فوضى الكيانات والسلاح في سوريا: واقعها ومآلاتها

16 كانون1/ديسمبر 2016
 
تُشكّل الفوضى الحاصلة في سوريا أحد أبرز عناصر استدامة الأزمة فيها، وتلك الفوضى مسؤولة، بدرجة أو اخرى، عن تأخر الحسم وإطالة الصراع. كما أنها تقف وجه عثرة في إمكانية التوصل إلى تسويات بين الأطراف المتصارعة، وذلك لسيطرة التفكير الفوضوي وانعدام التقديرات السليمة التي من شأنها تحديد الفرص والمخاطر وترتيب الأولويات.
وبدل ذلك، يتم إبقاء الصراع مشدوداً إلى هدفٍ، تكشَّفَ عبر تجربة الصراع المريرة، أنه غير واقعي ولا ممكن، وحتى في ظل أرجحية سيطرة طرف، من طرفيه، على مساحة أكبر من الجغرافيا السورية، ما دامت الأطراف تقيس انتصاراتها بحجم الحيوزات التي تسيطر عليها؟
الفوضى في سوريا، على صعيد الكيانات والسلاح، لم تعد مسألة مقاربتها مهمّة فقط من حيث تأثيرها على الصراع في المرحلة السابقة، بل هي قضية سوريا في المرحلة المقبلة، والتي من شأنها أن تحدّد مسار هذا البلد وحجم المصاعب والمآزق التي تنتظره ما لم يجرِ تفكيك تلك الحالة.
أسباب الفوضى
 
أولاً: دور النظام

في سعيها لصناعة سياق مناسب لها، يعزز روايتها عن الثورة ويساعد على قمعها، سعت سلطة نظام الأسد إلى خلق مجال فوضوي داخل صفوف خصومها، بحيث ينطوي هذا المجال على فوضى من سلاح وفاعلين. حينها، سيصبح من السهل طمس الحقائق وتغييبُها ويتساوى الجميع في صناعة النكبة، وفي أفضل الأحوال سيأتي الحل على شكل مصالحة بين أمراء الحرب، مع الأخذ بالإعتبار حجم ونفوذ كل منهم والمساحات التي يسيطر عليها، في نطاق الدولة من مؤسسات وجغرافية وسكان.

تلك كانت تقديرات نظام الأسد الأولية عن مآلات الثورة بعد الأشهر الأولى من انطلاقتها وإدراكه أنه لن يعبرها بسلام، كما عبر من سوابق قبلها، مثل مجزرة حماة ومجازر لبنان. حصل ذلك، بعد ارتكاب أجهزته العسكرية والاستخباراتية لمجازر يومية بحق المتظاهرين ضده، وتقديره أيضاً لحاجته لمزيد من العنف من أجل وقف زخم الثورة ضده. وهذا الأمر لا شك يحتاج إلى مبرّر قوي يكفي لتغطية كل الممارسات العنيفة التي يخطّط لاستخدامها ضد الثورة. ولتحقيق ذلك، أفرزت الذهنية الاستخباراتية في النظام جملة من التكتيكات لصناعة سياق الفوضى.
    
- بالإضافة إلى استخدام العنف إلى أقصى درجاته، جرت ممارسة أعمال تخريبية وإلصاقها بالثوار، من قبيل إحراق القصر العدلي والمحاكم بمدينة درعا، وإحراق المركز الإذاعي والتلفزيوني، ومراكز سيرياتل التابعة لرامي مخلوف، وإلصاق ذلك بالمتظاهرين. والهدف من ذلك إغراء أصحاب الرؤوس الحامية ولفت إنتباههم إلى إمكانية تحقيق ضرر بالنظام كعمل إنتقامي، الهدف البعيد من وراء ذلك، بالإضافة إلى تشويه الثورة، فرط التماسك الحاصل في بدايتها عبر وجود شخصيات وهيئات منظمة للتظاهر وأعمال العصيان.
والهدف المباشر هو خلق تيارات متنافرة داخل بيئة الثورة، صقور وحمائم، والبناء لاحقاً على هذا المتغير."1"

- استخدام العامل الطائفي بكثافة عبر الإشارة إلى أن الثوار يهدفون إلى إقامة إمارات سلفية، وهي إشارة إلى أن المتظاهرين من الطرف السني، وبالتالي فإن لا حظوظ لهم بتحقيق مطالبهم طالما أنه جرى الحكم عليهم مقدماً بالتطرف والعمالة لأنظمة عربية خارجية."2"

- إخراج مئات من السجناء الإسلاميين من سجون النظام، وكانت مخابرات الأسد تدرك أن هؤلاء لن يفوتوا فرصة العمل ضد النظام، غير أن الأهم من كل ذلك، معرفة المخابرات بثلاثة عناصر يستطيع هؤلاء تحقيقها لخدمة سياق الفوضى المراد صناعته:

الأول: أن الإسلاميين ليسوا روحاً واحدة يمكن أن يشكلوا جبهة متحدة ضد النظام، بل هم عبارة عن جماعات يستحيل أن تلتقي مع بعضها، فهناك السلفي الجهادي، والإسلامي العصري، والصوفي، والتكفيري، وأن من شأن نزولهم إلى ميدان الثورة المساهمة في خلق حال من الانقسام والتشتت، فضلاً عن إعطاء الثورة طابعاً إسلامياً متطرفاً يسمح للنظام بالمزاودة على العالم بعلمانيته.

الثاني: معرفة النظام أن هؤلاء وبحكم خبراتهم، يستطيعون تأمين الأسلحة والدعم التمويلي من مصادر داخلية وخارجية، ذلك أن أكبر مصادر التمويل في العالم العربي غالباً ما تأتي عن طريق جمعيات دينية أو جمعيات أهلية لها خلفيات دينية.

الثالث: ستتحوّل هذه الجماعات إلى مغناطيس لجذب المتطرفين الذين تنتجهم مكائن القوانين الغربية والدعاية ضد الإسلام في المجتمعات الغربية، بحيث يستطيع النظام استثمار وجودهم للضغط على الغرب في تعديل مواقفه تجاه الثورة السورية، أو لإجبار الغرب على فتح قنوات التواصل، وخاصة مع أجهزته الأمنية، للتعاون في رصد ومتابعة المتطرفين القادمين من تلك الدول، وكان لنظام الأسد خبرة سابقة في ذلك الأمر عبرالتعاون الأمني مع المخابرات الأمريكية، وتسليمه قوائم بأسماء المتطوعين العرب الذين عبروا إلى العراق من الأراضي السورية."3".

- وثمّة أعمالٌ رديفة قام بها النظام تمثلت بقيام بعض عناصره بإلقاء أسلحتهم الفردية في الشوارع كي يلتقطها بعض المتحمسين الذين سيستسهلون استخدام السلاح دون إدراك لمخاطره اللاحقة على الثورة.

ثانياً: أقلمة الصراع

ساهمت عملية تحوّل الصراع إلى صراع إقليمي ووقوعه على خطوط الصدع الإقليمية والمذهبية، إلى حاجة اطرافه لتجهيز البنية التحتية التي تساعدهم على الفوز في الصراع، وقد نشأ نتيجة ذلك، وفي الجبهتين المتقابلتين، ظهور العشرات، إن لم يكن المئات من التشكيلات العسكرية بأسماء وصفات مختلفة مع إغراق هذه التشكيلات بصنوف الأسلحة.
 
 
بدأت هذه الظاهرة في التشكل داخل جبهة النظام، حيث سعى في بداية الثورة إلى محاولة إظهار وجود ثورة شعبية مضادة للثورة لا تتدخل فيها أجهزته العسكرية والأمنية، فصدّر للواجهة ميليشيات الشبيحة التي ظهرت في كل الأماكن التي كانت تحصل فيها مظاهرات واعتصامات، وما لبث أن قام النظام بتسليحها، كما أنشأ في ذات الوقت ما يسمى بلجان حماية الأحياء التي بدأت تمارس سلطات كاملة، من اعتقال وتحقيق وحتى ممارسة عمليات القتل. وعندما لم يكفِ ذلك، قام النظام بتأسيس هيكلية لهذه الميليشيات أطلق عليها تسمية" قوات الدفاع الوطني" بالإضافة إلى تشريع نظام الأسد لقانون الحماية الذاتية، والذي على أساسه صار يحق لأشخاص وجهات تأسيس ميليشيات خاصة شريطة أن تعمل على تمويلها."4".

في المقابل، وعلى جبهة الثوار، شكلت هذه الملامح إرهاصات لمرحلة قادمة خطرة ستصبح فيها التظاهرات والهتافات مجرد أفعال سلبية وصبيانية، ما يحتم الانتقال إلى نمط جديد من المقاومة يُشكل السلاح والتنظيم عناصره الأبرز. ونظراً لافتقار الثورة لقيادة موحدة وتنسيق على مستوى البلد، كان من الطبيعي أن تحصل هذه العملية ضمن نطاقات ضيقة وبسرية تامة، وبدون رؤية موحدة لخريطة الأهداف وإدارة مسرح الصراع. وقد اعتمدت هذه التشكيلات الصغيرة في بدايتها على ما تغنمه من السيطرة على بعض المواقع العسكرية، الصغيرة والبعيدة عن المراكز الأساسية، ومن المعلوم أن سوريا كانت تشكل مخزناً للسلاح الخفيف والتقليدي عبر عمليات التجميع التي قام بها نظام الأسد على مدار أربعة عقود.

مع إشتداد الأحداث، سيفتح نظام الأسد المجال لدخول الميليشيات الطائفية التي ترعاها إيران للعمل داخل الميدان السوري، حيث سيصل عددها في مراحل سابقة إلى حوالي 30 ميليشيا بعديد يتجاوز الـ 100 ألف عنصر، لحماية مواقع النظام الإستراتيجية والسيطرة على مفاصل الجغرافية السورية"5"، وخاصة العاصمة دمشق. وبالإضافة لهؤلاء، ستلتحق كتائب من المرتزقة الروس والأوكرانيين" الناطقين بالروسية"، وبعض الصرب، ومتطوعين عرب، لواء القدس الفلسطيني والحزب القومي الاجتماعي السوري فرع لبنان.

ولن يتأخر الانخراط الإقليمي على جبهة الثوار، حيث ستعمل الأطراف الداعمة للثورة السورية إلى تقديم الدعم بطريقة عشوائية وغير مدروسة ومنظمة، في ظل اعتقاد تلك الأطراف أن تكبير حجم القوة المقاتلة سيسرع من الانتصار على نظام الأسد، أو على الاقل لن يسمح له بالانتصار بسهولة على الثورة. وقد تميّزت هذه المرحلة بالعشوائية في الدعم، وساهمت في خلق صراعات داخل جبهة الثورة على التمويل ومصادر الحصول على السلاح، كما خلقت حالة من الفوضى على صعيد التشكيلات وأيديولوجياتها وشعاراتها، فقد تحوّلت بعض تلك التشكيلات من الاعتدال إلى التشدّد لموافقة مزاج الجهة الداعمة، كما تشكّلت تحالفات وانفضّت بعد فترة قصيرة تبعاً لتغير مصادر الدعم أو لوجود عروض أفضل للدعم، مما ساهم في صناعة الفوضى الفصائلية التي سيتحول معها التنبؤ بدينامية عملها أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً، في ظل تلك الحركة المتسارعة من التغيرات."6".
 
ثالثاً: فائض تسويق السلاح

عندما بدأ الربيع العربي، كان أخر صراع دولي عنيف قد مضى عليه أقل من عقدين، حروب البلقان، وقد خلّفت تلك الحرب فائضاً كبيراً من الأسلحة، بالإضافة إلى تحوّل جزء من دول المنطقة إلى منتجين للسلاح، الخفيف والمتوسط، وبأسعار منافسة. ووفق تقرير لـ"شبكة البلقان للتحقيقات الإخبارية"، فقد شهدت صادرات الأسلحة من دول شرق ووسط أوروبا طفرة غير مسبوقة، بداية من عام 2012، وتركزت أغلب صادرات هذه الدول على الأسلحة الأكثر شيوعًا لدى الميليشيات المسلحة، مثل: البنادق الآلية، والأسلحة المضادة للدبابات، وقذائف الهاون، ومنصات إطلاق الصواريخ، والمدافع المضادة للطائرات. وبلغ إجمالي صادرات هذه الدول خلال الفترة بين عامي 2012 و2016 حوالي 1.2 مليار دولار.

ورصد التقرير تصدير حوالي 68 شحنة من الأسلحة من دول شرق ووسط أوروبا إلى الشرق الأوسط خلال عامي 2015 و2016، ووفق أقل التقديرات التي أوردها التقرير فإن الشحنة الواحدة -على الأقل- تتضمن 16000 بندقية آلية، وثلاثة ملايين طلقة ذخيرة.

ومنذ كانون الثاني"ديسمبر" 2015 حتى آب "أغسطس" 2016، قامت قيادة العمليات الخاصة الأمريكية بالإشراف على تصدير ثلاث شحنات أسلحة ضخمة يقدر وزنها بحوالي 4700 طن من خلال ناقلات بحرية عملاقة انطلقت من موانئ كونستانتا في رومانيا وبرجاس في بلغاريا، وتضمنت هذه الشحنات بنادق آلية ثقيلة، وقاذفات صواريخ، وأسلحة مضادة للدبابات، وقذائف مورتر، وقنابل وصواريخ عابرة للمدن، ومتفجرات وذخيرة. وعلى الرغم من عدم إعلان الولايات المتحدة عن وجهة شحنات الأسلحة، إلا أن الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي كشفت عن وصول هذه الأسلحة إلى الميليشيات الكردية في سوريا."7"

بالإضافة لذلك، فتحت إيران مخازنها لإغراق الميدان السوري بالأسلحة، فضلاً عن شراءها وحكومة العراق لصفقات أسلحة كبيرة من دول البلقان وروسيا لدعم حليفها نظام الأسد، الذي كان جنوده يهربون ويتركون مخازن الاسلحة عامرة بكل صنوفها وأنواعها.
 
هل كانت الثورة تحتاج لكل ذلك؟

ساهمت كثرة ولادة التنظيمات والفصائل المسماة ثورية في توسيع مجال الفوضى وتقليل فعالية الثورة وحرفها باتجاه أهداف نشأت على خلفية توفّر السلاح والتمويل.

وقد لوحظ أنه منذ نهاية عام 2012 ظهرت نزعات جديدة لدى الكثير من الفصائل المسلحة سيكون لها أثرٌ كبير على مسار الثورة في المراحل اللاحقة:

- الاتجاه نحو تأمين مناطق سيطرة مكرّسة للفصيل الذي يستحوذ عليها، دون أن يكون للأمر علاقة بالثورة أو بالحاصل النهائي للحرب على نظام الأسد. حيث بدأت تظهر مناطق خاصة تجري إدارتها في عملية الصراع وفقاً لرؤية وتقديرات الفصيل صاحب السيطرة ومقدرته المنفردة أيضاً والتي حتماً لن توازي قوة النظام، وبذلك يتم القضاء على العائد الاستراتيجي لهذه المنطقة في الصراع مع نظام الأسد. وقد حصل ذلك بشكل واضح في المناطق القريبة من العاصمة، ورغم أن دمشق بدت محاصرة من كل الاتجاهات في مطلع 2013 لدرجة انحسار سلطة الأسد ضمن مساحة كيلومترات محدّدة، إلا أن النظام استفاد من هذه الوضعية وأدار الصراع مع تلك المناطق بموارد ضعيفة، بشرية ومالية.

- الاتجاه نحو الاستقرار في المكان والاكتفاء به وإغلاق دائرة الثورة على النظام عند حدود كل منطقة نفوذ للفصيل، وقد عملت الفصائل على التكيّف مع هذا المعطى بأن انكفأت عن الهجوم وتحولت إلى الدفاع البحت أو في أقصى الحالات الرد على ضربات النظام، مما سهل للنظام عملية حصارها ببطئ وبتخطيط هادئ.

- الاتجاه إلى الصراعات البينية، نتيجة الاختلاف في التوجهات والمرجعيات، وجراء الصراع على الموارد في مناطق السيطرة، بل أن التناقض بين الكثير من التنظيمات والفصائل فاق بدرجة كبيرة صراعها مع النظام الذي أصبح ثانوياً مع مرور الزمن.
ونتيجة لذلك، فشلت جميع محاولات هيكلة الفصائل والتنظيمات ووضعها في إطار موحد بهدف الاستفادة من زخمها في تفعيل الصراع ضد نظام الأسد وتطويره، إلى الحد الذي يجعلها قادرة على فرض شروطها وتشكيل بديل مقبول عن النظام أمام العالم الذي كان يراقب تلك التطورات عن كثب ويسأل عن مصير سوريا في اليوم التالي لسقوط نظام الأسد.
 
انعكاس الفوضى على الأداء السياسي للمعارضة

عملت مرحلة التسليح على تهميش المعارضة السياسية، التي كانت تشكو بالأصل من ضعف في أدائها على كافة المستويات، وقد حرمتها حالة الفوضى والتشتت الحاصلة في خريطة الفصائل الثورية بمختلف مرجعياتها، من الظهور بمظهر القوى القادرة على إدارة مسرح الصراع مع النظام وعجزها عن تشبيك الميداني بالسياسي وتسييل رصيده في محاولتها بناء صورة الطرف الفاعل، انطلاقاً من حقيقة أن الثورة لا تجري في فراغ وإنما في سياقات سياسية محلية ودولية محددة، وهذه السياقات لها تأثير كبير على ديناميكيات الحرب ومخرجاتها. فالثوّار ما هم إلا فاعلون سياسيون يسعون للوصول لمكانة وقوة الدولة، ويتمنون أن يُؤخذوا على محمل الجد كقوى سياسية تهدف إلى الحصول على صفة رسمية في السياسات الدولية."8".

ورغم درجة التعاطف الكبيرة من المجتمع الدولي، أقله لجهة استنكار جرائم نظام الأسد تجاه السوريين، إلا أن حالة الفوضى لقوى الثورة الميدانية وظهور التنظيمات المتطرفة وحالة التشتت والفرقة، ساهمت بدرجة أو أخرى في عدم تطوير المواقف الدولية وتحويلها إلى سياسات إجرائية ضد نظام الأسد، أو على الأقل، استخدمتها بعض مراكز القوى وصنع القرار في تلك الدول كذريعة لعدم تطوير مواقفها بما فيه الكفاية. وهو ما برز في خطابات الرئيس الأمريكي وتصريحاته في رده على الضغوط التي كان يوجهها أعضاء بارزين في الإدارة الأمريكية على موقفه السلبي تجاه الثورة السورية وممارسات نظام الأسد، فكثيراً ما أشار اوباما إلى حالة التشتت تلك مؤكداً أن الدعم لن يغير كثيراً من واقع الثورة ضد الأسد.

ليس ذلك وحسب، بل ان الواقع الميداني الفوضوي انعكس على بنية المعارضة السياسية نفسها، فقد تمفصلت ظاهرة تشظي الكيانات السياسية المعارضة إلى وحدات صغرى متماثلة ومتشابهة، مع واقعة فوضى الفصائل العسكرية ومحلويّتها وتصادمها واختلاف أهدافها ومصادر تمويلها، وولّد ذلك مناخاً عاماً من سماته التفكك والتفتيت والتعفن. ودعّمت هذه السيرورة من الانفراط، موضوعياً في أحسن الأحوال، نهج النظام في تحطيم السوسيولوجيا السورية، كما تناقضت مع الحاجة الوطنية السورية إلى بناء الدولة-الأمة، التي هي في المحصلة النهائية مجموعة من عمليات التجريد والتوحيد والمركزة، بما يتيح تجاوز واقع التشظي."9"
 
الفوضى على الجبهة المقابلة

لم تكن الفوضى ظاهرة خاصة بالمعارضة وحدها، بل ان الطرف الأخر لم يسلم منها، وقد وقفت جملة من الأسباب وراء بروز هذه الظاهرة في جبهة النظام وحلفاءه:

- أثر الصدمة: فقد أدى حصول واقعة الثورة إلى إرباك هياكل النظام ومنظوماته الأمنية والعسكرية، كما أن زخمها في الأشهر الأولى استنزف منظومته الأمنية، وزادت حالة الإنشقاق عن جيشه الرسمي من واقع الإرباك الذي يعيشه، ما دفعه إلى تشكيل كيانات رديفة غالبية عناصرها غير منضبطين وذوو خلفيات جنائية.

- التدخل الإيراني: الذي ساهم بصناعة الفوضى بدرجة كبيرة. وكان جزءٌ من هذه العملية انعكاساً لفوضوية العمل الإيراني أصلاً، نظراً لتعدد مواقع القرار والمرجعيات والجهات الإيرانية المتدّخلة، وجزءٌ أخر كان مقصوداً، الهدف منه ملء المجال السوري بتنظيمات ميليشياوية شيعية تُبقي على سيطرة إيران في سوريآ إلى فترات مديدة. فبالإضافة إلى الميليشيات التي صدّرتها من إيران والعراق ولبنان، والتي يتجاوز عددها العشرون تنظيماً، عملت على تأسيس مجموعة من التنظيمات السورية المنشأ، مثل "كتيبة الزهراء" من أبناء قرية الزهراء بحلب، "كتيبة شهداء المحراب" في نُبُّل بريف حلب، "كتيبة العباس" في قرية كفريا، "كتائب الفوعة" في قرية الفوعا، وفي حمص "قوات الإمام الرضا" (تُعرف أيضاً كـ "قوات الرضا")، و"جيش الإمام المهدي" و"المقاومة الوطنية العقائدية في سوريا"، التي جنّدت مقاتلين من طرطوس والمناطق الجبلية الحدودية التي تقع تحت سيطرة العلويين، وخلال العامين 2015 و2016، تألّفت القوات المقاتلة المحلية أيضاً من ميليشيا سورية شيعية أُنشئت على صورة "حزب الله" وعُرفت باسم "الغالبون-  سرايا المقاومة الإسلامية في سوريا". ."10"

- التدخل الروسي: وقد ساهم تدخل روسيا في الصراع السوري إلى إحداث المزيد من الفوضى في بنية الجبهة المقابلة، وذلك إما من خلال دعمها المباشر لبعض التشكيلات، مثل اللواء 130، الذي شكلته روسيا من بعض ضباط الجيش السوري ليكون ذراعها على الارض، أو عبر فتح قنوات تواصل وتنسيق مع بعض المراكز، أو حتى من خلال جيوش المرتزقة التي أحضرتها روسيا للعمل في الميدان السوري، وكانت تقارير دولية موثّقة قد كشفت تجنيد مرتزقة روس يقدّر عددهم بالألف في الحرب السورية."11"

- فوضوية جيش النظام نفسه: حيث أصبح ما تبقى من جيش يتشكّل من طبقات، بعضها يحصل على مزايا ويمتلك صلاحيات فوق العادة،مثل "صقور الصحراء"، و"النمور"، وهما يجمعان تشكيلة غريبة من أمراء الحرب المحلّيين، وفلول النظام، وجماعات دعم خارجيّة في تحالفاتٍ وغرف عمليّات مؤقّتة. ويصف تقرير أميركي قوات النظام بأنها "تتكون من مليشيات مذهلة من المقاتلين المحلّيين (شديدي الانتماء)، تسير إلى جانب فصائل مختلفة، ورعاة من الداخل والخارج، وأمراء حرب محلّيين.  واليوم، وإذ تظهر الخرائط على وسائل الإعلام سيطرة النظام، ظاهريّاً، على معظم المحافظات الغربية فإنّها لا تميّز في الحقيقة أن ثمّة العشرات، أو لربّما المئات، من الإقطاعيات الصغيرة تظلّ موالية اسميّاً للأسد. وفي الواقع، فإن قوّات الأمن الموالية، في معظم أنحاء البلاد، تعمل الآن كمشروع ابتزاز كبير؛ فهي تُعدّ، في الوقت نفسه، سبباً ونتيجة لانهيار الدولة على المستوى المحلّي". "12"

إيران المستفيد الأكبر

ثبت أن الفوضى هي الحالة الأكثر ملاءمة لإيران لتحقيق مصالحها، وهذا عائد بدرجة كبيرة إلى طبيعة التكوين السياسي والعسكري الإيراني والإيديولجية الحاكمة. فإيران بلد يفتقر لعناصر القوة التي تجعله قادراً على تحقيق نفوذ عبر القوة الناعمة التي لا يمتلك منها شيئاً. غير أن سياسية إيران التي يتراكب فيها الأيديولوجي"الأسطوري" بالتوليتاري الاستبدادي، تدفعها إلى البحث عن مناطق نفوذ متوسلةً لتحقيق هذا الهدف خلطة من أساليب الخداع وسياسات العنف، ويندر أن تحقق إيران أهدافها في إطار بيئة إقليمية مستقرة.

وبناء على ذلك، تشكّل سياسات إيران دينامية دائمة لاستمرار الفوضى في سوريا والإقليم برمته من خلال إستخدام فائض الشباب الشيعي في الإقليم بوهم الدفاع عن العتبات المقدسة وآل البيت. ولن تكون سوريا في أحسن أحوالها أفضل من العراق الذي يئن تحت الفوضى ويتحوّل لدولة فاشلة لا يبدو أنه سيكون مقدّر لها الخروج من هذه الوضعية لسنين قادمة.
 
 
مآلات الفوضى في سوريا

يشير واقع الفوضى المترسخ في سوريا إلى ضعف إحتمالية إمكان إصلاح هذا الواقع، أقلهُ في المدى المنظور، لا بالنسبة للثورة ولا بالنسبة لمنظومة الأسد. بل أن هذه الفوضى اندمجت في إطار صراع دولي إقليمي أوسع، كانعكاس لصراعات مشاريع جيوسياسية وتموضعات إقليمية ودولية. وبالرغم من وجود رهان لدى حلفاء النظام على قدرتهم على السيطرة على هذه الفوضى بعد أن تؤدي وظيفتها في إخراج المنافسين من حلبة الصراع والاعتراف بهزيمتهم، وذلك عبر تكتيكات استخدام القوة إلى أقصاها، ومحاولة عزل القوى المنافسة، عبر المساومات والتفاهمات أو حتى الردع، فإن هذا الرهان لا يبدو واقعياً في ظل توفر خيارات بديلة لقوى الثورة من جهة، وبالنظر لحالة عدم التجانس بين القوى المشكّلة للجبهة الأخرى، والتي لا تلتقي سوى في عدائها للثورة، ولم يعد شخص الأسد يشكّل العنصر الجامع بينها في ظل تعدّد المصالح والغايات واختلاف المحفزات.

والراهن أن تلك الرهانات تخلط عن عمد بين إمكانية القضاء على الهياكل والأطر للقوى التي تتشكل منها الثورة بشكلها الحالي، وبين إنهاء عملية المقاومة ضد التحالف الروسي- الإيراني، كما أنها تفترض أنه لحظة إنجاز هذه المهمّة ستنتقل بيسرٍ وسهولة إلى الطرف الآخر وتعمل على ضبطه وتفكيك شبكاته ونزع أسلحته. وهذا لا شك استسهالٌ في التقدير ناتج عن حماسة أفرزتها حالة التراجع الميداني لفصائل المعارضة في مناطق معلومة، دون الأخذ بالمعطيات الواقعية التي تؤكد وجود شبكة ضخمة من فصائل ومقاتلي المعارضة تتنتشر في كل مفاصل الجغرافية السورية، في مقابل وجود بنى ضخمة، ميليشاوية وامراء حرب، في الطرف الأخر، وهذا الوجود ليس شكلياً بل منغرسٌ بشكل عميق في النسائج الإجتماعية، وله حواضنه التي تضمن استمراره بشكل وآخر.
 
وبذلك، فإن ثمة سيناريوهات لإستمرار الفوضى يمكن رسمها وفق الأتي:
 
السيناريو الأول: أن تنتج هذه الفوضى حالة من خطوط الصراع بين الطرفين، وهي المرحلة التي لم يصلها الصراع بعد في سوريا، ويبدو أن الوقائع تتّجه صوب تكريسها، بعد أن ساعد التدخل الروسي قوات نظام الأسد على استعادة السيطرة على جزء كبير من المواقع التي خسرتها في السنوات الأخيرة. وتبعاً لهذا السيناريو يسيطر النظام على "سورية المفيدة"، أي المنطقة التي تشمل مراكز المدن من حلب شمالاً إلى درعا جنوباً، وبذلك يتم تأمين المصالح الروسية – الإيرانية المتمركزة بشكل كبير في هذا الجزء من سورية. وفي هذه الحالة يتم السيطرة على جزء من الفوضى وليس على الفوضى كلها، ذلك أن أدوات تشغيل الفوضى، الميليشيات والقوى المتنافسة، ستبقى موجودة في الجهتين، ومن الممكن أن تظهر صراعات داخلية بشكل أعنف بين الفاعلين داخل كل جبهة، جبهة النظام وجبهة الثوار، من أجل السيطرة وتحديد أوزان كل طرف وصلاحياته. وهذا السيناريو هو الأقرب إلى الواقع في المدى المنظور، ذلك ان روسيا، الطرف الأكثر تأثيراً في الصراع، يهمها من ذلك إثبات قدرتها على تثبيت النظام والدولة ضمن هذا الحيز الجغرافي دون أن تغرق في الصراع لسنوات طويلة.

السيناريو الثاني: أن تستمر حالة الفوضى وتتمأسس لدى الجانبين بحيث تصبح هي السمة الغالبة على كامل الحيز الجغرافي السوري بشقيه المفيد وغير المفيد، وذلك من خلال استمرار حالة اللاحسم والكر والفر بين الطرفين. وهذا السيناريو محتمل إذا ما استشعرت روسيا خطر الانزلاق في حرب مديدة، وبالتالي تتجه للاكتفاء بحماية قواعدها والمجال الجغرافي القريب من تلك القواعد، وترك ما تبقى من سوريا ساحة صراع بين إيران والقوى الإقليمية.

السيناريو الثالث: أن تتفق القوى الدولية والإقليمية على حسم الملف السوري وإعادة الأمن والاستقرار للبلد. حينها ستتفق الأطراف على فرض النظام واجتثاث الفوضى، وهذا أمر يحتاج للإرادة والقدرة وإلى إطار زمني، غير أنه لا توجد ملامح لإمكانية حصول مثل هذا السيناريو في ظل مناخات الاستقطاب الإقليمية والدولية الراهنة.
 
المصادر:
 
1- بعد 5 سنوات على إنطلاقتها في درعا...الثورة السورية مستمرة في مهدها، الخليج اونلاين، 18-3-2016 انظر الرابط.
2- أهالي بانياس، نطالب بدولة مدنية لا إمارة إسلامية. إيلاف، 6- 4- 2011 انظر الرابط.
3- جهاديو سورية بين الحقيقة والمبالغة، هارون ي. زيلين، و أندرو جيه. تابلر. معهد واشنطن للدراسات، 17-12-2012 انظر الرابط.
4- ملوك السوق السوداء في دمشق، نور سماحة، موقع سوريات، 5-10-2016 انظر الرابط.
5- الميليشيات الشيعية في سورية..القصة بالدماء والأرقام، العربية نت، 8-6-2014 انظر الرابط.
6- تشير عملية مراجعة التحالفات التي تجريها الفصائل والخروج من تلك التحالفات إلى وجود سيولة كبيرة بهذا الأمر لدرجة أنه لا يمكن الاستناد إلى معلومات قبل شهر عن موقع فصيل معين في إطار تحالف من التحالفات.
7- فوضى التسلح، كيف تؤجج دول شرق ووسط أوروبا الصراعات في الشرق الأوسط، عرض محمد عبدالله يونس، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.6-11-2016 انظر الرابط.
8- البحث عن الشرعية"دور دبلوماسية المتمردين" في حسم الصراعات، إعداد أحمد محمود مصطفى، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. 31- 8-2016 انظر الرابط.
9- المعارضة السورية ومشكلة القيادة، يزيد الصايغ، مركز كارنيفي للشرق الأوسط، 4-4-2013 انظر الرابط.
10- كيف تنشئ إيران "حزب الله" ثاني في سورية؟، فيليب سميث، معهد واشنطن، 8-3-2016 انظر الرابط.
11- مرتزقة روس يقاتلون في سورية، العرب اللندنية ، 4- 11- 2016 انظر الرابط.
12- النظام السوري يتآكل: أمراء حرب يعتلون عرش دولة متهالكة، العربي الجديد، 1-9-2016 انظر الرابط.
غازي دحمان

حاصل على البكالوريوس في العلوم سياسية من جامعة الفاتح بليبيا. يكتب في عدد من الصحف العربية منذ عام 1997 مثل الحياة والعربي الجديد وموقع الجزيرة نت.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.