يظهر هذا واضحاً في أحد تجلياته باستحضار ثنائيةٍ يتحدث عنها الدكتور حسام الدين درويش، في ورقته عن مفهوم الإسلام السياسي يناقش فيها: "أطروحتين، تتضمن إحداهما القول بأن الإسلام السياسي هو قدر المجتمعات العربية، في حال أتيح لتلك المجتمعات فرصة التعبير السياسي عن نفسها واختيار الممثلين السياسيين لها" ربما تصل عند فريقٍ من السوريين إلى أن تكون "مستقبل الإنسانية" جمعاء“، أما "الأطروحة الثانية فتحذِّر من خطورة الإسلام السياسي، لوجود تعارضٍ ضروريٍّ بينه وبين مبادئ الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان (الفردية)" لدى سوريين آخرين وإلى درجة يؤمل فيها أن تُؤدي التطورات إلى "نهايةٍ محتومةٍ للإسلام السياسي".
كان هذا، ولايزال فيما تُفرز الوقائع، منبثقاً من " حضور الأبعاد السلبية الأيديولوجية" ومعها " الرؤى الرغبوية المثنوية" في عملية استشراف "آفاق الإسلام السياسي" في سوريا، كما هو الحال في الدول التي شهدت موجات الربيع العربي بشكلٍ عام. وبخلفية الانطلاق من "الصيغ الأحادية أو المقاربات التنبؤية التي تأخذ شكل نبوءاتٍ تفتقر إلى أسسٍ معرفيةٍ ومعطياتٍ واقعيةٍ تسوغها".
جاء هذا في سياقٍ أكبر يطرحه الباحث بهذا التساؤل: "إذا سُلِّم بأن الإسلام (السياسي، أو غير السياسي) إسلاماتٌ، دائماً، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكننا تناول الإسلام السياسي عموماً، على الرغم من الاختلافات الكثيرة والكبيرة بين الحركات أو التنظيمات التي تجسده؟". وانطلق منه إلى عملية "تحليل مفهوم الإسلام السياسي وضبط معناه وتمييزه عن بعض المفاهيم المتصلة به، كالإسلام الجهادي، والإسلاموية والإسلام الدعوي".
وفي إطار تنزيل عملية التحليلِ تلك على الواقع العملي في البلاد العربية، وفي سوريا، يبينَ الباحث كيف أنه "لم يفضِ الربيع العربي إلى شرعنة وجود الإسلام السياسي، وتعزيز ذلك الوجود، في عددٍ من بلاد العالم العربي عمومًا فحسب، بل أفضى أيضًا إلى ضخ دماءٍ قويةٍ في شرايين الإسلام الجهادي، في المناطق التي واجهت فيها الأنظمة الحاكمة الحراك السلمي بالعنف الشديد، كما في سوريا وليبيا، على سبيل المثال. واختلط الإسلام السياسي بالإسلام الجهادي في تلك البلاد إلى درجت قدمت مشروعيةً، جزئيةً ونسبيةً، لإذابة الفروق بين المفهومين، في تلك الحالات".
بعد الحفر في الأطروحتين المذكورتين أعلاه، تنتقل الورقة للبحث في "علاقة الإسلام السياسي مع الآخر، بوصفها إحدى أهم العوامل المحددة لمستقبل الإسلام السياسي وآفاق حضوره في العالم العربي" مع التركيز على تجلِّيين لتلك العلاقة يتجسدان: "من ناحيةٍ أولى، في المجتمع والأطراف السياسية (و)الإسلامية/ الدينية الأخرى الموجودة في مجاله العام، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، في السلطة والدولة (الوطنية/ المدنية)".
وفي مدار الورقة، يعمل الباحث بشكلٍ منهجيٍ دقيق على العلاقة بين الطروحات التي يناقشها وصولاً إلى رؤيةٍ يجدر البناء عليها في إطار أي مراجعاتٍ ممكنة، ويقول فيها: "يثير التركيز على إسلامية النظام السياسي، وإسلامية الدولة ذاتها، الكثير من المخاوف والتحفظات لدى الأفراد المنتمين إلى أقلياتٍ غير مسلمةٍ أو لدى غير المتدينين عمومًا. وعلى هذا الأساس، يبدو مفهومًا، جزئيًّا على الأقل، معارضة معظم هؤلاء الأفراد لوصول الإسلام السياسي إلى السلطة، لأنهم يرون أنه سيكون استبدادًا دينيًّا، إسلاميًّا. وانطلاقًا من الاعتقاد، المحق أو الزائف، بأن الإسلام السياسي هو البديل الأقوى، وربما الوحيد الممكن، للاستبداد غير الإسلامي، يرى كثيرون أنه إذا كان التخيير هو بين استبدادٍ دينيٍّ/ إسلاميٍّ واستبدادٍ غير دينيٍّ، فإن الاستبداد غير الديني أقل سوءًا على الأرجح. ويعتمد مستقبل الإسلام السياسي على مدى الاقتناع بزيف ذلك التخيير، وبأن بديل الاستبداد القائم لن يكون استبدادًا (دينيًّا)، ولن يكون أكثر سوءًا من الاستبداد القائم، وبأن وصول الإسلام السياسي إلى السلطة لا يعني ممارسة التسلط من طرفٍ يرى نفسه الطرف الأوحد الذي يحق له، ويجب عليه، أن يفرض هيمنته على كل الأطراف الأخرى، باسم أغلبيةٍ فعليةٍ أو مظنونة".
إن شمول التحليل، في هذه الورقة، فيما يتعلق بظاهرة الإسلام السياسي، وتحرير القول في عناصرها المُعقدة، إن لجهة مكوناتها العديدة، أو لجهة أثرها في تشكيل ثقافةٍ سياسية وطنية تتعلق بها، وفي السياسات المحلية والإقليمية والدولية تجاهها، يثير شعوراً قوياً بضرورة البناء عليها بشكلٍ عام، وبضرورة تنزيلها على الواقع السوري المعيّن، وحبذا من قِبل الباحث قبل غيره، الأمر الذي يساعد على تطوير حضورٍ للإسلام السياسي يكون إيجابياً في مجتمعات يبدو أنها محكومةٌ باستمراره ووجوده. وهذا حضورٌ يختم الباحث الورقة بالإشارة إليه حين يقول: "تكون علاقة الإسلام السياسي بالدولة والسياسة عمومًا إيجابيةً، حين يقر بمشروعية الدولة القائمة، بوصفها الكيان السياسي الذي يشتغل داخله، ويحترم حدوده وسيادته، من جهةٍ أولى؛ وحين ينتقل، في الحقل السياسي، من مفهوم "الأمة (الإسلامية)، وشعار "الإسلام هو الحل"، إلى مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على مبادئ المواطنة، وسيادة القانون، واحترام التعددية والحريات الفردية، من جهةٍ ثانيةٍ. في المقابل، تكون علاقة الدولة والنظام السياسي الحاكم فيها بالإسلام السياسي إيجابيةً، حين تقر بالمشروعية المبدئية للإسلام السياسي، بوصفه طرفًا سياسيًّا مقبولًا في العملية السياسية الديمقراطية الوطنية، وتتبنى توجهًا استيعابيًّا لا-إقصائيًّا تجاهه".
1- مقدمة
ما مستقبل الإسلام السياسي في العالم العربي، بعد مضي أكثر من عشر سنواتٍ على انطلاق ثورات الربيع العربي وانتفاضاته؟ هذا هو السؤال الرئيس الذي يسعى هذا البحث إلى سبر ممكنات الإجابة عنه، وتحديد بعض معالم تلك الإجابات، ومناقشة بعض أهم الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تساعد في تحقق الممكنات المذكورة أو إعاقة ذلك التحقق. وفي مقدمة تلك العوامل، تأتي علاقة الإسلام السياسي ﺒ "الآخر"، متمثلًا في المجتمع والأطراف السياسية والدينية والاجتماعية فيه، من جهةٍ، وفي السلطة و/ أو الدولة، من جهةٍ أخرى. وسيتم استشفاف مستقبل الإسلام السياسي في العالم العربي، انطلاقًا من التطورات السياسية التي حصلت لذلك الإسلام، وفي ذلك العالم، في العقد الأخير، تحديدًا. فعلى الرغم من أن مسألة "مستقبل الإسلام السياسي" مطروحةٌ، بكثافةٍ كبيرةٍ، منذ بدء حضور هذا المفهوم (الإسلام السياسي)، وشيوع تداوله، في الخطابات الأكاديمية والسياسية في ثمانينيات القرن الماضي،([1]) فإن هذه الكثافة أصبحت أكبر بكثيرٍ في العقد الأخير الذي شهد حضورًا "كبيرًا" ومتقلبًا لحركات الإسلام السياسي في "دول الربيع العربي" وغيرها من دول العالم العربي. وهذا الحضور هو ما يجعل موضوع الإسلام السياسي ومستقبله موضوعًا راهنًا بامتيازٍ، إضافةً إلى كونه موضوعًا مهمًّا، منذ عدة عقودٍ على الأقل.
ومنذ انطلاق ثورات الربيع العربي، صدرت عشرات، بل مئات النصوص (الكتب والأبحاث والمقالات)، وعقد عددٌ كبيرٌ من الندوات، في هذا الخصوص، باللغة العربية وفي العالم العربي، أو بلغاتٍ أخرى وخارج ذلك العالم.([2]) ويمكن تفسير الحضور لهذا الموضوع في العالم العربي، خصوصًا، في أنه قد أصبح، بعد قيام ثورات/ انتفاضات الربيع العربي، أحد أهم مواضيع الاستقطاب السياسي والصراع الأيديولوجي في ذلك العالم. وبسبب ذلك الاستقطاب وهذا الصراع، وبسبب أن الموضوع يخص مستقبلاً مظنوناً، لا واقعاً قائماً ووقائع أو معطياتٍ ثابتةٍ، ليس نادرًا تناول هذا الموضوع، في العالم العربي خصوصًا، تناولًا أيديولوجيًّا رغبويًّا، بحيث ينوس الحديث بين قطبين، أحدهما يتحدث عن "نهايةٍ محتومةٍ للإسلام السياسي"([3]) والآخر يشدِّد على كونه "مستقبل الإنسانية" جمعاء“.([4]) ويهدف هذا البحث إلى تجنب حضور الأبعاد السلبية الأيديولوجية في استشراف آفاق الإسلام السياسي، وتجاوز الرؤى الرغبوية المثنوية المذكورة، والابتعاد، بهذا الاستشراف، عن الصيغ الأحادية أو المقاربات التنبؤية التي تأخذ شكل نبوءاتٍ تفتقر إلى أسسٍ معرفيةٍ ومعطياتٍ واقعيةٍ تسوغها.
إذا سُلِّم بأن الإسلام (السياسي، أو غير السياسي) إسلاماتٌ، دائمًا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يمكننا تناول الإسلام السياسي عمومًا، على الرغم من الاختلافات الكثيرة والكبيرة بين الحركات أو التنظيمات التي تجسده؟ أليس من الأفضل أو الواجب، معرفيًّا ومنهجيًّا، الحديث عن إسلامٍ (سياسيٍّ) بعينه، لا عن الإسلام السياسي بوصفه كلًّا؟
مع التسليم بالاختلافات المذكورة بين حركات الإسلام السياسي، عبر الزمان والمكان، ينطلق هذا البحث من إمكانية، بل ضرورة، تناول موضوع الإسلام السياسي، في سياق الحديث عن مستقبله، تناولًا مفاهيميًّا عامًا يأخذ في الحسبان تنوع الظواهر العينية الممثلة له، بدون أن يكون هناك إمكانيةً لاختزاله في أيٍّ منها. وهذه المقاربة العامة لا تتعارض مع المقاربات الجزئية أو تنكر مشروعيتها، بل يمكن لها أن تكون متكاملةً معها، ومؤسسةً لها، في الوقت نفسه. فالنقاش الشائع عن مستقبل الإسلام السياسي عمومًا ينبغي ألا يقتصر على الانطلاق من حالة ذلك الإسلام في هذا السياق الزمكانيٍّ أو ذاك، بل ينبغي له، أيضًا وخصوصًا، أن ينطلق من فهم ماهية هذه الظاهرة، وممكناتها النظرية أو المبدئية. وسيسعى بحثنا إلى البحث في تلك الممكنات، في استشفاف آفاق الإسلام السياسي عمومًا، وفي العالم العربي خصوصًا، مع الأخذ في الحسبان، عند الضرورة، وقدر المستطاع، لحاضر ذلك الإسلام، وماضيه، وعلاقته بمختلف أبعاد محيطه.
سيعمل البحث، في خطوةٍ أولى، على تحليل مفهوم الإسلام السياسي وضبط معناه وتمييزه عن بعض المفاهيم المتصلة به، كالإسلام الجهادي، والإسلاموية والإسلام الدعوي؛ ثم سيتناول البحث، في خطوةٍ ثانيةٍ، أطروحتين، تتضمن إحداهما القول بأن الإسلام السياسي هو قدر المجتمعات العربية، في حال أتيح لتلك المجتمعات فرصة التعبير السياسي عن نفسها واختيار الممثلين السياسيين لها؛ أما الأطروحة الثانية فتحذِّر من خطورة الإسلام السياسي، لوجود تعارضٍ ضروريٍّ بينه وبين مبادئ الديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان (الفردية). ثم سيتناول البحث، في خطوةٍ ثالثةٍ، علاقة الإسلام السياسي مع الآخر، بوصفها إحدى أهم العوامل المحددة لمستقبل الإسلام السياسي وآفاق حضوره في العالم العربي. ويتجسد ذلك الآخر، من ناحيةٍ أولى، في المجتمع والأطراف السياسية (و) الإسلامية/ الدينية الأخرى الموجودة في مجاله العام، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، في السلطة والدولة (الوطنية/ المدنية).
2- في تحليل المفاهيم وضبطها: الإسلام السياسي، الإسلام الجهادي، الإسلاموية
ما معنى "الإسلام السياسي"؟ وما مدى مشروعية أو معقولية هذا المفهوم أو المصطلح؟ وهل هناك أنواعٌ أو أشكالٌ أخرى من الإسلام (غير سياسية)؟ وكيف يمكن تمييز هذا الإسلام (السياسي) عن غيره من الإسلامات؟
من الضروري، بدايةً، تبني مفهومٍ تحليليٍّ وصفيٍّ أوليٍّ يحدد ماهية الإسلام السياسي، في حدودها الأساسية الدنيا، بعيدًا عن المفاهيم والأحكام الأيديولوجية والمعيارية الطاغية، غالبًا، في تعريفات "الإسلام السياسي" بوصفه "استغلالًا للدين"([5])، أو بوصفه "دفاعًا (مستحسنًا) عن الدين، التزامًا بتعاليمه"([6]). والمفهوم التحليلي الذي نقترحه للإسلام السياسي هو: الاستناد المعلن أو الواضح، المنتظم والأساسي، إلى الإسلام، في ممارسة السياسة و/ أو التنظير لها، في خصوص المسائل المتعلقة بنظام الحكم والسلطة في مؤسسات الدولة ومؤسساتها ومجالها العام. ونعتقد أن هذا المفهوم التحليلي يبين معنى الربط بين مفردتي "الإسلام" و"السياسة" ويظهر معقولية ذلك الربط وتلك التسمية (الإسلام السياسي).
ليس نادرًا أن يُعبِّر كثيرٌ من الإسلاميين، وغير الإسلاميين، عن تحفظهم على مصطلح "الإسلام السياسي"، ويفضِّل إسلاميون كثر مصطلح "الحركة الإسلامية" أو "الإسلام الحركي"([7]). وينبغي أخذ أسباب هذا التحفظ في الحسبان، بقدر ما يكون التحفظ على المبنى مرتبطًا بتحفظٍ ما على المعنى أيضًا؛ أما حين يكون سبب التحفظ هو أن من صاغ المصطلح غربيٌّ أو ليس إسلاميًّا، فحينها لا يكون هناك أهمية (كبيرة) في مناقشة ذلك التحفظ. وربما كان السبب الأهم للتحفظ على هذا المصطلح "الإسلام السياسي" يكمن في أن الحديث عن "إسلامٍ سياسيٍّ، يعني، ضمنًا على الأقل، أن هناك إسلامًا غير سياسيٍّ. وهذا التمييز بين الإسلام السياسي والإسلام غير السياسي هو الذي يثير تحفظ، بل وحفيظة، الكثيرين من الإسلاميين وغير الإسلاميين، الذين يرون أن إضافة صفة السياسي للإسلام توحي بإمكانية الفصل بين الصفة والموصوف، في حين أن الإسلام، من وجهة نظرهم، لا يمكن أن ينفصل عن السياسة، وأنه، لهذا السبب، وبهذا المعنى، إسلامٌ سياسيٌّ دائمًا وبالضرورة. فالبعد السياسي محايثٌ للإسلام بالضرورة، ولهذا يبدو مصطلح "الإسلام السياسي مضلِّلًا، لأنه يفترض وجود إسلامٍ غير سياسيٍّ.([8])
في مناقشة الحجة المذكورة، ونقدها، يمكن القول إن القائلين بوجود علاقة ماهوية بين الإسلام والسياسة، لا يميزون بين الدين والتدين،([9]) أو بين الإسلام النصي أو الأول والإسلام التاريخي،([10]) من جهةٍ، ويتبنون نظرةً دوغمائيةً أحاديةً للدين، من جهةٍ أخرى. فالحديث عن "الإسلام السياسي" يحيل على الإسلام بوصفه تدينًا، وليس على الإسلام بوصفه دينًا، أي أنه يحيل على المنظورات والممارسات المختلفة للمسلمين في الحقل السياسي. ويبين التاريخ والحاضر وجود مسلمين كثر قالوا بوجود تمايزٍ نسبيٍّ بين الإسلام والسياسة، أو مارسوا السياسة، ونظَّروا لها، بدون أن يستندوا، في ممارستهم وتنظيرهم، استنادًا مباشرًا وأساسيًّا ومنتظمًا، إلى الدين الإسلامي. وإسلام مثل هؤلاء إسلامٌ غير سياسيٍّ. وينبغي عدم استسهال تبني عقلية أو ذهنية التكفير، وإخراج هؤلاء من "حظيرة الإسلام"، لمجرد اختلاف رؤيتهم لدينهم، وممارستهم له، عن رؤية وممارسة متبني الإسلام السياسي. ولتجنب العقلية المذكورة، ينبغي الإقرار بوجود تعدديةٍ هيرمينوطيقيةٍ أو تأويليةٍ واقعيةٍ في تدين المسلمين وفي فهمهم لإسلامهم وممارستهم لهذا الفهم عبر التاريخ. وانطلاقًا من هذه التعددية، النظرية المبدئية والعملية الفعلية، يجري التشديد على أن الإسلام إسلاماتٌ، منها ما هو سياسيٌّ، ومنها ما هو غير سياسيٍّ.
ولتوضيح معنى أو مفهوم الإسلام السياسي، ينبغي توضيح علاقته بمفهومي "الإسلام الجهادي" والإسلاموية/ الإسلامانية"، ومدى تمايزه عنهما أو تطابقه معهما. ويتطلب فهم ماهية تلك العلاقة، وذلك التمايز أو التطابق، التدقيق في معنى السياسة، وعلاقتها بالعنف، خصوصًا أو تحديدًا، ومناقشة الجانب المعياري أو التقييمي وضبطه، في المفاهيم المذكورة.
من ناحيةٍ أولى، ينبغي مناقشة إن كانت الحرب جزءًا من السياسة كما قد يوحي قول كلاوزفيتز «الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى»([11]) أو قول ميشيل فوكو «السياسة هي امتداد للحرب بوسائل أخرى»([12])، أم إن ذلك الامتداد يعني التمايز بين الطرفين، بحيث تكون الحرب أو ممارسة العنف خروجًا عن ممارسة السياسة، كما ترى حنّة أرندت؟([13])
نعتقد بأفضلية تبني رأي أرندت، في هذا السياق، والتمييز بين السياسة والحرب أو استخدام العنف الذي قد يتخذ صيغة الجهاد المسلَّح وما شابه. ووفقًا للتمييز المذكور، تكون السياسة مجال المفاوضات والمساومات والتسويات والتعبير عن الآراء، والسعي إلى تحقيقها بالوسائل السلمية، ولا يكون العنف، في ذلك السياق، مشروعًا إلا من قبل الدولة ووفقًا لقوانين وضوابط واضحةٍ ومسوَّغةٍ. أما لجوء أي طرفٍ سياسيٍّ إلى العنف غير المشروع فيعني خروجه من حقل السياسة بالمعنى المذكور. وانطلاقًا من المعنى المذكور للسياسة، يمكن التمييز بين الإسلام السياسي والإسلام الجهادي، من حيث إن الأول يسعى إلى تحقيق أهدافه بالوسائل السياسية السلمية، في حين أن الثاني يهجر السياسة، ويمارس العنف/ الجهاد المسلَّح، لتحقيق ما يصبو إليه. وثمة اختلافاتٌ أخرى بين الإسلامين سنتناولها لاحقًا، في إطار مناقشتنا لعلاقة الإسلام السياسي بالسلطة و"الآخر" والدولة.
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، تزداد ضرورة تمييز الإسلام السياسي من الإسلام الجهادي والإسلاموية، إذا أخذنا في الحسبان البعد المعياري (السلبي) الحاضر بقوةٍ في المفهومين الأخيرين؛ لكونهما يشيران إلى التطرف، سواء من حيث المبنى، أو من حيث المعنى الشائع لهما.([14]) في المقابل، الإسلام السياسي لا يحيل على التطرف بالضرورة، وينبغي عدم تبني مفهومٍ سلبيٍّ عنه، من حيث المبدأ، في المستوى المعرفي، على الأقل. وفي هذا السياق، ثمة ضرورةٌ معرفيةٌ في التشديد على أن المفاهيم المذكورة هي مفاهيم معيارية كثيفة "thick normative concepts" بامتيازٍ، أي إنها ليست مجرد مفاهيم وصفيةٍ، بل مفاهيم تتضمن بعدين متشابكين، أحدهما وصفيٌّ والآخر معياريٌّ.([15]) وانطلاقًا من ذلك، ينبغي أخذ البعد المعياري المرتبط بكل منها في الحسبان، وعدم الاكتفاء بإقامة المماثلة بينها على أساس البعد الوصفي. وفي كل الأحوال، كل التمييزات المذكورة وغيرها تخص المفاهيم والمعاني خصوصًا وتحديدًا، و"لا مشاحة في الاصطلاح"، أو في استخدام هذا المصطلح أو ذاك للتعبير عن معنى أو مفهومٍ ما، طالما أن ذلك المعنى أو المفهوم مضبوطًا ومتمايزًا، وصفيًّا ومعياريًّا، عن المفاهيم الأخرى، بوضوحٍ.([16])
وثمة تمييزٌ آخر يبدو أقل إشكاليةً، نظريًّا، لكنه ذو أهميةٍ كبيرةٍ، عمليًّا، في واقع الإسلام السياسي، وفي تحديد معالم مستقبله عمومًا. وأقصد هنا التمييز أو التمايز بين الإسلام الدعوي والإسلام السياسي. وعدم الفصل بين الإسلامين "الدعوي" و"السياسي" هو أحد أهم المآخذ على الإسلام السياسي عمومًا.([17]) وثمة محاولاتٌ من عددٍ من حركات الإسلام السياسي للاستجابة إلى هذه الانتقادات، والإعلان عن الفصل بين الدعوي والسياسي في عملها. وقد تجلى ذلك مثلًا في تأسيس أحزابٍ هي بمثابة الذراع السياسي للتنظيمات الدينية. ويعد حزب الحرية والعدالة الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد ثورة يناير 2011، نموذجًا لمحاولة الفصل بين الإسلام السياسي والإسلام الدعوي، من جهةٍ، وتجسيدًا لعدم تحقق هذا الفصل، تحققًا كاملًا، وللشكلانية الجزئية لذلك الفصل، في الوقت نفسه، من جهةٍ أخرى. فقد بدا أن الإسلام السياسي، ممثلًا بالحزب المذكور، كان خاضعًا للإسلام الدعوي، ممثلًا بالجماعة، أكثر من كونه منفصلًا عنها. سنعود إلى مناقشة هذه المسألة لاحقًا، لكن من المهم الإشارة، في السياق الحالي، إلى أن الإسلام الدعوي "غير السياسي" يعلن، أحيانًا، رفضه، بوضوحٍ، للإسلام السياسي، ويشدد على ضرورة الفصل، فصلًا كاملًا، بين الدين والسياسة، ويقوم بالتنديد بأي توظيفٍ للدين في السياسة. لكن ذلك كله قد لا يكون كافيًا لنفي سياسية ذلك الإسلام وسياسية موقفه من الإسلام السياسي. فالدعوة إلى الاقتصار على العمل الدعوي، والابتعاد عن توظيف الدين في السياسة قد يكونان ناتجين عن ضغوطٍ من السلطة السياسية الاستبدادية التي تسعى إلى احتكار تمثيل الإسلام في إسلامٍ رسميٍّ يمثلها ولا يتنافس معها، أو تواطؤًا مع هذه السلطة. وهما، في كل الأحوال، موقفٌ سياسيٌ بامتياز. ويبيِّن ما يسمى ﺒ "إسلام الدعاة"، و"إسلام القبيسيات/ الصوفية"([18])، وموقفهما من الثورة السورية والإسلام السياسي والنظام السياسي الاستبدادي، لماذا رأى كثيرون أن ذلك النوع من الإسلام الدعوي أو الصوفي ينطوي في النهاية على نوعٍ من التفكير السياسي [...] يحمل في طياته أهدافًا سياسيةً أكثر بكثير مما يتوقع المرء»([19]).
ستتضح ماهية هذه التمييزات وأهميتها وضرورتها، اتضاحًا أكبر، في الفقرات التالية، لكن يمكن النظر إلى ما قدمناه، حتى الآن، على انه أساسٌ ضروريٌّ وكافٍ، نسبيًّا، لمباشرة الحديث عن "مستقبل الإسلام السياسي". فغالبًا ما يكون هناك خلطٌ أو عدم تمييزٍ بين الإسلامات المذكورة، مع أنه شتان بين الإسلام السياسي، ممثلًا بحزب العدالة والتنمية المغربي مثلًا، والإسلام الجهادي، ممثلًا بجبهة النصرة/ تحرير الشام في سوريا، مثلًا. كما أن الحديث عن الإسلام السياسي ومستقبله، يتجاهل غالبًا الإسلام السياسي الرسمي أو شبه الرسمي الذي ترعاه وتتبناه الدولة. يُضاف إلى ذلك أن الحديث عن الإسلام السياسي المعاصر في المغرب، على سبيل المثال، يركز انتباهه على حزب العدالة والتنمية الإسلامي، ولا يلتفت (كثيرًا) إلى الصبغة الدينية القوية المحايثة للنظام السياسي الملكي هناك. فالملك، وهو الطرف الأهم والأساس في ذلك النظام السياسي (والاقتصادي)([20])، يمتلك سلطةً وشرعيةً سياسيةً/ دينيةً، انطلاقًا من القول إنه ينحدر من سلالة الرسول محمد، وإنه قادره على منح "البركة". وعلى هذا الأساس، يمكن التشديد، مرةً أخرى، على أن الإسلام (السياسي) إسلاماتٌ (سياسيةٌ) متعددةٌ ومتنوعةٌ تنوعًا كبيرًا.
3- الإسلام السياسي: بين القدر والخطر
في تناول مسألة الإسلام السياسي ومستقبله في العالم العربي، ثمة رؤيتان حاضرتان، بقوة، في المقاربات (الأيديولوجية) لهذه المسألة: رؤية ترى أن الإسلام السياسي قدرٌ لا مفرَّ منه، في العالم العربي؛ ورؤيةٌ أخرى ترى الإسلام السياسي خطرًا أكيدًا ومحدقًا يجب التصدي له، واجتثاث أسباب حضوره، والتخلص من النتائج السلبية لذلك الحضور. وعلى الرغم من تعارض هاتين الرؤيتين، وتنوع أسباب تبنيهما، بل وتناقض تلك الأسباب في تلك الأحيان، ليس نادرًا أن يتم تبنيهما معًا في رؤىً ثقافويةٍ متنوعةٍ، ترى، كلٌّ منها، بطريقتها، أن طبيعة الإسلام تتضمن روابط لا تنفصم عراها بينه وبين السياسة، وأن تلك الروابط تمنع الإسلام والمسلمين من التفاعل إيجابًا مع العلمانية والديمقراطية والعقلانية والحداثة (الغربية) عمومًا.([21]) وفي تناول مسألة الإسلام السياسي، من الضروري تناول هذين السؤالين: هل الإسلام السياسي قدرٌ؟ وهل هو بالضرورة خطرٌ؟
القول بأن "الإسلام السياسي قدرٌ" يعني أنه سيكون موجودًا دائمًا، وجودًا كامنًا أو فعليًّا، في المجتمعات العربية، وأنه حين تتاح لهذه المجتمعات فرصة التعبير عن نفسها، فسيختار (معظم) أفرادها الحركات السياسية المعبرة عن ذلك الإسلام السياسي. وانطلاقًا من هذه الرؤية الثقافوية التي تتبنى ما يسمى عادةً ﺒ "الحتمية الثقافية/ الدينية"([22])، لا يكون الإسلام السياسي مجرد خيارٍ من الخيارات، أو احتمالٍ من الاحتمالات، السياسية، في العالم العربي، بل يكون نتيجةً حتميةً لطبيعة الإسلام أو جوهره المزعوم، ولتبني المسلمين الأكيد لتلك الطبيعة أو ذلك الجوهر. وتتبنى هذه الرؤية الجوهرانية أطرافٌ مختلفةٌ إلى حد التناقض. فمن جهةٍ، هناك الاستشراق الثقافوي كما يتجسد في كتابات برنارد لويس([23]) ودان دينر([24])، على سبيل المثال؛ ومن جهةٍ أخرى، هناك الإسلاميون الذين لا يميزون بين الأغلبية/ الأقلية الدينية والأغلبية/ الأقلية السياسية، ويرون أن إسلامية (معظم) أفراد المجتمع يجب أن تفضي – بالمعنى الوجودي والقيمي للوجوب، في الوقت ذاته – إلى إسلامية نظام الحكم السياسي ومؤسسات الدولة وتشريعاتها وسياساتها عمومًا، أي إلى إسلامية الدولة ذاتها.([25])
وتستثمر الأنظمة الاستبدادية والاتجاهات العلمانوية تلك الأطروحة في تخويف الداخل والخارج من خطر الإسلام السياسي، وفي التشديد على أن البديل الوحيد عنها هو ذلك الإسلام السياسي المضاد للحريات (الفردية) والتعددية وكل قيم الديمقراطية ومبادئها، باستثناء الاحتكام إلى الانتخابات/ صناديق الاقتراع. والقول إن الإسلام قدر المجتمعات العربية، بالضرورة، في حال منحت تلك المجتمعات حق/ حرية تقرير مصيرها وانتخاب من يمثلها، وإن حصول ذلك يتضمن أخطارًا كثيرةً وكبيرةً على الدولة والمجتمع وأفراده وأقلياته، بل وعلى وجوده ذاته. ويتضمن هذا القول شرعنةً، صريحةً أو ضمنيةً، لممارسة الاستبداد، باسم الديمقراطية ذاتها، وقمع كل معارضةٍ سياسيةٍ مطالبةٍ بالديمقراطية، بما في ذلك حركات الإسلام السياسي. كما يتضمن تبني الأطروحتين المذكورتين القول، الصريح أو الضمني، بعدم جاهزية أو عدم قابلية المجتمعات العربية الإسلامية لممارسة الديمقراطية، لأن صناديق الاقتراع الديمقراطية ستشكل، حتمًا أو على الأرجح، خطرًا على الديمقراطية ذاتها، وعلى مبادئها المتمثلة في الفردية والحرية والتعددية والمساواة المواطنية ...إلخ.
شكلت أحداث الربيع العربي، وما تلاها، فرصةً ذهبيةً لاختبار الأطروحتين المذكورتين على محك التاريخ والواقع الملموس. ولوهلةً أو أكثر، بدا أن هناك معقوليةً ما في الأطروحة القائلة بأن الإسلام السياسي قدر تلك المجتمعات. فقد شهدت الفترة الأولى من ذلك الربيع صعودًا قويًّا لحركات الإسلام السياسي في عددٍ من الدول العربية، كما حققت حركات الإسلام السياسي انتصاراتٍ كبيرةً، عمومًا، في الانتخابات التي أجريت في تونس والمغرب ومصر، على سبيل المثال. ففي أول انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ حرةٍ تجرت في تونس، لانتخابات أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، كان حزب النهضة التونسي، الذي أُسِّس بُعيد قيام الثورة مباشرةً عام 2011، هو الفائز الأكبر بين الأحزاب المتنافسة، حيث حصل على 89 مقعدًا من أصل 217 مقعدًا، أي بنسبة 41% من الأصوات/ المقاعد. وفي مصر، حصد الإسلاميون أكثر من ثلثي الأصوات/ عدد المقاعد في انتخابات مجلس الشعب التي جرت أواخر عام 2011، حيث حصل حزبا الحرية والعدالة الإخواني والنور السلفي على 358 مقعدًا من إجمالي عدد المقاعد المخصصة للانتخاب (235 مقعدًا للإخوان و123 مقعدًا للسلفيين) والبالغة 498 مقعدًا؛ كما فاز محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين، في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2012، بنسبة 51.73 من الأصوات. وفي المغرب، فاز حزب العدالة والتنمية بأكبر عددٍ من المقاعد (107 مقاعد من أصل 395 مقعدًا) في الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر 2011، بعد أن كان لديه 47 مقعدًا في البرلمان السابق، ثم حصل على 125 مقعدًا في انتخابات 2016.
استنادًا إلى هذه الأرقام، وغيرها، كان هناك حديثٌ عن صعود الإسلاموية أو الإسلام السياسي، في العالم العربي، بعد ثورات/ انتفاضات الربيع العربي. لكن انطلاقًا من مثل هذه الأرقام، هل يمكن القول بأن فوز الإسلاميين قدرٌ محتَّمٌ في أي انتخابات حرة، أو بأنه يوجد تناقضٌ ماهويٌّ بين الإسلام السياسي والديمقراطية، كما يتوهم أو يُوهم كثيرون؟ الجواب هو النفي، "بالتأكيد"، لأن الإسلاميين، في أوج صعودهم، الفعلي أو المزعوم، لم يحصلوا على أكثريةٍ مطلقةٍ، حتى في الحالات التي سجلوا انتصاراتٍ انتخابيةً كبيرةً فيها. فمحمد مرسي فاز بفارقٍ ضئيلٍ جدًّا على المرشح الآخر أحمد شفيق. وحزب العدالة والتنمية المغربي حصل على نسبةٍ لا تتجاوز ثلث عدد مقاعد البرلمان في أقوى نتائجه الانتخابية. فهذه الأرقام، وغيرها، تبرز وجود نسبةٍ كبيرةٍ، وقد تكون الأكبر أحيانًا أو غالبًا، من المواطنين (المسلمين) الذين لا يؤيدون الإسلاميين وإسلامهم السياسي. وهذا يعني أن إسلام المسلمين ليس إسلامًا سياسيًّا بالضرورة.
وينبغي أن يؤخذ في الحسبان أن صعود حركات الإسلام السياسي رافقه أو تلاه هبوطٌ لتلك الأحزاب في البلدان ذاتها أو في بلدانٍ أخرى. فإذا نظرنا إلى نتائج الانتخابات التي جرت في أجزاءٍ أخرى من العالم العربي (ليبيا واليمن، على سبيل المثال)، نجد أن أحزاب الإسلام السياسي فيها لم تحرز انتصاراتٍ مماثلةً لتلك التي أحرزتها أحزاب الإسلام السياسي في المغرب وتونس ومصر. يُضاف إلى ذلك، مثلًا وخصوصًا، "الهزيمة المدوية" التي مني بها حزب العدالة والتنمية الإسلامي في الانتخابات البرلمانية المغربية التي جرت في سبتمبر 2021، حيث حل في المرتبة الأخيرة بين الأحزاب السياسية الكبرى في المغرب، ولم يحصل إلا على 12 مقعدًا بعد أن كان لديه 125 مقعدًا في البرلمان السابق. فهذا الاختلاف الكبير في نتائج أحزاب الإسلام السياسي، في السياقات الزمانية و/ أو المكانية المختلفة، أو في نتيجة الحزب الواحد في مراحل زمنية مختلفةٍ، يبين أن التصويت لهذه الأحزاب هو توجهٌ سياسيٌّ متغيرٌ أكثر من كونه توجهًا دينيًّا جامدًا أو حتى ثابتًا.
وفيما يخص الأطروحة القائلة بوجود تناقضٍ ماهويٍّ بين الإسلام السياسي والديمقراطية، فإن انخراط أحزاب الإسلام السياسي في العملية الديمقراطية، في تونس والمغرب، مثلًا وخصوصًا، ينقض، عمليًّا، تلك الأطروحة. فقد أظهر حزبا النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب، جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل، التزامًا، نظريًّا وعمليًّا، بمقومات الديمقراطية المتمثلة مثلًا في الخضوع لنتائج الانتخابات وتداول السلطة والحريات (الفردية) والتعددية والمساواة المواطنية ... إلخ. واستنادًا إلى ذلك الالتزام وغيره، يمكن القول بأن جينات إسلام المسلمين لا تتضمن، بالضرورة، لا إسلامًا سياسيًّا ولا توجهًا مناهضًا للديمقراطية (الليبرالية). وقد أتاح الربيع العربي أساسًا عمليًّا ونظريًّا جديدًا لنفي وجود أي استثنائية عربية، فضلًا عن "استثنائية إسلامية"، في خصوص العلاقة مع الديمقراطية.([26]) فليس هناك ماهية أو خاصية ثابتة محايثة للعرب أو لثقافتهم، تقف عائقًا أمام تحقق الديمقراطية في الدول العربية. فقد كان الإسلاميون، وغيرهم، جزءًا من الحراك الشعبي المطالب بالديمقراطية، وجزءًا من القوى المشاركة في العملية الديمقراطية التي أفضى إليها هذا الحراك في تونس ومصر وليبيا والمغرب، على سبيل المثال. فالاستثنائية، الفعلية أو المزعومة، هي استثنائيةٌ تاريخيةٌ وليس استثنائيةٌ ماهويةٌ.([27]) فالعالم العربي ليس خارجًا عن التاريخ أو عليه، بل هو، مثله مثل بقية العوالم، جزءٌ من ذلك التاريخ.
انطلاقًا مما سبق، يمكن القول إنه ينبغي لاستشفاف آفاق مستقبل الإسلام السياسي ألا يستند إلى رؤيةٍ دوغمائيةٍ وأحاديةٍ ما للنصوص الدينية الإسلامية أو لإسلام المسلمين؛ فذلك المستقبل مرهونٌ بعددٍ من الشروط والعوامل التاريخية المتغيرة. وسيركِّز هذا البحث، في القسمين التاليين، على تناول ما يمكن اعتباره أهم تلك العوامل التي يمكن أن تحدد مسارات مستقبل الإسلام السياسي وآفاقه. ويتمثل ذلك العامل في "العلاقة مع الآخر". ويتحدد الآخر، هنا، بطرفين رئيسين يضم كلٌّ منهما أطرافًا فرعيةً مختلفةً ومتداخلةً: فمن جهةٍ أولى، يتمثَّل الآخر في المجتمع وجماعاته والأطراف الإسلامية/ الدينية والسياسية المختلفة الموجودة في المجال (السياسي) العام، عمومًا؛ ومن جهةٍ ثانيةٍ، يتمثَّل في السلطة/ الدولة (الوطنية/ المدنية).
4- الإسلام السياسي والأطراف السياسية (و) الإسلامية/ الدينية الأخرى
إضافةً إلى المسألة المركزية المتمثِّلة في العلاقة المتبادلة بين الإسلام السياسي والسلطة/ الدولة، التي سنتناولها، في الفقرة التالية، فإن مسألة العلاقة مع الإسلام الرسمي أو المؤسسات الدينية الرسمية أو شبه الرسمية، والأطراف الإسلامية الأخرى الموجودة في المجال العام والتي يمكن أن تمارس دورًا سياسيًّا مباشرًا أو غير مباشرٍ، والأطراف أو الأحزاب السياسية الأخرى التي لا تنتمي إلى الإسلام السياسي أو الإسلام الأيديولوجي، والمجتمع عمومًا ومكوناته غير الإسلامية أو غير المتدينة خصوصًا، في المجال العام، هي إحدى أهم المسائل المحددة لحاضر الإسلام السياسي ومستقبله، في العالم العربي. وقد بيَّنت أحداث الربيع العربي التأثير الكبير للعلاقة المتبادلة بين الإسلام السياسي والأطراف الأخرى المذكورة آنفًا، في تحديد حاضر الإسلام السياسي وآفاقه المستقبلية. ومن المنظور الديمقراطي، كان للتفاعل الإيجابي بين الإسلام السياسي والأطراف المذكورة نتائج إيجابيةً عمومًا، في حين أن العلاقات المتوترة أو السلبية أفضت، غالبًا، إلى نتائج سلبيةٍ.
يمكن اتخاذ ما حصل في مصر بعد وصول الإخوان المسلمين للسلطة مثالًا نموذجيًّا لتوضيح الأثر السلبي المذكور للعلاقة السلبية بين الإسلام السياسي، ممثلًا بالإخوان المسلمين تحديدًا، والأطراف المذكورة آنفًا. فحركة 3 يوليو عام 2013 لم تكن مجرد انقلابٍ عسكريٍّ، على الرغم من أن دور المؤسسة العسكرية (والأمنية والقانونية/ القضائية) المصرية كان أساسيًّا وحاسمًا فيها، فقد حظيت تلك الحركة بتأييدٍ صريحٍ و/ أو ضمنيٍّ من أطرافٍ عديدةٍ ومهمةٍ: المؤسسة الدينية الرسمية أو مشيخة الأزهر ممثلةً بشيخ الأزهر أحمد الطيب، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية ممثلةً بالبابا الأنبا تواضروس الثاني، والمعارضة السياسية الليبرالية و/ أو اليسارية غير الدينية/ غير الإسلامية، ممثلةً بمحمد البرادعي الذي كان رئيس جبهة الإنقاذ الوطني التي تشكلت من عددٍ كبيرٍ من الأحزاب والحركات السياسية (35 حزبًا وحركةً)، بوصفها تكتلًا معارضًا لحكم محمد مرسي ولقراراته وللدعوة إلى انتخاباتٍ رئاسيةٍ جديدةٍ للتخلص منه.([28]) كما سبق تلك الحركة حراك جماهيريٌّ واسعٌ رافضٌ لاستمرار مرسي/ الإخوان في الحكم، تمثل في مظاهرات مليونيةٍ في 30 يونيو/ 1 يوليو، وحملة تواقيع (قيل إنها جمعت أكثر من 22 مليون توقيع) قامت بها حركة تمرد التي تأسست خصيصًا لإعلان سحب الثقة من حكم الإخوان/ محمد مرسي والمطالبة بانتخاباتٍ رئاسيةٍ جديدةٍ. كما حظيت حركة 3 يوليو بدعمٍ "حتى" من التيار السلفي ممثلًا بحزبَي النور والدعوة.
ثمة عوامل كثيرةٌ أسهمت في هذه المعارضة الواسعة لاستمرار الإسلام السياسي، ممثلًا في الإخوان المسلمين، في السلطة في مصر؛ لكن من الواضح أن وجود ما يشبه القطيعة أو العلاقة السيئة بين الإخوان وبقية القوى والمؤسسات السياسية والدينية المصرية، كان أحد أهم العوامل المذكورة. ولم ينجح الإخوان، حينها، في استمالة تلك القوى والمؤسسات إليهم أو التفاهم معها في إطار تحالفٍ سياسيٍّ واسعٍ، أو لم تنجح القوى والأطراف السياسية المؤيدة للثورة في تشكيل التحالف لتحقيق أهدافها المشتركة، بل تصارعت وتنابذت، وبدا أن بعضها، على الأقل، قد فضَّل التحالف مع "العسكر" على التحالف مع القوى والأطراف الأخرى. وفي فترات التحول أو الانتقال الديمقراطي، يمكن لدور النخبة السياسية والتفاعل بين القوى السياسية (الديمقراطية) أن يكون حاسمًا في تحديد مسار ونتائج ذلك الانتقال ومدى إمكانية نجاحه أو فشله.([29]) وثمة قوى أخرى متأهبةٌ دائمًا لزرع و/ أو استغلال حالة الشقاق بين أفراد هذه النخبة وأطراف تلك القوى. وغالبًا ما يكون "الحرس القديم" المهيمن على القوى العسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية في الدولة، هو المجسِّد لتلك القوى.
وإضافةً إلى الاختلاف بين مواقف القوى العسكرية والأمنية، في كلٍّ من تونس ومصر، من الانتفاضات الجماهيرية التي حصلت في كلا البلدين، فإن الاستعداد الذي أظهرته الأحزاب والنخب السياسية التونسية للتعاون والتحالف فيما بينها، حتى عام 2018 على الأقل، على الرغم من الاختلافات السياسية والأيديولوجية القوية بينها، كان أحد العوامل الممكنة التي يمكن الاستناد إليها لتفسير النجاح النسبي للثورة التونسية، مقارنةً بالنكوص الكبير الذي شهدته الحالة المصرية عام 2013. ففي عام 2011، أفضت الانتخابات، في تونس، إلى أن يصبح اليساري منصف المرزوقي رئيسًا للجمهورية، وممثل حزب النهضة الإسلامي حمادي الجبالي، رئيسًا للحكومة. كما أن حزب "نداء تونس"، المناهض للإسلاميين، تعاون مع حزب النهضة الإسلامي في تشكيل الحكومة في شباط عام 2015. لكن المشاحنات والمناكفات والتوترات بين الأطراف السياسية التونسية المختلفة، في البرلمان وخارجه، ازدادت لاحقًا، وغاب الاستقرار عن عمل الحكومة والبرلمان، حيث تم تعيين أربعة رؤساء وزراء منذ عام 2019؛ أحدهم لم يستطع تشكيل الحكومة، والثاني بقي لمدة ستة أشهرٍ فقط، والثالث تم الانقلاب عليه في 25 يوليو 2021، أما رئيسة الحكومة الحالية فقد قام بتعيينها الرئيس التونسي الحالي الذي قام ﺑ "الانقلاب الدستوري" على البرلمان والحكومة.
في تونس ومصر، وفي غيرها من بلاد الربيع العربي، اتخذت المواجهة السياسية صيغة المواجهة بين أطرافٍ علمانيةٍ وأطرافٍ إسلاميةٍ، لدرجةٍ أو لأخرى. وإذا كانت الأطراف التونسية قد تجنبت الصدام والقطيعة، ووجدت طريقًا إلى التعايش، حتى عام 2018 على الأقل، فإن تلك المواجهة اتخذت، في مصر، طابعًا صداميًّا متزايدًا منذ تنحي مبارك، أو فوز الإسلاميين، بأغلبيةٍ برلمانيةٍ، ومن ثم بكرسي الرئاسة. وعلى الرغم من أن الثورة السورية قد اتخذت طابعًا مدنيًّا قويًّا، في بداية انطلاقتها، إلا أن النظام السوري كان حريصًا على تصويرها على أنها حراكٌ طائفيٌّ، حيث واجهها منذ الأسابيع الأولى بحملةٍ دعائيةٍ في شوارع العاصمة السورية وغيرها، تحت عنوان "لا للطائفية" وطائفتي سوري/ سورية"([30]). وتصاعد حضور الإسلام السياسي، ثم الجهادي، في الحالة السورية، تدريجيًّا، حيث ظهرت تنظيماتٌ جهاديةٌ مختلفةٌ، على النمط الداعشي، مثل جبهة النصرة/ جبهة تحرير الشام، أحرار الشام، جيش الإسلام ... إلخ. وتم تغييب الأصوات الأخرى تدريجيًّا، حتى بدا لكثيرين أن الخيارات تقتصر على استبداد دينيٍّ إسلاميٍّ، على النمط الداعشي، مثلًا أو خصوصًا، أو استبدادٍ غير دينيٍّ، على النمط الأسدي. ودخل الإسلام السياسي ومناهضوه العلمانويون في استقطابٍ مثنويٍّ يرفض فيه كل طرفٍ الآخر. ولم يكن، ذلك الاستقطاب – وليس في إمكانه عمومًا، أن يكون – في صالح الإسلام السياسي أو صالح أي طرفٍ سياسيٍّ ساعٍ إلى دمقرطة الأنظمة السياسية في العالم العربي.([31]) فليس نادرًا أن تفضي تلك الصراعات إلى استنزاف الأطراف المشاركة فيها، وإفقادها المصداقية، وإلى تهميش مسألة الديمقراطية أو إفساح المجال للقوى غير الديمقراطية للهيمنة على المجال السياسي. وهذا ما حصل في مصر وتونس، مثلًا وخصوصًا.
إن علاقة الأحزاب والحركات الإسلامية ببعضها البعض، (أو بالأحزاب والأطراف غير الإسلامية)، تفسح المجال لامتحان مدى سياسية تلك الأحزاب والحركات والأطراف، ومدى قبولها وتقبلها للتعددية السياسية والدينية، داخل الحقل الديني، وخارجه، في المجال العام السياسي عمومًا. فوجود أطرافٍ إسلاميةٍ أخرى، في المجال العام، يقتضي من أي جهةٍ سياسيةٍ إسلاميةٍ الاعتراف بمحدودية "تمثيلها" للإسلام والمسلمين، وبأن ذلك التمثيل خاضعٌ لوجهات نظر الناس وتصويتهم المتغير، ولا يجسد الحقيقة الوحيدة للإسلام. وثمة أطرافٌ عديدةٌ، في كل بلد عربيٍّ، تتنافس على تمثيل الدين، في المجال العام عمومًا. فهناك المؤسسة الدينية الرسمية المتمثلة، على سبيل المثال، في وزارة الأوقاف ودار أو مجلس الإفتاء، ومؤسسة الأزهر في مصر، أو شبه رسمية كتنظيم القبيسيات ومجمع النور/ أحمد كفتارو، في سوريا. وغالبًا ما تتحكم الدولة والأنظمة السياسية المستبدة بالمجال العام، وبظهور أو تغييب الأطراف الإسلامية فيه، تحكمًا كبيرًا. ففي سوريا، على سبيل المثال، تم تغييب حضور الإسلام السياسي، تغييبًا تامًّا تقريبًا، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، في مقابل حضورٍ متزايدٍ للإسلام الصوفي والدعوي الذي لا يتدخل في الشأن السياسي إلا تحت مظلة النظام الحاكم، وتأييدًا له.([32]) والرعاية الرسمية، المباشرة أو غير المباشرة، شملت عددًا رئيسًا من الشخصيات، مثل محمد سعيد رمضان البوطي (الشخصية الأبرز والأكثر تأثيرًا، وكان له حضور قوي في الإعلام السوري الرسمي)، أحمد حسون (المفتي العام للجمهورية منذ عام 2004، حتى 15 نوفمبر 2021، حيث صدر قرار بإلغاء منصب المفتي وإيكال صلاحياته إلى المجلس العلمي الفقهي([33])). وهاتان الشخصيتان كانتا من أبرز الشخصيات الدينية التي هاجمت بشدةٍ الحراك الجماهيري ضد نظام بشار الأسد منذ عام 2011. وغالبًا ما يتخذ الإسلام الرسمي، ممثلًا بالمؤسسات الدينية الرسمية والأطراف المدعومة، دعمًا مباشرًا أو غير مباشرٍ، من الدولة والقوى الحاكمة، موقفًا نقديًّا صريحًا من الإسلام السياسي المعارض. ويبدو الصراع بين الإسلام الرسمي والإسلام السياسي المعارض غير متكافئٍ عمومًا، حيث إن الدعم الحكومي يوفر للإسلام الرسمي وسائل الترويج والانتشار والهيمنة. لكن هذا الدعم الحكومي يُفقِد الإسلام الرسمي درجةً ما من مصداقيته ومقبوليته، بقدر ازدياد السخط على النظام السياسي، لأسبابٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ بالدرجة الأولى، وبقدر النظر إلى ذلك الإسلام على أنه بوقٌ للحكومة وتابعٌ لها، وفاقدٌ، فعليًّا أو من حيث المبدأ، للقدرة على معارضتها ومخالفتها، في المسائل السياسية والأساسية على الأقل.
الهوامش:
([2])انظر، على سبيل المثال: الندوة التي عُقِدت في بيروت عام 2013، وتم نشر الأبحاث المشاركة فيها في: توفيق السيف وآخرون، مستقبل الإسلام السياسي في الوطن العربي. بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
([3])يشدد محمد السعدي، على سبيل المثال، على الإفلاس الوشيك للأيديولوجية الإسلامية التي تعبر عنها هذه الحركات. محمد السعدي، «الحركات الإسلامية بعد "الربيع العربي": تحديات السلطة وتحولات الخطاب»، في حركات الإسلام السياسي والسلطة في العالم العربي: الصعود والأفول، إعداد وتحرير جمال سند السويدي وأحمد رشاد الصفتي (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2014)، ص 200.
([4])هذا ما كتبه أبو يعرب المرزوقي، انظر، أبو يعرب المرزوقي، «أبو يعرب المرزوقي: الإسلام السياسي يمثل مستقبل الإنسانية»، موقع عربي 21، 20 سبتمبر 2021.
([5])هذا هو التوصيف الرسمي والعلمانوي الرائج والرافض للإسلام السياسي. فالحكومة المصرية، على سبيل المثال، كانت تصف/ تتهم جماعة الإخوان المسلمين ﺒ «استغلال الدين للوصول سياسيًّا إلى السلطة، من خلال شعار "الإسلام هو الحل". وتنص التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في مصر في مارس 2007 م على منع استغلال الدين لأغراض سياسية». ميلاد مفتاح الحراثي ومحمد عبد الغفور الشيوخ، ثورات الربيع العربي وتأثيرها على ظاهرة الإسلام السياسي وعمليات الإصلاح في الوطن العربي (عمَّان: مركز الكتاب الأكاديمي، 2016، ص 204. محمد سعيد العشماوي عنون كتابه ﺒ «الإسلام السياسي، لأول مرة، كصفةٍ للجماعات والهيئات التي تهدف إلى السياسة أساسًا، وترمي إلى الحزبية أصلًا، وإن غلّفت أهدافها بأردية من الدين أو بأقنعة من الشريعة». محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي (القاهرة: مطبعة مدبولي، ط4، 1996)، ص 6.
([6])انظر، مثلًا، أحمد محمد الحصري، الدولة وسياسة الحكم في الفقه الإسلامي (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1988).
([7])هناك اعتقادٌ بأن محمد حسين فضل الله أول من استخدم مصطلح "الإسلام الحركي". انظر، نبيل علي صالح، «العلامة محمد حسين فضل الله ومنهجيته في معالجة وتحليل بعض القضايا المعاصرة على ضوء الفكر الإسلامي»، في محمد حسين فضل الله. العقلانية والحوار من أجل التغيير والنهضة، مجموعة من المؤلفين (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2010)، 314. ويقترح راشد الغنوشي مصطلح «الحركة الإسلامية – المصطلح المفضل لدى الإسلاميين – بديلًا عما يسمى بالإسلام السياسي». راشد الغنوشي، «هل فشل الإسلام السياسي حقًّا؟»، جريدة الصريح، الإثنين 11 نوفمبر، 2013، ص 5.
([8])على سبيل المثال، كتب ادونيس، في هذا الخصوص: «الإسلام كل لا يتجزأ. ثم إنه لا يصح، موضوعيًّا، فصل البعد السياسي في الإسلام – وبخاصةً في تحركه الراهن – عن أبعاده الأخرى. ذلك لأن السياسة في الإسلام ليست قبعة "توضع" من فوق أو من خارج، وإنما هي شريان يسري بشكل شامل وكامل، في بنية شاملة وكاملة». أدونيس، «بين الثبات والتحول: خواطر حول الثورة الإسلامية في إيران»، مجلة مواقف، العدد 38، يناير/ كانون الثاني 1979، ص 150.
([9])للمزيد عن هذه الثنائية المهمة، انظر: مجموعة مؤلفين، إشكالية الدين والتدين (الرباط/ بيروت: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2013).
([10])نجد هذا التمييز في: صادق جلال العظم، الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية، ترجمة فالح عبد الجبار، المراجعة اللغوية حسين حمزة (دمشق/ بيروت/ بغداد: دار المدى، 2007)، ص 12-14.
([11])وتحت العنوان المذكور، يضيف كلازوفتش: «الحرب ليست عملًا سياسيًّا فحسب، ولكنها أداة سياسية حقيقية، واستمرار للعلاقات السياسية، وتحقيق لهذه العلاقات بوسائل أخرى». كارل فون كلاوزفيتز، الوجيز في الحرب، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1988)، ص 89.
([12])ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة وتقديم وتعليق الزواوي بغورة (بيروت: دار الطليعة، 2003)، ص 43.
([13])انظر، حنة أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس (بيروت: دار الساقي، 1992)، ص 11؛ ما السياسة؟، ترجمة وتحقيق زهير الخويلدي وسلمى بالحاج مبروك (الجزائر/ بيروت: مشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف، 2014)، ص 33-76.
([14])على الرغم من اتفاقنا مع جوسلين سيزاري في أن مفهوم الإسلام السياسي ينبغي ألا يقتصر على الإحالة إلى المعارضة السياسية للدولة على أساس ديني، فإننا نرى أن التعريف الواسع الذي تتبناه للإسلام السياسي لا يميز بينه وبين الإسلام الجهادي والإسلاموية. وهذا التمييز ضروري معرفيًّا ومعياريًّا. ففي كتابها، تشير سيزاري إلى أن «مصطلح الإسلام السياسي لا يشير إلى التعريف الشائع للمعارضة السياسية القائمة على أساس ديني للدولة. وبدلًا من ذلك يتم توسيعه ليشمل تأميم المؤسسات الإسلامية والموظفين التابعين لوزارات الدولة. استخدام المراجع الإسلامية في المنافسة السياسية من قبل كل من الجهات الحكومية والمعارضين (الإسلاموية)؛ الاضطرابات الاجتماعية أو العنف بدوافع دينية؛ وتدويل الحركات أو الصراعات السياسية ذات التوجه الإسلامي.»
Jocelyn Cesari, The Awakening of Muslim Democracy: Religion, Modernity, and the State (New York: Cambridge University Press, 2014), xiii.
وفي نصٍّ ثانٍ، تعرِّف الإسلام السياسي بأنه «سردٌ مسيَّسٌ عن الدين».
Jocelyn Cesari, “Introduction,” in Islam, Gender, and Democracy in Comparative Perspective, eds. Jocelyn Cesari and José Casanova, (Oxford: Oxford University Press, 2017), 17.
انظر، أيضًا:
Jocelyn Cesari, “Political Islam: More than Islamism,” Religions 12, no. 299 (2021): 1-10.
والخلط بين الإسلام السياسي والإسلام الجهادي والإسلاموية سائدٌ عمومًا في الكتابات الأكاديمية، ويبدو ذلك الخلط واضحًا وضوحًا نموذجيًّا ودالًّا في احدث وأهم الإصدارات باللغة الإنجليزية عن "الإسلام السياسي:
Shahram Akbarzadeh, ed., Routledge Handbook of Political Islam, 2nd ed. (Oxon and New York: Routledge, 2021).
([15]) See, Simon Kirchin, ed. Thick Concepts (Oxford: Oxford University Press, 2013); Thick Evaluation (Oxford: Oxford University Press, 2017).
([16])ومن الضروري أو المفيد الإشارة في السياق الحالي، إلى محدودية تحليلنا المفاهيمي، لكونه لا يتناول كل المفاهيم ذات الصلة الوثيقة بمفهوم "الإسلام السياسي"، والتي يحُاجج بتمايزها عنه، مثل "مفهوم "ما بعد الإسلاموية" ومفهوم "ما بعد الإسلام السياسي". ومع ذلك، يمكن التشديد على مسألتين. من ناحيةٍ أولى، إن اختلاف المفردات أو الألفاظ المستخدمة لا يحيل بالضرورة على اختلاف (كاملٍ) في المعاني والمفاهيم. فمفهوم "الإسلام السياسي"، على سبيل المثال يبدو متداخلًا مع مفهوم "ما بعد الإسلاموية"، الذي تحدث عنه آصف بيات. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، إن صيغ اﻟ "ما بعد" الموجودة في مفهومي "ما بعد الإسلاموية" وما بعد الإسلام السياسي"، قد تعطي انطباعاتٍ خاطئةٍ أو مضلِّلةٍ عن تسلسل زمنيٍّ، يغيب فيه الإسلام السياسي في مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي"، ولا تكون "ما بعد الإسلاموية" موجودةً مسبقًا في مرحلة "الإسلاموية. في خصوص مفهوم "ما بعد الإسلاموية"، انظر الملف الذي شارك فيه عددٌ من المفكرين والباحثين، ومن ضمنهم آصف بيات: إبراهيم آكوتش وآخرون، ما بعد الإسلاموية: قراءة في التاريخ والواقع والمستقبل، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2021. وفي خصوص مفهوم "ما بعد الإسلام السياسي"، انظر: حسن أبو هنية وآخرون، ما بعد الإسلام السياسي: مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية، تحرير محمد أبو رمان (عمَّان: مؤسسة فريدريش أيبرت – مكتب عمان، 2018).
([17])انظر جمال سند السويدي وأحمد رشاد الصفتي، «المقدمة»، في حركات الإسلام السياسي والسلطة في العالم العربي: الصعود والأفول، ص 9.
([18])القبيسيات جماعة إسلامية في سورية، تأسست في سوريا عام 1960 على يد الشيخة منيرة القبيسي، وتتكون من النساء فقط، وتعلن بوضوح أنها جماعة إسلامية غير سياسية، ولا تتدخل مطلقًا في المسائل السياسية. لمزيد من المعلومات عن هذه المجموعة، وموقفها من السياسة، انظر:
Sana Sayed, “Hidden Voices, Hidden Agendas: Qubaysiat Women’s Group in Syria,” in Women Rising: In and Beyond the Arab Spring, eds. Rita Stephan and Mounira M. Charrad, (New York: New York University Press, 2020), 170-116.
([19])رشيد الحاج صالح، «في أسباب الحضور الباهت للتديّن الدعوي في الثورة السورية»، مجلة قلمون، التفاعل بين الدين والمجتمع في سورية 1920-2020، العددان 13-14، كانون الأول/ ديسمبر 2020، ص 69.
([20])"القوة الاقتصادية للعائلة المالكة، التي تسيطر على أجزاء كبيرة من الاقتصاد المغربي، تعمل كرافعة إضافية للسلطة في يد الملك".
Uzi Rabi, The Return of the Past: State, Identity, and Society in The Post-Arab Spring Middle East (Lanham: Lexington Books, 2020), 159.
([21])نجد الحضور المزدوج لهاتين الرؤيتين، في قراءة فان دام لأوضاع سوريا بعد الربيع العربي. انظر، نيقولاس فان دام، تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا، ترجمة لمى بوادي وآخرون (بيروت: دار جنى تامر للدراسات والنشر، 2017).
([22])وللاطلاع على عرض نقدي ﻟ "الحتمية الطائفية" التي يتبناها كتاب فان دام الذي سبق ذكره، انظر، ياسين الحاج صالح، «الحتمية الطائفية و"تدمير وطن" السوريين»، موقع الجمهورية، 2 تموز، 2020.
([23])انظر خصوصًا، برنارد لويس، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين، ترجمة محمد عناني، دراسة وتقديم رءوف عباس (القاهرة: سطور، 2003).
([24]) Dan Diner, Lost in the Sacred: Why the Muslim World Stood Still (Princeton: Princeton University Press, 2009).
([25])كل من يدعون إلى "الدولة الإسلامية" (تقريبًا) يخلطون بين مفهومي الأغلبية/ الأقلية الدينية والأغلبية/ الأقلية السياسية، حيث ينطلقون في محاجتهم من فكرة أن كون (أغلب) أفراد المجتمع مسلمون يعني أحقية وضرورة أن تكون الدولة إسلامية.
([26])عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007).
([28])انظر، مصر بين عهدين: مرسي والسيسي. دراسة مقارنة، إعداد باسم جلال القاسم وربيع محمد الدنّان، إشراف وتحرير محسن محمد صالح (بيروت: مركز زيتونة، 2016)، ص 97.
([29]) See, Jülide Karakoç, “Authoritarian Tendencies versus Democratization: Evidence from Turkey,” in Authoritarianism in the Middle East: Before and After the Arab Uprisings, ed. Jülide Karakoç, (New York: Palgrave Macmillan, 2015), 40-41.
([31])للحصول على نظرة عامة ونقدية للانقسام العلماني الإسلامي ، على المستوى النظري ، بشكل عام وفي حالة تركيا ، على وجه الخصوص ، انظر:
Ömer Taşpınar, What the West is Getting Wrong about the Middle East: Why Islam is not the Problem (London and New York: I.B. Tauris, 2021), 58, 66-67, 106-107, 193-194.
([32])للاطلاع على استراتيجية النظام السوري في المجال الديني، قبيل انطلاق الثورة السوري عام 2011، وبعد ذلك الانطلاق، حتى عام 2020، انظر: ليلى الرفاعي، «المؤسسة الدينية السنية في دمشق: حين يؤدي التوحيد إلى التقسيم»، بيروت: مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 2020.
([33])تحت عنوان "لمحة عن المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف"، نجد قولًا لوزير الأوقاف السوري محمد عبد الستار السيد، في الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف السورية، يبين فيه أن اجتماع اللجنة التحضيرية للمجمع الفقهي السوري «يهدف إلى ترسيخ مفاهيم الوحدة الوطنية والأخذ بيد أبناء الوطن على اختلافهم وتنوعهم لمواجهة فكر أعداء الأمة الصهاينة والمتطرفين التكفيريين وأتباع الإسلام السياسي وإخوان الشياطين الذين ما لبثوا يبثون الفتن لتمزيق الأمة وتشتيت قوتها بعيداً عن أهدافها [...]». موقع وزارة الأوقاف السورية. التشديد من عندنا.
"الآراء الواردة في المواد المنشورة في موقع معهد العالم للدراسات تُعبِّرُ عن رأي أصحابها، ولا تُعبِّرُ بالضرورة عن آراء المعهد والقائمين عليه"