دروس حلب وما بعدها ...
من الطبيعي أن تسود حالة من الإحباط في أوساط المعارضة السورية السياسية والعسكرية والمدنية، ولدى معظم السوريين الذين يتوقون للتخلص من النظام، نتيجة هشاشة موقف العالم مما يجري في حلب، أي تجاه محاولات تدميرها وتشريد سكانها وتخريب عمرانها، لكن هذا الإحباط يتفاقم كثيراً مع ملاحظة التشرذم في صفوف فصائل المعارضة المسلحة، بل وتقاتلها مع بعضها، بدلاً من التركيز على مواجهة النظام؛ وهو أمر غريب بل ومريب حقاً!
بيد أن حال الإحباط وصبّ اللعنات على العالم، وتوجيه اللوم للفصائل المتصارعة، على مشروعيته، لا يفيد شيئاً، أي لا يقدم ولا يؤخّر، إزاء المصير البائس لهذه المدينة الجميلة والعامرة والتي تحمل بصمات التاريخ، بل إن حال الإحباط هذه تشي بذاكرة قصيرة، وبتجربة طويلة ومعقدة وصعبة لا يتم درسها جيداً، أو لا يتم إدراك العبر الناجمة عنها على نحو صحيح.
ما أود أن أقوله هنا أن حلب، على أهميتها، ليست المنطقة الأولى التي تواجه هكذا مصير، إذ سبقتها مناطق أخرى في ريف دمشق، وفي حمص، دون أن يدفع ذلك إلى استنباط الدروس المناسبة، بخصوص الاستراتيجية القتالية المعتمدة، والتي تقوم أساساً على "تحرير" مناطق والسيطرة عليها، من دون إدراك أن هذه الاستراتيجية تحرّر النظام من عبء السيطرة على مناطق كثيفة السكان، وتجعله يقتصد بتوزيع قواته على المناطق الأكثر أهمية له، بدل نشرها هنا وهناك، ناهيك أن هذا الأمر يجعل "المناطق المحرّرة" بمثابة حقل رماية للبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والقنابل الارتجاجية. وبديهي أن كل ذلك يؤدي إلى أخطر من ذلك وهو تشريد أهالي تلك المناطق، وتاليا إخراج الشعب من معادلات الصراع مع النظام.
وهو ما حصل، أي أن هذه الاستراتيجية أضرّت بالثورة وأضرّت بمجتمع السوريين، دون أن يكون بمقدور الفصائل العسكرية تأمين حماية تلك المناطق، ولا حتى إدارتها كنموذج لسلطة بديلة للنظام، بل إن نمط إدارتها لها وسعيها لفرض تصوراتها بطريقة قسرية أثبتت أن السوريين قد يكونون أمام استبداد من نوع اخر مسقبلاً؛ هذا من ناحية.
من ناحية ثانية فقد اعتمدت الفصائل المسلحة في خططها، أو في قفزاتها أو تصعيداتها، العسكرية، في هذه المنطقة أو تلك، على الدعم الذي يقدم لها من الخارج، علماً أن التجربة بينت أن هذا مجرد دعم محدود، بالعدد والعدة وبالنوعية، فضلا عن أنه دعم محسوب تبعاً للأجندة السياسية للدول الداعمة، وهذا ما تجلى أكثر من أي شيء اخر بانشغال المملكة السعودية مثلا بالحرب ضد الحوثيين في اليمن، وانشغال تركيا بعملية درع الفرات، ومواجهة "قوات حماية الشعب" الكردية المتعاطفة مع حزب العمال الكردي (التركي)، والتخفّف من المسؤولية إزاء متطلبات تعزيز صمود الشعب السوري وثورته. ولعل هذا يسمح بالقول أن الدفع نحو العمل المسلح ربما هو أكثر مجال جرى التلاعب به في الثورة السورية، من قبل الدول التي تدّعي دعم هذه الثورة، بدليل أن معظم هذه الدول ترك حلب لمصيرها، كما ترك غيرها من قبل، من دون أن تدرك الفصائل المقاتلة هذا الواقع، هذا إذا كانت تريد ان تدركه حقاً، في واقع استمرائها الارتهان لهذه الدولة أو تلك.
يمكن الحديث عن ناحية ثالثة، أيضاً، تتعلق بهذا التنافس والتنازع بين الفصائل العسكرية، إذ لا يكاد يوجد فصيل لم يقاتل الفصائل الأخرى، في هذه المنطقة أو تلك، ولا يوجد أي شكل من أشكال التنسيق والانسجام بينها، حتى في ميادين قتال النظام، ما يفسر، بين أسباب أخرى، الأثمان الباهظة المدفوعة، سواء في الاقتتال الجانبي، أو في المعارك التي تخاض ضد النظام، أو في السيطرة على منطقة ثم الاضطرار للانسحاب منها. ولا يفوتنا هنا ملاحظة مدى التخبط في خطابات هذه الفصائل، فهي عدا عن تبنيها خطابات طائفية ودينية، هي مجرد غطاء او ادعاء لا أكثر، فقد غلبت في صراعها مع النظام البعد العاطفي والرغبوي والمزاجي والروح القدرية، وهو ما أوصلنا إلى هنا، أي إلى الكارثة في حلب. وربما يجب ان نتذكر، في هذا الإطار، الادعاءات بشأن ساعة الصفر في دمشق، أو بقرب تحرير حلب كلها، منذ تموز 2012، وصولا إلى الحديث عما يسمى "ملحمة حلب" قبل أسابيع، إذ تبين انها ملحمة ضد أهالي حلب، وليس ضد النظام، على ما اشتهى مطلقو هذه التسمية.
طبعا تبقى ناحية أخيرة، وهي أن كل العمل العسكري، ومنذ بدايته، كان مرتهنا لرؤية سياسية مفادها أن الدول الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، ستتدخل لمساندة مسعى السوريين التخلص من النظام، أو على الأقل لفرض مناطق آمنة أو مناطق حظر جوي. لكن الأمر لم يجر وفق هذه الرغبات، كما بات معلوما، بل إن الولايات المتحدة هذه لم تسمح بمد الفصائل العسكرية بالسلاح النوعي، لاسيما المضاد للطيران، في حين إنها سكتت عن تدخل إيران عسكريا لصالح النظام، ومعها ميلشياتها العراقية واللبنانية والأفغانية وربما الشيشانية لاحقا، وعن تدخل روسيا بأساطيلها البحرية والجوية ضد الثورة السورية. ولعل كل ذلك يطرح السؤال عن مدى صدقية التعامل الأمريكي مع الثورة، والاشتباه بأن ما حصل على صعيد تشجيع التحول نحو العمل المسلح إنما هو بمثابة نوع من التلاعب والاستدراج، الذي أغرى بعض أوساط المعارضة بالدخول إلى هذا المعترك دون إمكانيات أو استعدادات أو تدرجات هي مطلوبة لأية عملية ثورية؛ وهو ما ينطبق نوعا ما على تركيا التي طالما تحدثت عن اعتبار حلب خط أحمر.
أحد أحياء حلب الشرقية
ما يمكن قوله هنا هو أن الثورات لا تسير وفق خط مستقيم، وهي لا تتبع وصفات أو نماذج معينة، كما انها قد تنجح وقد تفشل، كما قد تحقق بعض أهدافها جزئيا، او تنحرف، وهذا ينطبق على الثورة السورية، لكن ذلك لا يعني بأي حال بأن الثورة انتهت، إذ أن مجرد حصولها يعني كسرا في حال الاستعصاء، والانفتاح على التاريخ، رغم الأثمان الباهظة، فهذه طريقة عمل التاريخ مع الحروب والثورات.
فوق كل ما تقدم فإن ما يلفت الانتباه في معركة حلب، التي تدور منذ أشهر عديدة، أن الفصائل المقاتلة لم تتنبه لضرورة إيجاد إدارة واحدة للعمليات، رغم الحديث عن أكثر من تشكيل من هذا النوع، لكن دون أن يكون له أي فاعلية، إذ ظل كل فصيل يقاتل لوحده، حتى انه ثمة فصائل فضلت الاحتفاظ بأسلحتها وذخائرها في مستودعاتها، في حين أن فصائل أخرى كانت بحاجة إليها. بل شهدنا ان بعض الفصائل قام باقتحام مكاتب فصائل أخرى، وسيطر عليها وعلى مستودعاتها. الأهم من ذلك أن هذه الفصائل لم تتقدم بأية مبادرة لإيجاد مخرج من المأزق الذي وضعت نفسها، وأهالي حلب، فيه، بل على العكس من ذلك لطالما كانت تلوح بقرب السيطرة على حلب كلها، وترجمت ذلك بمهاجمتها لبعض الأهداف الكبيرة للنظام من دون أن تفكر بمتطلبات الاحتفاظ بها، وكانت النتيجة خسارة مضاعفة وكارثية، لاسيما مع إعلان البعض عما ادعاه "ملحمة حلب".
المعنى أن هذه الفصائل لم تقدم اية مبادرة يمكن أن يحملها المجتمع الدولي لفرضها على النظام وروسيا، بل إنها ظهرت كمن يرفض كل المبادرات المطروحة، من دون أن يكون لديها قدرة على حماية نفسها أو حماية أهالي حلب، وحتى أنها لم تتجاوب مع المطلب الدولي بإخراج "جبهة النصرة" من المدينة، علما أن هذه الجبهة لا تعترف بالثورة، بل إنها شكلت عبئا ثقيلا عليها، بخطاباتها وبنمط عملياتها، وباعتبار مرجعيتها لتنظيم "القاعدة". هذه الفكرة تحيلنا على مقاربة سابقة، في التجربة الفلسطينية، إبان حصار إسرائيل لبيروت (1982)، إذ وجدت القيادة الفلسطينية، حينها، وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية، أنه من الأجدى للمقاتلين الخروج من بيروت، لتجنيبها الدمار، وتجنيب أهلها مزيد من الخسائر، أي أن إدراك الواقع، والتبصر بما هو ممكن ومتاح، لم يتوفر للفصائل التي تتصدر العمل المسلح في حلب، على النحو الذي توفر لدى القيادتين الفلسطينية واللبنانية، حيث المكابرة والإنكار لا يفيدان شيئا.
على أية حال لا يمكن اعتبار معركة حلب بمثابة نهاية المطاف، لأنه من الأساس لم يكن من المتوقع أن تصمد هذه المدينة البطلة، أمام قصف النظام لها بالبراميل المتفجرة، وأمام الميلشيات المتوحشة مثل الحرس الثورية الإيراني وحزب الله وكتائب أبو الفضل العباس والوية فاطميون ونجباء (اللبنانية والعراقية والأفغانية)، وأمام الاساطيل الجوية والبحرية لروسيا، وقنابلها الارتجاجية، فقد فعلت هذه المدينة ما عليها، مع التضحيات والمعاناة والبطولات، ومن غير المعقول التطلب منها أكثر من ذلك.
لكن ما يفترض استنتاجه مما حصل هو أن المعارضة السورية، السياسية والعسكرية والمدنية، بكل اطيافها ومع كل تبايناتها، معنية باستنباط الدروس المناسبة مما حصل في حلب وما قبلها، ومعنية بمراجعة التجربة الثورية السورية، السياسية والمسلحة، بطريقة نقدية ومسؤولة، لمعرفة الطريق الأصوب والأقوم والأقل كلفة.
ماجد كيالي
كاتب سياسي فلسطيني / سوري، عمل في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية والإعلام الفلسطيني، له العديد من المقالات والدراسات السياسية والكتب.
مواد أخرى لـ ماجد كيالي
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.