مُساءلة القانون والفتوى والاختلاف الدينيّ في عصر علمانيّ: مصر الحديثة أنموذجاً (٢-٢)
ثانياً: جدل القانون والفتوى في عصر علمانيّ أو في أنثربولوجيا القانون
سنحاول من خلال كتاب”مُسَاءَلةُ العَلمَانيّة: الإسلام والسيادة وحكم القانون في مصر الحديثة”[1] استكشاف معالم تساؤل علاقة الدين بالسياسة: أين تكمن مناطات الاتصال والانفصال، وما الذي يعنيه أن تستمر الشريعة في حضورها في عصر علماني، ولماذا للفتوى كل هذه الحظوة في مجتمع كالمجتمع المصريّ قد قطع شوطاً كبيراً نحو التحديث السياسي والاجتماعي؟ وكيف سيتفاعل القانون الحديث مع روح شعب ونظامه العام مستمد من مرجعية ما قبل حديثة.
فالكتاب هو تمرينٌ من تمارين الأنثربولوجيا التي تسعى إلى تنزيل الاجتهادات النظرية التي قام بها عديد الأنثربولوجيين وعلى رأسهم طلال أسد. فعجرمة وصبا محمود نستطيع القول إنهما ينتميان لتلك المدرسة التي لا تسعى لقراءة العلاقة ما بين الدين والسياسة كعلاقة قَلِقة فصلية أو كعلاقة معيارية يخضع فيها طرف لآخر كما نرى ذلك، ولكن كعلاقة تداخلية ”يغشيان بعضهما البعض ويُمدان من طاقات الصراع المستمر” (ص21).
فالدين الغيبي -نحن نؤمن بأن العلمانية هي دين أيضاً تقدم لمن يعتنقها رؤية أنطولوجية مغايرة للدين الغيبي ونسميها بالدين الشهودي الذي هو نطاقه العالم الذي يقع تحت إدراكه ويهمه لحظة الآن وهنا بخلاف الغيبيّ الذي يُجذر ذاته خارج العالم المنظور إلى ما ورائه ويهمه لحظة الهناك بعكس العلمانية- يتفاعل مع العلمانية في المستويات القبليّة قبل خروج الفرد للعالم، ومن ثم تؤثر على معتقدات الفرد وممارساته في الخارج، وما البلدان الأنجلوسكسونية سوى دليل بارز على تفاعل وتداخل الدين الغيبي والدين الشهودي. فتلك المدرسة لديها تحفظات رئيسة على رؤية العلمانية كدين أو بصورة أدق لا يعيرون الانتباه لمثل تلك الأحكام من قبيل دينية العلمانية أو من قبيل ما يسميه شميت بـ"علمنة اللاهوت”.
إن كل المفاهيم الدالة في نظرية الدولة الحديثة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة ليس فقط بسبب تطورها التاريخيّ الذي انتقلت فيه من اللاهوت إلى نظرية الدولة وبمقتضاها على سبيل المثال استحال الربّ القدير إلى المشرّع القدير، ولكن أيضاً بسبب بنيتها النظامية والتي يعد فهمها ضرورياً للتفكير الاجتماعي في تلك المفاهيم. إن الاستثناء في التشريع مماثل للمعجزة في اللاهوت، وفقط من خلال الوعي بهذا التماثل سنكون قادرين على تقدير الطريقة التي تطورت بها المفاهيم الفلسفية عن الدولة في القرون الأخيرة”[2].
فالدين الغيبي -نحن نؤمن بأن العلمانية هي دين أيضاً تقدم لمن يعتنقها رؤية أنطولوجية مغايرة للدين الغيبي ونسميها بالدين الشهودي الذي هو نطاقه العالم الذي يقع تحت إدراكه ويهمه لحظة الآن وهنا بخلاف الغيبيّ الذي يُجذر ذاته خارج العالم المنظور إلى ما ورائه ويهمه لحظة الهناك بعكس العلمانية- يتفاعل مع العلمانية في المستويات القبليّة قبل خروج الفرد للعالم، ومن ثم تؤثر على معتقدات الفرد وممارساته في الخارج، وما البلدان الأنجلوسكسونية سوى دليل بارز على تفاعل وتداخل الدين الغيبي والدين الشهودي. فتلك المدرسة لديها تحفظات رئيسة على رؤية العلمانية كدين أو بصورة أدق لا يعيرون الانتباه لمثل تلك الأحكام من قبيل دينية العلمانية أو من قبيل ما يسميه شميت بـ"علمنة اللاهوت”.
إن كل المفاهيم الدالة في نظرية الدولة الحديثة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة ليس فقط بسبب تطورها التاريخيّ الذي انتقلت فيه من اللاهوت إلى نظرية الدولة وبمقتضاها على سبيل المثال استحال الربّ القدير إلى المشرّع القدير، ولكن أيضاً بسبب بنيتها النظامية والتي يعد فهمها ضرورياً للتفكير الاجتماعي في تلك المفاهيم. إن الاستثناء في التشريع مماثل للمعجزة في اللاهوت، وفقط من خلال الوعي بهذا التماثل سنكون قادرين على تقدير الطريقة التي تطورت بها المفاهيم الفلسفية عن الدولة في القرون الأخيرة”[2].
ولذلك، يدعونا طلال أسد للتركيز على الأشكال التباينيّة لا على الأشكال التوافقيّة، فليس من الكافي ”الإشارة إلى التماثلات البنيويّة بين المفاهيم اللاهوتية ما قبل الحداثية وتلك المفاهيم الموظّفة في الخطاب الدستوريّ العلماني على النحو الذي قام به شميت.
وذلك لأن الممارسات التي تيسرها وتنظمها تلك المفاهيم تختلف بحسب التشكلات التاريخية التي تحدث فيها”[3]. وعليه، فستقوم المدرسة التي يتزعّمها طلال أسد بالنظر للعلمانية ليس على مستوى معياريّ، ولكن على مستوى وصْفي، في كيف يتفاعل ذلك المعياريّ في الواقع الخارجي الذي يحيا فيه. فالذي يميز العلمانية كظاهرة تاريخية ”ليس رسم الخط الفاصل بين الدين والسياسة... ولكن الذي يميزها ارتباطاتها التاريخية بمجموعة من الرهانات المحددة” (ص55).
وذلك لأن الممارسات التي تيسرها وتنظمها تلك المفاهيم تختلف بحسب التشكلات التاريخية التي تحدث فيها”[3]. وعليه، فستقوم المدرسة التي يتزعّمها طلال أسد بالنظر للعلمانية ليس على مستوى معياريّ، ولكن على مستوى وصْفي، في كيف يتفاعل ذلك المعياريّ في الواقع الخارجي الذي يحيا فيه. فالذي يميز العلمانية كظاهرة تاريخية ”ليس رسم الخط الفاصل بين الدين والسياسة... ولكن الذي يميزها ارتباطاتها التاريخية بمجموعة من الرهانات المحددة” (ص55).
ولذلك بتنّي ما يسميه الأنثروبولوجيّ ديفيد سكوت مفهوم المحيط الإشكالي، يُنظر من خلاله لمقاربة العلمانية وهو ما يعني ”أن ننظر إليها من خلال ما شكلها تاريخياً من أسئلة ومحكات ورهانات وأجوبة مطروحة” (ص56).
في تقنين الحسبة
سيحاول حسين عجرمة في البداية ومن مدخل قضية الحِسبة التي رفعت ضدّ المرحوم نصر حامد أبو زيد -والتي حكم فيها بردّية الرجل- مقاربة القانون المدني الحديث في مقابل الشريعة من حيث المتقابلات والمتضادات. وهنا سيتبنى مفهوم طلال أسد ”التقليد الخطابي”، حيث تقتضي المقاربة البدء ”بالمفردات المميزة وتطور المفاهيم في النصوص ذات العلاقة مع وصل ذلك بالبُنى المتغيرة تاريخياً” (ص79)؛ وذلك من أجل تعقب كيفية مساهمة تلك المفاهيم في تشكيل الذوات وإنتاج المعارف وتأطير ممارسات المجتمعات.
فالحسبة، وإن كانت ممارسة إسلامية تاريخية، إلا أن حضورها هنا في عصر علماني لا يعني حضورها كما كانت في ذاتها كممارسة تاريخية، نظراً لأنها ستتأثر ببنى القانون الحديثة من مفاهيم ومقولات جدّ مختلفة عن التي كانت تدور في فلكها الحسبة قديماً. سيقف حكم محكمة الاستئناف والنقض بردة أبو زيد على جملة متضاربة وغير متجانسة من المفاهيم والتي تنتمي لأطر مختلفة ما بين الشريعة والقانون مثل القرآن والسنة وحقوق الله والنظام العامّ والصالح العامّ.
سيعمد الكاتب من خلال تلك القضية النفاذَ إلى الفروقات التي تفصل وتحكم مرجعية كل من القانون المدني والشريعة، وذلك لتبيان وتبصر الانقلاب الهائل الذي حدث جرّاء الانزياح من الشريعة للقانون الحديث. فالشريعة، كما يقول الكاتب، كانت تعمل وفق تقنية أساسيّة ألا وهي ”التزكية” (ص92) وارتباطها بمفهوم العدالة، وهي مفاهيم أخلاقّية تستخدم للتأكد من صحّة ودقة شهادة الشهود، وهي مفاهيم تتأطر كل ممارسات الشريعة بداخلهما وليس فقط في المجال القضائي. خلافاً لذلك، يقوم القانون المدني على جملة من المقولات القانونية وأخلاقية المخالفة لذلك.
فالقانون المدني يسعى كما يقول الكاتب لتأمين مصلحة الفرد وصونها ضد تدخل السلطة العموميّة ولذلك فتلك المفاهيم التي يتكئ عليها كلّ من طرف التزكية من جهة الشريعة والمصلحة من جهة القانون سينعكس ذلك على الأدوات التقنية. فالممارسة الإسلامية تتكئ على تقنية الدليل الشفهيّ في الإثبات والاستدلال، وأقل اعتمادية على الدليل المكتوب؛ نظراً لأن مفهوم التزكية يتحقق بدرجة أكبر في الدليل الشفهيّ عن الدليل المكتوب، على العكس من ذلك سيكون للدليل المكتوب كلّ الحظوة في ممارسة القانون المدني، وستساهم تلك الإجراءات الاستدلالية الجديدة التي ترتكز على المصلحة الفردية وليس كما مفهوم التزكية كآلة تدقيق أخلاقي “في تفكيك ممارسات التدقيق الأخلاقي مثل التزكية، التي كانت عاملاً مميزاً بالنسبة إلى الشريعة، كما أثرت في تفكيك أهميّة القيم الأخلاقية كالعدالة التي كانت أساساً لمعارف الشريعة المعتمدة” (ص97).
فالقانون المدني يسعى كما يقول الكاتب لتأمين مصلحة الفرد وصونها ضد تدخل السلطة العموميّة ولذلك فتلك المفاهيم التي يتكئ عليها كلّ من طرف التزكية من جهة الشريعة والمصلحة من جهة القانون سينعكس ذلك على الأدوات التقنية. فالممارسة الإسلامية تتكئ على تقنية الدليل الشفهيّ في الإثبات والاستدلال، وأقل اعتمادية على الدليل المكتوب؛ نظراً لأن مفهوم التزكية يتحقق بدرجة أكبر في الدليل الشفهيّ عن الدليل المكتوب، على العكس من ذلك سيكون للدليل المكتوب كلّ الحظوة في ممارسة القانون المدني، وستساهم تلك الإجراءات الاستدلالية الجديدة التي ترتكز على المصلحة الفردية وليس كما مفهوم التزكية كآلة تدقيق أخلاقي “في تفكيك ممارسات التدقيق الأخلاقي مثل التزكية، التي كانت عاملاً مميزاً بالنسبة إلى الشريعة، كما أثرت في تفكيك أهميّة القيم الأخلاقية كالعدالة التي كانت أساساً لمعارف الشريعة المعتمدة” (ص97).
وسينعكس ذلك على قضية أبو زيد في أن المحكمة لن تلتفت في نظرها للقضية سوى للدليل المكتوب الذي من خلاله ستحكم على المعتقد الديني للرجل دون اعتبار لأيّ تصرفات أخرى، ”ورأت المعتقد الديني شأناً متعلقاً بالإعلان العقديّ” (ص99)، والذي تمثل في كتبه المنشورة.
والحسبة في الممارسة الإسلامية هي موضوع للتدقيق الأخلاقي وتنبني على حفظ حقوق الله في العالم، وهي ممارسة تتعارض مع القانون الحديث؛ فهي ممارسة لا تفرق بين عام وخاص؛ فهي تُسائل كل انتهاك لحقوق الله في العالم وفي عباده ولا تنظر لأي فرق بين خاص وعام ولا تنظر لاعتبار المصلحة بقدر النظر ومراعاة التحقق الخُلقيّ في العالم. ولذلك تنبني على مفهوم أساس هو مفهوم ستر الله، وهذه مفاهيم لا تتلاءم والقوانين الحديثة.
”فالحسبة ليست مجموعة من الحدود والممكنات كما في القانون المدنيّ الذي ينظم سعْي الناس إلى مصالحهم، على خلاف ذلك فإن الحسبة ممارسة تم تحديد شروطها بمراعاة التصرف السليم ومعاملة مشاعر الناس بلطف... فالحسبة ممارسة منضبطة من النقد الأخلاقي الهادف إلى إنتاج قويم للذوات المُسلمة المشغولة بالرغبات والمشاعر الصحيحة” (ص105-106).
”فالحسبة ليست مجموعة من الحدود والممكنات كما في القانون المدنيّ الذي ينظم سعْي الناس إلى مصالحهم، على خلاف ذلك فإن الحسبة ممارسة تم تحديد شروطها بمراعاة التصرف السليم ومعاملة مشاعر الناس بلطف... فالحسبة ممارسة منضبطة من النقد الأخلاقي الهادف إلى إنتاج قويم للذوات المُسلمة المشغولة بالرغبات والمشاعر الصحيحة” (ص105-106).
ولكن كيف سيتعاطى القانون الحديث مع مفهوم كالحسبة عند نظره في قضية أبو زيد؟ سيقوم بإزاحة ضديّة لما ارتُكز عليه المفهوم في تجربة الشريعة. فمحكمة الاستئناف ستقوم بربط مفهوم حقوق الله بالمفهوم العلماني ”حفظ النظام العام”.
ثمة إبهامٌ ههنا -والإبهام هنا يعني غياب معالم واضحة ومفهومة للمفاهيم والممارسات- لقضية كتلك. فالحسبة هي ممارسة تراثية تعتبر جزءاً من ممارسة أخلاقية، ولكن في حكم المحكمة أصبحت دالة على شيء آخر ووفق قواعد لا تنتمي وحيّز الحسبة في شكلها القديم كنظام لحفظ حقوق الله في العالم، فتم إزاحتها لحفظ النظام العام. هل يعني ذلك أننا امام مثال ”على علمنة مفهوم دينيّ أو أسلمة مباديء قانونية؟” (ص116).
هنا تأتي أهمية ما أسماه عجرمة بـ”العلمانية كمحيط إشكالي”، نابع من سمات ثلاث خاصة بالدولة الحديثة: السمة الأولى: مبدأ نشاط العلمانيّة؛ أي أن الدولة هي السلطة الوحيدة لتعيين وتحديد ما المسموح به من الدين وممارساته؛ السمة الثانية: مركزية الدولة في التمييز بين العام والخاص، ورأينا ذلك سابقاً في قضية البهائيين، ففي حين رأت المحكمة الإداريّة استخراج بطاقات هوية للبهائيين شأناً مدنياً قامت المحكمة الإدارية بنقض القرار ورأت عكس ذلك فإن بطاقة الهوية للبهائي هو اعتراف بإمكانية وجوده في ساحة العمومي ومن ثمّ ممارسة معتقداته؛ السمة الثالثة: حكم القانون وهو الكلمة المقدسة للدولة، وهو بنية معقدة ومرتبطة بأسئلة الحوكمة والسيادة وينبني وفق مفهوم مركزي ألا وهو النظام العام.
هنا تأتي أهمية ما أسماه عجرمة بـ”العلمانية كمحيط إشكالي”، نابع من سمات ثلاث خاصة بالدولة الحديثة: السمة الأولى: مبدأ نشاط العلمانيّة؛ أي أن الدولة هي السلطة الوحيدة لتعيين وتحديد ما المسموح به من الدين وممارساته؛ السمة الثانية: مركزية الدولة في التمييز بين العام والخاص، ورأينا ذلك سابقاً في قضية البهائيين، ففي حين رأت المحكمة الإداريّة استخراج بطاقات هوية للبهائيين شأناً مدنياً قامت المحكمة الإدارية بنقض القرار ورأت عكس ذلك فإن بطاقة الهوية للبهائي هو اعتراف بإمكانية وجوده في ساحة العمومي ومن ثمّ ممارسة معتقداته؛ السمة الثالثة: حكم القانون وهو الكلمة المقدسة للدولة، وهو بنية معقدة ومرتبطة بأسئلة الحوكمة والسيادة وينبني وفق مفهوم مركزي ألا وهو النظام العام.
وحكم المحكمة الذي حكم بردة أبو زيد رغم إعلانه إسلامه تتبلور فيه تلك السمات الثلاث، فالدولة عبر سلطتها القضائية المتمثلة في حكم المحكمة ستحدد ما هو ديني وما هو ليس بديني، وتحديد كيفية حضوره في الحياة الاجتماعية. وستتحقق السمة الثانية من خلال حكم المحكمة من خلال الادعاء بأن الحكم بالردة سيحدد ما هو عام وخاص من خلال التفريق بين العقيدة والممارسة وترجمة الاعتقاد في حيّز عمومي. فالمحكمة هنا لا تحجر على أبو زيد اعتقاده الشخصي، ولكن الحكم هنا يخص جانب الترجمة لفضاء عمومي يهدد النظام العام، وهنا تتحقق السمة الثالثة للدولة.
وعجرمة يرى في مفهوم ”ألنظام العام” مفهوماً يدل على إبهام العلمانية؛ فهو أداة علمانية ولكن يقوم بتحقيق أحكام لا-علمانية. فحكم الردة -وهو مفهوم متجذر في القيم الإسلامية- يعني إهدار الوجود وفقاً لقضية تقع داخل إطار الاعتقاد الشخصي. فمفهوم النظام العام -الذي يعكس قيم وإرادة الأغلبية- وهو الأداة العلمانية التي عبرها ظهر الحكم بقرار دينيّ وهو الردة والذي يعني وضع استثناءات وتقييدات لحرية الاعتقاد الديني يدخلنا في حالة إبهام بين ما هو علماني -قيم المساوة القانونية- وبين ما هو لا-علماني -قيم الأغلبية التي تتكئ على قيم ما قبل حديثة.
وبتلك المقاربة للعلمانية على أنها مثار إبهام ومحيط إشكالي، فإنّها تمتاز بإثارة الإشكالات والاختلافات التي تنبع من هشاشة سلطتها ومقولاتها المعيارية. ولذلك يجب أن يتم فهم العلمانية ليس فقط كسلطة معايير، ولكنها بجوار ذلك هي ”سلطة مُساءلة، أي كنمط سلطة يعمل من خلال نشاط المٌساءلة والخلافات التي تثيرها” (ص164).
وعجرمة يرى في مفهوم ”ألنظام العام” مفهوماً يدل على إبهام العلمانية؛ فهو أداة علمانية ولكن يقوم بتحقيق أحكام لا-علمانية. فحكم الردة -وهو مفهوم متجذر في القيم الإسلامية- يعني إهدار الوجود وفقاً لقضية تقع داخل إطار الاعتقاد الشخصي. فمفهوم النظام العام -الذي يعكس قيم وإرادة الأغلبية- وهو الأداة العلمانية التي عبرها ظهر الحكم بقرار دينيّ وهو الردة والذي يعني وضع استثناءات وتقييدات لحرية الاعتقاد الديني يدخلنا في حالة إبهام بين ما هو علماني -قيم المساوة القانونية- وبين ما هو لا-علماني -قيم الأغلبية التي تتكئ على قيم ما قبل حديثة.
وبتلك المقاربة للعلمانية على أنها مثار إبهام ومحيط إشكالي، فإنّها تمتاز بإثارة الإشكالات والاختلافات التي تنبع من هشاشة سلطتها ومقولاتها المعيارية. ولذلك يجب أن يتم فهم العلمانية ليس فقط كسلطة معايير، ولكنها بجوار ذلك هي ”سلطة مُساءلة، أي كنمط سلطة يعمل من خلال نشاط المٌساءلة والخلافات التي تثيرها” (ص164).
في الشكّ والثقة ما بين القانون والفتوى في مصر الحديثة
سيسعى عجرمة لاستكشاف أزمة الثقة واليقين والشك الواقعة بين المحاكم والمبنية على القانون الحديث والفتوى، وكلاهما يستندان للشريعة الإسلامية. ولكن لكلّ منهم مساحة فعل مختلفة، رغم الاستناد على الشريعة. إلا أنّ ذلك لا ينعكس على طريقة تلقي وتعاطي الناس مع الجهتين، ولذلك فعجرمة يطرح تساؤلات هامّة حول ذلك: ”لماذا يملأ المحاكم التشكك بالرغم مما فيها من ضمانات، بينما لا تشبهها لجنة الفتوى في ذلك مع أنها لا تملك أيّة ضمانات؟ ولماذا تملك المحاكم القليل من السلطة لدى الناس بالرغم مما تملكه من أدوات تنفيذية بينما لا تملك اللجنة أية أدوات وتحظى بسلطة كبيرة؟” (ص183).
وهذا أمر يطرح أسئلة هامة كامنة تحته من قبيل ما الذي تعتني به أو تهدف إليه كلٌّ من المحكمة واللجنة؟ يتحدث عجرمة عن أن المحكمة تتمحور بالأساس حول ”الحقيقة”، أما الفتوى فتعمل وتتمحور بالأساس حول ”المصالحة”. ففعل القانون ومن ثم فعل المحكمة هو فعلٌ له تبعات ماديّة وتنفيذية قصرا بخلاف الفتوى. فمسعى المفتي بالأساس هو محاولة تأطير خُلقيّ من خلال المسألة المطروحة أمامه يقدمها للأطراف المتنازعة وقد تكون لها تبعات مادية أو لا تكون.
ولذلك يختلف سؤال المحكمة عن سؤال اللجنة، في المحكمة يكون التساؤل ”حول من صاحب الحق؟”، أما في لجنة الفتوى فالتساؤل المطروح ”ما هو الحق؟” (ص186). ولذلك، فإن مسافة ما بين صاحب الحق والبحث عن الحق ذاته يكون انعكاسه بين الناس ملموساً. فستجد القانون يتم تنفيذه وفق سلطة مادية ورمزية جبرية بخلاف الفتوى فهي ذات سلطة اختيارية، ومن ثمّ أدبية، على المتنازعين. ولذلك فهي لا تثير حفيظة الشك كما حكم القانون من خلال المحكمة.
وهذا أمر يطرح أسئلة هامة كامنة تحته من قبيل ما الذي تعتني به أو تهدف إليه كلٌّ من المحكمة واللجنة؟ يتحدث عجرمة عن أن المحكمة تتمحور بالأساس حول ”الحقيقة”، أما الفتوى فتعمل وتتمحور بالأساس حول ”المصالحة”. ففعل القانون ومن ثم فعل المحكمة هو فعلٌ له تبعات ماديّة وتنفيذية قصرا بخلاف الفتوى. فمسعى المفتي بالأساس هو محاولة تأطير خُلقيّ من خلال المسألة المطروحة أمامه يقدمها للأطراف المتنازعة وقد تكون لها تبعات مادية أو لا تكون.
ولذلك يختلف سؤال المحكمة عن سؤال اللجنة، في المحكمة يكون التساؤل ”حول من صاحب الحق؟”، أما في لجنة الفتوى فالتساؤل المطروح ”ما هو الحق؟” (ص186). ولذلك، فإن مسافة ما بين صاحب الحق والبحث عن الحق ذاته يكون انعكاسه بين الناس ملموساً. فستجد القانون يتم تنفيذه وفق سلطة مادية ورمزية جبرية بخلاف الفتوى فهي ذات سلطة اختيارية، ومن ثمّ أدبية، على المتنازعين. ولذلك فهي لا تثير حفيظة الشك كما حكم القانون من خلال المحكمة.
ثمة أمر أخير وهام بخصوص مسألة الشك في عمل القانون بخلاف الثقة في الفتوى ندفع باتجاهه وهو أن الدائرة التي نتحدث فيها -دائرة الحميمي والاحوال الشخصية- عن الشك والثقة هي دائرة يرى فيها المسلم خط الدفاع الأخير عن هويته وثقافته. والمحكمة والقانون، حتى وإن كانغ يتكئان في ممارستهما في دائرة الأحوال الشخصية على الشريعة، فإنه مع ذلك يفضل الذهاب الى اللجنة رغم أنها اختيارية، ولا توجد قوة تنفذ قرارتها أو أطروحاتها التي تطرحها على المستفتين. فرُهاب الهوية والخوف من ضياعها يدفعان باتجاه الثقة في لجنة الفتوى بخلاف المحكمة التي ترى فيها متشربة للممارسات الليبرالية والعلمانية المضادّة لهويته.
ولكن لماذا للقانون الحديث كل هذه الحظوة بالرغم من أن الحس المشترك ينظر بالسلب تجاهه؟ يشير عجرمة إلى أن ذلك الصعود المتنامي للقانون ومن ثمّ هيمنته لا ينبغي أن يتم فهمه أنه انعكاس لـ”احتكار الدولة الحديثة للعنف أو ببساطة من خلال الهيمنة الواسعة للعقلانية البيروقراطية القانونية. بل يجب أن يُفهم من خلال ظهور شكل جديد من أشكال التشكيك المُنظّم الآخذ في الانتشار عبر الحياة الاجتماعية” (ص199). فالتشكك حاصل، وكما ينقل عن طلال أسد، في المساحة الواقعة بين القانون وتطبيقه.
فالقانون في الحيازة النظرية -التي تضعه المؤسسات القضائية والسياسية في الدولة الحديثة وقبل قذفه للعالم الخارجي ليتفاعل معه ويتم تطبيقه- تقف وراءه إرادة متشككة بالأساس، ولا يقينية تنعكس على القانون المؤطر وعلى تنزيله في الواقع.
فالقانون في الحيازة النظرية -التي تضعه المؤسسات القضائية والسياسية في الدولة الحديثة وقبل قذفه للعالم الخارجي ليتفاعل معه ويتم تطبيقه- تقف وراءه إرادة متشككة بالأساس، ولا يقينية تنعكس على القانون المؤطر وعلى تنزيله في الواقع.
يقف عجرمة على مثالين هامين لتأييد فكرته. المثال الأول: في أن بنى القانون في العصور الوسيطة الأوروبية لم تكن بالأساس تُولي مسألة الحقيقة والبحث عنها الشيء الكبير بقدر ما أنها تهتم بحماية القضاة والمحلفين من تعذيب الضمير ”وسلطتهم الأخلاقية ومسؤوليتهم عن إصدار الاحكام”(ص188) في مسعى لبراءة الذمة. كل ذلك سيتلاشى مع صعود القانون الحديث الساعي للحقيقة. فستتصاعد نزعة التشكيك. المثال الثاني ضمن ملاحظاته الإثنوغرافية لعمل المحاكم من خلال مبدأ العلانية الذي هو شرط حديث بامتياز في عمل المحاكم للتدقيق في تصرفات القضاة وتعزيز ثقة الجمهور في القضاء، فالعلانية تفترض في ذاتها، كما يقول عجرمة، ضغطاً عمومياً على القضاة ”للتأكد من عملهم الحيادي غير المنحاز ولطمأنة الجمهور حول تطبيق تلك القواعد بالفعل” (ص201-202).
ولكن كيف ستتنزل في أرض الواقع تلك الافتراضات التي تفترضها نظرية القانون، فالواقع ليس نطاقاً مجرداً من المثاليات، بل مساحة من الحساسيات والأخذ والرد التي تتجسد فيها تلك الممارسات. سيلاحظ عجرمة من خلال أداء القضاة بالمحاكم أنه ثمة إهدار من تنزيلاتهم تلك لافتراضات القانون النظرية للعدالة من خلال الالتزام الصارم بالتكتيكات والإجراءات القانونية المتجذرة في التشكك، مما سيحدث انفصاماً بين مظهر العدالة وممارسة العدالة الناتج عن ”التشكيك الذي يربط العلانية بالحياد وعدم التحيز والمساوة القانونية” (ص209).
ولكن كيف ستتنزل في أرض الواقع تلك الافتراضات التي تفترضها نظرية القانون، فالواقع ليس نطاقاً مجرداً من المثاليات، بل مساحة من الحساسيات والأخذ والرد التي تتجسد فيها تلك الممارسات. سيلاحظ عجرمة من خلال أداء القضاة بالمحاكم أنه ثمة إهدار من تنزيلاتهم تلك لافتراضات القانون النظرية للعدالة من خلال الالتزام الصارم بالتكتيكات والإجراءات القانونية المتجذرة في التشكك، مما سيحدث انفصاماً بين مظهر العدالة وممارسة العدالة الناتج عن ”التشكيك الذي يربط العلانية بالحياد وعدم التحيز والمساوة القانونية” (ص209).
وهنا يُطرح التساؤل الهامّ: ماذا عن الشريعة عندما تظهر عبر واسطة القانون؟ هل تتشارك والقانون التشكيك وفقدان الثقة؟ يجيب عجرمة بالإيجاب. فالشريعة لا تحضر هنا بذاتها، كما حددت ذاتها عبر الممارسة التاريخية الإسلامية. فهي إنما ستحضر كآلة تقنية وفق روحية مغايرة لروحها الناظمة لها في الممارسة الإسلامية. إن إبهام القانون -والذي يرسخ وجوده عبر محاولات التغلب المستمرة على الثغرات الموجودة بالقانون- والذي تتشارك الشريعة إبهامه لأنها تحضر بواسطته يساعد في استدامة ”المحيط الاشكالي للعلمانية وتتمكن السلطة السيادية من تأكيد وجودها عبر الحياة الاجتماعية وبقوة وقدرات أكبر من أي وقت مضى” (ص216).
قد يُدخل البعض في محاولة إدخال الكل في إطار دائرة الشك كما فعل أغامبن بحديثه بأن بنية الاستثناء ومن ثمّ الشك هو أمر يطال كل القوانين أكانت وضعية أم يهودية أو إسلامية. ولكن عجرمة نقض ذلك بالحديث عن فقه المخارج وهو فقه يعمل حول الثغرات في التجربة القانونية التاريخية الإسلامية وهي تعمل على الإزاحة من التحريم للإباحة. ولكن عجرمة لا يرى في ذلك ممارسة تنتج التشكك كما يثيرها القانون الحديث، بل هي محاولة تتأسس على الخطاب الشرعي لتيسير بعض الجزئيات الشاقة.
قد يُدخل البعض في محاولة إدخال الكل في إطار دائرة الشك كما فعل أغامبن بحديثه بأن بنية الاستثناء ومن ثمّ الشك هو أمر يطال كل القوانين أكانت وضعية أم يهودية أو إسلامية. ولكن عجرمة نقض ذلك بالحديث عن فقه المخارج وهو فقه يعمل حول الثغرات في التجربة القانونية التاريخية الإسلامية وهي تعمل على الإزاحة من التحريم للإباحة. ولكن عجرمة لا يرى في ذلك ممارسة تنتج التشكك كما يثيرها القانون الحديث، بل هي محاولة تتأسس على الخطاب الشرعي لتيسير بعض الجزئيات الشاقة.
أين تقع قضية الحسبة التي أثيرت بعد ما تم رفعها على المرحوم أبو زيد والتي تم إزاحتها من تجذرها التاريخي كممارسة أخلاقية تهدف للحفاظ على القيم الخُلقية إلى ممارسة مختلفة من قبيل الحفاظ على النظام العام، والتي بفضل ذلك ستكتسب ”حساسية مختلفة من التشكيك” (ص221)؟ فإزاحة ممارسة الحسبة من حيزها إلى حيز آخر ضمن نسق الدولة وأبنيتها لن يجعلها فقط موضوعاً للتشكيك، بل أصبحت هي نفسها نمطاً من التشكيك الذي تمارسه الدولة. فالمحكمة في حكمها بردة أبو زيد ستفصل ما بين الردة والاعتقاد. فالاعتقاد هو شأن داخلي لا علاقة للقانون ولا المحكمة به ولكن عندما يترجم الاعتقاد نفسه إلى ممارسة عمومية تريد أن تثبت لنفسها مكانة ومن ثمّ سلطة.
إن كل حضور في الفضاء العمومي يستهدف معه بالضرورة السعي إلى تثبيت سلطة له، فالمحكمة هنا ودون الالتفات إلى البحث عن آرائه أو معتقداته والتأكد من صوابية أو لا صوابية ما يقول رغم أن ما يتحدث عنه أبوز يد موجود نظير له أو ما يشابهه في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، قررت ردته لأنه خطر على النظام العام ومعتقداته.
إن كل حضور في الفضاء العمومي يستهدف معه بالضرورة السعي إلى تثبيت سلطة له، فالمحكمة هنا ودون الالتفات إلى البحث عن آرائه أو معتقداته والتأكد من صوابية أو لا صوابية ما يقول رغم أن ما يتحدث عنه أبوز يد موجود نظير له أو ما يشابهه في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، قررت ردته لأنه خطر على النظام العام ومعتقداته.
ما نود أن نختم به حديثنا حول الشك والذي لم يحاول عجرمة مُساءلته أو تناوله من خارج إطار الممارسة التاريخية والواقعية التي ساهمت في تعزيز حضورها في بنية القانون وممارسة العلمانوية السياسية، ولكن للشك قيمة كبرى داخل إطار الحداثة، فعندما نضع مثلاً الحداثة في مقابل ما بعد الحداثة كمحاولة للخلاص إلى فرق محدد نستطيع القول بأن ميزة الحداثة وميسمها الخاص الذي يميزها هو ”الشك” -ضمن ثنائية أخرى وهي العماء (في المجال الحقوقي والقضائي والعلمي) والإرجاء (في المجال السياسي)- في مقابل ميسم مميز لما بعد الحداثة متمثل في الموت بدءلَ من موت الإله مروراً بموت الإنسان والفن والواقع والأدب والقارئ والقائمة تطول... والموت هنا يعني اندراس حياة والانفتاح على شكل حياة مغاير لما كان قائماً.
والشك هنا كما تقول حنة أرندت في الدلالة على مركزيته بالنسبة إلى الأزمنة الحديثة ”محرك الأفكار والمحور الخفي الذي يدور التفكير بأسره ويتمركز حوله”[4]. ومحوريته نابعة بالأساس بمسألة اليقين المفقود. ”إن ما فُقد في العصر الحديث لم يكن بالتأكيد القدرة على إبصار الحقيقة أو الواقع أو الإيمان ولا ما كان مصاحباً ضرورياً لهذه القدرة على قبول شهادة الحواس والعقل. بل كان ما فُقد هو اليقين”[5].
في الفتوى
السؤال الأساس باعتقادي داخل هذا الحيز هو: لماذا كل هذه الحظوة السعيدة للفتوى أمام القانون؟ ولماذا كل هذه الاستمرارية في حضور الفتوى وسلطتها في الواقع رغم تأميم القانون وتوغله في كل الفضاءات الاجتماعية؟، وكيف تعمل كممارسة في الواقع؟
بالبداية، سيسعى الكاتب للاشتباك مع الفكرة المؤسطرة حول الاجتهاد وغلق أبوابه منذ قرون بعيدة، وأن كل ما هو مطروح منذ قرون هو أقوال فقهية مكرورة تعيد إنتاج نفسها وفقاً لنظيمتها التي أنتجتها في الماضي. بل إن البعض، وكما سيشتغل الكاتب على نص لشيرمان جاكسون اشتغل فيه على فتوى لقاضي ومفتي مصر في القرن السادس عشر بدر الدين القرافي، سيخلص فيه بتصوير ”سلطة الفتوى على أنها مبنية أساساً على التلاعب أو الخداع” (ص251).
تلك المواقف شيء أساسي يجعلها تذل قدمها أثناء تناول مسألة الاجتهاد والتقليد وهو الارتكاز حول رؤية الفتوى كإجابات فقهية قانونية، وليس أنها أيضاً وبالأساس معالجة لإشكال أخلاقي مطروح ويجب توفير حد أدنى من المعالجة يستطيع واقع الناس المعاش تقبلها وتنفيذها. ولذلك فإن ”الفتاوى لا تتضمن تبريراتها المفُصَّلة، وبالتالي فهي غير معنية بإقناع الناس بصحة الرأي فقهياً” (ص248).
تلك المواقف شيء أساسي يجعلها تذل قدمها أثناء تناول مسألة الاجتهاد والتقليد وهو الارتكاز حول رؤية الفتوى كإجابات فقهية قانونية، وليس أنها أيضاً وبالأساس معالجة لإشكال أخلاقي مطروح ويجب توفير حد أدنى من المعالجة يستطيع واقع الناس المعاش تقبلها وتنفيذها. ولذلك فإن ”الفتاوى لا تتضمن تبريراتها المفُصَّلة، وبالتالي فهي غير معنية بإقناع الناس بصحة الرأي فقهياً” (ص248).
سيشتبك الكاتب مع تلك الأطروحات حول التقليد والاجتهاد وسقوط الفقه في إعادة تدوير ماضوية أبدية لذاته في محاولة لنقدها وتقديم رؤية مغايرة. المدخل الأول: يبتدئه من خلال النفاذ من فكرة الزمن ذاتها ووجود صدع دائم الحضور بين الماضي والمستقبل ودخول مستجدات جديدة في المسافة الواقعة بينهما، تجعل من فكرة التقليد وإعادة تدوير الفقه فكرة خاطئة، ودليل ذلك فعالية الفتوى المستمرة. فإعادة التدوير كانت ستعمل بالنهاية على قتل الفتوى وتجاوز المجتمعات لها؛ ”فالإبداع شرط أساسي للتقاليد حتى تتمكن من التكيّف مع الزمن” (ص252). ولذلك، فإن لجنة الفتوى كما سيلاحظ ذلك أثناء بحثه الإثنوغرافي، تهتم بالخبرة والسن الكبيرة أكثر من اهتماهها في الحقيقة بالإبداع.
وهو يفترض أن ما وراء ذلك الاهتمام كائنٌ في أن السن الكبيرة تمنح الشخص قدرة مرتفعة من التمييز عن طريق ”ملاحظة تفاصيل دقيقة بين تشابهات الماضي والحاضر” (ص254). وتلك أمور برأيه تدعم وتعلي من قيمة الفراسة وقوة الحافظة في مقابل الإبداع. ولكن نحن نرى أن الأمر ليس به تضاد؛ فإن قيم الفراسة وقوة الحافظة هي مكون أساس من مكونات الإبداع من خلال مراعاة فروقات الماضي والمستقبل أثناء تنزيل الفتاوى على الوقائع. المدخل الثاني: مدخل لغوي يرى فيه أن كلمة Creatvity والتي تعني الإبداعي لم تصك إلا مع القرن التاسع عشر، وهي برزت حاملة لقيم جديدة ولذلك علينا مراعاة الأمور عندما نقوم بإسقاط مفاهيم تحمل قيم مغايرة لممارسات تنظمها مفاهيم أخرى. ففكرة الإبداع، كما يقول عجرمة، هي فكرة وليدة ”لافتراض حداثي محدد عن الزمن وعن الذات وحرياتها الجوهرية” (ص255).
وهو يفترض أن ما وراء ذلك الاهتمام كائنٌ في أن السن الكبيرة تمنح الشخص قدرة مرتفعة من التمييز عن طريق ”ملاحظة تفاصيل دقيقة بين تشابهات الماضي والحاضر” (ص254). وتلك أمور برأيه تدعم وتعلي من قيمة الفراسة وقوة الحافظة في مقابل الإبداع. ولكن نحن نرى أن الأمر ليس به تضاد؛ فإن قيم الفراسة وقوة الحافظة هي مكون أساس من مكونات الإبداع من خلال مراعاة فروقات الماضي والمستقبل أثناء تنزيل الفتاوى على الوقائع. المدخل الثاني: مدخل لغوي يرى فيه أن كلمة Creatvity والتي تعني الإبداعي لم تصك إلا مع القرن التاسع عشر، وهي برزت حاملة لقيم جديدة ولذلك علينا مراعاة الأمور عندما نقوم بإسقاط مفاهيم تحمل قيم مغايرة لممارسات تنظمها مفاهيم أخرى. ففكرة الإبداع، كما يقول عجرمة، هي فكرة وليدة ”لافتراض حداثي محدد عن الزمن وعن الذات وحرياتها الجوهرية” (ص255).
ما نود طرحه وفي اتجاه داعم للكاتب وأثناء اشتغال سابق لنا على أحد نصوص وائل حلاق، وهو طرح يضاد أسطرة غلق أبواب الاجتهاد، هو أننا نقسم الاجتهاد على طورين. الطور الأول: طور الاجتهاد التأسيسي وهو طور يمتد من القرن الأول الهجري إلى بدايات القرن الخامس الهجري؛ وهو طور تميز بديناميكية فقهية اجتهادية سعت إلى تأسيس نظام اجتماعي جديد بكافة المجالات، وبعد محاولات من التفاعل ومن الإثبات والمحو والإضافة والإلغاء وصلنا إلى نهايات القرن الرابع وبدايات القرن الخامس لنظام اجتماعي وثقافي أرست بنياته تماماً، وأصبح هناك نظام وإطار عام تتحرك من خلاله الحياة الإسلامية اجتماعياً وثقافياً، وهنا كانت نهاية فترة الديناميكية الأولى وفيها تم إرساء المذاهب الأربعة.
الطور الثاني: وفيه يتم الادعاء بغلق باب الاجتهاد، وهي فكرة غير صحيحة؛ فالاجتهاد لم يخفت أو ينته بل انتقل من طور إلى طور آخر من طور الاجتهاد التأسيس إلى طور الاجتهاد داخل إطار ونظام تم تأسيسه بالمرحلة الديناميكية الأولي وأصبح واقعاً فعلياً ومحل رضا وقبول الجميع؛ ففيه نضجت قواعد ونظريات فقهية لم تكن موجودة بالفترة الأولى وهي قواعد واجتهادات لا نستطيع أن نقرأها مفصولة عن المرحلة الفقهية الأولى. فالشاطبي ومقاصده، وابن عابدين واشتغاله على قضية العرف للارتقاء به إلى مصاف المصادر التشريعية الرسمية والأساسية، وهو واقع فى فترة ما يسمى بغلق باب الاجتهاد أنتج فكرة المقاصد والذى عمل العقل النهضوي بالعصر الحديث على استغلالها ومحورَ جزء مشاريعه الإصلاحية وفق تلك الأفكار. من هنا لا نستطيع أن نقول بأن باب الاجتهاد قد أُغلق، ولكن نقول إنه انتقل من طور إلى طور آخر[6].
ولكن ما هي ماهية الفتوى؟ وما هي كيفية اشتغالها وتفاعلها مع الواقع؟ سيحاول عجرمة أثناء اشتغاله الإثنوغرافي محاولة تقديم إجابات على تلك الأسئلة فسيرى أن لجنة الفتوى تؤطر ممارستها داخل حيزين أساسيين: حيز يراعي البعد الدنيوي يعمل على تيسير أمور الناس؛ وحيز يراعي البعد الأخلاقي عبر تقويم السلوك، ولذلك فإن الفتوى ”لم تكن سعياً لتوضيح نقاط حول العقيدة الصحيحة” (ص264). ولذلك فالمفتي لابد من توفره على شروط أساسية لكي يستطيع تلك المهام الصعبة التي تحاول أن تراعي بين البعد الدنيوي وتيسير معاش وحياة الناس والبعد الأخلاقي من خلال تقويم السلوك يعدده.
ولذلك فهو يعدد تلك يضع صفات عدة يعتقد أنها هامة لكل مفت ”يجب على طريقته أن تعكس خبرته في الحياة وفهمه ومعرفته ويتوقع منه أن يكون صبورا ومتواضعا ومتعاطفا ورحيما ولا يجب أن يكون صاخباً أو متبجحاً أو أن يهين أي شخص حتى وإن وبّخه على فعل ما” (ص264). ولكن ثمة شرط جوهري لابد للمفتي من أن يتمثله وهو ”افتراض حسن النية” أثناء تلقيه وتفاعله مع أسئلة السائل والمستَفتين. ولذلك فبدلاً من ”أن يقال إن الفتوى هي استكشاف للعقائد الصحيحة، فبالأحرى يمكننا أن نقول إن الفتوى متعلقة بما يمكن للمفتي أن يقول مع افتراض حسن النية في السائل وما يجب عليه أن يفعله ضمن حدود العقيدة وضمن المفاهيم الكلية عن الذوات المسلمة المثالية مما يتيح لهم استكمال حياتهم اليومية” (265-266).
ولذلك فهو يعدد تلك يضع صفات عدة يعتقد أنها هامة لكل مفت ”يجب على طريقته أن تعكس خبرته في الحياة وفهمه ومعرفته ويتوقع منه أن يكون صبورا ومتواضعا ومتعاطفا ورحيما ولا يجب أن يكون صاخباً أو متبجحاً أو أن يهين أي شخص حتى وإن وبّخه على فعل ما” (ص264). ولكن ثمة شرط جوهري لابد للمفتي من أن يتمثله وهو ”افتراض حسن النية” أثناء تلقيه وتفاعله مع أسئلة السائل والمستَفتين. ولذلك فبدلاً من ”أن يقال إن الفتوى هي استكشاف للعقائد الصحيحة، فبالأحرى يمكننا أن نقول إن الفتوى متعلقة بما يمكن للمفتي أن يقول مع افتراض حسن النية في السائل وما يجب عليه أن يفعله ضمن حدود العقيدة وضمن المفاهيم الكلية عن الذوات المسلمة المثالية مما يتيح لهم استكمال حياتهم اليومية” (265-266).
والكاتب سيعمد بإدراج ممارسة لجنة الفتوى ضمن ما يسميه برعاية أو العناية بالذات فهي ليست ممارسة قانونية على غرار عمل المحاكم، ولكنها تُجذر ذاتها في ”ممارسة تربوية تتميز بكونها تولي اهتماماً كبيراً لا لمسألة السائل فحسب، وإنما لضعفه وبواعثه ورغباته وآماله وتخوفاته ومعاناته” (ص267).
خاتمة أو في النقد
ستحاول الكاتبة صبا محمود تقديم ثلاثة نقودات لاطروحاتها وتقديم إجابات لها.
النقد الأول:أ نه قد يحاجج البعض أن ثمة فارقاً أساسيّاً وجذرياً بين فقه المحكمة المصرية ونظيرتها الأوربية يتمثل في ارتكاز المحكمة المصرية على المضمون الديني وغيابه في الاوروبيّة. ولكن كما ترى الكاتبة ذلك النقد يغيب عنه معيار المحكمة تجاه الدين المتجذر في توصيف معياريّ والذي يطرح فيه ما يجب أن يكون الدين عليه في الواقع. فمحدد رؤية المحكمة للدين نابع من التقليد البروتستانتيّ الذي يعطي فيه الأفضلية ”للايمان والضمير على حساب الممارسات والطقوس والشعائر” (ص267).
النقد الثاني: متمثل في أن الكاتبة تتجاهل الاختلاف الأساسي بين أن تقوم الدولة في نفي الوجود القانوني لمجموعة دينية وبين رفض الدولة لمجموعة ممارسات محددة تقوم بها مجموعة دينية، مثال ذلك ما أوردناه سابقاً في قضية البهائيين في مقابل قضية مشكلة حجاب السيدة دحلب بسويسرا فنحن أمام نفي للأنطولوجيا المتعالية للذات لمجموعة دينية أمام نفي آخر لممارسات مجموعة دينية لا تحجر فيها على قيمها المتعالية، ولكن تحفظها على ترجمة تلك المتعاليات للممارسات وتمظهراته في الواقع.
ولكن الكاتبة تقلل وتخفف من حدة ذلك الاختلاف من خلال تجربة البهائيين من خلال أن المحكمة المصرية تعترف بالبهائيين كذوات قانونية. الاختلاف كامن فقط، كما ترى الكاتبة، في أن المحكمة المصرية تنفي تساوي البهائي بالمسلم وهنا تفضل المحكمة الأوروبية في ممارساتها المحكمة المصرية. ولكن ذلك لا يجب أن يجعلنا أن نتجاهل أن المحكمة الأوروبية يتحكم فيها كما المحكمة المصرية القيم الأكثروية، نحن في الحقيقة نرى أن ثمة استسهالاً من الكاتبة لمحاولة الوصول إلى مماثلة ما بين أداء المحكمتين؛ وهذا فيه تحيز كبير. فالاعتراف بالوجود القانوني للبهائي كمثال وإن وجد فهو اعتراف متذبذب بين الاعتراف واللاعتراف وليس دائماً، وذلك الاعتراف يواجه في ممارسات الحياة العملية من عمل وسفر وعلاج مشاكل حقيقية لا نستطيع بحال أن نماثلها بعدم اعتراف المحكمة الأوروبية ببعض الممارسات الدينية. الاختلاف هائل وليس كما تود أن تقدمه الكاتبة.
خطورة الأمر نابعة كما يقول طلال أسد بأن ”جوهر الإنسانية يصبح مُقيداً من خلال الخطاب القانوني”[7]. لذا فكل تذبذب في نفي إو إثبات للهوية لشخص ما يعني تذبذب في الاعتداد بنفي أو إثبات وجود الشخص ذاته. إن الشخص لا يبرز للوجود في إطار الدولة الحديثة إلا عبر هوية شخصية معترف بها. وكما رأينا في النموذج البهائي أنّ ثمة خللاً أحيانا يحدث مما يعني أن ثمة خللاً سيلحق بالشخص البهائيّ في الاعتراف بوجوده ذاته.
النقد الأول:أ نه قد يحاجج البعض أن ثمة فارقاً أساسيّاً وجذرياً بين فقه المحكمة المصرية ونظيرتها الأوربية يتمثل في ارتكاز المحكمة المصرية على المضمون الديني وغيابه في الاوروبيّة. ولكن كما ترى الكاتبة ذلك النقد يغيب عنه معيار المحكمة تجاه الدين المتجذر في توصيف معياريّ والذي يطرح فيه ما يجب أن يكون الدين عليه في الواقع. فمحدد رؤية المحكمة للدين نابع من التقليد البروتستانتيّ الذي يعطي فيه الأفضلية ”للايمان والضمير على حساب الممارسات والطقوس والشعائر” (ص267).
النقد الثاني: متمثل في أن الكاتبة تتجاهل الاختلاف الأساسي بين أن تقوم الدولة في نفي الوجود القانوني لمجموعة دينية وبين رفض الدولة لمجموعة ممارسات محددة تقوم بها مجموعة دينية، مثال ذلك ما أوردناه سابقاً في قضية البهائيين في مقابل قضية مشكلة حجاب السيدة دحلب بسويسرا فنحن أمام نفي للأنطولوجيا المتعالية للذات لمجموعة دينية أمام نفي آخر لممارسات مجموعة دينية لا تحجر فيها على قيمها المتعالية، ولكن تحفظها على ترجمة تلك المتعاليات للممارسات وتمظهراته في الواقع.
ولكن الكاتبة تقلل وتخفف من حدة ذلك الاختلاف من خلال تجربة البهائيين من خلال أن المحكمة المصرية تعترف بالبهائيين كذوات قانونية. الاختلاف كامن فقط، كما ترى الكاتبة، في أن المحكمة المصرية تنفي تساوي البهائي بالمسلم وهنا تفضل المحكمة الأوروبية في ممارساتها المحكمة المصرية. ولكن ذلك لا يجب أن يجعلنا أن نتجاهل أن المحكمة الأوروبية يتحكم فيها كما المحكمة المصرية القيم الأكثروية، نحن في الحقيقة نرى أن ثمة استسهالاً من الكاتبة لمحاولة الوصول إلى مماثلة ما بين أداء المحكمتين؛ وهذا فيه تحيز كبير. فالاعتراف بالوجود القانوني للبهائي كمثال وإن وجد فهو اعتراف متذبذب بين الاعتراف واللاعتراف وليس دائماً، وذلك الاعتراف يواجه في ممارسات الحياة العملية من عمل وسفر وعلاج مشاكل حقيقية لا نستطيع بحال أن نماثلها بعدم اعتراف المحكمة الأوروبية ببعض الممارسات الدينية. الاختلاف هائل وليس كما تود أن تقدمه الكاتبة.
خطورة الأمر نابعة كما يقول طلال أسد بأن ”جوهر الإنسانية يصبح مُقيداً من خلال الخطاب القانوني”[7]. لذا فكل تذبذب في نفي إو إثبات للهوية لشخص ما يعني تذبذب في الاعتداد بنفي أو إثبات وجود الشخص ذاته. إن الشخص لا يبرز للوجود في إطار الدولة الحديثة إلا عبر هوية شخصية معترف بها. وكما رأينا في النموذج البهائي أنّ ثمة خللاً أحيانا يحدث مما يعني أن ثمة خللاً سيلحق بالشخص البهائيّ في الاعتراف بوجوده ذاته.
النقد الثالث: أن التحيز الكامن في أحكام المحكمتين نابعٌ من تطبيق خاطئ وليس نتيجة ”لتحيز متأصل في القانون الليبرالي” (ص268). وهذا نقد نابع من خلفية شكلانية للقانون متمثلة في أن قوة القانون نابعة ليست من معياريته، ولكن من تنزيله الصحيح في الواقع. ولكن الكاتبة تتجه في اتجاه مضاد لتلك الشكلانية القانونية وترى أن التأسيسات والقواعد القانونية للعلمانوية السياسية ليست محايدة، ”ولكنها مُشرَبة بوصفها جزءاً من البنية التنظيمية للدولة القومية بمعايير وقيم محددة تاريخياً تمنح الدولة القومية هويّة مميزة” (ص269). ما هو هام داخل ذلك الإطار هو ضرورة تفهم أن الاشتغال القانوني الليبرالي العلمانوي تتجاذبه قوتان؛ قوة تدفع نحو الانحياز لقيم الأكثرية وقوة مضادة تدفع نحو محاولة تنفي الوعد العلماني المعياري -المجرد والمتعامي- بالمساواة.
ويُصدر حسين عجرمة مقدمة كتابه بتساؤلٍ هامّ حول هوية الدولة المصرية: هل هي دولة علمانية أم دينية؟ فمصر دولة يحكمها دستور ينص فيها على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، وفي مقابل ذلك لديها نظام مستمد من القوانين العلمانوية الأوروبية، حتى قوانين الأحوال الشخصية لا تسلم من ذلك الاستمداد من المدونة القانونية الغربية. والكاتب لن يصل بنا إلى حل ذلك الإشكال أو التساؤل وسيصل بنا إلى نتيجة أخرى وهو أن التفاعل بين الدين والسياسة وإمداد بعضهما البعض لطاقات صراع مستمرة تحول دون الوصول إلى إجابة محددة.
نحن في مقابل ذلك نعتقد أن الأمر فيه ثمة مبالغة. فالإبهام التفاعلي بين الديني والعلماني لن يمنعنا من الإقرار وبشكل ما من أن دولة كالدولة المصرية هي علمانية بامتياز؛ فالجدل التفاعلي الذي نقول به -ضداً لما تروجه العلمانية عن ذاتها من أنها فصلية وليست تفاعلية بخصوص علاقتها مع الدين- لن يمنعنا من القول بعلمانية الدولة المصرية. فالتفاعل هنا لا يتم بأيّة حال من مواقع متساوية، ولكن من مواقع يوجد فيها طرف أعلى وطرف أدنى تحتل فيه العلمانية الطرف الأعلى الحاكم والناظم والدين الطرف الأدني والذي يؤقلم ذاته وفق ذلك الإطار العلمانيّ الكليّ.
فالعلاقة، وإن كانت تفاعلية، ولكن تتم وفقاً لتساؤل من يخضع لمن ونحن نعتقد أن الدين وأنظمته هو الذي يقوم بالخضوع تحت مفاهيم وممارسات العلماني في الواقع ونستطيع أن نرى ذلك في نص حكم المحكمة الإدارية الابتدائية لعام 2008 والذي أوردناه سابقاً في متن الدراسة حيث ينص حكم المحكمة على أنه ”يحتوي النظام العام على القواعد التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد، من منظور سياسي واجتماعي واقتصادي وتحل محل مصالح الأفراد.
ويقوم مفهوم النظام العام على مذهب علماني بحت بحيث يطبق كمذهب عام يمكن للمجتمع برمته الالتزام به ويجب ألا يكون مرتبطاً بأي حكم من أحكام الشريعة”. فالناظم للعلاقة هي المفاهيم العلمانية: المصلحة، النظام العام، والشريعة تقوم بأقلمة ذاتها وفقاً لتلك المفاهيم.
نحن في مقابل ذلك نعتقد أن الأمر فيه ثمة مبالغة. فالإبهام التفاعلي بين الديني والعلماني لن يمنعنا من الإقرار وبشكل ما من أن دولة كالدولة المصرية هي علمانية بامتياز؛ فالجدل التفاعلي الذي نقول به -ضداً لما تروجه العلمانية عن ذاتها من أنها فصلية وليست تفاعلية بخصوص علاقتها مع الدين- لن يمنعنا من القول بعلمانية الدولة المصرية. فالتفاعل هنا لا يتم بأيّة حال من مواقع متساوية، ولكن من مواقع يوجد فيها طرف أعلى وطرف أدنى تحتل فيه العلمانية الطرف الأعلى الحاكم والناظم والدين الطرف الأدني والذي يؤقلم ذاته وفق ذلك الإطار العلمانيّ الكليّ.
فالعلاقة، وإن كانت تفاعلية، ولكن تتم وفقاً لتساؤل من يخضع لمن ونحن نعتقد أن الدين وأنظمته هو الذي يقوم بالخضوع تحت مفاهيم وممارسات العلماني في الواقع ونستطيع أن نرى ذلك في نص حكم المحكمة الإدارية الابتدائية لعام 2008 والذي أوردناه سابقاً في متن الدراسة حيث ينص حكم المحكمة على أنه ”يحتوي النظام العام على القواعد التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد، من منظور سياسي واجتماعي واقتصادي وتحل محل مصالح الأفراد.
ويقوم مفهوم النظام العام على مذهب علماني بحت بحيث يطبق كمذهب عام يمكن للمجتمع برمته الالتزام به ويجب ألا يكون مرتبطاً بأي حكم من أحكام الشريعة”. فالناظم للعلاقة هي المفاهيم العلمانية: المصلحة، النظام العام، والشريعة تقوم بأقلمة ذاتها وفقاً لتلك المفاهيم.
ما نود أن نختم به دراستنا هو لفت النظر لأمر نعتقد أنه غائب عن كلٍّ من صبا محمود وحسين عجرمة، ونحن نعتقد أنه أمر يقف وراء ذلك التوتر. إذ نتفق معهما أن التوتر حاصل فقط في قلب العلمانوية، ولكن التوتر أيضاً لدينا في فضاءات الشرق الاوسط له ميسمّ خاص متمثل في جدلية العلماني والعلمانية وأسبقية الظهور، ففي العالم الغربي، ”العلماني سابق مفهومياً عن مذهب العلمانية السياسي، وأن عدداً من المفاهيم والممارسات والحساسيات قد تجمعت عبر الزمان لتشكل العلماني”[8].
فالعلماني كمقولة إبستمولوجية كان سابقاً على الظهور وهو الذي قام بالنهاية إنتاج العلمانية كمذهب سياسي وقانوني حديث؛ ذلك بخلاف ما تم في عالمنا العربي والإسلامي. حيث إننا تعرفنا على العلمانية وترسخت كأداة تقنية وسياسية قبل ظهور العلماني. فالعلماني كرؤية أنطولوجية ونظرة إبستمولوجية هو الذي سيشكل العلمانية كمذهب سياسي وممارسة عملية في الواقع بخلاف الذي حدث في عالمنا العربي والإسلامي. فالعلمانية هي التي ستشكل العلماني مما سيعني عدم تغلغل قيم العلماني (الأنطولوجية والإبستمولوجية) في المجتمع وسيقوم توتر بينيٌّ بين قيم المجتمع الما قبل حداثية، وقيم العلماني بخلاف العالم الغربي الذي قام بحسم تلك الأمور؛ لأن الأمور انتظمت بصورة طبيعية من الأنطولوجي والإبستمولوجي وتتويجاً بالسياسي والاجتماعي بخلاف ما حدث لدينا.
فالعلماني كمقولة إبستمولوجية كان سابقاً على الظهور وهو الذي قام بالنهاية إنتاج العلمانية كمذهب سياسي وقانوني حديث؛ ذلك بخلاف ما تم في عالمنا العربي والإسلامي. حيث إننا تعرفنا على العلمانية وترسخت كأداة تقنية وسياسية قبل ظهور العلماني. فالعلماني كرؤية أنطولوجية ونظرة إبستمولوجية هو الذي سيشكل العلمانية كمذهب سياسي وممارسة عملية في الواقع بخلاف الذي حدث في عالمنا العربي والإسلامي. فالعلمانية هي التي ستشكل العلماني مما سيعني عدم تغلغل قيم العلماني (الأنطولوجية والإبستمولوجية) في المجتمع وسيقوم توتر بينيٌّ بين قيم المجتمع الما قبل حداثية، وقيم العلماني بخلاف العالم الغربي الذي قام بحسم تلك الأمور؛ لأن الأمور انتظمت بصورة طبيعية من الأنطولوجي والإبستمولوجي وتتويجاً بالسياسي والاجتماعي بخلاف ما حدث لدينا.
فنحن ولجنا لذلك الأفق بالمقلوب، ولذلك نستغرب كل تحفظ يثار عند القيام بمحاولة تقييم النموذج المصري بنظيره الغربي؛ فنحن نرى ذلك أمراً طبيعياً للغاية وهو نابع من مبدإ أساس وهو أنه طالما قرر أفق ما تبني واستعارة نموذج نبت وترعرع خارج أفقه فهو ملزم طوال الوقت بقياس أدائه وفقاً لما يحدده ذلك الأفق من نظريات وممارسات. بالطبع التجربة مع الغرب حالياً مخالفة في ذلك عن كل الممارسات القديمة في أنها لا تفسح المجال للآخر اللاغربي ليطور لنفسه رؤية خاصة نابعة من تراثه؛ فكل ذلك يتم قمعه في مهده عبر دعاوى الكوننة والكتلجة للقيم والمبادئ الغربية.
الهوامش:
[1] مساءلة العلمانية، حسين علي عجرمة، ترجمة مصطفى عبدالظاهر، مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الاولى2017.
[2] تشكلات العلماني، ص212
[3] تشكلات العلماني، ص214
[4] الوضع البشري، حنة أرندت ،ترجمة:هادية العرقي، دار جداول ومؤسسة مؤمنون بلاحدود ،الطبعة الأولى 2015،ص297.
[5] المصدر نفسه، ص 301.
[7] تشكلات العلماني، ص153.
[8] تشكلات العلماني، ص30.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (1157 تنزيلات)
طوسون البديري
باحث مصري، مشتغل بالفلسفة وتاريخ الشرق الأوسط، وبالمنطقة بعد الربيع العربي.
مواد أخرى لـ طوسون البديري
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.