في الحيز السوري توسع النقاش حول معنى الطائفية، وحتى بات الإتهام بالطائفية شائعاً، وكذلك أصبح يُنظر إلى الأشخاص بأدوارهم السياسية من منظور الطائفة التي ينتمون إليها.
وضع مؤلم بعد ثورة كانت تطمح لأن تضم كل الشعب السوري، وانطلقت من أن الشعب السوري واحد، وفي وضع كان الفقر والتهميش والبطالة يطال كل "الطوائف". وهدفت إلى تأسيس "دولة مدنية" أساسها الشعب الذي هو مجموع مواطنين، وهو ما يعني تحويل الانتماءات السابقة لذلك إلى "شأن شخصي" لا يرتبط بعلاقاته أو دوره السياسي.
ولا شك في أن نوازع من ذلك كانت موجودة سابقاً، لكن توسّع دور المجموعات السلفية التي تُعتبر جزءاً من الثورة!، جعل الأمر ينتقل إلى "النخب" التي باتت ترى الأمور من منظور الطائفة. الأساس في هذه النقلة تمثّل في الجزم بـ "طائفية النظام"، وهذا أمر كان يتردد في أوساط المعارضة منذ زمن طويل، المعارضة التي كانت تنادي بالديمقراطية ضد الاستبداد، والتي كانت في سرها تهجس بـ "طائفية النظام". وكانت كثير من ممارسات السلطة تعزز هذه الهواجس، خصوصاً وأنها لم تُدرس بعمق، وجرى تناولها بشكل سطحي، وبحساسيات "مصلحية"، حيث كان يمكن أن تفسّر بشكل أعمق، وانطلاقاً من تحليل سسيولوجي وليس من منظور طائفي.
كل ذلك فرض أن نظل في دائرة النقاش حول الطائفية، وأن نتلمس الخلط الذي يحكم النقاش بين الطائفة والطائفية، وما من شك في أن الانحكام لمنظور طائفي هو الذي يوجد هذا الخلط، حتى لأشخاص ليسوا طائفيين، فلقد لعب بعض المستشرقين على هذا الأمر، وأسسوا لـ "منهجية" غالباً ما يقع فيها مثقفون يحاولون "الإفادة" من الفكر الغربي. وهنا تحلّ في التحليل مصطلحات كرسها "علم الاستشراق" (المؤدلج)، وتصبح هي مفتاح فهم الواقع، لتكون النتائج هي إعادة إنتاج المصطلحات ذاتها عبر تأكيدها بوقائع متفرقة، وهامشية، أو نتيجة استبطانها بفعل "طائفية ساكنة". هنا يتغطى الميل الطائفي بفكر "حداثي" لكي يخفي ذاته، وأيضاً لكي يريح ذاته من تهمة الطائفية.
جرت الإشارة تكراراً إلى التمييز بين الطائفة كوجود موضوعي وبين الطائفية التي يجب أن تُفهم كتمسك أيديولوجي يقوم على التعصب على أساس دين معيّن أو دين طائفة معينة، وبالتالي أن يعلي من دين أو طائفة ويكفِّر غيره أو غيرها. باختصار أن يصبح الانتماء لدين أو طائفة حداً يحلل استعباد أو قتل الآخر. أن يقاتل "السني" كسني ضد الشيعي لأنه شيعي، أو العكس طبعاً، أو أن يقاتل العلوي كعلوي ضد السني أو العكس. بغض النظر عن كل المبررات التي يحملها خطاب هذا أو ذاك. هذا الأمر يمكن أن يكون فردياً أو يخص "جماعة ما"، أو يمكن أن يتحوّل إلى أيديولوجية تنظيم أو نظام. أو يمكن أن يستغل ذلك لمصلحة معينة من قبل شخص من الطائفة أو الدين. لهذا يجب التمييز بين "التعصب الطائفي" وبين استغلال هذا التعصب عبر اللعب على استنهاضه، لأن المستغِلّ ليس طائفياً بل يشتغل على استغلال الخوف الطائفي، أو الانتماء الطائفي أو الديني (أو حتى المناطقي والقبلي).
الطوائف كتاريخ
لا أود البحث هنا في مسألة الطوائف التي هي بالنسبة لي تيارات فكرية سياسية (وطبقية) انكفأت على ذاتها بعد الانهيار الكبير الذي طال المنطقة، وأسست "أسطورة" (أسطرت) لتاريخها وأفكارها بعد أن انغلقت على ذاتها في مواجهة توسع الأصولية التي رافقت الانهيار، والتي أنتجت فتاوى ابن تيمية وابن القيم الجوزية. لكنها عاشت في المنطقة بين "الأغلبية" دون احتكاكات كبيرة، وبتداخل فعلي. مقابل ذلك كانت تتأسس أيديولوجية "أغلبية" أصولية منغلقة، وتميل لعداء الآخر، الأديان والطوائف، لكنها لم تمثل وعي الشعب الذي بات الدين بالنسبة له يتحدد في طقوس وعبادات بعيداً عن أي منظور أيديولوجي، أو هدف سياسي. وهو ما أود أن أسميه "العلمانية الموضوعية".
السؤال الذي يمكن أن يُطرح هو: لماذا كان هذا التعايش التاريخي يُخرق؟ أي لماذا كان الصراع ينشب بين الطوائف، أو بين "أقلية" و"أغلبية"، أو بين "أقليات"؟ لا شك في أن لكل دين أو طائفة "بنيته أو بنيتها" الداخلية، أي الحدود التي تبقي الشخص ضمن الدين أو الطائفة، والطقوس التي تكرس ذلك، لكن هذه البنية الداخلية لم تمنع التعايش والتداخل، لكنها كانت تدفع إلى الصراع في بعض الحالات. هذا ما يجب أن يُفهم، أي لا بد من تحديد النظر الذي يسمح بفهم ذلك. هذا يجعلنا نركز على المنظور، الآليات التي تسمح بفهم الظواهر، أي طريقة التفكير. حين تضع ورقة شفافة لونها أسود أمام ناظريك سوف ترى العالم، لكنك سوف تراه أسوداً، وحين تضع الشفاف الأحمر سوف تراه أحمراً. لهذا لا بد من فحص زاوية النظر حين دراسة هذه المسألة، انطلاقاً من منظور علمي يسمح برؤية الواقع كما هو.
مناهج البحث الأوروبية والرأسمالية عموماً انطلقت وهي تبحث في أوضاعنا من مصطلحات ومحدِّدات معينة، معتبرة أنها ما يسمح بفهم الشرق. في البحث الاجتماعي كان مصطلح القبيلة حاضراً، وربما جرى تفسير كثير من الأحداث انطلاقاً من ذلك لدى تيار من المستشرقين. لكن كان أيضاً مصطلح الطائفة والأقليات قائماً، وجرى تحليل كثير من الوقائع انطلاقاً من ذلك من قبل مستشرقين آخرين. هذه منهجية مغرضة، بالضبط لأن دراسة أوروبا وتاريخها لم تخضع للأمر ذاته، أي لم تخضع للمنهجية هذه التي تنطلق من مصطلحات القبيلة والدين والطائفة، بل اعتمدت على دراسات سسيولوجية ومنهجيات حديثة. بالتالي كان المنظور الأيديولوجي الذي تريده الرأسمالية المستعمِرة، والتي تريد استمرار السيطرة، يفرض أن نُفهم انطلاقاً من ذلك، وكان الهدف هو التفكيك عبر تعزيز الوعي بالتمايز والاختلاف وحتى التناقض على أساس ديني أو طائفي (أو حتى قبلي ومناطقي). حيث أن المنهجيات الحديثة تتجاوز الفهم الديني للواقع والتاريخ لمصلحة فهم "مدني" يتبلور في العلوم الاجتماعية أو التاريخية التي تبلورت مع الرأسمالية ونتيجة تطورها.
ما كان يتوضح في مسار التطور التاريخي أن الدين كان يتقلص من أيديولوجية تريد الهيمنة وإنتاج دولتها، إلى معتقدات وعبادات أقرب لأن تكون شخصية، يمارسها الفرد ويتوارثها الأبناء، وإلزاماتها محدَّدة في التحديد الديني والزواج والميراث والوفاة، دون غيرها من أحكام الدين. وبالتالي كانت قد باتت شكلية كما الانتماء العائلي، دون إلزام بالصلاة أو "نشر الدعوة" أو فرضها على الآخر. وأيضاً بمعرفة محدودة بأحكام الدين وفقهه ومنظوره السياسي. وهذا ما كان يجعل التمايز بين الأديان والطوائف شكلياً بشكل ما، ومن ثم كان التعايش أمراً "طبيعياً" مع بقاء "حدود الدين". ربما في المدن التقليدية (التجارية) كان للدين الإسلامي دور آخر، حيث كان يتشكل كأيديولوجية تفرض قيماً وضبطاً في السلوك، و"تعصباً" ما، ومحافظة قيمية وأخلاقية شديدة الانغلاق. لكن كل ذلك مع "مصلحية" تبرر مختلف الممارسات. وهنا كانت تقبع كل الدعوات لأصولية معمَّمة. لكن ضيق حجم المدن وسيادة الريف كان يبقي التعايش هو الأساس، بالضبط لأن الريف كان هو الكتلة البشرية والطبقية الأضخم في ظل وجود مديني محدود.
هذا هو الأساس الذي جعل التعايش ممكناً، وسمح في الوقت ذاته باستمرار التشكيلات التي تبلورت منذ انهيار الإمبراطورية العربية. بالتالي، هذا ما يوضح خطل المنظور الاستشراقي الذي أدلج الاختلاف والتمايز، وأسَّس على تناقض "المكونات"، ولكن كذلك قصدية هذا الفعل الذي كان ينطلق من "تحريك التناقضات" عبر أدلجتها وترسيخ وجودها، وتأبيد التناقض بينها. وأيضاً الشغل من أجل تفكيك الشعب، وافتعال صراع طائفي داخله، في إطار السياسة الإمبريالية التي تريد تأبيد السيطرة، وتأبيد تخلف المجتمع. بالتالي كانت صياغة المنظومة الأيديولوجية الاستشراقية هادفة، ولقد بنيت على مصطلحات تعتبر مفتاحية في تحليل المجتمعات المخلَّفة، ربما باتت هي الأساس "المنهجي" في الفهم لدى نخب فيها.
إذن لم يكن الاختلاف الديني أو الطائفي هو الذي "فجّر" الصراعات، لكن التدقيق في الصراعات التي حدثت على أساس طائفي أو ديني سوف يوصل إلى أن سبباً "مادياً" هو الذي أفضى إلى انفجار الصراع، حيث تؤدي المصالح إلى تحريض يتخذ شكلاً دينياً أو طائفياً يقود إلى صراع، سرعان ما ينتهي. إن طبيعة التحولات المجتمعية فرضت في العقود الماضية أن يتحقق التداخل و"الاختلاط" بشكل كان يكسر التمايزات، ويفرض تجاوز التحديد الهوياتي، لكن كان يظهر في العديد من اللحظات والمواقع أن قوى تعمل على إعادة بناء "الحدود" بين الأفراد.
الطائفية
في الواقع هناك أديان وطوائف، وهناك تعايش خلال عقود طويلة مع بعض الاحتكاكات، لكن ما الذي يحدد نشوء الطائفية؟
ليست الطائفية هي الانتماء لطائفة، لكنها التمسك بالطائفة في مواجهة طوائف أخرى، التعصُّب لطائفة ضد طوائف أخرى. التعصُّب هنا هو الأساس وليس الانتماء، حيث أن التاريخ أنتج أديان وطوائف (كما أنتج قبائل ومناطق). وهذا يعني تأسيس التناقض على أساس الانتماء لطائفة أو دين (أو قبيلة أو منطقة)، وتحويله الى تناقض حدِّي، ينطلق من التعصب لطائفة أو دين ضد طائفة أخرى أو دين آخر. وبالتالي يصبح الانتماء أيديولوجية متعصبة تلفظ المختلف وفق مسار التطور التاريخي، وفق الماضي وليس وفق الراهن. وفق خلاف نشأ في التاريخ، وعبّر وقتها عن تناقض مصالح طبقية ورؤى فكرية قبل أن يخضع لتحولات الواقع فيصبح شكل وجود فئات اجتماعية لها "تاريخها الخاص" الذي فرض التاريخ أسطرته. هذه الأسطرة هي التي يعاد إنتاجها في تناقض مع الآخر، في معاداة الآخر.
وهذه الأسطرة التي تتحوّل الى أيديولوجية تمحى مع الزمن، وخلال تفاعل البشر فيما بينهم، واضطرارهم الى "العيش المشترك"، وخصوصاً أن هويات أخرى تجمعهم. وبهذا تتحوّل الى شكل، الى "هوية" تميّز بين البشر، وهي تتحوّل الى شكل أكثر فأكثر كلما تداخلت "الطوائف" من خلال "العيش المشترك"، أي المعيشة في بيئة واحدة تفرض العمل في الاقتصاد والحياة بشكل مشترك، وهو ما يفرض تفكك البنى "الانعزالية" المتعلقة بالمناطق أو الأحياء، لمصلحة تكوين مجتمعي جديد يضمّ الشعب كشعب بغض النظر عن الانتماءات الطائفية أو الدينية (أو القبلية والعائلية والمناطقية). وفي هذا المسار نلاحظ تلاشي الانتماء الطائفي والديني والمناطقي والقبلي في تكوين مجتمعي يضم كل هذه الانتماءات، التي تميل للاختفاء نتيجة ذلك، حيث تسود هويات أخرى، طبقية أو قومية، أو حتى مناطقية جديدة.
لهذا تكون الطائفية هي استعادة ماضٍ يتلاشى، الإعادة الى أيديولوجية هي شكلية بكل المقاييس. وهي عملية ليست "ذاتية"، أي تنبع من ذات الأفراد، بل يحرّكها سبب ما، ربما اقتصادي أو سياسي، وأحياناً "شخصي"، حيث يسمح التخلف بذلك.
في هذا السياق يمكن أن نلمس كيف يتحوّل الشكل، الذي ربما يكون منسياً في أوقات كثيرة، الى "بنية" متعصبة، وينهار التلاشي الذي يحكم هذا الشكل الى "بنية صلبة" ضد الآخر، الى الحدّ الذي يجعلها تخوض حرباً حقيقية ضده.
لكن يمكن هنا الإشارة الى مستويين يتعلقان بهذا الأمر، المستوى الأول "فردي" و"شكلي"، حيث يمكن استثارة فرد أو فئة بالاتكاء على طائفته/ طائفتها، أو دينه/ دينها (كما على الانتماء العائلي أو القبلي أو المناطقي)، حيث يجري التحريض انطلاقاً من ذلك في مواجهة دين آخر، أو طائفة أخرى. وفي هذه الحال يجري استغلال تخلف الوعي وهامشية الأفراد وتأزم وضعهم لسبب ما، للوصول الى ذلك. وفي هذه الحالة يجري الاعتماد على الانتماء الشكلي لطائفة أو دين في ظل وضع مجتمعي متوتر، وأزمات تؤسس لتوتر الأفراد.
لا شك هنا أن "الوعي" بالارتباط بـ "هوية" دينية أو طائفية، وهو هنا ارتباط شكلي، يمكن أن يستغلّ ضد الآخر. أن تُستغلّ ظروف معينة لتحريض أيديولوجية ماضوية لم تعد جوهرية لدى الأفراد كأيديولوجية (وهذا لا يخص الشعائر الدينية)، حيث ظل منها ما هو شخصي. وأن يعاد استثارتها نتيجة ذلك في مواجهة أيديولوجية أخرى تخص طائفة أخرى، أو حتى ضد طائفة أخرى.
في هذا المستوى الأفراد ينساقون نتيجة تحريض ما، وبسبب ظروف يعيشونها، وضع يعيشونه. رغم أن الأيديولوجية هي هامش في تحديدهم لهويتهم، هي جزء من تاريخ، وليست فاعلة في الراهن. وبالتالي فإن "تعصبهم" مؤقت، لحظي، وليس مبدئياً، ليس "صميماً"، فلم يكن قائماً قبلاً وسيتلاشى بعداً.
المستوى الثاني يتمثل في تحول الأيديولوجية الى "بنية" منظمة، الى مجموعة يربطها "تنظيم" ما تتكئ على الأيديولوجية، ومحوّلة إياها الى ميل تعصبي ضد الآخر. هنا يعاد إنتاج الأيديولوجية الماضوية كبنية وعي، وكبنية تنظيمية، قائمة على الصراع ضد الآخر. على ضوء ذلك يصبح الشغل على تعميم الأيديولوجية في شقها التعصبي كضد للآخر، وتأسيس تنظيم يعبّر عن هذه الأيديولوجية. هنا يصبح العمل منظماً وقصدياً. هذا ما ظهر من خلال تشكيل تنظيمات قائمة على أساس "الانتماء" لطائفة، والتعصب لها، والتحريض ضد طائفة أخرى (وهذا يتعلق بالتعصب من دين لدين آخر). وبالتالي يصبح الصراع الطائفي ممأسساً، وممنهجاً، وهادفاً، حيث تريد طائفة سحق أخرى، أو يريد دين تدمير آخر. وهذا في الغالب يبقى منحصراً في جزء من الطائفة، لكنه يمكن أن يجرّ الطائفة لسبب أو لآخر. خصوصاً أن التعصب في طرف يمكن أن يؤدي الى تعصب مقابل، وهذا يغذي تصاعد الطائفية و"ترسخها".
لكن سنلاحظ أن هذه الاستعادة الى الماضي تهدف الى راهن ما، حيث أن هذا الميل التعصبي (أو التشددي) يهدف الى تكتيل طائفة، أو جزء من دين (حيث لا إمكانية لتكتيل كل المنتمين لدين)، من أجل مصالح معينة لا تخص الطائفة بالضرورة، التي ربما تستفيد بشكل أو بآخر منها، لكنها تخص فئات منها، هي التي تكون معنية بتعميم الطائفية، وتكتيل الطائفة، والسعى لتحقيق "مصالحها"، رغم أن ما يتحقق هو مصالح فئة ضيقة فيها.
بين هذا المستوى وذاك يمكن أن نلمس أنه ليس فقط البنية الأيديولوجية الطائفية بتمظهرها التنظيمي هي من يسعى للاستفادة من الأفراد "المأزومين" (وفق ما أشرت في المستوى الأول)، فهذه تسعى لاستغلال ذلك بأقصى ما يمكنها ذلك، لكن يمكن لفئات أو أفراد أو أحزاب ليسوا طائفيين أن تستغل حالة طائفية ما، حين يخدم ذلك تحقيق مصالحها. وهنا يجب أن نميّز بين الطائفي وبين من يعمل على استغلالها لمصالح تخصه. فليس كل من يستخدم الخطاب الطائفي طائفي، بل يمكن أن يكون متطفلاً يريد الاستفادة منها لخدمة مصالحه. في هذه المسألة يجب التمييز الدقيق بين الفئة التي تستخدم الطائفية خدمة لمصالحها وبين "الطائفيين" الذي ينخرطون في صراع قائم على أساس "هوية" متوارثة، ويكون دفاعاً عنها كهوية، في الغالب حتى دون معرفة الأيديولوجية التي تعبّر عنها سوى من خلال تلمّس الشكل، أي الهوية ذاتها، الانتماء المتوارث مثل المدينة والكنية.
وفي هذا الأمر يجب البحث عن المصالح لدى الفئة المحرِّكة، حيث يكون استخدام الطائفية هو لخدمة مصالح تخص فئة، بينما ينخرط الأفراد في صراع ليس لهم مصلحة فيه. وبهذا لا بد من التمييز بين خدمة الطائفية، أو الأيديولوجية الطائفية (أو الدينية)، لمصالح فئة اجتماعية تستغلها من أجل أن تحقق أهداف تخدمها، وتصبّ في مصلحتها، وبين انخراط فئات في الصراع على أساسها دون أن يكون في ذلك ما يحقق مصلحة لها. ولا شك في أن تخلف الوعي والتهميش والفقر والبطالة هم جميعاً ما يسمح لفئات مجتمعية أن تنخرط في مشروع لا يخدم مصالحها، وربما يحقق لها بعض الدخل الذي يسمح لها بعيش "عادي" لفترات هي تلك التي يريدها المحرِّك، أي المستفيد.
إذن، لا تُستعاد الأيديولوجية الطائفية بشكل تعصبي إلا خدمة لمصالح معينة، وحيث يستغلّ وضع صعب لفئات اجتماعية من أجل استثارة "هوية" متهالكة، على أمل أن تحقق بعض "المصالح" المباشرة. وبهذا فهي تُوَجَّه ضد آخر، ربما مسيطر، وربما غير ذلك، لكنها تخدم مصالح فئات معينة.
هل نتناول حالات؟
من يدقق في العديد من الصراعات الطائفية سوف يلمس ما أشرت إليه قبلاً بشكل جلي. حيث يمكن أن نتناول ثلاث حالات ربما توضح الرابط بين المصالح والتعصب، الأولى هي "الحرب الأهلية اللبنانية"، والثانية هي حزب الله، والثالثة هي التيار "الأصولي السني".
فلا شك في أن لبنان تشكّل ككيان "مسيحي" كما أراد الاستعمار الفرنسي، حيث جرى تقسيم السلطة والوظائف العليا بين الطوائف، فكان الرئيس الذي هو السلطة الأولى مسيحياً، ورئيس الوزراء سنياً ورئيس البرلمان شيعياً. كما كانت الوظائف العليا من اختصاص المسيحيين. وكان الطابع العام الذي يُعطى للبنان هو أنه "دولة مسيحية". هذا التكوين الدولتي كان يهدف الى إعادة إنتاج الطوائف عبر تكريس موقعها في بنية الدولة. ورغم أن تطور وضع لبنان قد مال الى أن يتجاوز الصراع الواقعي هذا التقسيم، ويميل لتغليب الطبقي على الطائفي في ستينات وسبعينات القرن العشرين، فقد اندفعت "القيادات المسيحية" بعد تفاقم الصراع الطبقي أواسط السبعينات الى اعتبار أن ما يجري هو تهديد للسلطة المسيحية ولوضع المسيحيين، رغم أن هذه القيادات وأحزابها ليست طائفية بالمعنى الأيديولوجي، فهي تمثل أحزاب "مدنية" حتى وهي تعبّر عن قطاع مسيحي، كان يفرضه ضمان استمرارية مسكها السلطة.
ولهذا لجأت الى الخطاب الطائفي على أمل أن توحد المسيحيين خلفها، ولا شك في أنها نجحت في ذلك، واستطاعت أن تجنِّد قطاعات مسيحية في معركتها المسلحة. بالتالي سنلمس أن "الخطاب المسيحي" هو التغطية على السيطرة الطبقية/ السياسية لفئة من البرجوازية اللبنانية. وهو المبرر الذي تقوم عليه هذه السيطرة. ولا شك في أن المصالح المتمثلة في الامتيازات التي يحققها الانتماء المسيحي (الماروني خصوصاً) هي التي جعلت قطاع كبير من المسيحيين يلتف خلف هذه الأحزاب بعد أن نجحت الأحزاب في إظهار أن الأمر يتعلق بإزاحة المسيحيين عن مواقع سيطرتهم في بنية السلطة. لكن الأخطر يتمثل في أن "قوة الصراع" التي تحمل السلاح كانت من بيئات مسيحية مهمشة أصلاً (كسروان) كما كانت متعايشة مع محيطها المختلف دينياً دون مشكلات منذ عقود طويلة سابقة.
من هذا السرد يمكن أن نلمس أن البرجوازية المسيحية، التي لا تكترث كثيراً بالدين سوى فيما يخدم مصالحها، كانت في لحظة معينة تصعد الخطاب الطائفي لكي توحد "الكتلة المسيحية" التي كانت قد تشققت طبقياً وسياسياً. بالضبط لأنها تريد الحفاظ على سيطرتها الطبقية، وموقعها السلطوي. بينما كان الخطاب هو العنصر الدافع لفئات مسيحية مهمشة كي تخوض "حرباً طائفية"، رغم أن هذه الحرب لم تكن في مصلحتها أصلاً، ولا أدت الى تحسين وضعها. هنا يمكن ملاحظة كيف أن "الخطاب الطائفي" هو فقط لخدمة مصالح طبقية، وكيف يمكن أن تنجرَّ فئات مهمشة خلفه لكي تخوض حرباً هي ليست حربها. فالخطاب الطائفي كان يغطي على التمايز الطبقي داخل "البنية المسيحية"، ويسخِّر مفقريها للدفاع عن الطبقة المسيطرة منها. فالبرجوازية هنا تقدم خطاباً يخدم مصالحها عبر تحشيد طائفي خلفها، لينجرف فيه فئات مفقرة ومهمشة انطلاقاً من تحريض "الوعي الكامن"، وجرفه في مسار لا يخدم مصالح هذه الفئات.
حزب الله بدأ (في الإعلام) كحزب يهدف الى تحرير أرض لبنان من الاحتلال الصهيوني، بعد أن قامت بعض مجموعاته الأولى بقتل "اليسار والعلمانيين" من الطائفة الشيعية (حسين مروة ومهدي عامل مثلاً) واشتغلت على تهديد كل شيعي لا ينخرط في صفوفها، وتصادمت مع حركة أمل لكي تصبح المهيمنة في البيئة الشيعية. بمعنى أن الحزب الذي كان يرفع شعار مقاومة الاحتلال كان يسعى للسيطرة على البيئة الشيعية وطرد كل التيارات الأخرى منها. ولقد اعتمد هنا على "خطاب شيعي" مستند الى "ولاية الفقيه"، واشتغل على ضبط البيئة الشيعية بخطاب "شيعي" يستند الى "الشيعة الإيرانية". ولهذا كانت مجموعاته المقاتلة ضد الاحتلال شيعية، ومن أراد من الطوائف الأخرى الانخراط في هذه المقاومة وُضع خارج "البنية الصلبة" للحزب. لقد أعيد إحياء "الخطاب الشيعي" بكل "مظلوميته"، و"عقاب الذات" فيه.
بالتالي نحن إزاء تنظيم طائفي يمارس "مهمة وطنية". هذه الصورة هي التي أوجدت قاعدة شعبية كبيرة داعمة للحزب، ليس في لبنان بل في الوطن العربي عموماً، لكنها أخفت "الطابع الطائفي" للحزب، فالوطني "يجبّ" كل سلبية، ويخفي كل سمة أخرى. والنتيجة كانت هي أن هذا الدور عزَّز من وضع "الشيعة" في السلطة، وبات حزب الله هو الماسك بالقرار السياسي للدولة. لكن الأهم تمثل في أن صعود حزب الله أدى الى صعود قوة البرجوازية الشيعية، التي باتت تريد الهيمنة على الدولة. فقد أوجد دور حزب الله مساحة واسعة لهذه البرجوازية أن تطور مشاريعها، وأن تميل للحصول على امتيازات وتعزز قدرتها المالية، بما يجعلها القوة المهيمنة في إطار البرجوازية ذاتها. ولا شك في أن أوهام حزب الله تتمثل في أنه في سياق هذا المسار يجري فرض "دولة شيعية" كجزءٍ من "الإمبراطورية" التي يحكمها الولي الفقيه.
في هذه الصيغة نلمس أن الوطني هو الذي كان مدخل الطائفي، وأن هدف "الخطاب الطائفي" هو تعزيز وضع برجوازية ذات لون طائفي في بلد تتحدد مواقعه على هذا الأساس، ولكن كذلك سيطرة الوهم ببناء "دولة طائفية" تتجاوز الحدود القومية. ولا شك في أن كثير ممن انخرط في هذا المسار بدأ في سياق الميل الوطني الذي يفرض مقاومة الاحتلال، لكن التنظيم كان يقوم بعملية "الصهر الأيديولوجي"، خصوصاً بعد الربط المصلحي من خلال "التوظيف" في الحزب ومؤسساته. لهذا بعد أن كان "الشيعة" هم الفئة الأفقر في لبنان، والتي تتغلغل فيها الأحزاب الشيوعية والقومية، وهم الفئة المهمشة التي يمكن أن تتحوّل الى قوة تغيير، أصبحت تخضع لسيطرة أيديولوجية طائفية، ولمصالح فئات برجوازية تريد تحسين وضعها في الدولة.
الآن يمكن أن أشير الى "الأصولية السنية" التي طغت عليها الوهابية. فقد حاولت "الأيديولوجية التقليدية المهيمنة" أن تواجه تغلغل "الفكر الحديث" منذ بدء تغلغله، وتبلورت على شكل "جماعة" هي جماعة الإخوان المسلمين، التي أرادت الحفاظ على البنى الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية القائمة كونها استمرار لما تبلور في القرون الوسطى. هذا الميل الأصولي ظهر لدى طوائف وأديان أخرى، لكن بشكل أضعف، حيث كان يظهر أنها ردّ فعل على هذه الأصولية، أو حتى كرد فعل على الحداثة ذاتها. أتحدث هنا عن الميل لتحويل "الأيديولوجية التقليدية" الى مشروع أيديولوجي يطرح موقفاً من الواقع. وهو الأمر الذي جعله يواجه كل أفكار الحداثة بالأساس، لكنه وهو يفعل ذلك يستعيد الموقف "السلفي" من الطوائف والأديان الأخرى. وكانت العلاقة بين المستويين تتراوح بين "التلاشي" أو يجري إيلاء الأولوية لواحد منها دون إلغاء الآخر. ولقد ظهر في المراحل الأولى أن "المعركة" هي مع الحداثة بالأساس. لكن قوة هذا التيار كانت تُظهر موقفه "المضاد" للطوائف والأديان الأخرى.
في هذا السياق يمكن توضيح وضعية جماعة الأخوان المسلمين، ومن ثم الوهابية، رغم أنه كان للجماعة "خلفية" وهابية. فقد تأسست الجماعة والوهابية كمواجه للحداثة التي بدأت تخترق المجتمع، لكن يمكن أن نلمس توضُّع كل منهما، حيث نجد أن الجماعة كانت تدافع عن "الوضع القائم" حين تشكلت، أي عن الإقطاع والنظام الملكي رغم أنها استقطبت فئات مفقرة. في هذه الحالة كانت الجماعة تتحدث باسم "الأمة"، وتعتبر أنها استمرار للإسلام الأول، وتتمسك بإسلامية الدولة. وكما أشرت كانت تتمسك بالنظام القديم، وترفض الحداثة بالطبع، وبالتالي كانت تعبّر عن النمط الاقتصادي الذي تشكّل في القرون الوسطى بعد انهيار الإمبراطورية، وترفض تجاوزه، كما ترفض تجاوز إسلامية الدولة وحكم الشريعة.
من هذا المنظور نلمس كيف أنها تعيد إنتاج العلاقات المجتمعية على أساس متقادم، جوهره التمييز الديني، حيث تقوم الدولة والعلاقات بين الأفراد على هذا الأساس. وإذا كانت تراوغ في المراحل المختلفة إلا أنها لا تماري في التأكيد على أنها تريد "تطبيق الشريعة"، الأمر الذي يعني التمييز بين المواطنين على أساس ديني. فمنظورها للواقع هو منظور "ديني" (أي المعنى "السنّي"). وإذا كانت تدافع عن النظام الاقتصادي القديم فقد غدت تعبّر عن برجوازية تقليدية متداخلة مع الرأسمال االخليجي. وهي بالتالي تطرح مشروع هيمنة هذه الفئة من البرجوازية. هذا واقعها وحدود منظورها الذي لا يصعّد التعصب ضد الطوائف أو الأديان بداية، لكنه يقيم التمييز بينها، ويعطي الحكم لها بالتحديد.
الوهابية تحمل فتاوى ابن تيمية وابن القيم الجوزية التي ترفض ليس الطوائف الأخرى (الروافض)، بل تكفر كل من لا يوافقها من السنة أنفسهم، حيث هناك كفرة وهناك مرتدون. وهي الأيديولوجية الحاكمة في السعودية، التي تفرض ظلامية مقيتة. وتتشدد بشكل "جاهلي". وإذا كانت فرضت التعصب الديني في المملكة، وحكمت باسم "الشريعة" فقد عملت السعودية على تعميمها عربياً (وإسلامياً) كجزء من فرض أيديولوجيتها المناهضة للتحرر والتطور على "العالم الإسلامي"، وكان هدفها مواجهة التحرر والتطور والحداثة. وهي الأيديولوجية التي تؤسس للقتل والإرهاب، وتقيم "الدين" بكل شكلية مفرطة، بحيث تحلل قتل الطوائف وتحارب الأديان الأخرى، وتسحق "السنة" من مطلق ضرورة خضوعهم لمبدئها، وقبولهم بسلطتها، أو يكونوا مرتدين.
هل يؤشّر ذلك الى طائفية؟
ربما كان الأمر أسوأ من الطائفية، حيث أن لهذه الرؤية المتعصبة وُجهتان، الأولى تتمثل في تكفير الطوائف والأديان الأخرى، والتحريض ضدها، والسعي لـ "قتلها"، وهذا منظور طائفي، والثانية تتمثل في تكفير المسلمين السنة أنفسهم، واعتبارهم مرتدين الى أن يعلنوا التوبة ويقدموا الطاعة، التي تعني الخضوع لمنطق الوهابية وإلتزام "قيمها".
هذا الأمر يظهر واضحاً في التنظيمات التي تقوم على أساس هذه الأفكار، خصوصاً هنا تنظيم القاعدة وداعش. حيث تستند الى هذا الميل التعصبي التكفيري، ويحولانه الى فعل ضد الآخر. لكن ربما تكون الإشارة الى هذه التنظيمات مفيدة في تحديد الترابط بين مستويات عدة، هي "الخطاب" الذي توفره الوهابية مدعومة بكل أموال النفط السعودي، ومَنْ يحتاج الى هذا الشكل من الفعل خدمة لسياسات معينة، وهنا أميركا والعديد من الدول الأخرى، ومن ثم الأفراد الذين ينخرطون في هذا المسار توهماً فيما تطرح هذه المجموعات، وهم في العادة مهمشون ومأزومون.
المنظور التحليلي
كل ما أشرت إليه يوضح طبيعة المنهجية والمصطلحات المستخدمة، التي بها يمكن فهم الظواهر المجتمعية. لهذا كانت مفاهيم: المصالح الطبقية، والاستغلال الأيديولوجي، لكن كذلك استثارة "هوية" هي شكلية في الواقع، هي المؤسِّس لمجمل الفهم الذي طُرح للتو.
هذا منظور سسيولوجي (وعلمي) للواقع، ما يميزه هو النظر لأي ظاهرة بواقعيتها وتاريخيتها، ومميزاً بين "الشكل" و"المضمون"، ويميل الى فهم كيف يمكن للشكل أن يتحوّل الى مضمون في لحظة معينة، وكيف تحول المضمون الى شكل. أي كيف كان التاريخ يلغي هوية وسمت فئات معينة لمصلحة هوية أخرى، وكيف أن هذه الهوية التي ولدت في التاريخ يعاد تحويلها الى واقع. ومن ثم إحالة سبب ذلك الى المصالح من طرف، والى التهميش (بالمعنى الاقتصادي والثقافي والمجتمعي الشامل) من طرف آخر. فمصالح البرجوازية المسيحية في لبنان كانت تفرض عليها في لحظة شعورها بالضعف أن تنفخ في خطاب حرّك مهمشين مسيحيين فقاتلوا لمصلحتها. في المقابل فإن انتصار الثورة الإيرانية وسيطرة الإمام الخميني على السلطة، ودور النظام الجديد على الصعيد الإقليمي، أوجد ميلاً لتأسيس "الأيديولوجية الشيعية"، وإنْ تحت عنوان مقاومة الاحتلال، وهذا بدوره كان يخدم تعزيز دور برجوازية شيعية.
لا شك في أن لكل فرد هويات متعددة، عائلية ومناطقية وقبلية ودينية وطائفية وطبقية وقومية، وتختلف أهمية هذه الهويات وفق وضعية الفرد ذاته، حيث يلعب التعليم والوعي عموماً دوراً في ذلك، لكن كذلك يلعب الوضع الواقعي للفرد دوراً مهماً، فيمكن لهوية مناطقية أن تضمر في حال الانتقال الى المدينة أو الانتقال من منطقة الى أخرى. والتمسك بهوية دينية يمكن أن يتراجع بفعل تراجع الحاجة إليها، ولهذا وجدنا أن تمسك الريف بالتدين شكلي، وينحصر في "العبادات"، وأحياناً بالشكل كشكل متوارث (مثل لقب العائلة). ولا شك في أن التشكّل المديني كان يسهم في تجاوز العديد من الهويات لمصلحة هويات جديدة يمكن أن تكون "محلية" أو طبقية. وأيضاً، يقود تصاعد الميل القومي نتيجة الصراع ضد "الآخر" الخارجي، أو من أجل مشروع يتعلق بالتطور، الى تجاوز التحديد بهويات غير الهوية القومية. وهذه الأخيرة ترتبط بمشروع يتضمن حل المشكلات المجتمعية، وهو الأمر الذي يجعلها تطغى فتهمش الهويات السابقة كلها.
لماذا تبقى الهويات التي نشأت في الماضي؟ في سياق التطور التاريخي نشأت القبائل والإثنيات والقوميات، وفي سياقه نشأت الأديان وتشكلت الطوائف. وكانت هوية تسود في كل مرحلة، وربما تتداخل أحياناً، أو توجد متعددة ضمن هيمنة هوية معينة. فقد كانت القبيلة هي التكوين المجتمعي الأولي، لكن تشكلت الأمم بعد إذ، ولقد تشكلت أولاً في إطار هوية أخرى، حيث كان الدين يتحوّل الى هوية. وكان الدين كذلك أيديولوجية مهيمنة في الإمبراطويات (الرومانية/ البيزنطية والعربية)، لكنه تحوّل الى طوائف بعد أن تشكلت في إطاره ميول أيديولوجية "انشقاقية". وبهذا تواجدت هويات متعددة، عمل التطور الصناعي على تجاوز بعضها (القبيلة والدين) وتكريس أخرى (القومية)، حيث هيمنت المدينة وتوضّح وجود الطبقات، ونزع المجتمع الى الفردية مما قلل من أهمية العائلة، وتحوّل الدين الى شأن شخصي، ليصبح الفرد/ المواطن هي قاعدة الدولة، والطبقات هي أساس التكوين المجتمعي، وتشكلت الدولة/ الأمة.
بهذا يصبح السؤال هو: لماذا بقيت الهويات التي نشأت في الماضي هنا؟ لماذا لا زلنا نعيش "تعدد الهويات"؟ السبب هو "العجز" عن تحقيق الانتقال الى النمط الصناعي، حيث ظل التكوين المجتمعي يراوح بين الزراعة والخدمات، رغم أن العقود الأخيرة زادت حالة التهميش بعد أن جرى "تدمير" الصناعات القائمة، وكذلك جزء كبير من الزراعة. ورافق ذلك انهيار التعليم، وبالتالي إعادة إنتاج "الوعي التقليدي" في شكل رث. والتقصُّد في تعميم "دين" متعصب وأصولي. إذن، إن عدم الانتقال الى النمط الصناعي كان يبقي البنى المجتمعية التي تشكلت في وضع إنهياري في القرون الوسطى، والتي كانت تنزع الى التطور لكن كان الاستعمار يمنع ذلك. وهذا أمر يحتاج الى بحث آخر، لكنه يوضح بأن الوضع الذي نحن فيه كان يتسم بتعدد الهويات، رغم أن القرن العشرين شهد محاولة جادة لتجاوزه نحو تشكيل الدولة/ الأمة، وبناء الصناعة، وبالتالي تشكل "المجتمع المدني". وكان فشل المحاولة هو الذي أفضى الى إعادة إنتاج تعدد الهويات، وكان واضحاً الجهد الأيديولوجي من أجل تسويد هوية محدَّدة، هي "الأصولية السنية" (الوهابية بالتحديد)، لكن كذلك الهويات الطائفية (المسيحية، الشيعية خصوصاً).
إن فشل انتصار الدولة/ الأمة القائم على انتصار النمط الصناعي هو الذي أبقى الهويات الأقدم، والتي كانت قائمة من حيث الشكل، أي كتمايز موضوعي، مع سيادة "أيديولوجية باردة" غير متحفزة لفرض ذاتها كسلطة، متحوّلة الى "طقوس" وعبادات.
هذا الأمر، حيث تعدد الهويات، هو الذي يجعل "اللعب" بهوية ماضوية ممكناً، في لحظة الركود المجتمعي، أو في لحظة غياب الأفكار التي تعبّر عن مصالح المفقرين والمهمشين. وبالتالي استغلال وضعية معينة من أجل توظيف فئات اجتماعية في مشروع هو مضاد لمصالحهم الواقعية.
المنظور الطائفي
الآن، يمكن الإشارة الى المنظور الطائفي. أشرت الى الهويات من منظور تعدديتها، ولكن كذلك من منظور نشوئها واختفائها. بمعنى أنها ليست مطلقة رغم أنه يمكنها أن تبقى لعقود طويلة. وكذلك يمكن أن "تختفي" وتعود بتظهر من جديد. هذا هو الفهم المادي للظاهرة.
وإذا كنت أن المنظور الطائفي يستند الى "الخطاب الاستشراقي"، والانطلاق من "أسسه المنهجية" في فهم الشرق، لا بد من التأكيد هنا الى أن الأمر يتعلق بمنظور مثالي حكم الرؤية لدى الكثير ممن اهتم بالشرق، وهو المنظور الذي كان يحكم الفكر البرجوازي. وهو منظور مثالي لأنه ينطلق من الشكل ومن السكون، لهذا يرى الشكل كجوهر ثابت، مطلق، أزلي. وكل الأبحاث البرجوازية هي كذلك. لكن المنظور الاستشراقي كان يستند الى الدين والطائفة والقبيلة كعنصر ثابت، ولهذا حكم تفسيره لتاريخ الشرق بهذه السمات، التي باتت "عناصر منهجية" تحكم فهم الواقع. طبعاً في ذلك خطل منهجي، لكن فيه ميل استعماري، حيث كان ضرورياً تبرير الاستعمار، وتكريس بنى متخلفة يسهل السيطرة عليها، وهي في ذاتها ضمانة مواجهة التقدم. وهو خطاب جرى تعميمه بأسماء "علماء" و"مستشرقين كبار"، كما جرى تدريسه في الجامعات في البلدان الرأسمالية، وحتى إدخاله كجزء من مناهج التدريس المحلية.
في هذا المنظور الاستشراقي يتحوّل الشكل الى جوهر، حيث يظهر التنوع ووجود أديان وطوائف (وقبائل كذلك) كوضع أزلي كان في الماضي وهو مستمر ولا إمكانية لتغييره، بل، ولفهم الشرق، لا بد من الانطلاق منه، ولتصبح هذه هي "الأسس المنهجية" التي تحكم النظر. وانطلاقاً من ذلك تفسَّر الصراعات في التاريخ كونها صراعات قبائل وطوائف وأديان، والأسوأ أنه يجري تحليل الراهن انطلاقاً من الأسس ذاتها، ويصبح "فهم" دور الدين أو الطائفة أو القبيلة أساسياً في فهم الصراعات الراهنة، وتحديد الانقسامات التي تقوم على أساسها تلك الصراعات. ولقد بنى الاستعمار منظوره للشرق متكئاً على ذلك، حيث حاول التعامل مع المجتمعات كطوائف وأديان وقبائل، وعمل على إنشاء التفكك عبر دفعها الى التصارع، ومن ثم تأسيس "دول" تأسيساً على ذلك. وهو بذلك كان يقسر الواقع على منظور أيديولوجي، قائم على فهم سطحي، لكنه يخدم مصالحه.
ولقد انتقلت هذه "المنهجية" من المستشرقين الى مفكرين وبحَّاثة مختصون بالشرق. وباتت تُعتبر بديلاً عن مناهج البحث الاجتماعي "القديمة"، خصوصاً هنا الماركسية، وحتى ماكس فيبر بات متقادماً. بمعنى أن الانطلاق من مفهوم الطائفة أو القبيلة بات هو البديل عن الانطلاق من مفهوم الطبقة أو الشعب أو المجتمع. وهو الأساس الذي قام عليه "خطاب العولمة" الذي تمحور حول كتاب صمويل هينتنغتون "صدام الحضارات"، والذي هو أصلاً "خطة" وُضعت من أجل تحقيق صدام الحضارات. والذي أنتج مفهوم "المكونات" وهو يتناول المجتمع، وكرّس مبدأ "حكم الأغلبية"، التي عنت الأغلبية بالمعنى الديني الطائفي، وحاول أن يوجد كيانات سياسية مطابقة لحدود الطوائف. وظهر كل ذلك واضحاً في العراق على ضوء احتلاله.
وإذا كان خطاب "المكونات" قد تسرَّب الى النخب الليبرالية (والسورية بالخصوص)، وأصبح يتكرر في وثائقها، وخطاباتها، فقد انتقل الأمر الى تبني "الأسس المنهجية" ذاتها، أي الانطلاق من مفهوم الدين والطائفة والقبيلة كأساس منهجي حين النظر الى الواقع.
وهذا هو الأساس الذي أنتج المنظور الطائفي، المنظور الذي ينطلق من رؤية الواقع انطلاقاً من انقسامه الى أديان وطوائف وقبائل. ولتفسّر الأحداث بالاستناد الى هذا الانقسام، وتُحدَّد المواقف بناءً عليه. ولا شك في أن العودة الى هذا المنظور تؤشر الى ميل طائفي، أي ميل لتعظيم طائفة ورفض أخرى، وتوجيه الخطاب ضدها، وقبل كل ما ينتج عن الطائفة التي يكون الشخص منها. إن الانطلاق من موقع طائفة يعبّر عن انتماء طائفي، يصبح تعصباً حين يوجه ضد الآخر. هنا الشكل يتحوّل الى مضمون، الانتماء لطائفة يودي باتهامه بالطائفية. كما يجري تفسير الأحداث والمواقف بناءً على ذلك، أي يصبح دعم طرف هو نتاج موقف طائفي مثلاً، وتحديد موقف هو نتاج انتماء طائفي كذلك.
العقل هنا يكون قد أصبح طائفياً. لهذا فهو يرى الواقع والوقائع من منطلقات "طائفية"، هي تلك الأسس التي تحكم منطوق العقل. فيسقط كل أساس لا يتوافق مع هذه الأسس، ويرفض كل تحليل لا يصبّ في منظوقها.
خاتمة
إذن، لا بد أولاً من التمييز بين الطائفة والطائفية، فالطائفة هي انتماء آتٍ من التاريخ، وهو يتآكل مع صيرورة التطور، لتحل محله هوية (أو هويات) أخرى تتساوق مع الحداثة. ويعتمد ذلك على مسار التطور الاقتصادي وتحقيق الانتقال الى النمط الصناعي، وهو النمط الذي يعيد تعريف المجتمع بذاته، وتحديد الفرد كفرد/ مواطن، والمجتمع كطبقات في إطار دولة/ أمة. وبهذا تتراجع الهويات الماضوية الى الشأن الشخصي.
ولا شك في أن "نقص التطور" الذي نشهده، والذي بدأ مع السيطرة الاستعمارية، ومن ثم فشل نظام الفئات الوسطى، هو الذي أبقى "الهويات" القديمة، وحيث كانت الميول التي تدفع نحو التطور تهمشها، لكن انهيار هذه الميول ساهم في إعادة التعويل عليها، أو إعادة تفعيلها. لكن ذلك عنصر واحد حين نتناول المسألة الطائفية. ولهذا حاولت توضيح آليات الطائفية، ومستويات وجودها. وهي مستويات تشير الى "لا ثبات" الطائفية، وأنها لا تتحول الى الهجوم إلا بتحريك ما، وبالتالي أنها ليست أصيلة أو مستمرة. وهي نتاج أزمة، في الطبقة المسيطرة أو في المجتمع. هذه المستويات هي التالي:
الأول، الطائفية هي ميل عابر، بمعنى أن وضعاً متوتراً ما، مع تحريض معيّن، يفضي الى انخراط فئات من طائفة في صراع ضد آخر تحت عنوان طائفي على اعتبار أن الآخر هو طائفة أخرى. هذه حالة فئات مجتمعية تتأثر في لحظة بخطاب طائفي فتنخرط في صراع لا تعرف أساسه والى أين سيفضي أو مَنْ سيخدم. هذه الفئات تكون مهمشة، وهامشية الوعي، وتتمسك بالشكل الديني أو الطائفي، أو يمكن أن يتمسك به في لحظة التحريض. وبهذا تُحوّل الأزمة التي يعيشها هؤلاء الى مسار طائفي، رغم أن سبب الأزمة ليس طائفياً، وأن الصراع على هذا الأساس لا يخدم حلّ الأزمة بل ربما مفاقمتها. بمعنى أن هذه الفئات تنجرّ في لحظة الى مسار طائفي رغم تعايشها السابق مع محيطها، والسبب هو وضعها المهمش والتحريض الآتي من "الخارج".
الثاني، الاستغلال الطائفي (وحتى الديني والقبلي والمناطقي)، حيث تضطر فئة ليست متدينة أصلاً، ولا تربطها علاقة مباشرة بالبنية الطائفية، الى استخدام "الخطاب الطائفي" لكي تجد قاعدة داعمة لها توظفها في صراعها من أجل مصالحها هي. هذه الفئة التي تستغل الطائفة أو الدين (وكذلك القبيلة والمنطقة) لا تخضع لمنظور طائفي بالتالي، ولا بـ "قيم" الطائفة ومصالح أفرادها، لكنها تضطر نتيجة صراعاتها الى خلق "بنية متماسكة" تتكئ عليها في صراعها، ولهذا تستخدم الخطاب الطائفي لكي تجيّش خلفها. وربما تستخدم من أجل ذلك أكثر من طائفة وأكثر من دين، فما يهمها هو أن تؤسس القوة التي تتكئ عليها.
الثالث، الطائفية كأيديولوجية، وهنا تستعاد أيديولوجية الطائفة أو الدين لكي يصاغ منها بنية أيديولوجية محورها هو العداء للآخر، لطائفة أخرى، أو لدين آخر. هنا يتحوّل الشكل الى مضمون، أي تصبح الطائفة انطلاقاً من إعادة إنتاج الأيديولوجية طائفية في مواجهة آخر بالضرورة، حيث يستعاد التصور حول الصراع الماضي وهو ما سيصبح الأيديولوجية التي يقام على أساسها الموقف من الآخر. إذن، نجد هنا أن الأيديولوجية التي كانت تسير نحو التلاشي يعاد إنتاجها والـ “تثقيف" بها، أو التعبئة بها. وهنا يتخدم التعصب طابعاً "منهجياً" وتصبح الأيديولوجية أدلجة هي وعي الفئات التي تنخرط في البنى التي تشكلها. وأيضاً هنا يصبح التعصب العابر تعصب مؤسسي. ولأن الأمر هنا يتعلق ببناء مؤسسي فإنه يميل الى فرض سلطة على المجتمع، وتطبيق منظور مفارق له. وبهذا تظهر الوحشية.
الرابع، منطق التحليل، وهو أمر يتلبّس النخب المأزومة، حيث تميل الى تبني منظور يقوم على فهم المجتمع انطلاقاً من "هوياته" المتوارثة، وتفسير الصراعات على أساس ذلك.