لم يكن ثمة بدٌ من مفارقةٍ قدَريةٍ أخيرة بين "غاندي العرب" والمهاتما غاندي.
لاصُدَفَ في التاريخ. لا أحداث تقع عبثاً بدون حكمة.
هو الإنسان، فقط، يغفل عن قراءة سجلّهِ الأكبر، وعن فكّ الرموز وإدراك الدلالات ذات العلاقة، دائماً.
وهكذا. توفي جودت سعيد في نفس يوم ذكرى اغتيال غاندي.
لا نعرف بماذا كان الشاب اليافع، ذو ال 17 عاماً يفكر، حين سمع خبر وفاة أحد أكبر مُلهِميه.
لكننا نعرف يقيناً أنه عاهد نفسه، في مرحلةٍ ما، على السير في طريقه.
رغم هذا. لم يعنِ ذلك كونَهُ نسخةً كربونيةً من غاندي.
بل يمكن القول إن الرجل لم يُشبه أحداً، ولم يحاول أصلاً أن يشبه أحداً.
بل كان دائماً نسيج وحدهِ. مستقلاً. حراً. وربما غريباً في بيئةٍ تسحَقُ الفَرَادة والاختلاف.
وربما كانت تلك الصفة الأكثر تميزاً فيه.
هو الذي هاجر أجداده (الشراكسة) من روسيا إلى سوريا هرباً بـ (دينهم).
فساقتهُ الأقدار من (بئر عجم) و(القنيطرة)، في هضبة الجولان، إلى أزهر مصر ليدرس (اللغة العربية) وهو في الخامسة عشرة.
بالتالي، عاش في قلب الحدث الإسلامي العربي الأكبر (الإخوان وعبد الناصر) ورصَدَهُ عن قُرب. وخبِرَ ملابسات العلاقة بين القومية الدكتاتورية والإسلامية الحركية. وبين السياسة والدين.
تزامن مع ذلك لقاؤهُ بمالك بن نبي، صاحب "شروط النهضة". فتذوقَ نكهة المنظور الثقافي في فهم الظواهر الاجتماعية والتعامل معها.
لم تكن منطلقاته (مثاليةً) كما يحسبُ الكثيرون. بل كانت معجونةً بـ (واقعيةً) عاشَ، مبكراً، مثالها القاسي.
شاهدَ السياسة العربية/النظام الناصري تكبتُ الحريات، وتقمعُ المعارضة، ومنها الإسلامية خصوصاً.
وأبصرَ كيف حاصرت السياسةُ الإسلاميين َمرتين. مرةً بإرهاب السُّلطة. وأخرى من خلال الهوس بالسياسة المستحيلة نفسِها، ظناً بأنّها المدخلُ الوحيد للتغيير.
بحث عن مداخل أخرى، فوجدَها في رحابة الفكر والثقافة، وفي العقل والعلم والانفتاح على الآخر.
المفارقةُ أن بداية مناهضته للـ (العنف) جاءت على شكل رفضِ الامتثال لأوامر قادة الانفصال عن (مصر عبد الناصر)، في سوريا، حين كان يؤدي خدمته العسكرية. وهو ما أدى إلى وضعه في الإقامة الجبرية.
تكثَّفت دلالات التجربة المبكرة لديه، فنشر باكورةَ كتبهِ (مذهب ابن آدم الأول ـ مشكلة العنف في العمل الإسلامي). وكانت مصادفةً أنه خرج للنور في سنة وفاة سيد قطب إعداماً على يد عبد الناصر، ١٩٦٦م.
والواضح أن طروحات الكتاب كانت تمثل الرد الأكثر شمولاً على طروحات سيد قطب التي استخدمتها حركات العنف الإسلامي مرجعاً بعد ذلك.
كانت الستينيات تمثل العقد الذي أعاد فيه تنظيم الإخوان المسلمين السوري بناءَ نفسه، بعدما حل نفسه استجابةً لطلب الزعيم المصري كشرطٍ للوحدة مع سوريا، قبل ذلك بسنوات.
وكان عقدٌ قد مرَّ على لقائهِ بمالك بن نبي في مصر، وتأثُّرهِ الكبير بآرائه وطروحاته.
فجاءت عصارة التجربة واضحةً في مقدمة الطبعة الأولى التي ذكر فيها كيف أن "العالم الإسلامي أصيب بسطحية النظر في موضوع التغيير"، حيث "امتزج أسلوب التربية بروح الإلزام أكثر من أن يكون بروح الإقناع، فجُهِلَت قيمةُ الفكرة وجُمِّدت، وأُبرِزت قيمة القوة وأخذت موضع الصدارة في عملية التغيير".
أما (الواقعية) فظهرت في حديثه عن "الصراع والتمزق" الذي وقع فيه الإنسان المسلم بين "دافع العقيدة ومانع الواقع"، فأصبح وكأنه "مدفوعٌ ممنوع، يشعر أنه مُكلفٌ بما لايستطيع. فكانت إرادتهُ منفصلةً عن مكان عمله، أو استطاعته منفصلةٌ عن إرادته".
كيف يمكن للمرء أن يدخل في خضمّ عملية التغيير وقد اختار أكثر المداخل إحكاماً في الإغلاق؟ لم يسأل الإسلاميون بشكلٍ عام، والسوريون تحديداً في تلك الفترة، أنفسهم هذا السؤال (البديهي).
لم يدركوا، وهم مشغولون بتجميع صفوفهم كمياً، العمق الاستراتيجي في هذا الطرح المبكر.
لم يعرفوا أنه ينطلق، أولاً، من فهمٍ متقدم للواقع الذي تحتل الأنظمة مساحاته السياسية بالكامل، وعن طريق عنف السلطة المُشرعَن، وكيف أنه، ثانياً، يمثل نظرةً لقوانين التغيير الاجتماعي أكثرَ شمولاً، لجهة أولوياتها ومداخلها وأساليبها الفعالة.
فاستمرت غالبيتهم، من السوريين، في طريقها وفق الخط الحركي الإخواني التقليدي. وانضوت في سياق "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين".
في حين أن بعضهم، وتحديداً، في مدينة دمشق، ممن سُميَ لاحقاً بـ "جماعة دمشق" تأثر بطروحات جودت سعيد، خاصةً بعدما ساعدَها على التبلور والازدهار قدومُ مالك بن نبي إلى المدينة العريقة.
قذفت الأقدار في بداية سبعينيات القرن الماضي بالمفكر الجزائري إلى سوريا، سائحاً بعد فريضة الحج، يعتزم زيارتها لـ "يومين أو ثلاثة،" كما ذكرَ الرجل بعد ذلك في كتابه "مجالس دمشق". وذلك بغرض تعريف ابنته الصغيرة بمعالم الحضارة الإسلامية. "وإذا بدمشق تُمسكني بكرم أهلها وحُسن لقائهم، لثلاثة أشهر كاملة قضيتها في حوار مع شبابها المتعطش إلى الأفكار" كما قال بن نبي في مقدمة الكتاب المذكور.
كان جودت سعيد في مقدمة هؤلاء الذين تلقفوهُ في دمشق.
وكانت بعض المحاضرات المنشورة في الكتاب قد عُقدت قبل ذلك في (جامع المرابط) في (حي المهاجرين) الدمشقي، والذي أصبح بعد ذلك عُرفاً (جامع الشيخ جودت)، وكانت تقصده جموع شباب المدينة الباحث عن طرحٍ مختلف، ومنهم كاتب هذه الكلمات.
المفارقة أن حي المهاجرين نفسه أصبح بسرعة الموقع الأكثر تأثيراً ونفوذاً في (جماعة دمشق)، كما تبين في دراسةٍ تقويمية لاحقة قام بها بعض أفراد الجماعة بعد أحداث عام ١٩٨٢ القاصمة. وأن هؤلاء، اعتمدوا حينها في بداية السبعينيات (التربيةَ) صُلباً لمنهجٍ في العمل الجماعي قاموا ببناء تفاصيله بعد ذلك.
من هنا، لم يكن غريباً ردهم الرافض لعرض مروان حديد، الذي كان يعزم في تلك الفترة على تشكيل (الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين) بعدما تأثر بالعمل الفدائي الفلسطيني الذي انضمَّ لمعسكراته في الأردن. وإن كان الرجلُ، قد ردَّ عليهم، بما هو أشبه بالنبوءة حين قال: "سأجرُّ مَن خَلفي بدمي"!
كنتُ في بدايات العقد الثاني من عمري عندما انخرطتُ لسنوات في دروس ونشاطات الجماعة الدمشقية، في حي المهاجرين، دون معرفةٍ بخلفيتها السياسية. وكنت حريصاً على حضور دروس (الشيخ جودت) الأسبوعية في جامع المرابط، اعتقاداً مني أنها (التكملة) الطبيعية للسياق المعرفي الذي أستقي منه!
بعدها بسنوات طويلة. شكرتُ الرجل في أحد لقاءاتنا على أنه كان من الأسباب القوية لـ (نجاتي) من عملية التنظيم. وحين تساءلَ مبتسماً، ذكرتُ له أنني علمتُ من أحد قياداته السابقين بأن قرار دعوتي الرسمية للتنظيم تأخر وجاء سلبياً بعد نقاشٍ مديد.
فمن جهة، كان هناك تقديرٌ لاهتماماتي الفكرية وجديتي في المتابعة. لكن ثمة ملاحظاتٍ طُرِحت على (انضباطي)، كان من بينها، إلى اهتمامي بالهندام وسماع الموسيقى، وصداقتي لبعض اليساريين، حضوري الدائم لدروس جودت سعيد.
كان هذا مثالاً واحداً على تأثير الفكر في واقع الناس العاديين. وبالتالي، في تأثيره على اتجاه تشكُّلِ مجتمع الحي والمدينة، ثم البلد بأسرها.
والواضح أن التأثير كان معقداً. فالجماعةُ نفسُها التي كانت، على مستوى القيادات، تتأثر بأفكار مالك وجودت ومحمد إقبال وأمثالهم في صيرورتها العملية، لم تكن قادرةً على الانفكاك من أسرِ بعض تقاليدها فيما يتعلق بمسألة (الانتماء)، حين يمسُّ الأمر مقياس تقويم أفرادها المحتملين.
لم تنتبه الجماعة إلى هذا التناقض حينها. وإن كان يُفسِّر الفوضى التي أصابتها بعد ذلك، والانتكاس في التزامها بما يُفترض أن يكون مبادئها. وذلك حين قررت، تحت الضغط النفسي والسياسي على بعض قياداتها، خاصةً في الخارج، الانخراط في العمل المسلح، تحت مظلة (التحالف الوطني لتحرير سورية)، وبرعايةٍ من صدام حسين!
المؤسف أن البحث العلمي الجاد في مثل هذا التأثير (العملي) الذي يمكن أن ينتج عن طروحات المفكرين لاتزال نادرةً في ثقافتنا العربية والإسلامية المعاصرة.
ففي حين أن قصة جودت سعيد مع إسلاميي دمشق تُعتبرُ، بذاتِها، مثالاً عملياً واضحاً على صواب آرائه في العلاقة بين العلم والعمل، بمعنى أن الفكر يؤثر في الواقع، إلا أن الربط (الواعي) بين الظاهرتين يبدو نادراً لدى الإسلاميين المعاصرين. وحتى الآن عموماً.
قبل تلك الفترة اعتُقل جودت سعيد لنشاطه الفكري عدة مرات. وانطلاقاً من إيمانه برسالة التدريس، استمرَّ يعمل في هذا الحقل، رغم صدور قرارات بنقله إلى مناطق مختلفة من سوريا، إلى أن طُرِدَ نهائياً من عمله في نهاية الستينيات بقرار السلطة السياسية.
ورغم استبشاره بالحيوية التي أضفاها وجود مالك بن نبي، وانتشار آرائه في أوساط الإسلاميين في سوريا ولبنان، غير أن جودت سعيد اختار بعدها نوعاً من (العزلة) بدعوى (التفرغ) للعمل الفكري.
هذا موقعٌ آخر للدراسة والتفكير في الفرق بين منهج (العزلة) العملية، ولو كانت جزئيةً، عن حياة الناس وتحدياتهم، ومنهج (الحضور) الدائم والمستمر في قلب الحدث اليومي الذي يعيش فيه الناس بهمومهم وحاجاتهم، دون أن يكون في ذلك، بالضرورة، مدعاةٌ للغرق المُغيِّبِ فيه.
فبعد عودة بعض مدن الجولان إلى السيادة السورية، على إثر حرب عام ١٩٧٣، قرر جودت سعيد العودة إلى مسقط رأسهِ (بئر عجم). وهناك، أنشأ مَنحلاً يعتاش منه، وتفرغ للبحث والكتابة والتأليف، إلى أن هاجر إلى ضواحي مدينة إسطنبول بعد بداية الثورة السورية، التي وقفَ معها قلباً وقالباً.
بقي الرجل إلى ما قبل مرضه في آخر سنتين من حياته يستقبل الشباب من مختلف التوجهات الفكرية، وظلَّ بـ (قَلبَقهِ) الشركسي الأنيق ولكنتهِ الشركسية المحبّبة، يدعوهم للبحث عن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، ولعدم الخوف من العقل والعلم، وللانفتاح على الآخر، والبحث في عالم الأسباب، وقراءة سنن وقوانين الوجود والتغيير الاجتماعيين، إلى غير ذلك من أفكاره.
وربما تكفي قراءةُ عناوين كتبه بدرجةٍ من التأمل مدخلاً لمعرفة شمولية وأصالة الدلالات المعرفية التي تحملها: "حتى يُغيروا ما بأنفسهم"، "العملُ قدرةٌ وإرادة"، "فقدان التوازن الاجتماعي"، "الإنسان حين يكون كَلاً وحين يكونُ عَدلاً"، "اقرأ وربكَ الأكرم"، "كن كابن آدم"، وغيرها. والواضح أن هذه الكتب، بمجرد مصطلحات عناوينها، كانت، ولاتزال، تُشكل رافعةً يمكن لها أن تساعد العقل العربي والمسلم على امتلاك حضورٍ أكثر فاعليةً على هذه الأرض، وعلى المساهمة بانخراطٍ أكبر تأثيراً في صناعة المستقبل الإنساني.