الاحتجاجات الشعبيّة في إيران من منظور الربيع العربي: في احتمالات نجاح التغيير الديمقراطيّ؟
تبدو الاحتجاجات الشعبية في إيران، والتي انطلقت في نهاية شهر ديسمبر ٢٠١٧، مختلفة بصورة جوهرية عن تلك التي اندلعت في أعقاب الانتخابات الرئاسية في عام ٢٠٠٩، والتي عُرفت بالحركة الخضراء. اقتصرت المشاركة الشعبية في نشاط الحركة الخضراء بشكل خاص على الطبقة الوسطى، وارتبطت الحركة بقيادة شخصيات إصلاحية هي جزء لا يتجزأ من النظام الحاكم في إيران؛ فرفعت مطالبَ ترتبط بإصلاح النظام وليس تغييره.
كما تركزت الحركة الخضراء في العاصمة طهران وعددٍ من المدن الرئيسة. بالمقابل، ترتكز الاحتجاجات الشعبية الحالية على مشاركة الطبقة العاملة والفئات المهمّشة والعاطلة عن العمل، وتبدو من دون قيادة وتنتشر على كل مساحة إيران؛ وهو ما يجعل قمعها أكثر صعوبة، ويرفع من قدرتها على التحدي والصمود١.
انطلاقاً من ذلك، قد يبدو التغيير الديمقراطي الذي ينهي أربعة عقود من الحكم الدينيّ التسلطي ممكناً بالنسبة إلى البعض. ولكن مثل هذا النمط من الحراك الشعبي الجريء والعنيد سبق أن خبرناه في ثورات الربيع العربيّ، خصوصاُ في سوريا حيث اندلعت التظاهرات في كل المدن السورية تقريباً، وأبدت إصراراً وتحدياً استثنائيين جعل من المستحيل إنهائها عبر القمع، ولكنها، مع ذلك، لم تنجح في إنجاز التغيير السياسيّ. إن كان هنالك درس يمكن أن نتعلمه، فهو أنّ التغيير الديمقراطي المدفوع بالثورة الشعبية في الشرق الاوسط أمرٌ في غاية الصعوبة حتى وإن بدا أمراً وشيكاً.
تبحث هذه الورقة احتمالات التغيير السياسي في إيران على خلفية اندلاع الحركة الاحتجاجية الأخيرة. وتجادل بأنّ العامل الأهم من حجم التظاهرات واتساعها هو المناخ الدولي وموقفه من الحركة الاحتجاجية والنظام السياسي من جهة، ودرجة تماسك الطبقة الحاكمة واستعدادها لاستخدام العنف المفرط ضد المحتجين من جهة أخرى. ويبدو أنّ النظام الإيراني يتمتع بدعم دولي وإقليمي وتماسك داخلي يقلل بشدة من فرص نجاح الحركة الاحتجاجية في الإطاحة به، حتى في حال استمرارها.
عوامل نجاح الثورة في تغيير النظام
في الحديث عن نجاح الثورات الشعبية المتطلعة إلى الديمقراطية، غالباً ما يجري التركيز على أعداد المتظاهرين، واتساع رقعة التظاهر، واستمرار التظاهرات المتحدية للنظام، باعتبارها العامل الحاسم في قلب نظام الحكم أو في رضوخه لإصلاحات سياسيّة جدية تفتح الباب للانتقال الديمقراطي. ورغم أهميّة حجم التظاهرات واتساعها، لكن ذلك يبقى أمراً نسبيّاً يتعلق بحجم البلد وتقليده السياسي ومستوى الحريات فيه، فضلاً عن طبيعة النظام الحاكم. في نهاية المطاف، هنالك عاملان حاسمان في نجاح الحركة الاحتجاجية. الأول هو المناخ الدولي والإقليمي الذي يحدد الموقف من النظام المأزوم ومن الحركة الاحتجاجية. أمّا العامل الثاني، فيتعلق بتماسك الفئة الحاكمة وقرار الائتلاف الحاكم، ويشمل ذلك النخبة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، بالانفضاض عن، أو الالتفاف حول، القيادة السياسية التي تواجه غضب الجماهير.
ويبدو هذان العاملين في حالة ترابط مع طبيعة التظاهرات؛ إذ من المتوقع أن يشجع ارتفاع عدد المتظاهرين واتساع رقعة التظاهر على تآكل الدعم الدولي والداخلي للنظام وتعميق أزمته وتحسين فرص التغيير السياسي. ولكن هذا لا يحدث في جميع الحالات؛ إذ يتعلق الأمر ببنية النظام وطبيعة علاقاته الخارجية. في الحالة السورية مثلاً، لم تثنِ تظاهرات واسعة جداً، شكلت تهديداً مخيفاً للنظام وكادت أن تطيح به، كلّاً من روسيا وإيران وحزب الله عن الحفاظ على دعم النظام السوري كما لم تتسبب بانهيار التحالف الحاكم وحدوث انشقاق كبير في الجيش وقيادة الأجهزة الأمنية. وفيما يلي، سنناقش العاملين، الخارجي والداخلي، بمزيد من التفصيل.
المناخ الدوليّ والإقليميّ
يشمل العامل الخارجي الدعمَ المباشر وغير المباشر الذي قد تتلقاه الثورة الشعبية أو النظام الحاكم من المجتمع الدولي أو من دولٍ إقليمية. ولكنه يشمل أيضاً المناخ الدولي والإقليمي الذي تجري فيه الثورات، حيث يمكن أن تضعف تحولات إقليميّة وعالمية من موقف النظام الحاكم المتطلع لسحق الاحتجاجات وتقوي، بالتالي، من طموحات وإصرار الحركة الاحتجاجية، أو العكس، يمكن أن تشجع تلك التحولات النظام الحاكم على قمع المعارضين.
يعتبر تغير المناخ الدولي أحد الأسباب الرئيسة لنجاح ربيع ١٩٨٩ في دول أوروبا الشرقية. حيث جاء الحراك الشعبي في لحظة ضعفت فيها الإمبراطورية السوفياتية؛ ما أدّى إلى تراجع الدعم المقدم من الاتحاد السوفياتيّ للأنظمة الشيوعية الحليفة في شرق أوروبا، وذلك على خلفية التغيرات الداخلية والإصلاحات التي أحدثها الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف وتراجع الاتحاد السوفياتي بصورة عامة. ساهمت إصلاحات غورباتشوف بـ"حلحلة العقد الحديديّة التي كانت تربط الإمبراطورية السوفياتيّة من الداخل والخارج، ومكنت الشعوب والدول من التحرر من معايير الوصاية"، بحسب ييرجي سوك (٢). وبالمقابل كان محيط دول أوروبا الشرقية داعماً بشدّة للتحولات الديمقراطية، فضلاً عن دعم الولايات المتحدة الأمريكيّة التي أصبحت القطب العالميّ الأوحد في تلك الفترة من الزمن. وبمجرد أن فقدت تلك الأنظمة الشيوعية الحاكمة الدعم الخارجي ومع انطلاق حراك شعبي في ظل مناخ إقليمي ودوليّ مواتٍ، أصبح امر نجاتها على المحكّ.
انطبق ذلك أيضاً على تونس، حيث انطلقت من هناك شرارة ثورات الربيع العربي. لم يكن هنالك اهتمام إقليمي وعالمي بما يجري في تونس، نظراً لانعدام التوقعات بأنْ تؤدي الاحتجاجات الشعبية التي بدت محدودة إلى انهيار النظام، وبسبب عدم انخراط النظام التونسي في علاقات إقليمية ودولية استراتيجيّة. وتبدو أهمية العامل الخارجي في الحالة المصرية؛ حيث تتمتع مصر بموقع إقليمي شديد الحساسيّة وعلاقات استراتيجية إقليمية ودولية شكلت عقبة رئيسة في وجه الانتقال الديمقراطي. وكان أحد أهمّ عوامل نجاح ثورة يناير المصرية في العام ٢٠١١، بعد ثمانية عشر يوماً فقط على اندلاعها، وغياب المقاومة الإقليمية والدولية لها، هو السرعة الشديدة التي نجحت فيها ثورة تونس وانتقلت، بالتالي، إلى مصر. وعلى الرغم من أنّ القول الذي رددته الطبقة الحاكمة المصرية في ذلك الوقت حول أن "مصر ليست تونس" كان نوعاً من البروباغندا وإنكاراً للواقع الثوري، ولكنها تبقي حقيقة؛ حيث إنّ مصر ليست تونس بالفعل. هدّد الوزن الإقليمي والدولي لمصر ومساحتها وحجم سكانها بحدوث انفجار هائل في لحظة لم تكن الثورة المضادة المدعومة إقليمياً وعالمياً قد وضعت خطة الرد بعدُ. وفي ظل انتفاضة متصاعدة يوميّاً ويجري نقل وقائعها في بثّ حي ومباشر للعالم العربي المترقب، كان يجب على هذا الحفل الاستعراضيّ الثوري الذي يلهم شعوب المنطقة أن ينتهي. لقد فقدَ الرئيس المصري حسني مبارك الدعم الإقليمي والدولي نتيجة ذلك، وحدث تغيير ديمقراطي محدود لم يستمر أكثر من عام ونصف العام، قبل أن تنجح الطبقة السياسية التي حافظت على الدعم الإقليمي والدولي بإعادة إنتاج الديكتاتورية من جديد.
كذلك هو الحال في سوريا التي امتلكت تحالفاً استراتيجيا مع إيران وحزب الله تَعزّز بمشاركة روسيّة فاعلة عندما قررت موسكو أن الفرصة باتت مواتية لاستعادة مكانتها العالميّة. ويعتبر هذا التحالف أحد أهم أسباب صمود النظام السوري وفشل الانتقال السياسيّ، رغم مشاركة ملايين السوريين في أعمال الانتفاضة (٣).
يبدو النظام الإيراني معزولاً بصورة كبيرة على الصعيد الدولي والإقليمي، حيث ترغب دول عديد بسقوطه. ولكن التدقيق بالمسألة يكشف أنّ النظام لا يزال يتمتع بدعم جَديّ يمكن أن يتواصل حتى في ظل أكثر السيناريوهات سوءاً. يمكن استثناء سوريا، فرغم كونها حليفاً استراتيجياً، ولكنها دولة مشتعلة بحرب قاسية، وقد ضعف نظامها وأصبح مسنوداً من قبل حلفائه بصورة شبه تامّة، ولا يستطيع ان يقدم أي قدر من العون، بل تحول في الحقيقة إلى عبء على النظام الإيرانيّ وهو يحاول إطفاء نيران تمرد داخلي أحد عناوينه الكبرى هو رفض التدخل الإيراني في سوريا. ولكن بالمقابل، تحظى إيران بدعم حزب الله وتركيا والعراق، لا سيّما مع سيطرة إيران بصورة تامة على قوات الحشد الشعبي العراقي التي باتت أكبر وأقوى تشكيل قتاليّ في العراق واكتسبت خبرات قتالية كبيرة.
دولياً، تحظى طهران بحليف قويّ وعنيد هو روسيا التي استعادت دورها العالمي في ظل انحدار الهيمنة الأمريكيّة على العالم وعودة العالم متعدد الأقطاب من جديد. لم تتمتع الولايات المتحدة بعالم أحاديّ القطبية لأكثر من عقد ونصف من الزمن. فبحسب إميتاف آشاريا، كان العالم أحادي القطب مجرد "لحظة" انتهت اليوم، لندخل في عالم متعدد ومتكامل يسميه "Multiplex". ولا يعني هذا بالضرورة أنّ الولايات المتحدة في حالة انحدار، ولكن العالم يتغير والهيمنة الأمريكية، بشكلها التقليدي السابق، انتهت، أو أوشكت على الانتهاء. فـ"العصر الأمريكيّ انتهى بصرف النظر عما إذا كانت أمريكا نفسها في حالة انحدار أم لا"، يقول أشاريا (٤).
كما يمكن ملاحظة أنّ علاقة الجانبين الروسي والإيرانيّ قد تطورت بصورة كبيرة خلال السنوات السبع الماضية على خلفية تحالفهما الاستراتيجيّ في سوريا. كانت إيران عاملاً رئيساً في نجاح المخطّط الروسي في سوريا واستعادتها لموطئ قدم في الشرق الأوسط. هكذا، فإن قوة العلاقة الروسيّة-الإيرانيّة اليوم هي غير مسبوقة في تاريخ البلدين وترتبط بصورة كبيرة بمصالحهما الجيوسياسيّة في المنطقة (٥).
على الطرف الآخر، هناك رغبة دوليّة من قبل أمريكا وإسرائيل بدعم الحراك الاحتجاجيّ وصولاً إلى إحْداث تغيير في النظام السياسي الإيراني. بالنسبة إلى أمريكا وإسرائيل، تمثل الاحتجاجات الفرصة المناسبة والمنتظرة للخروج من المأزق الذي أوجدته القفزة النوعية في القدرات العسكرية لإيران، ويشمل ذلك تطوير صواريخ بالستيّة طويلة المدى وإنشاء ودعم مليشيات غير نظاميّة تقاتل في دول المنطقة، وتخدم مصالح إيران وتجعل أيّ مواجهة عسكرية معها شديدة الخطورة وغير مضمونة النتائج. كما يشمل ذلك وصول البرنامج النووّي إلى مرحلة متقدمة جداً.
تمثل الاحتجاجات الشعبية، إذاً، الفرصة الأمثل لاستبدال نظام أوتوقراطيّ معادٍ للولايات المتحدة وإسرائيل بنظام أوتوقراطيّ آخر حليف، أو لنقُل أقلّ عداءً، أو بإغراق إيران في حرب أهليّة. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مسارعة الولايات المتحدة لدعم الاحتجاجات وتشجيع المتظاهرين على المضيّ قدماً، ولو نظرياً، فضلاً عن نقل الملف إلى مجلس الأمن في خطوة تظهر سرعتها حجم الآمال الأمريكيّة المعقودة على التظاهرات في إيران. بيد أنّ الجهود الأمريكيّة في عالم جديد متعدد الأقطاب، وتصرّ فيه موسكو على لعب دور قياديّ عالميّ، فيما يتخوف الأوروبيون من مغامرات أمريكية جديدة تزيد من الاضطرابات حول العالم، مما يجعل ميزان العلاقات الدوليّة يميل نسبياً لصالح إيران، كما مالَ قبلها لصالح النظام السوريّ.
لقد شجّعت الحماسة الأمريكيّة والإسرائيليّة تجاه الاحتجاجات الشعبية السلطاتِ الايرانيّةَ على اعتبار المتظاهرين أداة الخارج للسيطرة على البلاد، ووجهت لهم اتهامات العمالة وهددت بإنزال عقوبة الإعدام على من يجري اعتقالهم. غير أنّ الدعم الخارجي للحركات الاحتجاجيّة هو أمر مألوف؛ حيث حظيت كلّ الحركات الاحتجاجية الكبيرة، وخصوصاً تلك التي نجحت بتغيير النظام، بدعم خارجيّ أو استفادت من مناخ دولي مواتٍ لها، ويشمل ذلك حتى الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة بقيادة روح الله الخميني في عام ١٩٧٩.
العامل الخارجيّ ونجاح الثورة الإسلاميّة في إيران
في العام ١٩٧٥، عزّز محمد رضا شاه بهلوي قبضته على السلطة وقام بحل الحزبين السياسيين الذين كانا يعملان بضوابط محددة يقرّرها نظامه، وأعلن أن الدولة باتت تخضع لقيادة الحزب الواحد المشكل حديثاً، كما هو الحال مع "حزب البعث" في سوريا. فتح ذلك الباب لانتقادات متزايدة من قبل منظمات حقوق الإنسان حيث تم تصنيف إيران كصاحبة أسوء سجل على مستوى الحريات، فيما اعتُبِرَ الشاه "أحد أكثر المنتهكين لحقوق الإنسان في العالم"(٦). وتصاعد النّقد لنظام الشاه ليشمل دولاً غربية وصولاً إلى الولايات المتحدة الامريكية التي كان دعمها للشاه يتراجع تدريجيّاً منذ ستينيّات ذلك القرن.
تصاعدت الضغوط الأمريكية على نظام الشاه مع تولي الرئيس جيمي كارتر للسلطة في العام ١٩٧٧، حيث ربط ملف حقوق الإنسان بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وذلك كجزء من أدوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتيّ. هددت حكومة كارتر بقطع المساعدات الماليّة والعسكرية عن بعض حلفائها الذين لا يلتزمون بالمعايير الدُّنيا لحقوق الإنسان والانفتاح السياسيّ. وقامت، على إثر ذلك، بإعلان إعادة النظر بصفقات بيع السلاح لحكومة الشاه؛ وهو ما دفعه في ربيع العام ١٩٧٧ إلى إرخاء القبضة الأمنّية ضد بعض التظاهرات السياسية والطُّلابيّة في إيران (٧). وطالب الرئيس كارتر شاه إيران صراحة بالانفتاح السياسيّ النسبيّ وبإطلاق سراح السجناء السياسيين. كان نظام الشاه قد جاء للحكم في العام ١٩٥٣ على إثر انقلاب مدعوم من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية أطاح بالرئيس محمد مصدّق، وبذلك كان مطواعاً بدرجة كبيرة للضغوط الأمريكية. وكان الهاجس الأمريكي الأكبر بما يخص إيران هو أن تصبح مكاناً للنفوذ السوفياتي، وهو ما دفعها لتنظيم الانقلاب على محمد مصدق في البداية، ومن ثمّ دفعها لإطلاق برنامج حقوق الإنسان في إطار تمييز حلفائها عن حلفاء الاتحاد السوفياتيّ.
تسبّب تخفيف قبضة الدولة البوليسية بانتشار الأفكار والنشاط الثوري ضدّ نظام الشاه كالنار في الهشيم. واستغلت المعارضة اليساريّة والليبرالية والإسلامية الفرصة وصعدت من نشاطها المعارض. وتزايد الحراك السياسي في ذلك الوقت بصورة كبيرة حيث خرجت تظاهرات في كلّ المدن الإيرانية بأعداد صغيرة ولكن بنسق مستمر (٨). كما تصاعد نشاط الطبقة الوسطى التي قاد أنشطتها السياسيّة محامون وصحفيون وأساتذة وراحوا يكتبون رسائل للسلطات الإيرانية تطالب بمزيد من الانفتاح. كان المناخ الذي خلقته الضغوط الأمريكيّة عاملاً أساسيّاً في إطلاق الحركة المعارضة، كما بدا من تعليق أحد الموقعين على عريضة اتحاد الكتاب الإيرانيين حيث قال إنّ "السطات لن تجرأ على زجنا بالسجون في ظل المناخ السائد والداعم لحقوق الإنسان" (٩). وتصّدر الخميني، رغم وجوده في المنفى، قيادة النشاط الاحتجاجيّ، وكان يستغلّ استخدام إذاعة البي بي سي البريطانية، التي تتهمها السلطات الإيرانية اليوم بالتحريض على الاحتجاج ومساعدة المتظاهرين، لإيصال أفكاره وشعاراته السياسيّة للشارع الإيراني(١٠).
تلا ذلك نحو ١٨ شهراً من التظاهرات المتقطعة في شوارع إيران واشتباكات مع الشرطة والأمن واضطرابات عُماليّة وحلقات نقاش وتظاهرات في الجامعات. وأعلنت الولايات المتحدة قبولها بالثورة الشعبية في ١١ فبراير وأنها بدأت اتصالات مع القيادة الإيرانّية الجديدة. كان الخميني قد عاد من منفاه في فرنسا إلى إيران قبل ذلك ببضعة أيام ليقود المرحلة الأخيرة من النشاط الثوريّ الذي أفضى لانهيار أجهزة الأمن وبقايا الجيش وسيطرته على جهاز الدولة بدعم من المليشيات الماركسيّة التي كانت ناشطة بقوة. وقد كشفت وثائق حديثة عن اتصالات سريّة بين الخميني وأمريكا أعطى فيها المرشد تطمينات لواشنطن بالحفاظ على مصالحها في إيران والحفاظ على الاستقرار في المنطقة مقابل إقناع الشاه وقيادة الجيش بالتخلّي عن السلطة (١١). كانت الولايات المتحدة تخشى سقوط إيران فريسة للنفوذ الشيوعيّ في ظل قوة التنظيمات الماركسية فيها آنذاك، وهو ما دفعها إلى تفضيل الإسلاميين، أو بالأحرى للاستخفاف بعدائهم للولايات المتحدة (١٢).
تلا ذلك نحو ١٨ شهراً من التظاهرات المتقطعة في شوارع إيران واشتباكات مع الشرطة والأمن واضطرابات عُماليّة وحلقات نقاش وتظاهرات في الجامعات. وأعلنت الولايات المتحدة قبولها بالثورة الشعبية في ١١ فبراير وأنها بدأت اتصالات مع القيادة الإيرانّية الجديدة. كان الخميني قد عاد من منفاه في فرنسا إلى إيران قبل ذلك ببضعة أيام ليقود المرحلة الأخيرة من النشاط الثوريّ الذي أفضى لانهيار أجهزة الأمن وبقايا الجيش وسيطرته على جهاز الدولة بدعم من المليشيات الماركسيّة التي كانت ناشطة بقوة. وقد كشفت وثائق حديثة عن اتصالات سريّة بين الخميني وأمريكا أعطى فيها المرشد تطمينات لواشنطن بالحفاظ على مصالحها في إيران والحفاظ على الاستقرار في المنطقة مقابل إقناع الشاه وقيادة الجيش بالتخلّي عن السلطة (١١). كانت الولايات المتحدة تخشى سقوط إيران فريسة للنفوذ الشيوعيّ في ظل قوة التنظيمات الماركسية فيها آنذاك، وهو ما دفعها إلى تفضيل الإسلاميين، أو بالأحرى للاستخفاف بعدائهم للولايات المتحدة (١٢).
درجة تماسك الطبقة الحاكمة
المسألة الثانية الحاسمة في حدوث تغيير ديمقراطيّ هي درجة تماسك النخبة الحاكمة تحت الضغوط الشعبية والدوليّة. يعتبر تصاعد الحراك الشعبي وامتداده شرطاً هاماً وضرورياً لإحداث التغيير السياسيّ، ولكنه قد لا يكون كافياً في حالة استمرار وحدة التحالف الحاكم وعدم حدوث انشقاقات داخليّة جدية تؤدي إلى تصدّعه (١٣).
ترغب الأنظمة الديكتاتوريّة، على اختلاف أشكالها ودرجات تسلطها، بالاحتفاظ بالسلطة وتكون مستعدة تماماً لاستخدام القوة لسحق أيّ انتفاضة شعبية. ولا يحدث التغيير الديمقراطيّ عندما تختفي تلك الرغبة بصورة مفاجئة أو بسبب خوف على مصير الأمة أو والدّولة ودورها الإقليمي. إنّ مناجاة ضمير أو عقل هذا النوع من الأنظمة التسلطيّة هو أمر غير مُجدٍ على الإطلاق. وقد أثبتت التجربة ذلك في سوريا والعراق وليبيا، حيث اندفع حكامها لتدمير البلاد وإنهاء كل تقدم تحقق خلال العقود الماضية في خضم دفاعهم عن سلطاتهم وثرواتهم. يحدث التغيير عندما تتعطل أدوات حكم تلك الأنظمة ولا تستطيع أن تتوصل إلى قرار جَماعيّ بأن تستخدم أجهزة القتل، أو أن تُصعّد من استخدامها. من هذا المنطلق، فإنّ موقف الطبقة الاقتصاديّة والسياسيّة من النظام هو العامل الحاسم في حدوث التغيير، وهذا بصرف النظر عن حجم التظاهرات والتعبئة الشعبيّة. حتى لو كانت تلك التعبئة في أوجها وتشكل بالفعل مصدرَ عدم استقرار وتهديداً للنظام. وبالمقابل اختار التحالف الحاكم الالتفاف حول القيادة السياسية ودعمها، فإن التغيير الديمقراطيّ يصبح أمراً بعيد الحصول.
حدث التغيير في تونس ومصر بسبب انقسام الفئة الحاكمة ولأنها سحبت الدعم غير المشروط الذي كانت تقدمه للنظام السياسيّ للبلاد. في تونس، على وجه التحديد، لم يكن حجم التظاهرات مثيراً للفزع وكانت الثورة متصاعدة ببطءٍ ولم تصل بعد ذروة تطورها الذي يجعلها شديدة الخطر على وجود النظام. ولكنّ قرار الجيش وبعض الفئات الحاكمة التخلي عن الرئيس التونسيّ زين العابدين بن علي في لحظة ما، واستعداد المملكة العربية السعودية في لحظة ارتباك لدعم هذا الخيار باستضافة الرئيس التونسي حسم الأمر وأنجز المرحلة الأولى من مراحل التغيير السياسيّ. وكذلك الحال في مصر، حيث قرر الجيش والنخبة الحاكمة بدعم إقليميّ ودوليّ تنحية الرئيس المصري في حينها حسني مبارك، بل وجرى الدفع نحو محاكمته بصورة فورية لرسم صورة القطيعة مع الماضي واكتساب الشرعية في لحظة ثورية يجري فيها التشكيك بكل شرعيّة قائمة.
هل يحدث هذا في إيران؟
تُشدّد أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد بياتريز ماغالوني (Beatriz Magaloni) على أنّ الأنظمة الدكتاتورية التي تستطيع الحفاظ على وحدة الطبقة الحاكمة هي تلك التي يؤسس حاكمها نمطاً معيناً أو آليةً مناسبة لمشاركة السلطة السياسيّة والموارد الاقتصادية داخل الائتلاف الحاكم. لا يكفي أن يسمح الدكتاتور لحزب صوري بالعمل السياسي المحدود والخاضع للرقابة، أو أن يوسّع من إمكانية دخول النخبة الحاكمة للبرلمان. فعلى الديكتاتور أن يكون ملتزماً بصورة تامّة بتأسيس شبكة من الزبائنيّة، وأن يسمح لحلفائه المخلصين بالوصول للسلطة والموارد الاقتصادية للحفاظ على ولائهم، وخصوصاً في زمن الأزمات (١٤).
بدرجة ما، يبدو هذا هو حال النظام الإيراني حيث تتوزع السلطات السياسية والأمنية والعسكرية والموارد الاقتصادية على عدد من الأطراف (١٥). لا يقتصر الحرس الثوريّ الإيراني على كونه قوة عسكرية، بل يدير مجمعاً صناعياً ووسائلَ إعلامية ووكالات استخباراتيّة ويمكن أن يدعم قوىً سياسيّة بعينها. كما وبالإضافة للحرس الثوري ومكتب المرشد الأعلى والمحافظين، تتمتع شخصيات متعددة بنفوذ قويّ داخل النظام. يشمل ذلك أكبر هاشمي رفسنجاني، قبل وفاته في العام الماضي، والذي وقف مع الحركة الخضراء وزعيميها حسن موسوي ومهدي كروبي وحظي طيلة حياته بثروة اقتصاديّة كبيرة أتاح له النظام الإيراني تطويرها. كما يشكّل اليوم الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني قيادة تيار التكنوقراط، والذي يقود حملة الانفتاح الاقتصادي والتقشف وما يشمله ذلك من توسيع شبكة الزبائنيّة وفرص التربح في ظل نظام ديكتاتوريّ تغيب عنه المحاسبة الداخلية. وقد حافظت معادلة مشاركة السلطة والموارد الاقتصاديّة تلك على التحالف الحاكم منذ قيام الثورة الإسلاميّة قبل أربعة قرون. ودفع ذلك قادة التيار الإصلاحيّ إلى النأي بأنفسهم عن الاحتجاجات الجارية حالياً باعتبارها حركة شعبية راديكاليّة تريد الإطاحة بالنظام وبمكتسباتهم السياسيّة والاقتصاديّة (١٦).
يرى باحثون آخرون أن شبكة الزبائنيّة والتربح الاقتصاديّ غير كافية لضمان وحدة النظام، وقد كانت مثل تلك الشبكات قائمة بدرجة كبيرة جدّاً في تونس ومصر قبل انفضاض الائتلاف الحاكم والإطاحة بالرئيسين التونسي والمصري. من هذا المنطلق، فإنّ أكثر الأنظمة قابلية للاستمرار هي تلك التي تمتلك شبكة زبائنيّة وآليّة مشاركة بالسلطة والموارد الاقتصادية، ولكنها تمتلك أيضاً صلات أخرى تعزز من تماسك الطبقة الحاكمة وولائها للنظام السياسيّ. قد تكون تلك الصلات طائفية أو إثنيّة كما هو الحال في سوريا حيث كان العامل الطائفيّ وتخويف الأقليات الدينية من أيّ بديل محتمل للنظام الدكتاتوري السوري أحد دعائم استمرار النظام وتماسك الفئة الحاكمة من حوله دون حدوث انشقاقات مؤثرة على مستويات السلطة العليا. كما يعتبر العامل الطائفيّ أحد مستويات التحالف الاستراتيجي القوي بين النظام السوري وإيران، وهو ما انعكس بدوره على التماسك الداخلي للنظام السوريّ (١٧).
وبحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة تورونتو لوكان ويه (Lucan Way)، فإن أكثر الروابط التي تمنع تصدع الائتلاف الحاكم أو تقلّل من فرص حدوث مثل هذا التصدع هي الروابط التي تشكلت خلال زمن ثوريّ أو خلال تجربة ثوريّة كما هو حال قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية (١٨). يرتبط كلٌّ من المحافظين والإصلاحيين والحرس الثوري والمرشد بأيديولوجيا دينية ثورية، وهنالك إجماع على أهميتها وعلى ضرورة نشرها في المحيط الإقليمي. ضمن هذا المعنى، ترتفع للواجهة أهداف (سامية) تستحق الدفاع عنها حتى في أصعب الأوقات وأحلك الظروف عندما يبدو النظام في حالة انهيار. الأهم هو أنّ التجربة الثورية تجعل ولاء أجهزة الأمن والجيش مطلقاً وتجعل تلك الأجهزة مستعدة لممارسة العنف الشديد وتحمل نتائجه. ينطبق هذا على الحرس الثوري الإيراني الذي تقول التحليلات إنّه من جيل الثورة والأكثر تشدّداً، فضلاً عن امتلاكه لشبكة مصالح يريد أن يدافع عنها.
وقد جرى اختبار قوة النظام الحاكم وتأثير شبكة الزبائنيّة وتوزيع الموارد من جهة ودرجة تماسك الطبقة الحاكمة في تظاهرات من جهة أخرى في عام ٢٠٠٩ في مواجهة الحركة الخضراء، حيث كانت اعداد المتظاهرين أكبر بكثير من التظاهرات الحالية ولكن الطبقة الحاكمة بقيت متماسكة وقمعت بنجاح تظاهرات مليونيّة استمرت لأشهر.
خاتمة
قد تنجح السلطات الإيرانية في قمع الحركة الاحتجاجيّة في الفترة القادمة كما فعلت مع الحركة الخضراء في عام ٢٠٠٩ ومع احتجاجات مستمرة على الأوضاع الاقتصادية في إيران. وفي المقابل، هنالك فرص جديّة لتطور الحركة الشعبيّة وجذب شرائح واسعة من المواطنين الإيرانيين في ظل المأزق الاقتصادي العميق الذي تعيشه الجمهورية الإسلاميّة. ولكن اتساع تلك التظاهرات ليس كفيلاً بإحداث تغيير سياسيّ أو بإسقاط النظام الإيراني. فكما أشرنا، تشير تجارب الثورات الشعبيّة إلى أن العامل الأهم من حجم التظاهرات وقوتها هو المناخ الدوليّ والإقليمي وموقفه من الحركة الاحتجاجيّة والنظام السياسي من جهة، ودرجة تماسك الطبقة الحاكمة واستعدادها لاستخدام العنف المفرط ضد المحتجين من جهة أخرى. ويبدو أنّ النظام الإيرانيّ يتمتع بدعم دولي وإقليمي وتماسك داخلي يقلّل بشدة من فرص نجاح الحركة الشعبية في الإطاحة بالنظام، حتى في حال استطاعت جذب شرائح جديدة من الشعب وواصلت تحديه.
الهوامش
- Iran analysis: old grievances spark new protests. Nazenin Ansari. January 1, 2018. The National.
- الثورة التشيكية وتجربة التحول. مجموعة مؤلفين. ترجمة د. خالد البلتاجي. العربي للنشر والتوزيع٢٠١٢
- Who Are Syria's Friends And Why Are They Supporting Assad? NPR. Krishnadev Calamur. August 28, 2013.
- The End of the American World Order. Amitav Acharya. (Wiley, 2014), P. 2.
- Understanding the Revitalization of Russian-Iranian Relations. Nikolay Kozhanov. Carnegie Endowment for International Peace. May 2015.
- تاريخ إيران الحديث. أروند إبراهيميان. ترجمة مجدي صبحي. عالم المعرفة. صفحة ٢١٦
- Liberal Nationalism in Iran: The Failure of a Movement. Susan Siavoshi. Boulder, 1990. p. 134
- تاريخ إيران الحديث. أروند إبراهيميان. ترجمة مجدي صبحي. عالم المعرفة. صفحة ٢١٧
- The Unthinkable Revolution in Iran. Charles Kurzman. Cambridge: Harvard University Press, 2004. P.18
- Revolution Without Revolutionaries: Making Sense of the Arab Spring. Asef Bayat. Stanford University Press; 1 edition (August 1, 2017). P. 3
- إسماعيل عرفة. ميدان ."أحجية الثورة".. كيف فكك الخميني جيش الشاه؟
- US Foreign Policy and the Iranian Revolution: The Cold War Dynamics of Engagement and Strategic Alliance. C. Emery. 2013. Chapter Two.
- Comparing the Arab Revolts- the lessons of 1989. Lucan Way. 2011. Journal of Democracy.
- Credible Power-Sharing and the Longevity of Authoritarian Rule. Beatriz Magaloni. 2008. Comparative Political studies.
- ترجمة كريم محمد. ميدان. "دولة إيران العميقة".. صراع الأجنحة والتحكم بالقرار السياسي-
- Why haven't reformists joined the protests sweeping Iran? Mohammad Ali Kadivar. January 2018. The Washington Post.
- Syria: Inventing a Religious War. Toby Matthiesen. The New York Review of Books. 2013
- Comparing the Arab Revolts- the lessons of 1989. Lucan Way. 2011. Journal of Democracy.
سلام السعدي
باحث وصحفي يتابع الشؤون السياسية والاقتصادية لبلدان الشرق الأوسط. حاصل على بكالوريوس في الاقتصاد من جامعة دمشق، وبكالوريوس بالعلوم السياسية من جامعة يورك في كندا. كتب لصحف عربية ومواقع إلكترونية كالعربي الجديد والمدن. ويكتب حالياً بصورة دورية في صحيفة العرب اللندنية، وله مساهمات في نشرة صدى التابعة لمركز كارنيغي للشرق الأوسط.
مواد أخرى لـ سلام السعدي
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.