل هذا التطور المفاجئ والسريع بعد ورود أخبار كثيفة للمسؤولين من سائر أنحاء الولايات عن استعداد عشرات الملايين من الأمريكان لسحب ودائعهم من البنوك صباح اليوم التالي الإثنين. وتظهر خطورة الأمر، والكارثة التي كان يمكن أن تنتج عنها، حين نعلم أن تلك الودائع تتجاوز 17 تريليون دولار! تصل بمجموعها إلى أكثر من ثلاثة أضعاف الميزانية الأمريكية بأسرها.
 


دور مؤسسات التصنيف المالي والائتماني وهيئات التدقيق المالي

أما المشكلة الهيكلية الأخرى فتتمثل بشكلٍ جلي في مؤسسات التدقيق المالي وهيئات التصنيف المالي والائتماني ومحللي سوق الأسهم التابعين لأكبر الشركات الاستثمارية، والتي من المفترض بها جميعاً أن تكون المصدر الموثوق والخبير والنهائي للحكم على سلامة أوضاع المؤسسات المالية والبنوك، بل والدول في هذا العالم.

ثمة سوابق لانهاية لها على أخطاء وخطايا وقعت فيها هذه المؤسسات على مر التاريخ وفي كل مكانٍ من العالم. وبالنسبة للدول، كثيراً ما تلعب الضغوط السياسية دوراً رئيساً في التلاعب بالتصنيفات المذكورة سلباً أو إيجاباً حسب رغبة النظام الدولي!

فماذا حصل في هذه الحالة؟ قامت شركة التدقيق الشهيرة (KPMG)، منذ أسابيع فقط، بإعطاء SVB فاتورة صحية نظيفة فيما يتعلق بأوراقها المالية للسنة المنتهية في 31 ديسمبر 2022. وشركة KPMG ليست مؤسسةً صغيرة وهامشية، وإنما هي واحدة من الشركات العالمية الرائدة في مجال الخدمات المهنية، بل إنها تُعتبر واحدة من شركات المحاسبة "الأربعة الكبار". وكانت تأسست عام 1881، ونمت من مؤسسة هولندية صغيرة إلى منظمة دولية تضم أكثر من 227 ألف موظف محترف يعملون من 700 مكتب في أكثر من 153 دولة.

أما وكالة (موديز / Moody’s) العملاقة للتصنيف الائتماني فقد انتظرت إلى يوم انهيار البنك 10 مارس 2023، لتقوم بتخفيض التصنيف العام للبنك إلى Caa2 من A1 وتصنيف إصدار التمويل إلى C من Baa1. المصيبة في الموضوع أن التصنيفات الجديدة تفيد بأن درجة "مخاطر الائتمان معتدلة" في البنك، وأن "درجة الاستثمار" مقبولةٌ فيه. أي أن الشركة وصفت مخاطر الائتمان في بنكٍ قيد الانهيار على أنها: "معتدلة"، أما تمويل الاستثمار فيه فإنه "مقبول"!بالمقابل، انتظرت شركة (S&P Global) العملاقة العالمية الأخرى في مجال التصنيف المالي يوم الانهيار (10 مارس / آذار) لتُعلن بأن الاستثمار فيه "حالةٌ غير مرغوبٍ فيها"، ولم يصدر عنها شيء يُفيد بذلك في الأسابيع والشهور السابقة!

دور محللي الأسهم وشركات السوق التابعين للمؤسسات المالية الكبرى

ماذا عن محللي الأسهم النجوم في شركات الاستثمارات المالية؟ قبل ثلاثة أشهر، كان ثمة إجماعٌ إيجابي بين محللي سهم بنك SVB في سوق المال الأمريكية (Wall Street)، فوفقاً للمحللين الـ 24 الذين يُتابعون السهم ويعملون على تحليل عمليات البنك كان القويم العام هو "زيادة وزن" السهم. أي أنهم قرروا بلغة تحليل سوق الأسهم أنه سهمٌ فوق العادة Overweight. وأوصى 11 منهم المستثمرينَ بـ "شراء السهم"، بينما أوصى 11 محللاً آخر "بالاحتفاظ به" لأنه سيعود للارتفاع، واقترح واحدٌ فقط القيام بـ"البيع".

المفارقة الأخرى أن ثمة وكالات تُصنِّفُ الأسهم من مدخل كونها مناصرةً للبيئة وللقضايا الاجتماعية العادلة ولقضايا الحوكمة العادلة بدورها. يُسمى هذا التصنيف بمقياس (SEG) اختصارا لكلمات Social وEnvironmental وGovernor. وأشارت وكالة بلومبرج أنه تم تصنيف SVB بدرجة عالية باعتباره سهماً متميزاً في تطبيق معايير الحفاظ على البيئة وخدمة المجتمع والحوكمة الإدارية الجيدة من قبل وكالات التصنيف في قطاع ESG. فقد صنفت وكالة (MSCI)، مثلاً، سهم SVB على أنه سهم بدرجة "A" أي في أفضل الخانات من حيث مقياس  ESG. والمعروف أن عدداً متزايداً من الشركات بات يتلاعب في ممارساته، ويخترع أساليب متنوعة لكي يضمن دخوله في هذا المقياس الذي يتضاعف عدد المؤيدين له في العالم بشكلٍ عام، وفي أسواق الأسهم بشكلٍ عام. 

دور قوانين ضبط عمل البنوك والمؤسسات المالية وهيئات التدقيق والرقابة والمتابعة

المعروف أن الأزمة المالية لعام 2008، والتي يطلق عليها غالباً أزمة الرهن العقاري عالية المخاطر، تسببت في تقلص السيولة في الأسواق المالية العالمية. وهي أزمةٌ نشأت في الولايات المتحدة بسبب انهيار سوق الإسكان فيها، وهددت النظام المالي الدولي بأسره وقتها.رداً على ذلك، وقَّعَ الرئيس الأمريكي السابق (باراك أوباما) على العديد من الإجراءات التشريعية لمواجهة الأزمة المالية، بما في ذلك قانون (دود-فرانك) لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك، وقانون الاستقرار الاقتصادي الطارئ (EESA) الذي أنشأ قانون إغاثة الأصول المتعثرة أو برنامج (TARP).

كانت هذه القوانين بمجملها تهدف لضبط ممارسات المؤسسات المالية والبنوك، والحد من انخراطها في عمليات مالية عالية الخطر، وزيادة الرقابة على طريقة التصرف بأصولها، إلى غير ذلك من الاحتياطات. وجاء كل ذلك للحد من الخطر الناجم عن إساءة التصرف المتكررة تاريخياً من قبل إدارات البنوك في تلك المجالات، وتحديداً، لحماية مدخرات وإيداعات عامة المستهلكين والمشاريع الصغيرة من أي هزاتٍ أو انهيارات تحصل للبنوك.
لكن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب قامت بإلغاء جملةٍ من تلك القوانين، وتخفيف الشروط المطلوبة في عمليات فحص الضغط المالي على البنوك (Stress Tests)، وهي فحوص تجري كل فترة لمعرفة قدرة البنوك على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه المودعين حتى في حال حصول عمليات سحبٍ كبيرة. حصل هذا بإجماع كل الجمهوريين في الكونغرس، ومعهم 17 ديمقراطياً من أصحاب المصالح والعلاقات مع لوبي المؤسسات المالية والبنوك.

المفارقة أن رئيس بنك SVB المفلس (جورج بيكر) كان في طليعة الذين ساهموا في حملة الضغط المذكورة لإلغاء بعض القوانين، وتخفيف بعضها الآخر. وكمثال واحدٍ على درجة الفساد في هذه القصة تحديداً، تم الكشف عن أن رئيس البنك، ومعه كبار المسؤولين فيه قاموا ببيع ماقيمته الملايين من أسهم البنك قبل أسبوعين فقط من إعلان إفلاسه!أما المفارقة الأخرى، التي تبلغ حد المهزلة، فتتمثل في أن رئيس البنك المذكور كان إلى صباح يوم الكارثة (الجمعة الماضية) عضواً في مجلس إدارة بنك سان فرانسيسكو الاحتياطي الفيدرالي، وهو فرع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في كاليفورنيا، والمسؤول عن الرقابة المالية على بنك SVB! وتم شطبُ اسمه من صفحة مجلس الإدارة يوم إعلان الكارثة، وكأن هذا التصرف الطفولي سيُلغي معرفة الناس بتلك المعلومة!أكثر من هذا، كان مدير البنك ومسؤولوه الكبار يوزعون مبالغ ضخمة من الحوافز المالية (Bonuses) على أنفسهم وعلى بعض المدراء الكبار صباح يوم الجمعة، وقبل إعلان إفلاس البنك بساعات!

المعروف أن هناك هيئةً اسمها المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC)، وهي وكالة مستقلة أنشأها الكونجرس للحفاظ على الاستقرار وثقة الجمهور في النظام المالي للدولة. لدى الوكالة نماذج إنذار المبكر الخاصة بها، وأول علامة على وجود بنك مشكلة وفق نماذج الإنذار المذكورة تتمثل في النمو السريع الممول من مصدر إقراض متقلب، مثل الودائع غير المؤمنة.

ومع ذلك يبدو أن أياً من المسؤولين لم يُعِر أي اهتمام لأي بنك من البنوك التي أفلست الأسبوع الماضي. بل لا يبدو أن أياً منها حصل على ولو على مجرد إشعار: "المسائل التي تستحوذ على الاهتمام" من المؤسسة.

والحقيقة إن اللوائح التي تدير عمل البنوك تبدو بحد ذاتها مصممةً، ابتداءً، بشكلٍ تكون معه عصيةً على فهم حتى المحللين المختصين. تذكر مجلة (فوربس) في معرض مقاربتها لموضوع الأزمة البنكية الراهنة مايلي: "البنوك مؤسسات غامضة. يحتاج أي شخص يقوم بتحليل البنك لساعات لا حصر لها، ليس فقط لتحليل الإفصاحات المالية، ولكن أيضاً إفصاحات بازل 3، والتي تركز على المخاطر. وبحلول الوقت الذي يرى فيه أيٌ منا البيانات المالية بشكلٍ مفهوم، تكون هذه المعلومات قد أصبحت قديمةً بالفعل، لأن البيانات المالية تُنشر عادةً بعد عدة أسابيع من انتهاء ربع السنة". "ومع ذلك"، تتابع المجلة: "عند النظر إلى البيانات المجمعة حول SVB، فإن عدداً من العلامات كان سيُخبر المستثمرين والمقرضين ومحللي الائتمان أن البنك لديه مشاكل".لهذا، قال المستثمر الأسطوري (مايكل بيري) الذي أسس صندوق التحوط Scion Asset Management واكتسب شهرة للمراهنة الناجحة ضد سوق الرهن العقاري في عام 2008، متحدثاً عن الأزمات المالية الماضية قائلاً: "2000، 2008، 2023، إنها المشكلة نفسها دائماً. الناس المليؤون بالغطرسة والجشع يخاطرون بغباء ويفشلون. ثم يتم طباعة المال. لأنه يعمل بشكل جيد". وما يقصده بطباعة المال أن الحكومة تلجأ لطباعة المزيد من المال في النهاية، وتعمل على حل أعراض المشكلة دون التعامل مع جذورها.وقال (كيث فيتزجيرالد) أحد مدراء (مجموعة فيتزجيرالد) لشبة (CNBC) المتخصصة بأخبار أسواق المال: "أنا شخصياً مندهش من أن النظام هو ما هو عليه اليوم وأن هذه الأشياء سُمح بحدوثها. أين كان المنظمون؟ أين كان المدققون؟ أعتقد أنه ستكون هناك أسئلة جادة للغاية ستطرح حول كيفية عمل أنظمة التصنيف. لماذا سُمح لهذه البنوك بالاستحواذ على الأصول في حين كان من المفترض أن تدعم ودائعها؟

هذه قضية أساسية يجب أن تأتي في المقدمة الآن. لا يمكننا تجاهلها وركل العلبة على الطريق. أعتقد أنه أمر محرج لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. أعتقد أنه أمر محرج لمنظمي البنوك، بصراحة".
ويبدو أن (جون كينز) أحد أكبر منظّري النظام الرأسمالي المعاصر كان متفائلاً بشكلٍ مبالغٍ فيه حين قال: "الرأسمالية هي اليقينُ المذهل بأن أكثر الناس شراً سيفعلون أبشع الأشياء، ولكن من أجل الصالح العام للجميع". فالواضحُ أنه كان ثمة أشرارٌ كثُر في هذه القضية، وأن هؤلاء قاموا فعلاً بأبشع الأشياء، لكن ذلك لم يُحقق الصالح العام بأي شكلٍ من الأشكال. 

المستتبعات الممكنة للأزمة الراهنة

ثمة مشكلات عديدة يمكن أن تترتب، ليس فقط على حصول الأزمة الراهنة، بل وعلى الحلول المطروحة للتعامل معها.

فهناك أولاً مأزقٌ محتمل يتمثل في حصول سابقة تُفيد بأن الدولة ستتدخل لإنقاذ أي مؤسسةٍ مالية، ولو باسم الحفاظ على مدخرات صغار المودعين، الأمر الذي يمكن أن يُشجع على استمرار الممارسات الفاسدة التي تقوم بها إدارات تلك المؤسسات من جهة، كما أنه يزيد من حجم تدخل الدولة في الاقتصاد، الأمر الذي سيزيد عملية التشكيك بجوهر النظام الرأسمالي الذي يرفض تدخل الدولة في السوق.

ثم إن دخول الاقتصاد الأمريكي في عملية الكساد باتت أكثر احتمالاً. ذلك أن ما يجري من إعادة نظر في إجراءات الضبط لعمل البنوك، إضافةً إلى ذعر البنوك نفسها، وحذَرها المبالغ فيه في عمليات الإقراض ستُقللُ من النقد الموجود في السوق الأمريكية. وسيُضطر الأمريكان للاعتماد أكثر على الصرف من مدخراتهم، الأمر الذي سيعود بدوره بالضرر على سيولة البنوك نفسها. وذلك في حلقةٍ مُفرغةٍ من ردود الأفعال السلبية المتبادلة.

وبما أن كل مسؤولي البنوك المفلسة، ومعهم كل جهات التدقيق والرقابة والمتابعة، نجوا من دفع أي ثمن أو مساءلة، على المدى المنظور، رغم الحديث عن عمليات تحقيق ومساءلة مستقبلية غالباً ما يمكن أن تقف عند دفع بعض الغرامات، كما هي العادة دائماً. فإن استمرار عمليات الإهمال والممارسات الفاسدة والمحاباة ستزداد في الساحة الاقتصادية، مع تصاعد تأثرها السلبي البالغ مع مرور الأيام والسنوات، وصولاً إلى كوارث قد تكون قاصمةً في المستقبل القريب.

والأرجح أن الموضوع لن ينحصر في الولايات المتحدة. فرغم حملة الإنقاذ الأمريكية الحكومية، ورغم تدخل البنوك الكبيرة لصالح بنك First Republic المرشح للإفلاس التالي، وتدخل الحكومة السويسرية بضخ المليارات في بنك Credit Swiss المهتز بقوة، لاتزال أسهم هذه المؤسسات، وأسهم القطاع المالي، والغالبية العظمى من أسهم الشركات تنهار في السوق الأمريكية، وفي أسواق أوروبا وآسيا، بشكلٍ مضطرد، والتي أغلقت كلُّها على انخفاضات كبيرة خلال الأيام الماضية، وصولاً إلى نهاية أسبوع العمل، يوم الجمعة.

وثمة حذرٌ شديد وترقبٌ وخوفٌ ينتشر في الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم مما قد تحمله عطلة نهاية الأسبوع هذه من كوارث جديدة لم تكن في الحسبان.
 


خاتمة

يقول (فرانك بورمان)، أحد الشخصيات الأمريكية البارزة الذي كان يمتلك معرفةً موسوعية، حيث جمع بين كونه اقتصادياً وعسكرياً ورجل فضاء: "الرأسمالية بدون إفلاس مثل المسيحية بلا جحيم".رغم ذلك، ومع كون الإفلاس نتيجةً رأسماليةً طبيعيةً جداً لممارسات تجارية أو نقديةٍ خاطئة في النظام الرأسمالي، إلا أن أهل هذا النظام، وتحديداً في أمريكا وأوروبا، يبدون في معرض بذل المستحيل لتجنب هذه النتيجة بأي ثمن. والذي يظهر أن هذا الحرص يبدو أعمقَ في عالم البنوك والمؤسسات المالية أكثر من غيره. ذلك أن حصول عمليات الإفلاس أصبح تدريجياً سبباً لذعرٍ كبير، كثيراً ما يكون غير مبرر، ينتشر في المجتمع كالسرطان، ويؤدي إلى كارثةٍ اقتصادية عارمة.

لا ننسى هنا دور "عقلية النمو" المغروسة في أعماق الشخصية الغربية، والأمريكية تحديداً. بمعنى أن أي درجةٍ من النقص في إمكاناته المادية يمكن أن تسبب له الكثير من المتاعب، وثمة دراسات تفيد بأن "المال" هو أحد أهم أسباب حصول "الاكتئاب" وكذلك حالات "الطلاق" في المجتمع الأمريكي.من هنا، يحاول رجال السياسة والمال في المجتمع الأمريكي تحديداً، وبدرجةٍ أقل في المجتمعات الأوربية، القيام بالمستحيل لتجنب إفلاس، ليس فقط البنوك والمؤسسات المالية الكبرى، بل والشركات الضخمة في مختلف المجالات.

نعرف مثلاً كيف تم إنقاذ شركات الطيران الأمريكية، التي واجهت الانهيار الكامل خلال جائحة كورونا، وذلك من خلال ضخ عشرات المليارات من الدولارات فيها، من أموال دافعي الضرائب الأمريكان. ثم إن هذه الشركات، وهي اليوم رابحة، تمارس أبشع درجات الاستغلال المادي في التعامل مع أولئك المواطنين أنفسهم، من خلال فرض رسوم وضرائب مُبتكرة بشكلٍ غريب، مثل فرض رسوم لجلوس أفراد العائلة الواحدة إلى جانب بعضهم البعض خلال السفر! هذا فضلاً عن أسعار التذاكر، وأسعار المقاعد وحقائب السفر، بل وسعر قطعة السندويش خلال السفر!

رغم كل هذا، لا يأتي هذا التحليل في معرض هجاء النظام الرأسمالي بالطريقة التي تصدر عن كثيرٍ من الناقدين الاشتراكيين أو غيرهم من النقاد الذين يصدرُ نقدهم، بشكلٍ بحت، عن خلفيةٍ أيديولوجيةٍ أو دينية تقليدية. وإنما الهدفُ من التحليل هو الإشارة إلى ما يمكن تسميته بالأزمات الهيكلية فيما بات يُسمَّى، بشكلٍ مشروع، "الرأسمالية المتوحشة".

فكما قال (ونستون تشرشل) يوماً: "الرذيلة المتأصلة في الرأسمالية هي المشاركة غير المتكافئة للمرابح. لكن الفضيلة المتأصلة في الاشتراكية هي المشاركة المتكافئة للبؤس". بمعنى أن الدعوة لمحاربة النظام الرأسمالي كلياً، واستبداله بنظامٍ اشتراكيٍ محض هو مدعاةٌ للخراب بدل كونه دعوةً للإصلاح.واستدراكاً، لا يصدر هذا الحكم الأخير عن عقلية اختزالٍ وتعميم، فمن التسطيحِ الاعتقادُ بأن كل عنصرٍ في النظام الاقتصادي الاشتراكي خاطئٌ ومرفوض، فهذا لا يليق بتقويم تجربةٍ بشرية بهذا الحجم، وذلك التراكم المعرفي. وإنما الحديثُ هنا عن رفض الدعوة لتبني ذلك النظام بكليّته، كما هو الحال مع الرفض لتبني النظام الاقتصادي الرأسمالي بمنهج القص واللصق. رغم ما فيه من مزايا وإيجابيات وأفكار ناجحة، لا بد من أن تتشكل على مرِّ تجربة التنزيل الطويلة والثرية.وبالخلاصة، تبدو الدعوة إلى تبني هذا النظام بطريقة تنزيله الراهنة في أمريكا، بإيجابياتها وسلبياتها، جاهلةً بما يسببه هذا النموذج من مشكلات.

وقد يكون مفيداً هنا إيراد قصةٍ واقعيةٍ تتعلق بالموضوع.
فبعد عامٍ على انطلاق الثورة السورية، وفي بدايات عمل هيئات المعارضة السورية، التي كان النظام الدولي يأخذ بعين الحسبان احتمال استلامها للحكم في حال سقوط النظام، كان ثمة اهتمامٌ دوليٌ خاص بالنظام الاقتصادي السوري للدولة الجديدة.

من هنا، تكبَّدت بعض الدول عناء صياغة نظامٍ اقتصادي جديد طُلب من هيئات المعارضة السورية اعتمادُه في أقرب وقت..
تم عرضُ المقترح في البداية على بعض الاقتصاديين المتخصصين، وبسبب كون تدريبهم ودراستهم تأتي من خلفيةٍ أكاديمية تركِّزُ على النظام الرأسمالي بشكله النظري التقليدي، قَبلَ هؤلاء المقترح لأنه يتناسب مع ما درسوه وتعلّموه. لكن البعض قام بعرض المقترح، قبل إقراره، على مستشارين آخرين أكثر اطلاعاً على المدرسة الغربية النقدية في مجالات الاقتصاد وصناعة السياسة، فوجدَ هؤلاء أن صياغة النظام الاقتصادي المقترح تقتضي فعلاً إنشاء رأسماليةٍ وحشية تُركزُ على عدم تدخل الدولة، وعلى حرية السوق الكاملة، وعلى ملكية القطاع الخاص لكل قطاعات الاقتصاد، وما إلى ذلك من عناصر تتجاهل تماماً وضع سوريا كبلدٍ يخرج من حربٍ طويلة، مع ما يتطلبه ذلك من تغييرٍ لأولويات الاقتصاد، ولدرجةٍ من تدخل الدولة بما يسمح بإعادة الإعمار وتأهيل المجتمع تدريجياً للتعامل مع اقتصاد السوق.

والحقيقة أن الأمر لا يُشبه إعادة اختراع العجلة، فثمة تجارب معروفة، وفي الدول الاسكندنافية تحديداً.يقول المثل الغربي: "إذا كانت الأداة الوحيدة لديك هي المطرقة، فإن الحلَّ الوحيد لكل مشكلة هو المزيد من الطَّرْق". والذي يبدو أن اعتماد أهل الاقتصاد الأمريكي، ومعهم بعض الدول في أوروبا وغيرها، بشكلٍ مبالغٍ فيه على أداتي "الاقتراض" و"الفائدة" كمدخلين لتحيقي النمو الاقتصادي، بشكلٍ عادلٍ ومتساوٍ في المجتمع، هو الذي يؤدي إلى استمرار الطرْق بهاتين الأداتين، والدخول، بسبب ذلك، في ثنائية "التضخم" و "الركود" التي يبدو أنها صارت قدرَ الاقتصاد الأمريكي على مدى عقود.المفارقة أن أحد الأصوات التي تبحث عن بديلٍ معتدل هو "مؤسسة التعليم الاقتصادي / Foundation for Economic Education" وتقع في ولاية جورجيا الأمريكية، وهي تتحدث عن "الرأسمالية الرحيمة"، وتدرس طبيعتها وسياساتها ونماذجها، خاصةً في الدول الاسكندنافية. وحسب تعريف المؤسسة بالاقتصاد الاسكندنافي تذكر مايلي:الرأسمالية الرحيمة: اسمٌ أفضل لما تمارسه دول الشمال.

من المؤكد أن السويد وفنلندا والنرويج والدنمارك حققت نجاحات اقتصادية ملحوظة. ومن الخطأ بالتأكيد أنها تحققت من خلال الاشتراكية. تركز بلدان الشمال الأوروبي على الجمع بين نظام السوق الحر والعديد من البرامج الاجتماعية.
يُفسح هذا الترابط الطريق لبرامج مثل التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية وبرنامج المعاشات التقاعدية المضمون للمتقاعدين. ولكي يحدث هذا، يجب على المواطنين أن يضعوا قدراً هائلاً من الثقة في حكومتهم وصانعي سياساتهم. كما يجب أن يشتغل الاقتصاد والعمل والرفاهية جنباً إلى جنب. ويجب على صانعي السياسات معالجة التحديات الاجتماعية المتغيرة باستمرار ومن ثم تمرير الحلول من خلال عملية ديمقراطية. 

ومع إعداد هذا التحليل، توحي الأجواء بنُذُرِ أزمةٍ ماليةً كبرى قيد التشكل في أمريكا وأوروبا. وثمة حركةٌ محمومة تقوم بها الحكومات، والمؤسسات المالية، لمحاولة منعها من الانفجار في الأيام القادمة، وبدرجةٍ لن نعلم حجمها وطبيعتها إلا مع حصول الحدث الذي قد يكون مشؤوماً بشكلٍ غير مسبوق.

من هنا، سيكون مُعيباً الاعتقادُ بإمكانية، أو وُجوبِ، وقوف الكمون البشري، البحثي والفكري الهائل، عند نقطةٍ معينة فيما يتعلق بتطوير أو ابتكار نظامٍ اقتصادي يحقق الحياة الطيبة وضروريات الحياة الأساسية ورفاهية الناس. الأسوأ في الموضوع، وما يدخل في باب الاستصغار واحتقار الذات، الغفلةُ عما يكمن في مختلف الثقافات، ومنها الثقافة العربية والإسلامية، من ثراءٍ معرفي يساعد على تحقيق ذلك الهدف نهاية المطاف.
د. وائل مرزا

رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.