صراع الفرقاء على تركة تنظيم الدولة في الشمال السوري
تحاول الورقة استعراض طبيعة الصراع السوري المسلح بعد انتهاء معركة الباب بين الأطراف المحلية الأربعة، المتمثلة في تنظيم الدولة وقوات درع الفرات وقوات غضب الفرات وقوات النظام السوري.
كما تحاول الورقة صياغة فهم محدد لطبيعة تلك القوى الفاعلة في الصراع واستراتيجياتها، إضافة إلى تأثير العاملين الإقليمي الذي تمثله تركيا، والدولي الذي تمثله الولايات المتحدة وروسيا.
وتستعرض الورقة بشيء من الإيجاز طبيعة تشكيل الأطراف الفاعلة في الصراع، والدور المحلي الذي تلعبه وارتباطاته بسياسات الأطراف الإقليمية والدولية.
وتخلص الورقة إلى احتمالات تصاعد حدة الصراع بين الأطراف الثلاثة لاستعادة مدينة الرقة من الطرف الرابع الذي يمثله تنظيم الدولة، وتعقيدات العلاقة بين الأطراف الثلاثة واختلاف أهدافها وتعارضها، وأثر العاملين الإقليمي والدولي في ذلك التعقيد الذي سيؤثر حتما على مجريات معركة الرقة لصالح تنظيم الدولة في الغالب.
وتؤكد الورقة على أن الصراع السوري دخل مرحلة جديدة ما بعد معركة الباب عنوانها الأول التنافس والصراع على تركة تنظيم الدولة.
مدخل لفهم صراع الأطراف المحلية وتداعياته إقليمياً ودولياً:
لا يمكن النظر إلى ما يجري في سورية من صراعات إقليمية ودولية بعيداً عن متغيرات طرأت على بلدان المشرق العربي خلال السنوات الماضية؛ منها السعي الإيراني لفرض الهيمنة والنفوذ الإقليمي عليها، وعودة الدور الروسي إلى المنطقة، والعالم إلى حدٍّ ما؛ كما زاد التدخل الأمريكي في إعادة صياغة خريطة المنطقة مُنذ غزو العراق واحتلاله في 2003، وما نجم عنه من ظهور تنظيماتٍ مسلحةٍ ذات قدرات قتالية عالية باتت عاملاً مؤثراً في مجريات الأحداث، مثل تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية.
ومع تعدد الأطراف الفاعلة في ميدان الصراع السوري زادت الأزمة تعقيداً، وابتعدت كثيراً عن إمكانية الحسم العسكري لطرفٍ ما على حساب الأطراف الأخرى، كما عقّدت كثيراً من إمكانية التوصل إلى حل سياسي للأزمة عن طريق حوار سوري بين النظام والمعارضة.
ومع تعدد الأهداف التي لم يعد فيها إسقاط النظام على رأس الأولويات، تتعدد مصالح تلك الأطراف وتتناقض حتى داخل المكون العرقي أو الطائفي أو داخل التحالفات المسلحة، أو ما يتعلق بالأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الصراع السوري، الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران التي تلتقي جميعاً مع الحلفاء المحليين لكلّ طرفٍ على هدفٍ مشترك يتمثل في هزيمة تنظيم الدولة، والقضاء عليه.
في مواطنَ عدّة، تتكامل أهداف الولايات المتحدة مع الأهداف التركية في سورية، كما تتناقض في مواطن أخرى؛ وهناك ثمّة قوى أخرى متفقة مع الأهداف الأمريكية التركية المشتركة لقتال تنظيم الدولة تمثلها فصائل من الجيش السوري الحر وفصائل إسلامية والقوات الكردية؛ وهناك أيضاً، روسيا وإيران واللتان تتمثلان بقوات النظام والمجموعات الشيعية المسلحة.
وتركز الولايات المتحدة بشكلٍ ثابت على جانبٍ واحدٍ من جوانب الصراع المتعلق بقتال تنظيم الدولة مع محاولة الموازنة في علاقاتها وتحالفها مع كلٍّ من الطرفٍين المتضادين، تركيا وقوات سورية الديمقراطية.
وفيما يتعلق بتداعيات معركة الباب والاستعدادات لمعركة الرقة، ترى تركيا في أيّ تواجد للقوى الكردية غرب نهر الفرات تهديداً لأمنها القومي، وتزداد ريبة الطرفٍ التركي مع محاولات الولايات المتحدة استبعاده من العمليات العسكرية في الرقة، أو السماح له بالمشاركة في مناطق بعيدة عن المدينة، والإصرار في الاعتماد على قوات سورية الديمقراطية كحليفٍ موثوق.
في أوقاتٍ سابقة، قطعت الولايات المتحدة عدد من التعهدات في مناسباتٍ عدّة تقضي بدفع القوى الكردية للانسحاب من مدينة منبج والمناطق الأخرى غرب الفرات، لكنّ القوى الكردية لمْ تنسحب حتى بعد مرور أكثر من نصف عام على استعادة المدينة؛ ومن المستبعد أنْ تنفذ القوات الكردية انسحابها نظراً لأهمية الموقع الجغرافي للمدينة، وعلاقته باستراتيجيات القوى الكردية في توحيد الكانتونات الكردية الثلاثة التي تقع في محاذاة الشريط الحدودي التركي.
تتطلع الأطراف المحلية، قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية وقوات النظام إلى السيطرة على مدينة الرقة، ويرفض كل طرف القبول بمشاركة الأطراف الأخرى للسيطرة على المدينة؛ وتعوّل الولايات المتحدة المعنية الأولى باستعادة مدينة الرقة على قوات سورية الديمقراطية في استعادة المدينة بالدرجة الأولى؛ لكنّ أياً من هذه الأطراف الثلاثة ليست مؤهلة للسيطرة على المدينة بشكلٍ منفرد لافتقارها إلى الموارد الكافية في مواجهة تنظيم الدولة الذي يتحصن في المدينة.
ظلّت الولايات المتحدة مترددة بين مشاركة تركيا والقوات الكردية معاً في معركة استعادة الرقة، لكنّها في كلّ الأحوال تفضل خيار الاعتماد على الأكراد في التقدم نحو الرقة وعزلها، وإعطاء مهمة اقتحام المدينة إلى قوات التحالف العربي (أحد تشكيلات قوات سورية الديمقراطية، الذي يتكون من مقاتلين عرب).
وتواصل الولايات المتحدة مفاوضاتها مع تركيا حول مشاركتها في العملية مع غياب رؤية أمريكية واضحة "حول مشاركتها من حيث العدد" إلى جانب "أكراد الرقة وأكراد محليين وقومياتٍ أخرى"[1]، وهو ما ترفضه تركيا التي تصنِّف وحدات الحماية الشعبية التي تقود قوات سورية الديمقراطية كمنظمةٍ إرهابية لا يمكن التنسيق معها.
تتلخص الرؤية التركية في "العمل مع الحليف الأمريكي لتطهير مدينة الرقة من تنظيم داعش وإعادتها إلى سكانها الأصليين، دون مشاركة القوات الكردية السورية"[2]، وترى تركيا أنَّ أيّ سيطرة لقوى كردية على مدينة الرقة سيكون عامل تفجر صراع عرقي في المدينة التي يغلب على سكانها الانتماء العربي السُنّي.
القوى الفاعلة في الصراع على الرقة:
أولاً: تنظيم الدولة الإسلامية
يواجه تنظيم الدولة بمفرده تحالفاَ محلياَ وإقليمياَ ودولياَ واسعاَ مُنذ أحداث الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014؛ ويلتقي هذا التحالف على هدفٍ مشترك يتمثلُ في هزيمة التنظيم والقضاء عليه، وهو تحالف يضم أطرافاً متنافسةً وأحياناً متحاربة؛ ويهدف التحالف إلى استعادة الأراضي والمدن التي سيطر عليها التنظيم في العراق، وفي سورية أيضاً مُنذ إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام في 9 أبريل/نيسان 2013.
طيلة مسيرة الحرب على تنظيم الدولة خسر التنظيم مساحاتٍ واسعةٍ من أراضي سيطرته في العراق وسورية تصل إلى "أكثر من 62% من مجموع المساحات التي كان يسيطر عليها في يونيو/حزيران 2014 في العراق، و30% من الأراضي التي يسيطر عليها في سورية"[3]، كما خسر أعداداً كبيرةً من مقاتليه وقياداته؛ ووفقاً لتقديرات أمريكية يبلغ "العدد الإجمالي لعناصر تنظيم الدولة في سورية والعراق ما بين 12 إلى 15 ألف عنصر"[4]، وتُشير تقديرات القادة الأمريكيين إلى حوالي 3500 عنصر منهم لا يزال في مدينة الرقة.
وفي مدينة الرقة، عاصمته المفترضة ومعقله الأهم في سورية، يواجه التنظيم ضغوطاً عسكريةً متزايدة من قواتٍ بريةٍ محلية مدعومةٍ بطائرات التحالف الدولي، ما أجبره على الانسحاب من خطوط دفاعاته الأمامية في مواجهة قوات سورية الديمقراطية والتراجع في أحد النقاط إلى حوالي 6 كيلومترات عن مركز المدينة للدفاع عنها في المعركة المُنتظرة على أسوارها، أو في داخلها.
ثانياً: قوات غضب الفرات
مُنذ قيام التحالف الدولي في 7 أغسطس/آب 2014، وتنفيذ أولى ضرباته الجوية في 23 سبتمبر/أيلول 2014 على مواقع لتنظيم الدولة في الأراضي السورية، تبنّت الولايات المتحدة الاعتماد على القوى الكردية كحليفٍ موثوقٍ به في قتال تنظيم الدولة؛ وفي كلّ معاركها، تلقت القوى الكردية دعماً جوياً من طيران التحالف مكّنها من فرض سيطرتها على مساحاتٍ واسعةٍ من شمال شرقي سورية وشمالها بدءً من معركة عين العرب (كوباني) إلى معركة الرقة التي أعلنت قوات سورية الديمقراطية عنها في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
تراوح عدد قوات سورية الديمقراطية وفق تقديرات من مصادر مختلفة إلى نحو 15 ألف مقاتل في 2015، لكنّ عمليات التجنيد الإلزامي الذي أقرّته الإدارة الذاتية، والتطوع الاختياري، ضاعف عددهم إلى أكثر من 30 ألف مقاتل أواخر 2016، وهو مجمل عدد المقاتلين الذين ينتمون إلى هذه القوات ويؤدون مهام قتالية.
وفي 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، انطلقت عملية غضب الفرات في مرحلتها الأولى للسيطرة على الريف الشمالي وعزل مدينة الرقة، بمشاركة "أكثر من 30 ألف مقاتل إلى جانب 200 جندي أمريكي يشاركون على الأرض في حملة تحرير الرقة، التي بدأت بدعم مكثف من التحالف الدولي"[5]؛ في حين "تشير التقديرات لوجود 3500 مسلح من تنظيم الدولة بالرقة"[6].
وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 2016 أعلنت قوات سورية الديمقراطية عن المرحلة الثانية من عملية غضب الفرات للسيطرة على ريف الرقة الغربي، واستعادت هذه القوات في المرحلتين الأولى والثانية مساحاتٍ واسعةٍ من مناطق سيطرة تنظيم الدولة في ريفي الرقة الشمالي والغربي.
في 4 فبراير/شباط 2017 أعلنت قوات سورية الديمقراطية المرحلة الثالثة من عملية غضب الفرات بهدف السيطرة على ريفي شرق مدينة الرقة وشمال شرقي المدينة والسيطرة على ما تبقى من مناطق الريف الغربي للاقتراب أكثر من المدينة، وقطع طرق الإمداد بين العراق وسورية وفق الخطة الأمريكية التي كشف عنها وزير الدفاع الأمريكي السابق آشتون كارتر بعد أسبوع من بدء معركة الموصل لتسريع "الاستعدادات لمعركة تحرير الرقة وتداخلها مع معركة الموصل"[7] قبل استكمالها.
وقد شنّت قوات سورية الديمقراطية هجوماً واسعاً خلال المرحلتين الثانية والثالثة من محورين؛ ففي المحور الأول ضمن عمليات المرحلة الثانية من غضب الفرات للفترة من 10 ديسمبر/كانون الأول 2016 وحتى غاية 12 يناير/كانون الأول 2017، سيطرت قوات سورية الديمقراطية "على 133 قرية وعشرات المزارع والتلال الاستراتيجية، وبمساحة تقدر بـ 2144 كيلومترا"[8].
أما في المحور الثاني من جهة بلدة عين عيسى، 55 كيلومتراً شمال شرقي الرقة في الجانب الشرقي من نهر الفرات، فقد "سيطرت قوات سورية الديمقراطية على 98 قرية شمال شرقي الرقة بعد 13 يوماً من بدء المرحلة الثالثة من عملية غضب الفرات"[9].
مقاتلان من قوات سورية الديمقراطية
وتتمركز قوات سورية الديمقراطية في المرحلة الثالثة من عملية غضب الفرات على مسافة حوالي 6 كيلومترات شمال شرقي الرقة لقطع طريق الرقة إلى ريف الحسكة والريف الشمالي الغربي لمحافظة دير الزور؛ فيما وصلت قوات سورية الديمقراطية إلى أقل من 30 كيلومتراً عن المدينة من المحورين الغربي والشمال الغربي، حسب خريطة لمركز نورس للدراسات في 2 مارس/آذار 2017.
ثالثاً: قوات درع الفرات
أطلقت تركيا عملية درع الفرات في 24 سبتمبر/أيلول 2016 بتحالف واسع من فصائل المعارضة السورية المسلحة مدعومة بقواتٍ بريةٍ تركيةٍ ودبابات وقوة خاصة بالمدفعية الثقيلة لتأمين حدودها الجنوبية من تهديدات تنظيم الدولة، وتقطيع أوصال الكانتونات الكردية الثلاثة، إضافةً إلى التمهيد لإقامة منطقة آمنة مساحتها نحو 5000 كيلومتر مربع في العمق السوري على مسافة أكثر من 100 كيلومتر بمحاذاة الشريط الحدودي وبعمق يصل إلى 50 كيلومتراً في أراضٍ بعضها يخضع لسيطرة تنظيم الدولة، أو قوات سورية الديمقراطية.
وتتشكل قوات درع الفرات من خليط من الجهات المسلحة الفاعلة من الجيش السوري الحر وبعض الفصائل الإسلامية المعتدلة، ويلتقي الجميع على قتال تنظيم الدولة؛ كما تضم مقاتلين محليين من أبناء المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وقد التحقوا إلى هذه القوات لاستعادة مدنهم أو طلباً للراتب الشهري، ومن بين هذه الفصائل سبق أنْ تلقى مقاتلوها تدريباتٍ على يد مدربين أمريكيين، مثل لواء الحمزة واللواء 99 ولواء المعتصم وغيرها من الفصائل المتخصصة بقتال التنظيم فقط.
في مواجهة الطموحات الكردية، تستثمر تركيا تحالفاتها مع فصائل من المعارضة السورية المسلحة المنضوية تحت مسمى قوات درع الفرات للحد من سيطرة الأكراد على جغرافية متصلة، وبالتالي تعطيل قيام الكيان الكردي الذي ترى فيه تركيا تهديداً لأمنها القومي ووحدة أراضيها.
وتسعى تركيا إلى نفوذٍ قوي في العمق السوري على طول حدودها الجنوبية غرب الفرات في المرحلة الراهنة، لتأمين مدنها الحدودية بشكلٍ كاملٍ من هجمات تنظيم الدولة أو حزب العمال الكردستاني انطلاقاً من الأراضي السورية.
وفي 23 فبراير/شباط 2017 سيطرت قوات درع الفرات على مدينة الباب، أقل من 50 كيلومتراً شمال شرقي حلب، و50 كيلومتراً جنوب غربي مدينة منبج التي تسيطر عليها وحدات الحماية الشعبية.
وتشكل مدينة منبج القريبة من مدينة الباب أهميةً جغرافية للإقليم الكردي الذي ترى فيه تركيا تهديداً لأمنها القومي مما دعاها إلى الطلب من الولايات المتحدة بالتدخل لانسحاب قوات سورية الديمقراطية من المدينة، وباقي الأراضي الخاضعة لسيطرتها في مناطق غرب الفرات إلى شرق النهر؛ وتعهدت الولايات المتحدة بالضغط لتلبية الطلب التركي، لكنّ قوات سورية الديمقراطية لا تزال في مدينة منبج ومناطق أخرى قرب مدينة الباب على تماسٍ مباشر مع قوات درع الفرات والقوات التركية.
تركز استراتيجيات قتال قوات درع الفرات على قتال تنظيم الدولة في مناطق سيطرته، وتحاول تعزيز سيطرتها على مدينة الباب قبل انتقالها إلى استعادة مدينة منبج وبعدها مدينة الرقة، كما أعلنت تركيا؛ لكنّ هذه القوات والقوات التركية المساندة لها لا تزال شبه محاصرة في مدينة الباب بقوات النظام السوري من الجنوب وقوات سورية الديمقراطية من الشمال والشرق.
رابعاً: قوات النظام السوري
على المدى البعيد، يتبنى النظام السوري استراتيجية استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، وتندرج في اطار هذه الاستراتيجية حملات عقد اتفاقيات ثنائية مع الفصائل لتثبيت هدنة بينهما في هذه البلدة أو تلك، وفق شروط ثابتة تتمثل في تسليم المقاتلين أسلحتهم ومغادرة بلداتهم إلى مناطق أخرى خارج سيطرة قوات النظام، أو تفضيل البقاء في بلداتهم والالتحاق في صفوف أفواج الدفاع الوطني أو تشكيلاتٍ أخرى، أو القتال ضمن وحدات الجيش السوري للمتخلفين عن الخدمة الإلزامية ممن هم في سن التجنيد مقابل عدم الملاحقة القانونية بما يعرف بتسوية أوضاع المسلحين.
استراتيجية استعادة كامل الأراضي السورية تُشكل عاملاً مشتركاً في الجهود التي تبذلها روسيا وإيران للحد من نفوذ الولايات المتحدة وتركيا على الأراضي السورية، بشكلٍ مرحلي يُمهد لإنهاء هذا النفوذ والقضاء على القوى المحلية المتحالفة مع الولايات المتحدة وتركيا في مرحلةٍ لاحقة.
ويحاول النظام السوري أنْ يكون لاعباً فاعلاً على الأرض في جبهات الباب والرقة؛ ومُنذ 2 يونيو/حزيران 2016 أطلق النظام السوري عملية عسكرية تستهدف استعادة السيطرة على مدينة الرقة بوحدات من الجيش والمجموعات شبه العسكرية المتحالفة معه بدعم جوي روسي، واستطاعت قوات النظام استعادة قرى وبلدات وصولاً إلى حوالي 35 كيلومتراً من مفرق سد الطبقة في 7 يونيو/حزيران 2016.
ومُنذ سيطرة قوات درع الفرات على مدينة الباب، استطاعت قوات النظام السيطرة على مساحات واسعة انسحب منها التنظيم بعد اشتباكاتٍ محدودةٍ مع قوات درع الفرات، مما خلق خطوط تماس جديدة وسّعت من رقعة المساحات التي يُسيطر عليها النظام، باتجاه سد الطبقة ومدينة منبج التي وسّعَ نطاق سيطرته عليها بعد تسليم المجلس العسكري لمدينة منبج وريفها مناطق جديدة لقوات حرس الحدود التابعة لقوات النظام.
اقتربت قوات النظام صيف 2016 إلى ما بين 28 كيلومترا و35 كيلومترا عن مدينة الطبقة وسد الفرات بهدف معلن لاستعادة السيطرة على مدينة الرقة، لكنّ هذه القوات توقفت عن التقدم نتيجة النقص الحاد في الموارد البشرية، وحاجة النظام إليها لقتال المعارضة السورية في معارك حلب، ولذلك تسعى قوات النظام حاليا لاستثمار نهاية معركة حلب والسيطرة على تدمر لتعزيز مواقعها الحالية للتقدم في مرحلة لاحقة إلى مدينة الطبقة، حيث تتمركز قوات النظام على مسافة تصل إلى 40 كيلومترا شرق مدينة الباب على التماس مع قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية، وحوالي 80 كيلومترا إلى الشمال الغربي من مدينة الطبقة في منطقة جب الخفي.
من الناحية العسكرية، فان سيطرة قوات النظام على مدينة الطبقة وسد الفرات يعني التحكم الطرق المؤدية إلى مدينة الرقة لكل من قوات درع الفرات القادمة من مدينة الباب، أو قوات سورية الديمقراطية القادمة من مدينة منبج.
وفي استراتيجيات النظام تبدو مدينة الطبقة والسد أكثر أهمية من مدينة الرقة نفسها في ما يتعلق بالصراع المسلح الذي تخوضه لاسترداد سيطرتها على كل الأراضي السورية، اذ يمكن لتفاهمات مع القوات الكردية ان تعيد سيطرة النظام على مدينة الرقة مستقبلا، حيث تتعايش القوتان في أكثر من منطقة، مثل مدينة منبج مؤخرا، أو محافظة الحسكة منذ الأشهر الأولى من الثورة السورية رغم ان علاقاتهما مرت بفترات توتر واشتباكات سرعان ما تم الاتفاق على وقفها.
اما القوة الثانية، وهي قوة درع الفرات والتي في حال عدم الاتفاق على ان تلعب دوراً في استعادة مدينة الرقة تنفيذا للخطة الامريكية باعتمادها إلى جانب العنصر العربي داخل قوات سورية الديمقراطية، فإن هذه القوات قد لا ترفض فكرة سيطرة قوات النظام على مدينة الرقة بعد استعادتها من تنظيم الدولة، وهي رؤية تنطلق من الموقف التركي الذي لا يرفض سيطرة قوات النظام على الأراضي السورية[10]، طالما ان هذه السيطرة لا تتعارض مع الهدفين الاستراتيجيين للتدخل التركي، منع إقامة كيان كردي متصل جغرافيا مع حدودها الجنوبية، وهزيمة تنظيم الدولة والقضاء على تهديداته.
المسار العسكري:
شهدت الأيام التي أعقبت سيطرة قوات درع الفرات على مدينة الباب في 23 فبراير/شباط 2017 انسحاب مقاتلي تنظيم الدولة من القرى والبلدات إلى الشرق من المدينة، وهي مناطق تقدمت إليها قوات النظام لشغل الفراغ الذي أحدثه التنظيم؛ وتحاول قوات النظام ربط هذه المناطق جغرافيا مع مناطق سيطرتها في مناطق قريبة من سد الطبقة، 40 كيلومتراً غرب الرقة، ونحو 130 كيلومتراً جنوب شرقي مدينة حلب.
انسحاب تنظيم الدولة من مناطق أخرى شرق مدينة الباب خلق واقعاً من التنافس بين قوات النظام وقوات درع الفرات، وصراعاً على تركة أراضيه التي باشر الانسحاب منها دون قتال؛ واشتبكت فصائل محددة منضوية تحت قوات درع الفرات مع قوات النظام السوري دون دعم من القوات التركية أو طيران التحالف الدولي بعد انسحاب تنظيم الدولة دون قتال من بلدة تادف، 4 كيلومترات جنوب شرقي مدينة الباب، وبقاء البلدة خالية من تواجد أيّ قواتٍ عسكرية لحوالي عشرين ساعة قبل أن تسيطر عليها قوات النظام.
وفي مطلع مارس/آذار 2017 اشتبكت على نطاق محدود قوات سورية الديمقراطية مع قوات درع الفرات في ريف حلب الشرقي للسيطرة على مناطق جديدة ورسم خطوط تماس جديدة تحول دون وصول قوات درع الفرات إلى مدينتي منبج والرقة.
مقاتلون من الجيش التركي داخل الأراضي السورية
وتخشى قوات سورية الديمقراطية من زيادة نطاق الاشتباكات وتداعياته على عمليات استعادة مدينة الرقة؛ وللحيلولة دون تقدم قوات درع الفرات باتجاه منبج سلَّم المجلس العسكري مناطقَ عدة من منبج وريفها إلى حرس الحدود التابع لقوات النظام على طول خط التماس مع قوات درع الفرات لوقف الاشتباكات وفق تفاهم روسي تركي بعدم الصدام بين الطرفٍين، إضافةً إلى أنَّ قوات سورية الديمقراطية لا تميل كثيراً إلى الصدام المسلح مع قوات النظام وتُفضل خيار التفاهم السياسي مع النظام.
ومع تزايد خطر نشوب صراع مسلح مفتوح بين قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية؛ تؤكد الولايات المتحدة على دعمها لهذه القوات، وردع أيّ هجومٍ يستهدف مدينة منبج، وقد اتخذت المزيد من الخطوات العملية لمنع أيّ تقدم باتجاه المدينة؛ ونشرت القوات الأمريكية بضع مئات من "الجنود والمدرعات على خط نهر الساجور، وهو الخط الفاصل بين قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية شرق مدينة منبج"[11]؛ وجاءت الخطوة الأمريكية بعد عدّة أيام من سيطرة قوات درع الفرات على مدينة الباب، وإعلان تركيا إنّ استعادة مدينة منبج ستكون المحطة التالية للفصائل الحليفة لها؛ ومؤخراً دفعت القوات التركية المزيد من التعزيزات العسكرية إلى مدينة الباب في الأسبوع الأول من مارس/آذار 2017.
الخيارات المتاحة وآفاق الصراع:
للتوفيق بين موقفي قوات سورية الديمقراطية وقوات درع الفرات بانفراد كلٍّ منهما في عملية استعادة مدينة الرقة دون مشاركة الطرفٍ الآخر، قد تجد الولايات المتحدة حلاً يقضي بنشر القوتين في نطاقين جغرافيين إثنين تقوم في أحدهما التشكيلات الكردية في قوات سورية الديمقراطية بالسيطرة على أراضٍ حول مدينة الرقة دون الدخول إليها، أما النطاق الجغرافي الثاني فتتشكل قوته من قوات درع الفرات والتحالف العربي الذي يتكون من مقاتلين عرب يُقاتلون ضمن قوات سورية الديمقراطية.
وترغب الولايات المتحدة أنْ يكون التحالف العربي هو قوة الاقتحام لمدينة الرقة لانسجامه مع التركيبة السكانية، العرقية والطائفية والعشائرية، لغالبية سكان المدينة الذين يغلب على انتمائهم العنصر العربي السُنّي، وهو ما يحدّ من احتمالات اندلاع صراعاتٍ بين الأطراف الحليفة للولايات المتحدة على خلفيات عرقية؛ وتشدّد وزارة الدفاع الأمريكية على إنَّ "الجهة الوحيدة في سورية التي تزودها الولايات المتحدة بالأسلحة هي التحالف العربي السوري، الفصيل العربي الوحيد داخل قوات سورية الديمقراطية"[12].
ووفقاً للخطة الأمريكية، ستكون مهمة مقاتلي التحالف العربي السوري النهائية اقتحام مركز المدينة، واستلام الملف الأمني وإدارتها مستقبلاً دون مشاركةٍ كردية؛ وهو ما يتوافق مع الخطط الأمريكية لتجنب توتر العلاقات مع تركيا التي تُصرُّ على عدم القبول بمشاركة كردية في اقتحام المدينة لتجنب إثارة التوترات العرقية بين الأكراد المناوئين لها والقوى العربية الحليفة لها.
نتائج وتوقعات:
تُشكل عملية إحكام السيطرة على مدينة الباب من قبل القوات التركية وقوات درع الفرات، خطوة متقدمة لمتابعة الاستراتيجيات التركية لاستعادة مدينة منبج وإجبار القوات الكردية على الانسحاب إلى شرق نهر الفرات؛ لكنّ هذه الاستراتيجية تصطدم بالموقف الأمريكي الذي لا يسمح بمهاجمة مدينة منبج، كما قام بنشر المزيد من قواته التي تُسيّر دورياتٍ مشتركة مع قوات سورية الديمقراطية على الطريق البري بين مدينتي منبج والباب.
- من المستبعد أن تتحول الاشتباكات بين قوات درع الفرات وقوات غضب الفرات إلى صراعٍ مسلحٍ مفتوح، إلاّ إذا أصرَّت تركيا على قرارها في السيطرة على مدينة منبج، وهو أمرٌ مستبعدٌ في المرحلة الراهنة.
- من المتوقع أن تلجأ تركيا إلى خيار العمل الدبلوماسي المكثّف مع الولايات المتحدة للضغط على القوات الكردية للانسحاب إلى شرق الفرات؛ وليس هناك ما يشير إلى جدّية الولايات المتحدة في هذا الاتجاه، أو استعداد القوات الكردية للانسحاب.
- من غير المتوقع أن تشهد علاقات قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية صراعاً مسلحاً مفتوحاً خارج نطاق سيطرة كلّ من تركيا والولايات المتحدة؛ مع احتمالاتٍ ضعيفة باستمرار الاشتباكات بينهما في نطاقٍ ضيقٍ ومحدودٍ جداً بين تشكيلٍ أو أكثر من قوات درع الفرات والقوات الكردية دون أنْ يكون اشتباكاً مصنفاً على أنّه اشتباك واسع بين قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية.
- ستكتفي القوات التركية والفصائل الحليفة لها بالبقاء في مدينة الباب، وعلى عمقٍ محددٍ على الشريط الحدودي بين بلدات جرابلس والراعي وإعزاز التي تتمركز على خطوط التماس إلى الجنوب من البلدات الثلاث كلّ من قوات النظام والقوات الكردية.
- على المدى البعيد، سيكون تواجد الأتراك وقوات درع الفرات تواجداً لا يتناسب، مع كلفة تواجد تلك القوات واستمرار رعاية ودعم الفصائل المتحالفة معها في قوات درع الفرات؛ الأمر الذي قد يدفع إلى عقد تفاهمات تركية مع الولايات المتحدة وروسيا لسحب قواتها مع مكاسب محددة، ومحدودة جداً، للفصائل المتحالفة معها.
- سيكون على تركيا في مرحلة متقدمة من إصرارها على مشاركة قوات درع الفرات كقوة أساسية، أو وحيدة في استعادة مدينة الرقة، عقد تفاهمات مع النظام السوري بشكل مباشر، أو عن طريق الوسيط الروسي؛ وفي الجانب الآخر، قد تكون هناك تفاهماتٍ مباشرة مع قوات سورية الديمقراطية عن طريق الولايات المتحدة لتجنب الصراعات المسلحة المتوقعة مع قوات النظام، أو القوات الكردية.
ومع استبعاد احتمالات صراع مسلح مفتوح بين قوات درع الفرات وقوات سورية الديمقراطية، لكنّ من شأن حدوث صراع ٍكهذا تأخير عملية استعادة الرقة بما يتيح لتنظيم الدولة المزيد من الوقت لتعزيز دفاعاته، والاستفادة من دروس مراحل عملية غضب الفرات الثلاث، مع احتمالات تحقيق مكاسب جديدة في السيطرة على مناطق أخرى، أو استعادة المناطق التي خسرها مُنذ انطلاق العملية العسكرية.
الهوامش:
[1] البنتاغون: تركيا والأكراد يمكن أن يشاركوا في تحرير الرقة، روسيا اليوم، 1 مارس/آذار 2017 انظر الرابط.
[5] "سوريا الديمقراطية" تطلق تحرير الرقة بمشاركة 30 ألف مقاتل و200 جندي أمريكي، روسيا اليوم، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 انظر الرابط.
[6] "سوريا الديمقراطية" تتقدم تجاه الرقة بغطاء من التحالف، الجزيرة نت، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 انظر الرابط.
[7] أمريكا تقول إنها ستبدأ حملة الرقة قبل استكمال عملية الموصل، رويترز، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2016 انظر الرابط.
[8] غضب الفرات تعلن سيطرتها على 133 قرية في المرحلة الثانية، المكتب الإعلامي لقوى الثورة السورية، 13 يناير/كانون الثاني 2017 انظر الرابط.
[9] غضب الفرات تعلن سيطرتها على 98 قرية في ريف الرقة خلال المرحلة الثالثة من عملياتها، المركز الصحفي السوري، 12 فبراير/شباط 2017 انظر الرابط.
[10] يلدريم: الأرض السورية للسوريين ولسنا ضد فرض سيطرة الجيش السوري على منبج، روسيا اليوم، 5 مارس/آذار 2017 انظر الرابط.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- صراع الفرقاء على تركة تنظيم الدولة في الشمال السوري (1597 تنزيلات)
رائد الحامد
باحث ومحلل سياسي عراقي. سبق أن عمل رئيساً لوحدة البحوث والدراسات في مركز بغداد للبحوث الاستراتيجية، وبعد ذلك كرئيس تحرير مجلة "نوافذ الثقافية" وعمل أيضا كمستشار في مجموعة الازمات الدولية. ساهم بتأليف كتاب بعنوان "الاحتلال الامريكي للعراق المشهد الاخير" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2007.
مواد أخرى لـ رائد الحامد
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.