وهذا مدخل يوضح جوهر الإشكالية التي تطال اليسار، ليس في سورية فقط بل في كل البلدان العربية، وحتى العالم. فاليسار دخل "أزمة موت" منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، رغم أنه كان "في الصورة" فقط نتيجة وجود "وطن الاشتراكية الأول". ولقد أوضحت الثورات العربية أن اليسار "في الهامش"، ليس نتيجة سيطرة الإسلام السياسي بل نتيجة العفوية الكبيرة التي طبعت الثورات، وأشارت الى أنه حتى الإسلام السياسي ليس محركاً فيها. ويمكن التأكيد بأن هذه الثورات قد حددت الوضعية جيداً، بعد أن فرضت تجاوز اليسار القائم (أو الرائج)، وطمحت الى يسار جديد يكون نتاجاً ثورياً، أي يتشكل في "بطن" الثورات، ومن فاعليها الشباب المنتمين الى العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية.
في سورية كان النظام يُحسب على اليسار كون حزب البعث حمل مطالب اجتماعية، وحين وصل السلطة قام بتغيير كبير في النمط الاقتصادي والتكوين المجتمعي، خدم، في مرحلته الأولى، جزءاً كبيراً من الشعب. ورغم الخلاف والصراع الذي كان يحكم العلاقة بين حزب البعث والحزب الشيوعي، الذي يُعتبر "ميكانيكياً" من اليسار نتيجة الشعارات الكبيرة التي تٌلقى عليه، رغم أنه كان يحمل مطالب أبسط بكثير، ويميل الى الإصلاح وهو يسعى لتحقيق بعض المطالب الديمقراطية والمجتمعية من خلال اقتناعه بأن القيادة والمرحلة برمتها هي للبرجوازية. رغم ذلك بات الحزب الشيوعي ملحقاً بالسلطة التي أسسها البعث نتيجة احساسه بأن ما تحقق هو "أكبر مما كان يطمح ويأمل هو"، حيث أن البعث يحقق "الاشتراكية". وبهذا تراكب مع بنية الدولة من موقع التابع، وبات كثير من أعضائه جزءاً من بيروقراطيتها.
كانت يسارية البعث تتلاشى مع تعمق النهب الذي تمارسه الفئات المتحكمة بالسلطة، وكانت يسارية الحزب الشيوعي تنثلم نتيجة دفاعه عن نظام نهب. كل ذلك فرض أن يتراجع، وأن تنحسر قوته بعد أن كان قوة حقيقية، وأن يُلحق بنظم "قومية" على اعتبار أنها تحقق الاشتراكية، لكن كانت الاجراءات الاقتصادية التي قامت بها تهمشه، وتسحب منه قاعدته الاجتماعية، بالضبط لأنها حققت مطالبها. من ثم أدى "الفرز الطبقي" الذي حدث في المجتمع نتيجة النهب الذي قامت به فئة متحكمة بالسلطة، وتمركز الثروة بيد "رجال أعمال جدد" متحالفين مع البرجوازية التقليدية الدمشقية الحلبية، وانحدار وضع الأغلبية المجتمعية نحو الفقر والبطالة والتهميش، الى تمحور التوضع "الطبقي" للحزب الشيوعي، بفرعيه، في خانة بيروقراطية الدولة، وبالتالي بعيداً عن الشعب، وضده. هذا كان وضع حزبين شيوعيين نشئا عن انقسام "الحزب الأم"، والى حد ما وضع حزب ثالث انشق بعد موت حافظ الأسد واستلام بشار الأسد السلطة وراثة. من ثم لم يعد هؤلاء يسار، وإن ادعوا ذلك، وظلوا يتسمون بالشيوعية و"إلتزام الماركسية اللينينية"، رغم نوايا كثير من أعضائها، التي ظهرت في انخراط جزء منهم في الثورة بعد أن اندلعت.
في المقابل نشأت أحزاب ماركسية أخرى، بعضها منشق عن "الحزب الأم"(الحزب الشيوعي- المكتب السياسي)، وبعضها نتج عن تجربة شباب جديد تبلور في سبعينات القرن العشرين(حزب العمل الشيوعي)، وغيرها من الأحزاب الأصغر. كان حلمها يتمثل في "إسقاط النظام"، سواء طُرح الأمر مباشرة أو من خلال التأكيد على تأسيس نظام ديمقراطي. كانت مشكلتها أنها تطرح ذلك دون وجود "قاعدة اجتماعية" معنية بالصراع مع السلطة، حيث كان البعث قد غيّر التكوين الطبقي من خلال الإصلاح الزراعي والتوظيف الكامل في الصناعة الحديثة وأجهزة الدولة، وتحقيق مطالب العمال وشروط عملهم، وبالتالي حاز على قاعدة اجتماعية عريضة استفادت من التحولات التي قام بها. ولهذا كان سهلاً على السلطة سحق هذه الأحزاب بزجها في السجون لسنوات طويلة. لقد خاضت صراعها في اللحظة الخاطئة، وكان يبدو ذلك كرد فعل "نخب" لم تصل الى السلطة أو كانت تريد قدر من الدور في دولة "ديمقراطية"، أو نتيجة تمرّد شبابي ربما استثارته الثورة الطلابية في فرنسا، والثورة ضد الإمبريالية الأميركية في فيتنام. بالتالي انحصر وجود هذه الأحزاب في فئات وسطى، وربما عبّرت عن هواجس هذه الفئات. ولقد أوجد عنف السلطة تجاهها "رضة نفسية" جعلت الكثير من أعضائها ينطلق من "موقف غريزي" تجاه السلطة متجاوزاً كل "عقلانية سياسية"، بحيث بات كل ما يتصوره في السلطة مرفوضاً، ويلتزم بعكسه.
كان انهيار المنظومة الاشتراكية، وخصوصاً الاتحاد السوفيتي، مفصلاً في تحولات في المواقف. وكان تعميم خطاب العولمة الذي طرحته الإمبريالية الأميركية كتغطية على سياستها الجديدة، القائمة على التوسع العسكري والسيطرة و"حُكم العالم"، خدمةً لطغم مالية باتت هي المهيمنة في النمط الرأسمالي. كان هذا الخطاب هو "خشبة النجاة"، والانقلاب الى "الضفة الأخرى"، أي تجاوز كل مفاهيم ومصطلحات ومنظورات الماركسية نحو الليبرالية، وتركيز الخطاب على الديمقراطية. ليبدو أن هذه الفئات قد وضعت ذاتها طبقياً في "صف" الرأسمالية المهيمنة. "غرقت في عشق الغرب"، ووضعت ذاتها في "التحالف" معه، في مواجهة وضعها "الداخلي"، والنظام الحاكم. إذن تلبرلت، رغم بعض الرطانة اليسارية، أو التوصيف اليساري أحياناً، أو طغيان الخلفية اليسارية على الوضع الجديد.
ربما أشير هنا الى أن هذه هي الكتلة الغالبة من اليسار، حتى ممن كان ضمن الأحزاب المشاركة في السلطة. فقد قلب انهيار الاتحاد السوفيتي الموازين، وفتحت وحشية النظام على رفض لكل "يسارية" و"قومية" كانت تُلصق بالنظام. فقد رُفضت الاشتراكية لأن "النظام اشتراكي"، ولأنها انهارت في الاتحاد السوفيتي. ورُفضت القومية لأن "النظام قومي"، وبات الأعداء حلفاء لأنهم أعداء النظام. طبعاً كل ذلك خاطئ، وهو يشير الى فشل بنيوي في فهم طبيعة النظام وفهم الواقع، والعالم. فشل بنيوي من منظور الماركسية، لكنه يعبّر عن "ارتداد" فئات وسطى وميلها لـ "التحالف" مع "الغرب" (أي الرأسمالية المهيمنة).
يمكن أن نلمس مشكلات منهجية حكمت اليسار (وأقصد اليسار الماركسي بالتحديد، لأنه يمكن وضع أحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي في وضع اليسار)، حكمته منذ عقود، وهي التي قادت الى تفككه وتلاشيه، رغم أنه كان قوة كبيرة في سنوات سابقة (منذ أربعينات القرن العشرين الى ستيناته، ومن ثم نهوض اليسار الجديد في سبعيناته)، وجعلته يتحدد في التوضع الطبقي المشار إليه قبلاً. حيث أسّس تصوراته انطلاقاً من منظورات "جاهزة"، لم تكن مطابقة للواقع نتيجة تبعيته للاتحاد السوفيتي، ومن ثم رد الفعل الذي نتج عن ذلك إبان السبعينات من قبل اليسار الجديد. لقد كان الواقع غائباً، وحلت الشعارات محله، وسيطر منظور فئات وسطى تريد التطور الرأسمالي، أو الحداثي، محل الدور الفعلي ليسار ماركسي من المفترض أنه يطمح لتغيير النمط الاقتصادي، وحل المشكلات المجتمعية.
بمعنى أن اليسار، الماركسي بالتحديد، لم يستطع أن يعبّر عن العمال والفلاحين الفقراء، الطبقة التي بالحتم يجب أن يعبّر عنها، وينطلق من مصالحها في رسم سياساته وإستراتيجيته. بل كان المعبّر عن فئات وسطى أرادت الحداثة و"التطور البرجوازي"، أو تمردت على "سلطة برجوازية" من أجل الاشتراكية. لهذا تفكك مع التغيرات الكبيرة في التكوين المجتمعي، أو نتج كتمرد عليها من منظور سياسوي بالخصوص. ولقد أفضى انهيار الاشتراكية وانتشار خطاب العولمة الى "مراجعات" هي أقرب الى الانقلاب منها الى البحث الجدي في المشكلات التي فرضت تهميش اليسار، حيث سقطت منظومة كان الكثير منه يكررها لمصلحة منظومة أخرى صنعتها العولمة. وهذه المراجعات كانت تفضي الى تفكك أيديولوجي أو الى انقلابات كبيرة نحو الليبرالية، وليس الى إعادة بناء المنظور والرؤية، بالضبط لأن المنهجية كانت غائبة، وغيابها هو الذي فرض السياسات الخاطئة، ومن ثم حدوث الانقلاب الأيديولوجي الكبير.
الآن، في سورية أحزاب لا زالت في السلطة بعد سنوات خمس من الثورة، ومن وحشية أظهرتها، وهي بالتالي لن تكون إلا جزءاً من السلطة. وهناك أحزاب تريد أن تكون في السلطة وفي معارضتها معاً، مثل حزب الإرادة الشعبية. وفي هذا المجال هناك دوغما تحكم البعض، مثل الحزب الشيوعي (الأم)، حيث لا زال يكرر الخطاب القديم ذاته، رغم أنه في وضع معادً للشعب. ودوغما "ضد الإمبريالية" تحكم أحزاب السلطة من الشيوعيين، وهي التي تبرر دفاعهم عن سلطة مافيا مستبدة ووحشية. وكل هؤلاء لن يكونوا يساراً انطلاقاً من موقفهم الطبقي، بل هم جزء من السلطة التي تمثل مافيا رأسمالية، نهبت الاقتصاد وتحكمت بمؤسسات الدولة. هم هنا بالضبط كأتباع لتلك المافيا، رغم كل التاريخ النضالي للعديد منهم.
من طرف آخر هناك أحزاب في المعارضة كان بعضها يسارياً وتحوّل الى الليبرالية والتعلق بـ "الغرب" كـ "قيم"، ولكن أساساً كسياسات. ولقد نسج كل تحالفاته على هذا الأساس، بحيث اشتغل على توحيد "الكتلة الليبرالية" في المعارضة، والتوحد مع جماعة الإخوان المسلمين (إعلان دمشق). وهذه الكتلة هي التي عملت على نقل المعارضة خارج سورية بعد بدء الثورة، وأسست "المجلس الوطني السوري" التابع لتحالف قطر وتركيا وفرنسا، لكي يكون بديلاً للنظام. أقصد هنا حزب الشعب الديمقراطي خصوصاً، والعديد من اليساريين الذين انخرطوا في هذا المسار. بينما توحدت مجموعات يسارية (ماركسية وقومية) في تحالف آخر هو "هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي"، التي مالت الى ألا تواكب الحراك بتركيزها على الإصلاح، وطرحت التغيير بعد أن كان الوضع الشعبي قد تجاوزها. وبرز هنا حزب العمل الشيوعي وبعض القوى الصغيرة.
كل هذه السياسات أوضحت اغتراب الأحزاب عن الواقع، وتشرنقها بعيداً عن الصراع الطبقي. وهو ما يعيد طرح مشكلة ماركسيتها، التي ظهر أنها مسحة سطحية سياسوية، لم تهضم المنهجية الماركسية بل ظلت تفكر انطلاقاً من المنطق الصوري ومبدأ القياس، الذي لا يسمح سوى بمعرفة "الأشكال" دون لمس الجوهر. لقد بدأت الثورة وهي تفكر في الإصلاح، أو في الانتقام. وتشكلت كبنى معارضة بعيداً عن الشعب الذي يخوض الصراع. ولم تطرح ما هو جدير بماركسي قبل وخلال الثورة: أي تحقيق مطالب المفقرين وتأسيس الجمهورية الديمقراطية. ومن ثم العمل على قيادة الصراع "على الأرض". لهذا أتت الثورة لتضع الشاهد على قبر حُفر منذ زمن لكي ينتهي يسار قديم بات عالة على اليسار. الثورة حققت القطع مع يسار تشكل منذ عقود (تاريخ الحزب الشيوعي هو 92 سنة)، وأهالت التراب عليه.
ما يجب البحث فيه هو كيف يتأسس يسار جديد. هذا الذي يعتمر الثورة، حيث أفضى انخراط شباب جديد في الثورة الى مخاض يفرض تبلور الوعي والرؤية والهدف. اليسار سينشأ من هنا، حاملاً كل مكنونات الثورة، ومحدِّداً مسارها والطريق الى السلطة، بالضبط لكي ينهي النمط الاقتصادي السياسي القائم، ويفتح على مسار تطوري ثوري يحقق المطالب الشعبية. اليسار يولد في الصراع، ويحمل كل ما يحتاجه الصراع لكي ينتصر المفقرون.