كيف تدير روسيا شبكة العلاقات في سوريا والمنطقة؟

16 آب/أغسطس 2016
 
تسرب مؤخرا، قيام روسيا بإجراء اتصالات مع بعض القادة العسكريين في المعارضة السورية الموجودين في تركيا"1"، كما ترددت أنباء عن لقاءات تجري في أوروبا بين الطرفين،
وتطرح روسيا نفسها عبر هذه اللقاءات بإعتبارها طرفاً يهمه مستقبل سوريا ويعنيها بالدرجة الأولى القضاء على الإرهاب ثم بعد ذلك يجري مناقشة كافة القضايا بما فيها مصير الأسد، وتقدم روسيا وعوداً للشخصيات التي تنتقيها وتخصها باللقاءات بدعمها وعدم التخلي عنها كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مع الكثير منهم.

وكانت مصادر متطابقة قد أوردت حصول اتصالات بين روسيا والفصائل المسلحة في ريف حمص الشمالي"2"، بالإضافة إلى إشراف الخبراء الروس على العديد من الهدن والمصالحات في الكثير من القرى والمناطق، وفي أغلب هذه الحالات يتعهد الجانب الروسي بإدخال المساعدات الإغاثية وتسوية أوضاع المطلوبين للنظام، على الرغم من أن روسيا لا تتعاون في هذه القضايا ضمن الإتفاقيات والتفاهمات الدولية، بما يعني أن روسيا تعمل على تأسيس مجالها الخاص وفق شروطها هي وبما يتناسب مع أهدافها بعيدة المدى في سوريا، ويدحض كل الإدعاءات التي تسوّقها روسيا بأن هدفها في سوريا ينحصر في تحقيق السلام والحفاظ على مؤسسات الدولة.

بموازاة ذلك، تنسج روسيا شبكة من العلاقات الإقليمية، وإن إختلفت مستويات قوتها، لكنها تحرص على تنويع علاقاتها بما يتناسب مع مصالحها مع كل طرف، ففي حين يغلب على علاقاتها مع إيران وأذرعها في سوريا تحديداً الجانب التنسيقي الميداني، بحيث تشكل القوى الجوية الروسية الغطاء لتحركات أدوات إيران على الأرض، تأخذ علاقاتها مع إسرائيل طابعاً أكثر شمولية حيث يسعى الطرفان إلى توظيفه بما يخدم القضايا الإستراتيجية بعيدة المدى، من نوع شكل وطبيعة الكيانات التي ستنشأ بعد انجلاء غبار الصراع في سوريا وحدود وأدوار حلفاء روسيا في التشكّل السوري القادم. بالمقابل،  تنحصر العلاقات مع دول الخليج في إطار التفاهم والتنسيق في مجالات الطاقة، ومن الواضح أن موسكو تسعى إلى تجميد علاقاتها الخليجية ضمن هذا الإطار حتى لا يتحول إلى ثغرة تُضعف مشروعها الإستراتيجي وتطلعاتها السياسية، حيث تحتل الاستراتيجية الأولوية على الإقتصاد في ظل اعتقاد صانع القرار في روسيا أنه امام لحظة تاريخية تنطوي على فرص وتحديات، فمن جهة، هناك تقديرٌ بوجود ضعف في الزخم الإستراتيجي الغربي وخاصة في الشرق الأوسط، ومن جهةٍ أخرى، وجود محاولات للإطباق على روسيا من قبل الناتو ومحاصرتها في أوروبا الشرقية.

تنطلق بنية العلاقات التي تؤسسها روسيا من ركيزتين: الأولى وجود خطين صراعين تخوضهما روسيا ولهما تأثير مصيري في أمن الجيوبوليتيك الروسي، الخط الأول والأساسي في أوروبا الشرقية مع الإتحاد الأوروبي الذي يزحف على التخوم،

 
ومع حلف الناتو الذي يطبق على الجغرافية الروسية بتقنياته المتقدمة. وخط الصراع الثاني في سوريا وهو صراع سياسي الهدف منه القضاء على فكرة إسقاط الأنظمة عبر ثورات الشعوب، بما يعنيه ذلك من تهديد محتمل لأمن النظام الروسي نفسه، ويمكن توظيف الصراع في سوريا لتغذية المواجهة على جبهة أوروبا ومع حلف الناتو نظرا للتأثيرات الكبيرة على أعضاء "الاتحاد الأوروبي والناتو".

الركيزة الثانية: ما يعتقده صانع القرار بوجود مرحلة انتقالية في النظام الدولي، تتمثل بالمرحلة الزمنية التي ينهي فيها رئيس أميركي ولايته ويتسلم البديل عنه الحكم، وإن كانت مرحلةً قصيرة إلا أنها كافية لإحداث تحوّلات يصعب تغييرها مستقبلاً، كما تساعد في تحسين موقع روسيا في سلم القوة الدولي.

والسؤال، كيف تدير روسيا شبكة هذه العلاقات، وما مدى فعاليتها، وطبيعة تأثيرها في الأمن الإقليمي؟
 
 
استراتيجية التسلل (الأدوات والأساليب)

تتبع روسيا استراتيجية التسلل التي تقوم على تكتيكات الانخراط في القضايا والأزمات المفصلية في الإقليم "الملف النووي الإيراني والأزمة السورية وأزمة أسعار الطاقة"، بحيث يبدو حضورها ضرورياً ولازماً، وليس من خارج السياق، وتستخدم الدبلوماسية بوصفها أكثر الأدوات فعالية، مستثمرةً بذلك حقيقة كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن. كما تستخدمها للتغطية عن أفعالها الصلبة في أكثر من مكان، وفي كل الحالات تسعى روسيا إلى تجيير تدخلها تحت سقف القانون الدولي، حسب التفسير الخاص بها.

طالما أثبتت الوقائع امتلاك القيادة الروسية لحسٍ سياسي عالٍ تجاه المتغيرات والتقاط اللحظة المناسبة للتدخل، وهو ما افتقدته القوى الإقليمية في التعامل مع الأزمات، بحيث بدت إستجابتُها للأحداث متاخرةً دائماً، الأمر الذي ترتب عليه انعدام الفعالية وتراكم حالة عدم الثقة تجاهها، مقابل انتقال الفعالية والثقة بالسلوك الروسي حتى من قبل الخصوم. ولعّل ما سلط الضوء على سياسات روسيا في المنطقة وجعلها تأخذ صفة الفعالية مقارنتها بالسياسة الانسحابية أو المترددة للولايات المتحدة الأمريكية، حتى بعد أن تجاوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخطوط الحمر التقليدية للمصالح الأمريكية في المنطقة، بما فيها أمن أعضاء حلف الناتو أنفسهم، وذلك عبر السكوت عن التهديدات التي أطلقتها روسيا باتجاه تركيا العضو في الحلف وأحد ركائزه الكبرى جنوب البحر الأبيض المتوسط.

ويمكن القول إجمالاً أن روسيا تستثمرفي المتغيرات جيداً في إقامة العلاقات، وتحاول جرَّ الذين خذلتهم أميركا إلى جبهتها، كما تعمل على إستقطاب الأطراف الذين لا يملكون خيارات وبدائل أخرى في العلاقات ويواجهون متغيرات حاسمة، مثل نظام الأسد وحلف إيران المحتاجين لها بشدة، وهو ما يمنح روسيا فرصة بناء علاقات لا يملك الأخرون تجاهها سوى الانصياع للقيادة الروسية والاندماج في استراتيجيتها في المنطقة ومنظومة أهدافها.

بالإضافة لما سبق تستخدم روسيا تكتيك (سد المنافذ) بالكامل وإغلاق الأبواب أمام الأطراف الخصوم لسياساتها في المنطقة، لإجبارها على الرضوخ للمقاربة الروسية أو تحييد فعاليتهم كمقدمة لإخراجهم نهائياً من ساحة الفعل، وتُشكل تركيا المثال الأكثر قرباً لهذا النمط من التكتيكات،

 
بعد أن استخدمت روسيا ضدها كل الوسائل العسكرية وكثفت من الضغط عليها، وهو ما حاولت فعله بإستمرار وطوال فترة انخراطها في الحرب السورية تجاه قوى الثوار، حيث حاولت روسيا ترسيخ القناعة لدى خصومها بأنها المنقذ الوحيد، بل والمتحكم بالمصائر وشكل الحلول والتسويات القادمة في سوريا. ولعل ما عزّز من هذه المعادلة إحساس الأطراف أن أميركا باعتهم ومنحت روسيا حرية التصرف بشأنهم، مع أن هذا الأمر غير دقيق ومتأسّس بدرجة كبيرة على التحليل المؤمراتي، إلا أن روسيا عبر دبلوماسيتها وإعلامها تحاول إشاعة هذا الإحساس لدى الأطراف  المحلية والإقليمية والدولية.
 
إمساك أكبر قدر من الأوراق

بالرغم من الصلابة الظاهرية التي تبدو عليها السياسة الروسية تجاه سوريا، وهي بالفعل كذلك نظراً لإستخدامها العنف بشكلٍ مكثّف وفوضوي لا يؤشر سوى على رغبتها في سحق قوى المعارضة السياسية العسكرية وإضعاف الممثلين السياسين للثورة السورية، الهيئة العليا للتفاوض، إلا أن المفارقة أن العملاء الروس على الأرض والخبراء بشؤون الإتصالات وبناء العلاقات يستخدمون تكتيكات مرنة في الإتصالات التي يجرونها  مع التشكيلات والقوى العسكرية والسياسية والفعاليات الإجتماعية في سورية، وذلك بهدف تحقيق اختراقات مهمة على مستوى بنية العلاقات. وإذا كان الخبراء الروس يشترطون في اتصالاتهم بناء تلك العلاقات على أساس التبعية للمشروع الروسي في سوريا والانخراط ضمن فعالياته، إلا أنهم يغلفون إشتراطاتهم تلك بإدعاءهم أنهم يهدفون إلى تحقيق توازن في المعادلة السورية لن يكون هدفها تغليب طرف على أخر بقدر جعل البنية التي يؤسسونها تكون قادرةً على حمل عملية السلام وحمايتها. بالإضافة لذلك، يطرح العملاء الروس توفير بعض المستلزمات الضرورية عبر تخفيف الحصار المضروب على المناطق التي يستهدفونها بشبكة علاقاتهم، من خلال ما يُطلقون عليه ألية المصالحة بين تلك المناطق ونظام الأسد"3".

لا يخفى الهدف النهائي من وراء هذا المجهود، وهو تشكيل بنيةٍ سياسية وعسكرية قريبة من الطرح الروسي في سوريا، بما يضمن تحقيق الأهداف الإستراتيجية الروسية البعيدة المدى المتمثلة في:

أولاً، تحقيق السيطرة على سوريا، ففي النهاية يرسم صانع القرار الروسي خطواته العسكرية والسياسية على مقاس الهدف الأكبر المتمثل في إنجاز السيطرة على سوريا وتحويلها إلى منصة لتحكم روسيا بتطورات المنطقة واتجاهاتها السياسية، بما يضمن جعلها فضاءأً روسياً يعوضها عن خسائرها المتدحرجة في الجوار الأوروبي والأسيوي، نتيجة رغبة الدول التي كانت تدور في الفضاء الروسي في الاندماج ضمن أطر الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

وثانياً، تخفيف تكاليف التواجد الروسي ما أمكن وإلغاء إحتمالية حصول مقاومة مدعومة من الإقليم والغرب، حيث تشكل الخشية من تحوّل سوريا إلى مستنقع يستنزفها، هاجساً لدى القيادات العسكرية والسياسية الروسية، وبالتالي فإن روسيا تحاول تفادي هذا الأمر من خلال تكتيكيين أيضاً: يتمثل الأول في شطب ما أمكن من عناصر المقاومة السورية عبر الاستهداف المباشر، وإدراج غالبية الفصائل الثورية ضمن قوائم الإرهاب لدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التنسيق معها في هذا المجال بما يضمن وقف دعمها إقليمياً ودولياُ. أما الثاني فيكمن في دمج ما تبقى من القوى والفصائل السورية في إطار مخططها عبر إضعافها وتكبيلها بالاشتراطات وصولاً إلى تجريدها من أسلحتها وفعاليتها.

بموازاة ذلك تبني روسيا مجالاً سياسياً تابعأ لها من خلال صناعة بعض الواجهات السياسية وتقديمها كجهات معارضة ومن ثم بلورتها ضمن أطر معينة، يكون لها اسمٌ وعنوان محدّد، مثل تلك المعارضة التي اجتمعت في (قاعدة) حميميم، أو الفريق الذي يقوده نائب رئيس الوزراء السابق قدري جميل، أو حتى بعض المعارضة المسماة (وفد القاهرة).

 
وتحاول روسيا إدماج هذه (المعارضات) ضمن أطر المعارضة الحقيقية وانتزاع صفة تمثيلية توازي إن لم تكن أكثر تمثيلية من المعارضة الأصيلة والمعترف بها دولياً، كما تصر روسيا على إستدخال ما يسمى بـ “مجلس سورية الديمقراطي" بقيادة صالح مسلم، وجميع هذه القوى تلتقي مع روسيا في الحفاظ على نظام الأسد وشطب القوى الثورية بذريعة سيطرة المكون الإسلامي عليها بما لا يتفق مع واقع سورية التعددي."4".

النتيجة في هذا الإطار أن بنية العلاقات المعقدة التي تحاول روسيا بناؤها في الشق السوري تحديداً هي تجهيزٌ للتسويات القادمة بحيث تصبح روسيا رابحةً بكل الأحوال.
 
بناء منظومة سياسية أيديولوجية عسكرية
 
تعمل روسيا كذلك على إقامة منظومة سياسية وايديولوجية وعسكرية في المنطقة قوامها قوى تابعة لها وتعمل بالتنسيق معها بما يخدم أهدافها العملانية والسياسية، وهذه القوى عبارة عن خليط من القوى الإيرانية وقوات نظام الأسد وقوى تسمي نفسها معارضة "قوات سورية الديمقراطية"، وتلك التي تستطيع إستقطابها. وإذ يبدو الهدف الروسي المُعلن من إنشاء هذا التكتل هو محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة، إلا أن الجوهر الحقيقي الذي يتأسس عليه هذا التحالف هو التصدي لما تزعمه روسيا وإيران لمحاولات الغرب بالتدخل في شؤون المنطقة ومحاولة العبث بالتوازنات القائمة.

وتحاول روسيا تهيئة المناخ الملازم لصناعة هذه البنية عبر إخراج المنافسين الإقليمين والدوليين لها من ساحة العمل السورية، بما يتيح لها التحكم بوضع الخصوم عبر تقليل خياراتهم وحصرها إما بالإنضواء تحت قياداتها والعمل وفق أجندتها، أو الانضمام للتنظيمات المتطرفة"داعش والنصرة"، أو احتمال الفناء تحت ضرباتها في ظل تقلص الدعم عنها وقطع خطوط الإمداد.

وتدّعي روسيا في تصربحات مسؤوليها العلنية بأنها غير معنية بالاستقطابات الحاصلة في الصراع السوري، وبالتالي فهي ليست مسؤولة عن شكل البنى والتشكيلات الصراعية الموجودة لدى الطرفين ولا بالأنماط الإيديولوجية التي تتبناها تلك التشكيلات، بل تذهب إلى أبعد من ذلك عبر القول أن ما يهمها هو تقوية المؤسسات الرسمية "الجيش والأمن" والحفاظ عليها، غير أن الوقائع العملانية تثبت:

- ارتكاز روسيا على تلك التشكيلات في الحرب التي تخوضها في سوريا، استناداً إلى معرفتها الحقيقية بمدى العطب والخراب اللذين أصابا بنية مؤسسات نظام الأسد ومفاصلها الأساسية.
- وجود علاقات مباشرة بين تلك التشكيلات والقيادة الروسية في مطار حميميم، من خلال القناة الإيرانية التي تنسّق وتشرف على كافة تلك التشكيلات." 5 ".
- سيطرة تلك التشكيلات على قطاعات معينة على الخريطة السورية، والحرص على تنسيق عملها وتحركاتها في ظل التغطية الروسية على كامل الجغرافية السورية.
- يؤشر هذا الأمر إلى أن ترسيخ هذه البنية في الواقع السوري يُعتبر خيارأ تعمل عليه روسيا بإدراك ووعي تامين، كما يؤشر أيضاً إلى وجود أهداف روسية لا تتوقف عند سوريا.
 
إستقطاب القوى المفصلية أو تحييدها (إسرائيل – الأردن)

- ينصرف جزءٌ مهم من الجهود الروسية في بناء شبكة العلاقات وترسيخها في التركيز على القوى الإقليمية التي يشكل موقعها الجيوبوليتيكي وموقفها السياسي ركيزةً أساسية في تفاعلات الحدث السوري والوضع الإقليمي عموماً، وفي هذه الحالة ينظر صانع القرار الروسي للعلاقة مع الأردن وإسرائيل من كونها تشكل عنصراً مساعداً في تأمين الغلاف الأمني لسوريا، ومساحة حيوية لمناورة سياسية أوسع في الإقليم، من خلال إثبات وجود تنوع في العلاقات وعدم الاقتصار على لون سياسي معين مرتبط بجبهة إيران وأذرعها في المنطقة.

غير أن الاستخدامات الوظيفية لهذه العلاقة تبدو جليةً من خلال إستخدام العلاقة مع الأردن في ضبط التدخل الإقليمي العربي (الخليجي) من ناحية جنوب سوريا، وتعطيل أي إمكانية لقيام جبهة عمل عسكري في تلك المنطقة الحيوية، في حين تتوقّع روسيا من علاقاتها بإسرائيل تحسين صورتها لدى الرأي العام الغربي وتحقيق إختراقات لدى السلطات التشريعية الأمريكية "مجلسي النواب والشيوخ" بما يساهم في رفع العقوبات المفروضة على روسيا أو تخفيفها قدر الإمكان.

بالإحمال ترى روسيا أن مسألة استقطاب وتحييد القوى المركزية والقريبة من الساحة السورية عنصرٌ مهم يساهم في حمايتها من التورّط في الصراع السوري بدرجةٍ أكبر، غير أن هذا الأمر يضع روسيا في دائرة الإبتزاز من قبل بعض القوى الإقليمية"إيران وإسرائيل" للدفع بأهدافهما في سوريا على حساب اعتبارات أخرى، بما يقلل من قدرة روسيا على المناورة السياسية ويضعها في خانة توجهات محدّدة.
 
عكس الأحداث في المنطقة

يرتكز الأساس السياسي للحراك الروسي على اعتبار ما يحصل في الإقليم مجرد حالة إرهاب، وفي أحسن الأحوال أنماط من التمرد تخوضها جماعات خارجة عن السلطات المعتبرة شرعية وفق معايير القانون الدولي، وبالتالي فإن علاج هذه الحالة يجب أن يكون بإنهاء هذه الحالة الشاذة وعلاجها في إطار تسويات داخلية صرفة دون أي تدخل خارجي، وهذا يستدعي دعم السلطات الشرعية ومساندتها في تطبيق الولاية القانونية من منطلق حصرية السيادة لها.

وتنطلق روسيا من هذه القاعدة في صناعة شبكة علاقاتها المحلية والإقليمية، حيث الأولوية لتحقيق سيطرة الدولة "النظام" وترك القضايا الأخرى"الإصلاح السياسي وتغيير بنية النظام" للمسارات السياسية اللاحقة التي ستفرز حتماً أوضاعاً متطابقة مع إرادة الشعوب، حسبَ دعواها.

وفي حال تحقّق هذه المعادلة تكون روسيا قد ضمنت عكس الأحداث وفق الصورة التي أرادها الغرب وجذبها إلى اتجاهاتها، لتتوافق مع رؤية النظام السياسي الروسي وتفسيره لقضايا الديمقراطية والمشاركة السياسية.
 
موقع الخليج في شبكة العلاقات الروسية

يكشف السلوك الروسي تجاه العلاقات مع دول الخليج "بوصفها الداعم الأساسي للثورة السورية" اتباع سياسةٍ حذرة وغير منفتحة، ومحاولة إبقاءها ضمن أطر محدّدة دون السعي إلى نقلها للمجال الاستراتيجي، رغم الإغراءات والبدائل التي قدّمتها دول الخليج، إنطلاقاً من محاولتها تخفيف حجم التداعيات والتأثيرات السلبية للتغيرات الدولية. وقد فعلت روسيا ذلك لاعتقادها أن هذه الدول لديها مروحة واسعة من الخيارات وبالتالي فإن علاقاتها معها لن تكون أكثر من علاقات تزينية ديكورية، ولن تصل إلى حد اندراجها ضمن الإستراتيجية الروسية في المنطقة.

غير أن ثمة رهان أكبر لدى القيادة الروسية يتمثل بأفول دور الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، بما يمنح روسيا رفع سقف شروطها وترتيب العلاقات مع دول الخليج بطريقة أفضل تضعها في مكانة أكثر أهميةً في التحكم بالفعاليات وبمُخرجات هذه العلاقة.

سلوك روسيا تجاه دول الخليج، يشبه سياساتها في المنطقة، حيث يشكل عنصر المغامرة والتقدير الغير دقيق أهم أساسات بناء هذه السياسة، ولمحاولة تلافي أكبر قدر من الخسارة تعمل روسيا على تشغيل بعض خطوط الاتصال مع الخليج بما يساهم الإبقاء على هذه العلاقة قدر الإمكان.
 
فعالية شبكة العلاقات

تؤدي شبكة العلاقات التي قامت روسيا بصناعتها في سوريا والمنطقة أدواراً فاعلة ومؤثرة، وهي تستفيد من الترابطات والتشابكات القائمة في الأصل والتي صنعت إيران الجزء الاكبر منها، وتستفيد هذه البنية من حالة التنسيق والتناغم الموجودة بين أطرافها بحكم وجود مرجعيةٍ واحدة أو على الأقل محدودية المرجعيات، وهذا الأمر يساهم بدرجةٍ كبيرة في ضبط الموارد وتوحيد الأهداف وتثمير النتائج وتصريفها سياسياً وتوظيفها في سياق مصالح تلك البنية محليا وإقليميا.

ويوفر هذا الأمر على روسيا الكثير من الموارد والجهود ويجعل دورها إشرافيا بدرجةٍ كبيرة، وهو ما يجنبها الانخراطَ بشكل قوي في الأزمات بما يعرضها لخسائر جسيمة في سوريا والإقليم، وتبدو فعالية هذه الشبكة من العلاقات من إستثمار روسيا لها بكثافة في الصراع الدائر في سوريا، على اعتبار أنها باتت تشكّل الذراع الضارب لها، ومايزيد من تعقيد الامر وجود خزان بشري يرفد هذه التشكيلات ذات الطابع المذهبي بما يساهم في تعقيد الصراع بشكل أكبر.
 
مدى تأثيرها على الأمن الإقليمي (المتضررون والمنتفعون)

أثبتت الأحداث الجارية في المنطقة، وفي سوريا والعراق على وجه التحديد، أن المجهود الروسي ساهم بدرجة كبيرة في لخبطة الأوراق وزيادة حالة الفوضى. ومن المؤشرات على ذلك، تعنت الأطراف التي تدعمُها وعدم رضوخها لدعوات السلام والتوصل إلى تسويات سياسية لحل الأزمات في البلدين، بالإضافة إلى زيادة وتيرة أعمال الإنتقام والتنكيل ضد المكونات العربية السنية لإحساس تلك الأطراف انها خارج إمكانيات الحساب والعقاب، طالما أنها تتمتع بتغطية دولة عضو في مجلس الأمن، لذلك فإنها بدأت تخوض نوعاً من حروب الإبادة العلنية ضد الخصوم السنة، ومثال حلب والفلوجة يوضحان الصورة بشكل جلي.
 
صور من مدينة حلب
صور من مدينة حلب
 
ولا شك أن إيران الأكثر قوةً هي المستفيدة من شبكة العلاقات التي تقيمها روسيا في المنطقة، فإذا كانت روسيا هي من يصنع شبكة العلاقات على الأرض فإن إيران من يُديرها ويمولها بشكل مباشر، ويتحكم بمفاصلها ويضع لها توجهاتها، وبالتالي فإن هذه البنية ستعمل على تعزيز المصالح الأمنية الإيرانية، وهي بالحسابات الإستراتيجية تُعتبر ربحاً صافياً، حيث تستفيد إيران من الخبرة الروسية (الإستخباراتية والعسكرية) والتكنولوجبات المتطورة وطرق إدارة العلاقات وصناعة البنى.

بالمقابل، فإن هذه البنى تشكل ضغطاً أمنياً على النظام الإقليمي العربي وأمنه الإقليمي، وهي بالإضافة إلى كونها تُحوّل سوريا والعراق إلى مساحات أمنة لصناعة هذه البنى والتشكيلات، فإنها ترتبط بمشروع إيران الإستراتيجي الذي يشمل خارطة أوسع من سوريا والعراق، ما يعني ان روسيا تستثمر في تهديد مستقبل الأمن العربي، وتعمل على تأهيل جيوش لإيران، والتي لا يوجد أي مؤشرات عن إحتمالات لتحوّل سياساتها العدائية تجاه جوارها في المديين القريب والمتوسط.

الخلاصة

- تحاول روسيا صناعة شبكة علاقات معقدة ومتداخلة تجمع فيها أطيافاً مختلفة، بحيث تشكل أمراً واقعاً إقليمياً يُدعّمُ أوراق روسيا التفاوضية ويساعدها في فرض رؤيتها للتسوية القادمة.- رغم أن الفعالية الروسية تقع في الشرق الأوسط، غير أن المقصود هو الضغط على أميركا والغرب ودفعهما لقبول التفاوض في أوكرانيا وأوروبا الشرقية، وخاصة بعد أن تبين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا ترغب بأكثر من التنسيق الشكلي ولا تريد الإنخراط في التزامات مستدامة مع روسيا.
- تبني روسيا تحركاتها وإتصالاتها في المنطقة على فرضية لا زالت قيد الإختبار ولم يثبت مدى صحتها، وهي أن الولايات المتحدة لم تعد لديها الرغبة والإمكانية في الاستثمار الأمني والعسكري في الشرق الأوسط لتقلص حجم مصالحها فيه.
- تنطوي علاقات روسيا الإقليمية على تناقضات لا تخفي نفسها وعلى أطراف يصعب أن تتعايش معاً لفترة طويلة نتيجة تناقض مصالحها وإتجاهاتها، وهذا مؤشرٌ على مأزق روسي يبحث عن طريقة للخروج من الأزمة السورية الكثيرة التشعب.
- مهما يكن مصير شبكة العلاقات التي تبنيها وتديرها روسيا، تبدو إيران الرابح الأكبر فيها لكونها الوريث الوحيد للبنى التحتية التي سيخلفها المجهود الروسي في المنطقة.
 
توصيات

- العمل على إدراج جميع البنى والتشكيلات المدعومة من إيران وروسيا ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية واعتبارها مثل تنظيم داعش. ولا شك أن انتهاكاتها في سوريا والعراق باتت تشكل ملفاً متكاملاً لا يحتاج سوى تسليط الضوء عليه إعلامياً ودبلوماسياً، وهذه أفضل طريقة لتفكيكها في المستقبل وجعل روسيا تتوقف عن دعمها وتنميتها.
- على الأطراف الداعمة للثورة السورية، وخاصة دول الخليج، الإستمرار في دعم البنى والتشكيلات الموازية في سوريا بعد أن ثبتت فعاليتها في المواجهة وتكبيد الميليشيات المدعومة روسياً وإيرانياً خسائر كبيرة. لأن انتصار تلك الميليشيات في سوريا والعراق سيحوّلها إلى قوة أمرٍ واقع في المنطقة.
- العمل على الساحة الأمريكية والإستثمار في الإتصال وإقامة العلاقات العامة مع تيارات وتوجهات في المؤسسات العسكرية والأمنية لها موقف ورؤية مختلفة من الوجود الروسي والإيراني، ما زالت أميركا ورغم كل الإشكاليات التي حصلت في عهد إدارة أوباما خياراً قابلاً للاستثمار.
 
الهوامش

الجزيرة نت
السورية نت.
روسيا والمصالحات في سورية، جريدة الخليج، 12-4-2016.
تطالب روسيا على الدوام بتوسيع الهيئة التفاوضية لتشمل العناصر القريبة من موسكو والتي تتناسق مع رؤيتها وتصورها للحل السياسي.
دروس عسكرية روسية ل" حزب الله" في سورية، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، 24- 12- 2015
 

SaveSaveSaveSave

غازي دحمان

حاصل على البكالوريوس في العلوم سياسية من جامعة الفاتح بليبيا. يكتب في عدد من الصحف العربية منذ عام 1997 مثل الحياة والعربي الجديد وموقع الجزيرة نت.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.