ماذا جرى في سوريا خلال الأسبوعين الماضيين؟ قراءةٌ في تطور الأحداث
د. وائل مرزا
باحث في الشؤون السياسية من سوريا
دخلت الفصائل إلى دمشق في غضون ساعات، وفرضت أمراً واقعاً جديداً. وقبل هروب بشار الأسد، زرعَ مع قادته بذور ألغامٍ مستقبلية، حين تم إصدار أوامر بحل الجيش كلياً، وطولب الجنود بإلقاء أسلحتهم والانسحاب الفردي العشوائي، بما يضع سوريا في أجواء فوضى مسلحة تكون العامل الأساسي في فشل النظام الجديد
ستحتاج محاولة فهم الزلزال الاستراتيجي الذي شهدته سوريا، ومعها المنطقة العربية والعالم، خلال الأسبوعين الماضيين إلى كثيرٍ من الزمن والبحث والاستقصاء.
لكن فتح مثل هذا الملف يمكن أن يبدأ بطرح التسلسل التالي للأحداث خلال الشهور والأسابيع والأيام الماضية، داخل سوريا تحديداً، ثم في الإقليم بعدَ ذلك. والعرض التالي لا يمثل بحثاً علمياً ولا توثيقياً للموضوع، وإنما هو قراءةٌ للأحداث والتطورات جاءت مبنيةً على الاستفادة من مصار معلومات خاصة، ومصادر معلومات مفتوحة، خلال الأسبوعين الماضيين:
1. بمزيجٍ، يتفاعل باستمرار، من التحول الفكري الحقيقي والبراغماتية السياسية بدأت "هيئة تحرير الشام" في التطور، فكرياً وتنظيمياً، منذ عقدٍ من الزمان. فمنذ انفصال "جبهة النصرة" عن تنظيمي "الدولة الإسلامية" في نيسان/أبريل 2013 و"القاعدة" في تموز/يوليو 2017، انسحبت بشكل أساسي من الحركة الجهادية العالمية. وعملت على إعادة هيكلة نفسها كـ "هيئة تحرير الشام". وتطلّب هذا أن تجد مجالات أخرى لبناء شرعيتها وترسيخ سلطتها على جميع الكيانات الأخرى في شمال إدلب وغرب حلب. وبما أنها لم تعد تعتمد على رواية وخطاب الشبكات الجهادية العالمية، فقد كان أحد تكتيكاتها الأولى هو اعتماد لغة الثورة. وعلى مدار السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت الرسائل المرتبطة بالثورة جزءاً أساسياً من معجم الهيئة.
2. جاء في هذا الإطار محاربة تنظيم الدولة تحت ملف قامت بتعريفه على أنه (ملفّ الخوارج). حيث قامت الهيئة بـ 59 عملية ضدَّ ذلك التنظيم بين عامَيْ 2018 و2022. وبدأت أمريكا وغيرها من الأطراف الغربية في الانتباه للأمر، إلى درجة أن آرون زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والمتخصص في الجهادية الإسلامية، قال في بحثٍ له العام الماضي بعنوان "الجهادية المكافِحة للإرهاب: هيئة تحرير الشام": "إن الحجة لصالح إبقاء هيئة تحرير الشام على قائمة تصنيف الإرهاب ليست واضحة كما كانت عندما تم تصنيف الجماعة لأول مرة باسم جبهة النصرة قبل أكثر من 10 سنوات. بل ومن المعقول أنه لو تم تشكيل هيئة تحرير الشام من العدم عندما تم الإعلان عنها في عام 2017، فربما لم يتم تصنيفها على الإطلاق بناءً على أفعالها على مدى السنوات الست اللاحقة"!
3. كان قائد الهيئة، أبو محمد الجولاني، وراء معظم هذه التحولات بدرجةٍ كبيرة، إضافةً إلى بعض القيادات الأخرى التي بقيت قريبةً منه إلى الأيام الحالية. وفي هذا الإطار، ومع نهاية عام 2023 بدأ الجولاني يدرس إمكانية الانتقال بالهيئة إلى بنيةٍ تنظيمية وعسكرية جديدة، من خلال الإعلان عن تأسيس وزارة دفاع ضمن حكومة الإنقاذ. طرح الجولاني الفكرة في إطار إجراء "حوكمة" عسكرية في سياق التحوَل إلى كيان مقبول دولياً، عبر صناعة هياكل عسكرية ومدنية للتعامل مع مطلب تفكيك الهيئة باعتبارها تنظيماً مصنفاً على قوائم الإرهاب، وبحيث يجري تغيير التسمية لتصبح منطقة "حكومة الإنقاذ" يتبع لها وزارة دفاع تنصهر بها مختلف المكونات العسكرية، ومن ثم تغييب تسمية هيئة تحرير الشام، كما جرى الانتقال سابقاً من النصرة الى الهيئة. وبما يؤدى إلى رفع التصنيف الدولي المذكور.
4. كان هذا الطرح متقدماً على أطراف قيادية أخرى في داخل الهيئة، وكان هؤلاء أصلاً غير مرتاحين، فكرياً وعقدياً، إلى التحول التدريجي في هوية الهيئة وخطابها وأهدافها. وتضافر مع هذا انزعاج بعض التنظيمات الجهادية الأخرى من مجمل مسار الهيئة في السنوات السابقة، ومحاولة هذه التنظيمات التواصل مع القيادات المنزعجة من خط الجولاني داخل الهيئة.
5. نتجت عن ذلك محاولة الانقلاب داخل الهيئة بداية شهر آذار / مارس من هذا العام، فيما ما سُمِّيَ وقتها بـ "قضية العملاء". حيث اعتقلت الهيئة المئات من أعضائها ومسؤوليها، مُتَّهِمَةً إيَّاهم بالعمالة لصالح كيانات خارجية، مثل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتَّحِدة، وروسيا، والنظام السوري، و"حزب الله".
6. لكن هذا تزامن مع الاحتقان الشعبي في منطقة سيطرة الهيئة، والذي جاء نتيجة تراكمات عديدة، بسبب انسداد الأفق أمام أي حل سياسي للثورة السورية، وانعدام العمل العسكري نتيجة التفاهمات الإقليمية والدولية التي كبّلت يد الفصائل، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، بالإضافة للقصف اليومي من قوات النظام وحلفائها على قرى وبلدات إدلب وريفها، ورافق ذلك تقليص المساعدات الإنسانية المقدمة من المنظمات الدولية، وانتشار الفقر وغلاء المعيشة. وأدى هذا إلى خروج مظاهرات حاشدة في مناطق إدلب وبنش وتفتناز وسرمدا وحزانو والأتارب وطعوم والفوعة ودارة عزة، في مشهد رأت الهيئة أنه أشبه ما يكون بثورة شعبية ضد الحكومات التي "تضيّق على الشعب" على حد وصفهم، وتستبد بالسلطة دون تشاركية مع فئات المجتمع.
7. كانت هذه الأحداث أشبه بالتحدي الذي عمل الجولاني على قلبه إلى فرصة. حيث سارعت قيادة "تحرير الشام" إلى عقد عدد من الاجتماعات، ضم كثيرٌ منها الجولاني نفسه مع النخب المجتمعية ووجهاء القرى والبلدات وأعضاء مجلس الشورى وحكومة الإنقاذ، وقدّم النخب والوجهاء خلال هذه الاجتماعات مطالب المتظاهرين، حيث وُعدوا بتحقيقها، وأُعلن أنه تم البدء في تنفيذها.
8. لكن جوهر التحول القادم ظهر في تصريحات مدروسة، من أهمها ما قاله وقتها المتحدث باسم إدارة الشؤون السياسية التابعة لهيئة تحرير الشام عبيدة الأرناؤوط، إن "من حق الجميع أن يعبّر عن رأيه ويقول كلمته، وعلينا أن نستمع لمطالب أهلنا، لتكون طلباتهم محط نظر واهتمام، وننظر إلى المظاهرات بشكلها الحالي على أنها حالة تعبير عن غضب، ونتيجة لتراكم قرارات وإجراءات عدة ينقصها المهنية، بسبب عدم نضج المؤسسات الثورية؛ لأننا تجربة وليدة بحاجة إلى التقييم والمراجعة في كل مرحلة استحقاق". أما الأهم فقد تمثل في تأكيده على إن: "تشكيل مجلس قيادة للثورة أو المحرّر أصبح حاجة ملحة للخروج من عباءة الفصيل وعقليته إلى حالة القيادة العامة، التي تسعى إلى تجديد العقد الاجتماعي مع أهلنا في المحرر، وتجد النخبة فيه قدرة أكبر على المشاركة، ويتحمل الجميع مسؤولياته؛ لأن مصيرنا واحد، ويأتي من منطلق الاستجابة لصوت أهلنا، لأننا جزء من الشعب، ونزولا كذلك عند مطالب النخب، وأصحاب الرأي من العاملين في هذا المشروع المبارك والناصحين له".
9. في نفس الوقت، ورَدَت إلى الهيئة معلومات عن تأهب دمشق لإعداد حملة عسكرية تشبه حملة عام 2019 والتي استرجعت فيها أراضي إلى سيطرتها في الشمال، وتهدف إلى الإسراع بإحكام السيطرة على الواقع الميداني والتكثيف من التحرك الميداني قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإعادة العلاقات مع أنقرة.
10. تزامنت المعلومات المذكورة والأحداث المحلية مع ما ترصدهُ الهيئة من متغيراتٍ إقليميةٍ كبرى تحصل في الإقليم الأوسع، وخاصةً عملية تقليم الأظافر التي المتصاعدة لقوة إيران (وحزب الله) وحتى لروسيا، في سوريا. جاء هذا في سياقٍ كانت فيه تركيا تغازل نظام الأسد، الأمر الذي رأى فيه الجولاني نافذة خطرٍ استراتيجي على وجود السوريين، ووجوده مع الهيئة، في المناطق المحررة. فكانت تلك هي اللحظة التي قرر فيها ضرورة القيام بعملٍ عسكري واسع ضد مواقع سيطرة الجيش النظامي، مع إمكانية الهجوم على القرى والبلدات في ريفي حلب وإدلب سعياً منها إلى الوصول إلى طريق دمشق - حلب أو ما يعرف بـ (M5)، وتأمين حماية أكبر للقرى في جنوب إدلب وشمال حماة. مع عدم استبعاد إمكانية أن يصل التحرك بالهيئة إلى "تحرير" حلب كهدفٍ استراتيجيٍ طَموح!
11. أراد الجولاني أن يُشكل الحدث رافعة أمرٍ واقع لفكرة تغيير الهيكل التنظيمي والعسكري للهيئة، من خلال لافتة "إدارة العمليات العسكرية" التي ستتولى قيادة الحملة. والتي تشمل فصائل أحرار الشام والجبهة الوطنية للتغير والجيش الوطني السوري، فضلاً عن فصائل أخرى أصغر. وفي خلال شهرٍ من الأحداث، كثفت الهيئة من تدريبات وإعداد عناصرها في الوحدات والألوية كافةً، مع إيلاء أهمية قصوى للقوات الخاصة، ومعها الاتصالات وقيادة الطائرات المسيرة.
12. لم يكن يمكن إخفاء مثل هذه التحركات عن أقمار الاستطلاع العالمية، وترددت المقولات في أوساط الاستخبارات العالمية بأن التدريبات الجديدة تشي بتحضيرات واسعة ولافتة للنظر ولا تشبه التدريبات التقليدية والدورية.
13. كانت روسيا في مقدمة من تنبه لما يجري، فاستدعى بوتين بشار الأسد بتاريخ 24 تموز الماضي إلى موسكو، وتحدث معه عن وجود معلومات روسية عن اتجاهٍ للتصعيد في المنطقة يشمل سوريا. لكن الغرور التاريخي الكبير المعروف عن بشار أعماه حتى عن مجرد القبول بإمكانية حصول ذلك. وكما هي الانعطافات التاريخية الكبرى التي تحصل لأسباب قد تكون ترتيباً سماوياً، انتشرت الآراء المستخفة بتحضيرات الهيئة بشكلٍ لافت في أوساط الاستطلاع والمراقبة. وعلى سبيل المثال، نقلت صحيفة "اندبندنت عربية" البريطانية عن مراقبٍ سوري رأيه بـ "عدم قدرة "تحرير الشام" بعد أعوام من ثبات خطوط التماس على جبهات القتال بإحداث أي تغيير بجغرافيا السيطرة أو إحراز التقدم، أو حتى رفع سقف طموحات المقاتلين المتشددين بامتلاك الطريق الدولي لقطع الطريق السريع بين حلب شمالاً مع دمشق جنوباً مروراً بحماه وحمص وأريافها على امتداد نحو 350 كيلومتراً".. وأضاف المراقب إن "موسكو لن تسمح بهذا التطور بأية صورة من الصور، بل هي تسعى من خلال مفاوضاتها مع أنقرة إلى فتح طريق (أم 4) الذي يصل بين حلب واللاذقية".
14. ومع منتصف شهر تشرين الأول الماضي دخلت مناطق "خفض التصعيد" في شمال غربي سوريا مرحلة من التصعيد غير المسبوق مع وقوع هجمات والدفع بتعزيزات عسكرية من مختلف الأطراف. حيث تعرضت قاعدتان تركيتان قرب أعزاز وفي قرية دابق شمال حلب لقصف مصدره مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) والجيش السوري في شمال حلب. وتزامن ذلك مع غارات روسية عنيفة في إدلب ومحيط تلال الكبينة في ريف اللاذقية الشمالي. كل هذا وسط الحديث عن تحضيرات، تصاعد الحديث عنها مع ذلك التاريخ، لـ "هيئة تحرير الشام" للقيام بعملية عسكرية واسعة ضد مواقع القوات السورية في حلب وإدلب. ونفّذ الطيران الحربي الروسي 3 غارات بصواريخ فراغية على موقع في تلال الكبينة بريف اللاذقية الشمالي، وغارة رابعة على موقع غرب مدينة إدلب، حيث سُمع دوي انفجارات عنيفة وشوهدت سحب الدخان في المواقع المستهدفة، بالتزامن مع تحليق مكثف من الطيران الحربي والاستطلاعي الروسي في أجواء المنطقة. وكانت هذه الغارات الأولى للطيران الحربي الروسي منذ توقفها بعد 10 تموز الماضي.
15. إلى ذلك الزمن، كانت تركيا مترددة من قيام الهيئة بأي عملية واسعة، لخشيتها من التأثير على الوضع الإنساني في إدلب التي تأوي نحو 4 ملايين نازح وأعداداً كبيرة من مخيمات اللجوء. لكن إصرار الهيئة على الأمر وقبولها بتحمل المسؤولية عما سيجري، دفع الأتراك إلى درجةٍ من المرونة. ومع رؤيتهم لعناد بشار الأسد في موضوع التطبيع مع تركيا، وتوتر الأخبار عن احتمال هجومه، مع روسيا، على المنطقة، بما سيكون سبباً مؤكداً لحصول موجة النازحين، أصبح موقفهم متمثلاً في ترك الهيئة وشأنها، وبحيث تكون تركيا مسانِدةً في حال نجاح العملية، ومحايدةً في حال فشلها.
16. في تلك الفترة نفسها، وصلت إلى الهيئة تقارير استخباراتية عن حجم الانهيار غير المسبوق في معنويات حزب الله والميليشيات الإيرانية بعد مقتل حسن نصر الله بتاريخ 27 أيلول، ثم بدءِ التوغل الإسرائيلي في أول يومٍ من شهر تشرين الأول. كانت الدلالات المباشرة في تلك التقارير لاتشير فقط إلى وجود قرارٍ دولي وإقليمي بإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، كمرحلةٍ أولى لإنهائه في المنطقة، وإنما أيضاً إلى إدراك القيادة الإيرانية نفسها لحتمية الوصول إلى تلك المرحلة، وإلى ضرورة إعادة النظر جذرياً في طبيعة ذلك الوجود، خاصةً من طرف الرئيس الإيراني الجديد بزكشيان والفريق الاستراتيجي العامل معه.
17. بدا واضحاً مع بداية شهر تشرين الثاني أن ثمة خلخلةً كبيرةً تحصل في مجمل منظومة التواجد الإيراني في سوريا، وأن هناك فراغاً هائلاً يمكن أن يظهر مع تصاعد تلك الخلخلة، وأن أطرافاً إقليمية تدرس بشكلٍ كثيف طريقة ملء ذلك الفراغ. وثمة أخبار بأن تلك اللحظة كانت لحظة تحديد القرار النهائي من قبل الهيئة بالبدء بالحملة في غضون أسابيع قليلة. لكن هذه الأخبار رفعت توقعاتها بخصوص نتيجة الحملة إلى مايمكن أن يتجاوز حلب. وكان هذا سبباً في رفع سوية التخطيط العسكري واللوجستي والإداري، مع الأخذ بعين الاعتبار ظهور الحاجة إلى خطط لإدارة المناطق المحررة الجديدة على جميع المستويات.
18. كانت تطورات المفاوضات في لبنان بين إسرائيل وحزب الله عنصراً رئيساً في القرار المتعلق بساعة الصفر. وليس واضحاً بالتحديد إن كان تحديد تلك الساعة يوم ٢٧ تشرين الثاني متعلقاً بإعلان وقف إطلاق النار في لبنان قبلها بيوم، لكن العملية انطلقت في ذلك التاريخ بالشكل الذي بات معروفاً.
19. ما إن انطلقت العملية حتى ظهرت المفاجأة الميدانية الكبرى، وتتمثل في الانهيار السريع لكل خطوط دفاع النظام السوري. في جبهة حلب تحديداً. وكان الأمر الخطير استراتيجياً يتمثل في الغياب الكامل لقوات حزب الله، ومعه عناصر الميليشيات الإيرانية! هذا فضلاً عن التيقن، تدريجياً، أن غطاء الطيران الروسي يكاد لايكون موجوداً إلا بنوعٍ من رفع العتب، حيث كانت روسيا تُراقب درجة قدرة قوات النظام على الصمود الحقيقي، لأخذ قرارٍ حاسم فيما يتعلق بذلك الغطاء.
20. وتبين للهيئة أن الأمور تدحرجت مثل كرة الثلج في صفوف العدو. فقد ظهرَ أن غياب عناصر حزب الله والميليشيات ضربَ معنويات قوات النظام في مقتل بحيث انهارت بشكلٍ كامل، لأن تلك العناصر كانت بمثابة السند الأساسي لها ميدانياً ومعنوياً. ومع ذلك الانهيار الذي نتجت عنه عمليات تراجع وانسحاب هائلة، يبدو واضحاً أن روسيا قررت التخلي عن النظام بشكلٍ كامل.
21. وثمة معلومات تفيد بأن القرار الروسي اتُخذ بشكلٍ نهائي بعد تواصل بوتين مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والذي أكد لبوتين على أن مثل هذا الانسحاب سيساعده، داخلياً، في التعامل مع إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بشكلٍ يكون أقرب لما تأمله روسيا. ورغم تردد الحكومة الإسرائيلية في البداية، والتي كانت في غاية الخشية من غياب بشار الأسد ونظامه، غير أن ترامب نجح في إقناعها بموقفه. وإضافةً إلى القرار الإيراني بسحب قوات حزب الله والميليشيات الأخرى، جاء الموقف الأمريكي ليمثل المقايضة الاستراتيجية الكبرى الثانية، والتي صبت في مصلحة العملية العسكرية للهيئة والفصائل المتحالفة معها من مدخل تضارب المصالح، الذي يفتح دوماً نوافذ فرص استراتيجية في مثل هذه الأحداث.
22. فوق هذا، يبدو أن حسابات بوتين أخذت بعين الاعتبار علاقته الخاصة مع أردوغان من ناحية. ومعها العلاقة الجيدة الشخصية التي نشأت بين أردوغان وترامب، خلال إدارة ترامب الأولى. وتفيد المعطيات أن بوتين قرر، بحسابات الأرباح والخسائر، التركيز على المستتبعات الاستراتيجية لعلاقته مع ترامب كرئيسٍ لأمريكا التي كان قرارها الاستراتيجي خلال العقد الماضي متمثلاً في تقزيمه ومحاصرة روسيا، وبدرجةٍ أقل مع أردوغان، كزعيمٍ لقوةٍ إقليميةٍ أساسية سيكون صعودها أكبر مع تقليم أظافر إيران في المنطقة، خلال السنوات القادمة.
23. نتج عن كل هذا على الأرض تقدم قوات "إدارة العمليات العسكرية" بشكل أشبه بدخول السكين في قطعةٍ من الزبدة، وكانت المقاومة المتفرقة التي واجهَتها في بعض المواقع، بدورها، أشبهَ بأثر الاحتكاك الفيزيائي البسيط الذي يمكن أن تواجهه تلك السكين في القطعة التي تخترقها.
24. وما إن تم تحرير حلب، حتى تحركت بعض الدول العربية التي فوجئت بحملة الفصائل أولاً، ثم تطوراتها السريعة جداً ثانياً، في محاولةٍ للملمة الموقف سياسياً وميدانياً. في خضم هذه الحركة، حصلت تلك الدول على تعهدٍ من بشار الأسد بإنهاء ملف الوجود الإيراني في سوريا نهائياً، في حال إنقاذ نظامه، ولكن مع السماح لإيران حالياً، ليس فقط برفع درجة وجود حزب الله في سوريا بشكلٍ كبير، بل وفتح الباب واسعاً لكل الميليشيات العراقية بالدخول إلى سوريا. وثمة معطيات أن إيران وافقت على ذلك الاقتراح، الذي شكل الفرصة الأخيرة لإنقاذ وجودها في سوريا ولبنان. كانت واشنطن بؤرة هذا التحرك، ورغم الإغراء المبدئي الكامن في الاقتراح المذكور لأمريكا، وإسرائيل بدرجةٍ أكبر. غير أن العنصر الحاسم الذي دفع الطرفين لرفضه يتمثل في غلَبة احتمالات الغدر الإيراني، الممكن دائماً، في حال تكثيف وجود ميليشياتها وتمكُّنها من إنقاذ الأسد. بمعنى عودتها لترسيخ ذلك الوجود، بكل ما يشكله من تضاربٍ مع الواقع الاستراتيجي الجديد على الأرض.
25. في ظل هذه الملابسات، ومع استمرار تقدم قوات "إدارة العمليات العسكرية" في اتجاه حمص، بعد تحرير حماة، جرت محاولةٌ أخيرة لإنقاذ نظام الأسد. فبدعمٍ من روسيا وإيران والأمم المتحدة، تمكنت بعض الدول الداعمة لبقائه من اقتراح طبخةٍ مستعجلة تؤمن بقاءه، علنياً، من 6-9 شهور، على أن يكون ذلك بمثابة فترةٍ انتقالية تتم خلالها مفاوضات بين النظام والمعارضة السورية و"قسد" وصولاً إلى توافقٍ وطنيٍ سوريٍ مستقبلي. كان الهدف الحقيقي الرئيس يكمن في إدخال الوضع السوري في متاهة المفاوضات، برعايةٍ دولية، مرةً ثانية، وبحيث يتم وقف تقدم الفصائل ومنع دخولها إلى دمشق. وكان الشرط الوحيد الذي يمكن معه إخراج السيناريو متمثلاً في خروج بشار الأسد على التلفزيون السوري وإعلانه التنحي بعد تلك الفترة. لكن تحقيق هذا السيناريو أصبح مستحيلاً مع رفض النظام للشرط المذكور. وثمة تضاربٌ في المعلومات عما إذا كان ذلك قراراً شخصياً له، أو قراراً للطائفة وبعض ضباطها الكبار، والذين كانوا يأملون، إلى آخر لحظة، في سيناريو إنقاذ يهبط عليهم ولو من السماء. وهذا انسجاماً مع عدم قدرتهم كلياً على التصديق بإمكانية وجود أي ظروف محلية وإقليمية وعالمية يمكن أن تؤدي إلى رفع الغطاء عن نظامٍ مثل نظام الأسد.
26. وفي الأثناء، دخلت الفصائل إلى دمشق في غضون ساعات، وفرضت أمراً واقعاً جديداً. وقبل هروب بشار الأسد، زرعَ مع قادته بذور ألغامٍ مستقبلية، حين تم إصدار أوامر بحل الجيش كلياً، وطولب الجنود بإلقاء أسلحتهم والانسحاب الفردي العشوائي، بما يضع سوريا في أجواء فوضى مسلحة تكون العامل الأساسي في فشل النظام الجديد، هذا فضلاً عن التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي باتت تواجه هذا النظام.
د. وائل مرزا
رئيس التحرير والمشرف العام على موقع معهد العالم للدراسات.
مواد أخرى لـ د. وائل مرزا
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.