إيران: قطار الموت الأعمى
كانت أغلب الأحداث السيئة التي شهدها المشرق العربي، في العقود الثلاثة الأخيرة، إمّا من صنع إيران، أو نتيجة استثمارها في الأزمات التي تعرضت لها المنطقة. ورغم طرح إيران لشعارات محاربة الظلم ومقاومة العدوان، إلا أنّ ذلك لم يكن سوى عدّة تبريريّة استخدمتها لتحقيق غاياتها ومطامعها على حساب شعوب المنطقة.
وقد دفعت حالة الضعف التي مرّت بها مجتمعات المنطقة إيران إلى التنمّر على هذه المجتمعات، ومحاولة قلب الأوضاع بشكل جذريّ من أجل غرس نفوذها إلى أبعد مدى؛ عبر التنكيل بدول المنطقة واستباحتها وتحويلها إلى مشاع، لتتمكن بعد ذلك من إعادة تشكيلها بما يتناسب وتحقيق أهدافها.
بيد أنّ إيران في هذا المسار لم تدّمر خصومها فحسب، بل طال خرابُها كامل المساحة التي سارت عليها سكة قطرها؛ بما في ذلك حلفاؤها ومجتمعها، ووضعت نفسها على طريق المخاطر بعد أن بهرتها الانتصارات الآنيّة على مجتمعات لم تصحُ بعد من الأزمات التي تعرضت لها.
خلخلة الجيو-استراتيجيا
عندما دعت وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة السابقة غونداليزا رايس إلى إقامة الشرق الأوسط الجديد، كان محور فكرتها في حينه هو سيادة الدولة وسيطرتها على مختلف الفعاليات، وذلك في مواجهة لاعبين من غير الدولة أخذوا بالظهور بقوة في الشرق الأوسط، "حزب الله وحماس وحزب الدعوة العراقيّ". أما الركن الثاني، فكان تعميم ونشر الديمقراطيّة ونهاية الاستبداد.
تعني هذه الدعوة في ظاهرها أنّ الشرق الأوسط الجديد لن يختلف من حيث الهيكليّة عن النمط السابق له؛ فدوله ستبقى مكانها ولن تحصل تغييرات على هذه المستويات. فستقتصرُ التغييراتُ على مستوى العلاقات الداخليّة وطريقة إدارة الدولة لتفاعلاتها وكذا علاقاتها بالنظام الدوليّ وشكل انخراطها بالعولمة.
كانت إيران وحلفاؤها أكثر الأطراف تحسّساً تجاه هذه الدعوة، وصمّموا خطاباً معادياً لها يقوم على فكرة أن الشرق الأوسط الجديد يؤسس للهيمنة الأمريكيّة والغربيّة على المنطقة، ويهدد هوّية شعوبها في الطريق إلى سيطرة إسرائيل. ولم يكن خافياً حينها أنّ النظام الإيرانيّ في ذلك الحين ينطلق في عدائه لهذا المشروع -الذي لم يرق، بطبيعة الحال، لشعوب المنطقة- من قاعدة الدفاع عن أوضاعه السلطويّة، وأوضاع الأنظمة الحليفة له، ومنها نظام الأسد في سوريا.
لم تعمّر فكرة الشرق الأوسط الجديد الأمريكية طويلاً، حيث ستدخل أميركا بعدها بأزمات عديدة سببتها استراتيجيّات المحافظين الجدد، وكان كل ما فعلته أميركا أنها أوجدت العدة التبريريّة لإيران كي تستبيح المشرق العربيّ بذريعة ممانعة المشاريع الغربية. كما نبهتها أيضاً لضرورة صناعة شرق أوسط جديد بالفعل، ولكن هذه المرّة بأيدي إيران ولصالحها. وقد تنبه ملك الأردن، عبدالله الثاني، لهذا المشروع باكراً حينما حذّر مما أسماه "الهلال الشيعيّ".
الشرق الأوسط القديم
والحال أنّه قبل الأفكار الأمريكيّة والإجراءات الإيرانيّة، كان هناك شرق أوسط ارتسم منذ عشرينيّات القرن الماضي بصياغة بريطانيّة-فرنسيّة، أُطلق عليها تسمية "سايكس- بيكو" نسبة لوزراء خارجية البلدين في حينه. وجاء هذا الاتفاق انعكاساً تاريخيّاً متأخراً لمبادئ وستفاليا بعد هزيمة الإمبراطوريات في أوروبا، وإقرار سيادة الدول كمكونات أساسيّة في النظام الدوليّ، وفك ارتباط رجال الدين بالدّولة؛ وهو الأمر الذي تأخر حصوله في المشرق طويلاً نتيجة استمرار الإمبراطوريّة العثمانيّة وتأخر وصول الحداثة نتيجة ظروف موضوعيّة.
غير أنّ الشرق الأوسط الناتج عن اتفاق سايكس بيكو، ورغم تفصيله بما يتناسب ومقاسات بريطانيا وفرنسا ودعم مصالحهما، إلّا أنه راعى في جوانب كثيرة المعطيات المتوفرة في المنطقة، من نوع توفّر "الدول" الجديدة على مشتركات مصلحيّة بين مكوناتها ومقومات جغرافيّة متناسبة بين أجزائها، لا سيّما لجهة وجود إطلالات بحريّة خارجيّة. كما إنّه راعى الارتباطات السكانيّة والإداريّة السابقة، مع استثناءات محدّدة، الأقضية الأربعة التي اقتطعت من سوريا لإنشاء دولة "لبنان الكبير"، وضمّ ولاية الموصل للعراق بعد خلاف مع تركيا حولها.
لكن أيضاً، ومنذ لحظاته التأسيسيّة، اشتغل الشرق الأوسط القديم على فكرة أن التوازنات في هذه الكيانات الناشئة يجب أن تتم صياغتها بدقة لتضمن عدم هيمنة طرف على آخر. فتعديل كفة الديموغرافيا المائلة بشدّة لصالح الأكثريّة العربيّة السنيّة -خاصةً في سوريا- يتطلّب مقابلته بميزان السلطة الذي يجب أن يكون راجحاً لمصلحة الأقليات؛ لضمان استمرار هذه الكيانات وتحقيق أكبر قدر من السلاسة في تفاعلاتها السياسية والاجتماعية1.
وبفضل عوامل مساعدة كثيرة، منها قضيّة فلسطين والاستقطاب العربيّ "على المستوى الشعبيّ" تجاهها، وبالتالي أولوية الخارجيّ على الداخليّ، بالإضافة إلى طموحات شعوب المشرق بالاستقرار والتطور... كلّ ذلك ساهم باشتغال منظومة سايكس-بيكو على مدار العقود السابقة، وحتى عندما انفجرت هذه الصيغة مؤخراً، فقد حصل ذلك نتيجة أسباب وضغوط خارجيّة بدرجة كبيرة.
لم يكن اندلاع الثورات في سوريا والعراق بدافع من تغيير صيغة سايكس- بيكو؛ فهي بالأصل جاءت في سياق ربيع عربيّ أعمّ، لا تَمتُّ دُولُهُ بشكل من الأشكال لاتفاق سايكس بيكو بصلةٍ. كما إنّ المطالب المرفوعة في تلك الثورات ذات علاقة مباشرة بقضايا داخلية صرفة أغلبها يندرج ضمن هوامش مطالبات المعارضة للسلطة في أيّ مكان وزمان في هذا العالم، من نوع تداوليّة السلطة ومحاربة الفساد وتوسيع قواعد المشاركة في صنع القرار بالإضافة إلى تخفيف القبضة الأمنية عن المجتمعات المحليّة، ورأس تلك المطالب كان حريّة الشعوب من أنظمة الاستبداد التي تغوّلت إلى درجة الاستهتار بالكرامة الآدميّة.
معاكسة التاريخ
كان التاريخُ في المنطقة، ومع الثورة السوريّة، يسير في سياقه الطبيعيّ نحو التطور، أي الانتقال من مرحلة الجمود والتخلف إلى مرحلة متطوّرة تتناسب مع تقديرات روافعها السياسيّة والاجتماعيّة، من إمكانية بلوغ فرص أفضل لتطوير الواقع المجتمعيّ ومكمّلاته السياسيّة، مع المحافظة على هيكليّة الدولة وبنائها الطبيعيّ. وكان التغير المطلوب مقتصراً على أدوات وآليات تشغيل هذه الدولة وأساليب إدارة العلاقة بينها وبين المجتمع من جهة، وبينها وبين العالم الخارجيّ من جهة أخرى؛ وهو فعلٌ سياسيّ لا يخرج عن منطق السياسة المعاصرة ولا يخالف قوانينها.
أما الأداة، فكانتِ الحراك الجماهيريّ المسمى ثورة؛ وهي الأداة الأكثر شرعيّة في السياسة الحداثيّة، بعكس الانقلابات العسكريّة التي كانت السّمة التغييريّة الأبرز في الإقليم على مدار العقود السابقة، والتي لم تحظَ على الدوام بشرعيّة لعدم اضطرارها قياس مدى الرضى الشعبيّ عنها والذي يشكل العنصر الأساس في شرعيّة السلطة. وقد اتخذ الحراك السوريّ بالفعل الأنماط المتعارف عليها في الحراكات السياسيّة على المستوى العالميّ، من مظاهرات وإضرابات وسواها من التعبيرات الجماهيريّة؛ وهو ما جعل الحراك ثورة مكتملة الأركان بمطالب سياسيّة حقيقيّة ومندمجة مع سياق عالمي يتجه نحو تحديث السياسة وعصْرنتها، عبر وضعها في إطار ديمقراطيّ يتأسس على قاعدة حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نظم الحكم التي تناسبها.
وشكّل التدخل الإيرانيّ في الشأن السوريّ حالةً هجينةً وخارجةً عن سياق الأحداث؛ ذلك أنّ الحدث سوريّ بامتياز، بأدواته وأفكاره ومطالبه، والحالة الممكنة للتدخل في مثل هذه الحالة من الخارج تكون ممكنة فقط من خلال المبدأ الذي أقرّته الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة تحت عنوان" التعاون من أجل السلام"، والذي يعكس مدى التطوّر الذي وصل إليه إدراك مدى التبادليّة والترابط في السلام العالميّ بين الشعوب والأمم. والتدخل في هذه الحالة يكون في مواجهة الطغم الحاكمة ولصالح الشعوب الساعية للحرية والسلام، في ما بدا أنه استدراك للمآسي التي حصلت في البوسنة ورواندا وعجز المجتمع الدوليّ من منع حصول المذبحة، وعدم كفاية القوانين الناظمة للعلاقات الدوليّة في التعاطي مع هذه الوقائع.
وحتى تستطيع إيران جعل تدخلها مبرراً، تعاطت مع الحدث بوصفه نظاماً له مدخلات ومخرجات، وتلاعبت، تقنيّاً، بالمدخلات؛ بحيث يتسنى لها توليف المخرجات إن لم يكن لصالحها بالمطلق، فبجعلها حمّالة قراءات كثيرة؛ الأمر الذي على أساسه يتم إحباط إمكانيّة تصريف تلك المخرجات لمصلحة الطرف الآخر"الثورة".
أرادت إيران عكسَ حركة التاريخ من كون الشعوب هي العامل المحرّك للتغييرات إلى إيكال هذه المهمة بالخارج، وإنجازها من خلال حملة من الأعمال الصلبة "حروب ومواجهات" وأعمال ناعمة تقوم إمّا على تحييد الدول الأجنبيّة صاحبة الحضور والمصالح -كما فعلت في الاتفاق النوويّ مع إدارة باراك أوباما- أو محاولة إغراء روسيا بتقاسم النفوذ في سوريا.
حاولت إيران إعادة إنتاج اللحظة الاستعماريّة بكل تفاصيلها من خلال دمج المشاريع الاستعماريّة في المنطقة مع التجربة الصهيونيّة في التفريغ والاستيطان. فعمدت إلى ربط المراكز في بيروت وبغداد ودمشق بالمركز الإيرانيّ، أو حتى من خلال إعادة التجربة العثمانيّة في السيطرة على العالم العربيّ، بل من خلال أنماط حكومات محليّة أوجدوها في البيئات العربية، متمثلة بأُسر سلاليّة محليّة2.
وإذا كانت سايكس بيكو هي ترجمة متأخرة للمتغيّرات الحاصلة في أوروبا بعد صلح وستفاليا وانهيار الإمبراطوريّات، وإعادة بناء هيكليّة الشرق الأوسط على هذه المقاسات، فقد أرادت إيران هنا قلب التاريخ بأثر رجعيّ وإلغاء تلك التطورات. وكانت ذريعتها انتهاء العصر الأميركيّ باعتبار أن أميركا أكثر الأطراف التي صنعت تأثيرات سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة بعد الحرب العالمية الثانيّة في المنطقة. وهذا مبرر كافٍ للانقلاب على كلّ التغييرات، وذلك في استعادة واضحة للحظة التأسيسيّة لسايكس بيكو التي انطلقت من ضعف الدولة العثمانيّة ووصفها بالرجل المريض وتبرير تقاسم مناطق سيطرتها؛ إمّا بذريعة عدم قدرة الدولة العثمانيّة على إدارة هذه المناطق، أو بذريعة تطويرها، أو حتى السماح لشعوبها بتقرير مصيرها. سوى أن إيران حاولت إعادة اللحظة التي كانت الإمبراطوريّات تمثّل خلالها مراكز كونيّة للفكر الدينيّ التي انتهت باعتبارها مرحلة رجعيّة تجاوزتها التطورات إلى لحظة تقدميّة تعيد إنتاج السيطرة الدينيّة بأغلفة شفافة كالممانعة والمقاومة.
انعكاس الخراب
احتاجَ إجراء هذه التكيفات مناورة إيرانيّة واسعة، وجملة من الإجراءات اللازمة؛ من صناعة لمنظومة الأدوات "ميليشيات وتنظيمات"، إلى ترتيب منظومة استراتيجيّة حليفة "حكومات محليّة ودول خارجيّة". واستدعى ذلك أيضاً تغييرات هكيليّة داخل النظام الإيرانيّ نفسه وتراتبيّة مراكز القوى بداخله. صحيحٌ أنّ الحرس الثوريّ الذي أشرف على الجزء الأكبر من الإجراءات الإيرانيّة في المشرق العربيّ كان هو الفاعل الأبرز في إطار هيكليّة النظام الإيرانيّ، لكنه تحوّل جراء تلك التغييرات إلى الفاعل المطلق، داخليّاً وخارجيّاً؛ ممّا ترتب عليه تهميش باقي الأطر، بما فيها مؤسسات الدولة الإيرانيّة -مؤسسات الرئاسة والخارجيّة- وإضعاف قيمتها التفاعليّة مع العالم الخارجيّ.
كلّ ما تمّ تدميره في المشرق -سوريا والعراق- كان يستدعي تخريباً موازياً، وخاصة في البيئات الشيعيّة العربيّة التي تتحكم إيران بمصائرها عبر وكلائها المتنفذين في هذه البيئات. فـ"قد نزعت الحرب أرواح آلاف الشبان الشيعة. كانت سنوات المشاركة في الصراع كافية لكسر أوهام مركبة عن الحياة والموت والتضحية بالنفس. لعبت الآلة الإعلاميّة الشيعيّة دوراً في دفع آلاف الجماهير لمنح الحرب السوريّة سمات القداسة بالاستناد إلى رهبة الخوف من الآخر. ومنذ اشتعال الحرب في سوريا، هيمنت فكرة الملحمة الحسينيّة ومظلوميّة الشيعة عبر التاريخ وتم الترويج لها بأسلوب هستيريّ؛ مما خلق حالة غليان دينيّ والحاجة إلى الثأر. ولكنّ الفكرة نفسها ما لبثت أن تفككت وتحولت إلى صدمة. وتحت وطأة هستيريا الحرب، اجتاح شعور فائض القوة وحرية التصرف للنيّل من أي خطر ولم يتوانَ هذا الشعور، ولو للحظة، عن إنتاج سلوكيّات جماعيّة باتت كفيلة كي تدمر الصيغة المعهودة لحياة الشيّعة في مناطقهم"3.
وهناك مؤشرات عديدة، في العراق ولبنان، وفي إيران نفسها، على مظاهر الانفلات والفوضى المتصاعدة في مجتمعات هذه الدول، خاصة وأنها بدأت تتحسّس جرحها الذي أخذ يبرد بعد نزف استمر لسنوات، ودعاية أيديولوجيّة وصلت إلى ذروتها مع محاولات إقناع البسطاء بأنّ المهدي سيظهر بعد وقت قريب؛ وهي مغامرة ستؤدي، منطقيّاً، إلى إضعاف البناء الأيديولوجيّ برمته وربما انهياره، كما يحصل بعد الأزمات والحروب التي تؤدي إلى انهيار الأيديولوجيّات نتيجة انكشاف زيفها وبعدها عن الواقع. والأهمّ بسبب الخسائر التي تُرتبها على معتنقيها.
وهناك استفاقة من قبل شرائح كبيرة بأنّ الحرب لم تنتج إلّا مزيداً من الانقسام الطبقيّ وانحياز الثروات إلى جانب فئات معينة. وهذه الاستفاقة لا تخفي حالة من الغضب على النخب السياسيّة الحاكمة في هذه البلدان، ووصلت في إيران إلى حدّ التحذير من عودة الثورة الخضراء، وفي العراق تعبر عن نفسها عبر الانقسامات السياسية الحادة بين الأحزاب والكتل الشيعيّة4.
ونتيجة ذلك، فإن إيران التي انخرطت بكثافة في حروب المشرق وساهمت بتحطيم هياكله بدرجة كبيرة، فتحت أبوابها أمام فرص كثيرة لعبور المخاطر. ويمكن ملاحظة ملامح التصدع بشكل واضح في أكثر من مكان داخل إيران ولدى حلفائها في المنطقة. ويمكن توصيف هذه الحالة بنشوء بؤر أزمويّة داخل مجتمعات هذه الأطراف تحمل قابليّة كبيرة للانفجار.
تقديرات خاطئة
ليس سراً أنّ إيران استطاعت في مرحلة تشكيل صورة إيجابيّة لها في وعي ووجدان شرائح عربية كثيرة. وفي ظل انكسار الأنظمة العربيّة وتخاذلها وتبعيّتها، كان الخطاب الإيرانيّ، المتخذ صبغة المقاومة، يجذب الكثير من العرب، نخباً وجماهيرَ. وقد تولّت نخبة إعلامية محترفة تصميم سرديّة متكاملة عن المقاومة والتضحية، عززتها الصور المأساويّة القادمة من جنوب لبنان وغزة، باعتبار أن حزب الله وحماس محسوبان على تحالف إيران في المنطقة.
غير أنّه، وفي مرحلة الثورة السورية، انتهجت إيران وحليفها حزب الله سياسات غير شعبيّة من خلال إعلانهما الانحياز لنظام الأسد؛ وهو الأمر الذي نتجَ عنه خسائر مساحة واسعة من التأييد الشعبيّ العربيّ. وقد أثار هذا الأمر تساؤلات كثيرة عن إقدام إيران على هذه المغامرة التي نتج عنها خسارة تأييد شرائح عربيّة واسعة. ويمكن تلخيص الدوافع التي تقف خلف هذا الموقف بالآتية:
- اعتقاد صانع القرار أن إيرّان تقف أمام مخاطر وفرص، وهذا يتطلب اختيار الأنسب لإيران بعيداً عن مدى شرعيّة وشعبيّة مثل هذا القرار، مع التوهّم بأنّ السلبيات الناتجة عن مثل هذا القرار يمكن مسحها وتجاوزها من خلال التصميم على رواية مقاومة المؤامرة. أمّا الفرصة، فقد تجسدت بإمكانية تغيير الأوضاع في المنطقة لصالح إيران وإلى الأبد، وحين إنجاز المهمة لا يعود من المهمّ الاستثمار بالتأييد الشعبيّ العربيّ، بعد أن تفرض إيران نفسها بالقوة.
- تصوّر إيراني مبالغ ٌفيه عن المتغيرات العالميّة ودور إيران الحالي. وقد ثبت أنه تصوّر رغبويّ، ينطوي على تضليل كبير، أو هو تصور تحريفيّ تعمل جهات تقدير إيرانيّة على توليفه بشكل مقصود؛ إما لغايات داخليّة بهدف قمع أيّ معارضة داخليّة للسياسات الإيرانيّة المكلّفة، أو لأغراض خارجيّة من نوع شنّ حرب نفسيّة على دول الإقليم وجعلها تتراجع عن تشكيل مقاومة فاعلة ضد السياسات الإيرانيّة في المنطقة. وما يثبت زيف مثل هذه التصورات، أو خطأها على الأقل، حقيقة أنّ إيران لم تصل للدرجة التي يصبح لها تأثير في السياسات الدوليّة. كما إنّ التراتبيّة الدوليّة لم تتغير بالقدر الذي يصل إلى حالة من التهلهل يتم السماح فيها لدولة ضعيفة باحتلال مواقع تقريريّة.
- التفسير الأقرب للحقيقة أن إيران دخلت في المساحة الرماديةّ بين صراع الفاعلين الكبار، وهي متموضعة في تلك المساحة إلى حين التوصل إلى تفاهمات وإنضاج تسويات بين هذه القوى، وحينها فقط سيتم إخراجها من تلك المساحة. وغالباً ما تكون عمليّة الإخراج في مثل هذه الحالة على شكل نزعٍ مؤلم بتداعيات واسعة ومفتوحة على احتمالات كثيرة.
إمكانات إيران تهزمها
لا تتكون البنية الجيوسياسيّة فقط من معاني الفاعلين السياسيين، أو من خلال الإرادة الذاتيّة للفاعل، وإنّما هناك عوامل بنائيّة أو موضوعيّة تمارس تأثيراً طاغياً على الفاعل وتصوراته، وتمارس قهرًا على دوره. فالفعل السياسيّ يتأثر إلى حد كبير، بل ويتشكل ويُصاغ بواسطة العوامل البنائيّة السياسية والجيو-ستراتيجيّة.
وتطبيقاً لهذه القاعدة، فإنّ الفعل السياسيّ الإيرانيّ، والإرادة الذاتيّة لإيران، لا يمكنهما أن يتحررا تماماً من تأثير ظروف البناء الجيو-سياسيّ، والعوامل البيئيّة سواء أكانت المحليّة أو العالمّية. فأشكال السيطرة، والقوة والأيديولوجيا، والأوضاع الاقتصاديّة، وارتفاع نسبة السكان، وموقع أميركا في سلم القوّة العالميّ، فضلاً عن علاقة إيران بدول الجوار، والدول التي لها مصالح في المنطقة... كلّ هذه العوامل تحدُّ من حرية الحركة، وتفرض على إيران السير وفق هذه العوامل البنائية6.
بالإضافة لذلك، فقد أجمعت مناهج قياس قوّة الدولة على اشتمالها لعدد من المتغيرات -السكان، المساحة، القدرة العسكريّة، إجمالي الناتج المحليّ، التطور التكنولوجيّ، الكفاءة الإداريّة. وعند قياس قوّة الدولة، يتم الاخذ في الاعتبار جوانب عديدة مثل: فن إدارة القوّة، أي الذكاء والرشد في توظيف القوّة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب أو أقل قدر من الخسائر7.
وليس يخفى حقيقة أن إيران بلد متخلف تكنولوجياً، ليس فقط بالقياس مع الدول الكبرى، بل حتى بمقياس جيرانه الإقليميين، أي تركيا وباكستان وإسرائيل. ولم تصل إلى مرحلة تطور كوريا الشمالية على صعيد صناعة الأسلحة. وحتى في مجال الاستراتيجيّات العسكرية، فلا تزال إيران عند استراتيجيتها القديمة التي تعتمد الكثافة البشرية في الهجوم -السلاسل البشريّة- التي طبقتها في حرب العراق ونتج عنها مئات آلاف القتلى في صفوف قواتها، وطبقتها مؤخراً في حلب، ولم ينقذها من الفشل سوى التغطية التي أمّنتها الطائرات الروسيّة.
أمّا على المستوى الاقتصادي، فإن إيران تحتلّ مرتبة متأخرة في سلم الدول المتطورة على هذا الصعيد، وما عدا إنتاج النفط والغاز ليس لدى إيران منتجات تعتمد عليها، ويبدو هيكلها الإنتاجيّ مقتصراً على الصناعات الاستخراجيّة.
ومثل بقية الأنظمة الاستبداديّة المتخلفة، أدارت إيران ثرواتها بطريقة استنزافيّة، كما بعثرت قدراتها وممكناتها واستنزفتها إلى أقصى الحدود، ولم يعد بالإمكان تحقيق أكثر مما حققته8. مع ملاحظة أنّه لم يتم تثبيت مكاسبها حتى اللحظة. وهناك قرار إقليميّ بشطب هذه المكاسب كي لا تتحوّل إلى مكاسب دائمة، مع ملاحظة أيضاً أنّ الجزء الأكبر من مكاسب إيران في سوريا تمّ تحقيقه تحت غطاء طائرات روسيا التي استخدمت سياسة الأرض المحروقة في هذا البلد.
بيد أنّ ما هو أهمّ من كل ذلك حقيقة أنّ إيران نفسها تعاني من انقسامات وتناقضات تصل إلى حد العداوة بين الليبراليين والمحافظين وبين القوى الديمقراطيّة والدينيّة. كما إنّ هناك توترات متزايدة بين الشعوب والإثنيات والمذاهب التي تتكون منها. فنسبة الفرس لا تتجاوز، وفق أرقام رسميّة، 51% من مجموع السكان، فيما يشكل الأذريون 24%، ويتوزع الباقون بين أكراد وعرب وبلوش وغيرهم. وعلى الرغم من أن غالبيّة السكان يدينون بالمذهب الاثني عشري (85%)، إلّا أن 58% منهم فقط يتحدثون الفارسّية، فيما يتحدث التركية 26%، وبقية السكان يتحدّثون الكردية والعربية وغيرها من اللغات. هذا يعني أنّ إيران أقل انسجاماً، حتى من دول المشرق العربيّ التي تفتك بها الصراعات الإثنيّة والمذهبيّة، ويجعل إيران مرشحة، مثل غيرها من دول المنطقة، للدخول في صراعات من هذا النوع؛ نظراً لشدة الاحتقان السائد في المنطقة، وميل جميع اللاعبين في الإقليم إلى استخدام ورقة التنوع الطائفيّ والإثنيّ والمذهبيّ أداة للصراع والمواجهة9.
أميركا حاضرة ومحرّضة على التخريب الإيراني
كانت إيران قد استفادت على مدار عقود سابقة من السياسات الأمريكيّة في المنطقة، والتي تميّزت بالفوضى والخطأ في الحساب والتقدير، وتمدّدت في مناطق التوتر والصراع العربيّ عبر تثويرها العامل الطائفيّ، في العراق وسوريا واليمن. وتعاطت إيران مع هذه البلدان بوصفها المدى الحيويّ لها، وكان من نتيجة هذه التدخلات زعزعة الاستقرار إلى أبعد مدى وتدمير النسيج الوطنيّ.
وكان أخطر ما صنعته إيران هو تأسيس تشكيلات عسكريّة خارجة عن سلطة الدولة وترتبط ارتباطاً مباشراً بمصالحها وأهدافها وتنفذ سياساتها على حساب أمن ومصالح بلدانها الأساسيّة؛ وهو ما سيشكل ديناميّة لتشغيل صراعات مديدة في المنطقة ستكلف أبناءها طاقات كبيرة قبل أن تُطوى صفحتها.
بموازاة ذلك، اتبعت الإدارات الأمريكيّة، لا سيّما إدارات جوج بوش الابن وباراك أوباما، سياسات غامضة، اختلط فيها الانتهازيّ بالانتقاميّ، من خلال تصورات قائمة على إنهاك الأصوليّات "الإسلامية، السنيّة والشيعيّة، بصراعاتها، واضطرار دول المنطقة إلى اللجوء لأميركا دون شروط، بما يؤدي إلى تقوية أوراق التفاوض الأمريكية، فضلاً عن تأمين مصالح إسرائيل التي ستصبح أكثر قوّة نتيجة ضعف أعدائها وتشتتهم. وقد شكّلت هذه السياسات البيئة المناسبة لصناعة النفوذ الإيراني وتمدّده على وقع انهيار الدولة والمجتمع العربيين على طول سكّة المشروع الإيرانيّ.
المراجع:
-
سايكس - بيكو. اتفاقية استعماريّة مليئة بالأخطاء، أخبار الخليج " بدون تاريخ".
-
من مرج دابق إلى سايكس – بيكو 2:بزوغ الدول، العربي الجديد، 9 -5- 2017.
-
المجتمع الشيعي اللبنانيّ ومظاهر الانهيار الداخليّ، حلا نصر الله، معهد واشنطن للدراسات.
-
صراع القوى الشيعيّة في العراق على السلطة ينذر بالتحول إلى العنف، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجيّة والسياسيّة والاقتصاديّة.
-
قوّة بريّة لقطع طريق طهران دمشق، الشرق الأوسط، العدد 14051، 18 مايو 2017.
-
الدور الإيراني: الفرص والعوائق البنيوية، عياد البطينجي، الألوكة، 9-11-2010.
-
بنية القوة الإيرانية وآفاقها، وليد عبد الحي، موقع الجزيرة الإلكتروني، 16، 4، 2013.
-
أكدت مريم رجوي، الرئيس المنتحب للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، خلال مبادرة مجموعة أصدقاء إيران الحرة في البرلمان الأوروبيّ، على أنّ نظام الملالي قد استنفد بالفعل الموارد الاقتصاديّة لإيران التي أوشكت على الإفلاس من الناحية الاقتصاديّة، وباتت أكثر عزلة من أي وقت مضى من الناحية الاجتماعيّة.
-
أفول أساطير الهيمنة الإيرانية، مروان قبلان، العربي الجديد، 8-7-2015.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (908 تنزيلات)
غازي دحمان
حاصل على البكالوريوس في العلوم سياسية من جامعة الفاتح بليبيا. يكتب في عدد من الصحف العربية منذ عام 1997 مثل الحياة والعربي الجديد وموقع الجزيرة نت.
مواد أخرى لـ غازي دحمان
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.