"منزل بألف باب": أرواح نساء سوريات في بيت اسطنبولي عتيق

08 نيسان/أبريل 2017
 
النساء وكتابة يوميات الحرب في سوريا (3-3)
 
"منزل بألف باب": أرواح نساء سوريات في بيت اسطنبولي عتيق
  
في بيت استأجرته قبل أكثر من سنتين، استقبلت ضيوفاً من أميركا، وكرواتيا، والمغرب، والسعودية، ومصر، فضلاً عن أطياف المجتمع السوري كله، من العرب والكرد، إلى السُنة والإسماعيليين، إلى الزرادشتيين والإيزيديين، ومن معظم المدن والأرياف السورية، بل من الأتراك أنفسهم.
روسية، وسوريات، وضيوف آخرون مروا سريعاً، قضوا عندي بين ساعات، وأيام، وأسابيع، معظمهم استقروا الآن في دول أوروبية انطلاقاً من اسطنبول إلى إزمير، وعبر البلم المطاطي إلى اليونان، ثم دول غرب أوروبا وشمالها، ومنهم من وصل إلى كوريا الجنوبية.
أما آخر ما حدث لي، أنا السورية، أنني كنت مضيفة لامرأة روسية!
هو آخر ما كنت أحتاجه في مغتربي القسري الموقت الذي امتد لأكثر من أربع سنوات. هو موقت، مثلما يراه معظم السوريين، ومغترب لا يزال رهناً باتفاق الأخوة الأعداء، أن يقبل "أحدهما" بالأمر الواقع، أو يستسلم لأحد منطقي القوة، أو العقل، أو يزلزل الله الأرض من تحت أقدام الجميع فتعود سوريا أرضاً بكراً ونعود إليها لإعمارها في ما تبقى من أعمارنا.
 
منزل بألف باب
المصادفة وحدها جعلت منزلي العتيق محطة انطلاق مجهولين إلى أمان مجهول، كأنه نهاية، أو بداية، لأمر ما. لكن "بيتي" الذي اعتاد على المرور العابر للناس، ورطني في صداقات وعلاقات جعلت الوداع المتكرر عبئاً نفسياً كنت في غنىً عنه، لولا أن الحياة لا تترك لنا خياراً في مثل تلك الحالات. هم أشخاص احتل كل منهم مكاناً في ذاكرتي، وكلما رحل أحدهم أخذ معه قطعة من قلبي، ليخوض تجربة جديدة لست من ضمن تفاصيلها.
الغريب في هذا البيت أنني لم أحبه عندما سكنته! "هو" بيت خشبي عتيق وصغير كان مناسباً لميزانيتي القريبة من الصفر، وتصادف أنه قريب من عملي في شركة سياحة سورية أنفقت فيها ثلاث سنوات، متناسية شهادتي الجامعية التي تحصلت عليها من كلية الإعلام في جامعة دمشق.
استأجرت بيتي صدفة، وتنقلت بين مطابخ شركات السياحة صدفة، واستقبلت أشخاصاً لا أعرفهم مسبقاً في بيتي، قبل أن يسافروا إلى المجهول صدفة أيضاً.
قد أكون أنا الصدفة، وقد يكون المجهول هو حياتي وبيتي. لكن "البيت" كان خياراً مفرداً لم أتردد في اتخاذه، فالخيار الآخر كان مقعداً في حديقة لن يتسع لنا أنا وابني في مكان قد يزاحمنا عليه سوريون آخرون، أو سكارى، أو ذئاب الليل وضباعه.
 
هروب إلى الحياة
كل واحدة من "صديقاتي" حملت معها قصة، وحياة، وذهبت إلى مجهول خلف البحر. كنت أنا، ومنزلي، القاسم المشترك بينهن جميعاً. لكن الأمر توقف عند هذا الحد عندما رفضت الاستجابة لرغباتهن بأن أكون جزءاً من الرحلات المتلاحقة في البحر. ولسبب ما لم أتوصل إلى معرفته بعدُ، مازلت في بيتي في انتظار المجهول الخاص بي. فأنا أنتظر هجرة "نظامية" تؤمنها لي الأمم المتحدة، بعد أن اجتزت كل المقابلات، وحصلت على موافقة بلد التوطين، ولكن انتظاري طال لدرجة أني توقفت عن الترقب. وعلى الرغم من إغراءات الذهاب معهن، فقد فضلت عدم المخاطرة، واخترت أن أتماهى مع مكاني، ومنزلي، لأستقبل مزيداً من المهاجرين – الأصدقاء – المجهولين – المغامرين. لم أفكر كثيراً، وآثرت الاستسلام لما أنا فيه، منتظرة أملاً مختلفاً، في محتواه، وفي الطريق إليه.
 
أولى القادمات
اتسع قلبي لأولى القادمات الراحلات، كما اتسع لها منزلي الصغير. هي فتاة شابة هاربة من كل ما يمت لحياتها السابقة بصلة. شاركتني السكن، دون أن أتوقع أن تكون إحدى من سأودعهن مستقبلاً. كانت تبث الحياة في المكان لدى عبورها باب البيت. وعلى الرغم من اختلاف طباعنا، كنا ننسجم جيداً، ولا تستغني إحدانا عن الأخرى. عملت جاهدة لتحسن شروط حياة لا تشبه حياتها السابقة، ولتعوض كل الألم، والظلم، الذي عانته من أهلها، ومن طليقها، وعائلته. وغالباً ما كانت تستيقظ صارخةً فزعة مما رأته في حلمها، لتتشبث بي كطوق نجاة، وكأني أحميها من كل خطر ممكن.
وبعد عام من تشاركنا السكن، قررت أن تترك كل شيء، وتبحر باحثة عن حياة مختلفة وبداية جديدة، فذرفنا، كلتانا، الكثير من الدموع في وداع  حي لتفاصيل حياتنا معاً.
 
لوحة لم تكتمل
رافقت (س) بداية إقامتي في اسطنبول. إنها سيدة بكل ما تعنيه الكلمة، تمتلك شخصية نموذجية لامرأة بقلب دافئ، وثقة بالنفس، وقدرة عجيبة على إدارة أمور حياتها ومنزلها بشكل مثالي. ناجحة في ما يتعلق بالتدبير، والتوفير، وتربية الأولاد. لكن اللوحة لم تكتمل في ما يتعلق بتعامل زوجها معها، بما في ذلك مشاعرها، وتضحياتها من أجل المحافظة على بيتها، حيث لم يدع فرصة إلا واستغلها لتعنيفها نفسياً، لدرجة أنها لم تعد تلحظ أهمية ما تفعل. هذا قبل أن تشتد الحرب في سوريا، وينقلب كل شيء في حياتها رأساً على عقب، ما عدا أسلوب زوجها الفظ الذي لم يتغير.
لجأت "س" إليَّ مراراً تنشد درباً للوصول إلى حبيبها القديم، وزوجها الحالي. حاولت معها إصلاح ما يمكن، فنفذت نصائحي، وبدأت تلمس تغييراً طفيفاً، لكن قرار سفره زاد الأمر صعوبة عليها، فدفعتها الحياة دون زوج في البلد الغريب إلى ركوب البحر حين تأخر لمُّ الشمل، فغامرت، وكادت أن تغرق قبل أن تصل إلى البر اليوناني، لتبدأ خطوة جديدة نحو حياة مشتهاة مع زوجها.
 
صديقة طارئة
الصديقات الطارئات على بيتي كثيرات، منهن فتاة حمصية أتت من لبنان لتقضي ليلتها الأخيرة عندي قبل سفرها. رأيت في عينيها التصميم على خوض المغامرة. روت لي أن موظفاً في مطار بيروت أرسل ابتسامة صفراء وهو يبلغها أنه ممنوع عليها دخول لبنان لمدة سنة، فردت أنها تعرف ذلك، فانطفأت ابتسامته، دون أن يفهم معنى اليأس والأمل في كلمات فتاة فقدت وطنها، فتشابهت لديها الأماكن الأخرى، ودون أن يفهم، هو اللبناني، الذي عاش آباؤه تجربة تحطيم بلدهم، معنى البحث عن وطن جديد يحترم إنسانيتنا، ورغبتنا، وحقنا في حياة أفضل.
حملت صديقتي ممتلكاتها القليلة المهمة في حقيبتها الصغيرة، وغادرت منزلي دون أن أعرف عنها أي خبر بعد ذلك.
 
غدر السوريين
قبل أن أستقر في منزلي هذا، تشاركت السكن مع فتاتين تختلفان في طبيعتهما، لكننا أحببنا تجربة تشاركنا فيها غدر إخوتنا السوريين.
شريكتاي كانتا تعملان في شركة مجاورة لمكان عملي، فاقترح مديرهما أن أستقبلهما لدي لقاء مقابل مادي، فتشاركنا المنزل، كما تشاركنا غدر إخوتنا السوريين، فأنا لم أحصل على مال الإيجار، لأن مديرهما لم يدفع لهما مستحقاتهما المالية. مع ذلك، اعتبرنا ما حدث كسباً عظيماً لنا نحن الثلاثة، لأننا تعارفنا وتشاركنا السكن وخففنا عن بعضنا وطأة ظلم ذوي القربى.
كانت تلك بداية صداقة أصبحت تعد من ضرورات التواجد في اسطنبول، فإحداهما تمتلك حضوراً مؤثراً، ونقاء، ووعياً يليق بغربتنا السورية. مع ذلك، استسلمت صديقتي أمام صعوبة الحياة هنا، فانتقلت إلى مدينة أخرى لتباشر عملاً يدر دخلاً جيداً استطاعت من خلاله استقدام أهلها من سوريا، قبل أن يهاجروا طلباً للجوء في أوروبا، فظلت وحيدة على أمل أن تلتحق بهم. استقبلتها، وودعتها، مرات، وفي كل مرة كنت وإياها نظن أنها الأخيرة، لكنها مثلي ما زالت تتلمس مستقبلاً تتغير ملامحه باستمرار مع تغير الظروف التي لم يكن لنا يد فيها.
 
عصفورتي الفنانة
اعتدت مخاطبتها بـ "عصفورتي". هي فتاة رقيقة، وفنانة موهوبة، عاشت في حلب حياة جميلة هادئة، كل شيء فيها يسير حسب ما تريد في ظل رعاية أسرة محبة. درست الفنون في جامعة حلب، وتفوقت، فتعينت معيدة، لكن الحرب أجبرتها على تغيير خططها، فتوجهت إلى تركيا مع عائلتها انتظاراً للسفر إلى أوروبا، دون دراسة، أو عمل، بل انتظار، وانتظار فقط. وبعد محاولات عديدة فاشلة لركوب البحر خاضتها مع أمها وأختها، قرر الأب اللجوء إلى أوروبا عبر الجو، ففشل مرتين، ونجح في الثالثة. وبعد وصوله بشهور طويلة، استطاع أن يستقدم زوجته، وابنه القاصر، دون صديقتي وأختها. فقررت عصفورتي وأختها السفر بحراً. أوصتني الأم أن أعتني بابنتيها، مطمئنة إليَّ، فأمضينا الليالي الأخيرة في محاولة لصنع أكبر قدر من الذكريات السعيدة، بضحكاتنا الكثيرة التي ضاق بها منزلي الصغير.
في النهاية، انطلقتا ووصلتا إلى عائلتهما، وبقيت أنا لأحرس منزلي، ويحرسني، في انتظار الزائرة التالية.
 
فتاة من طين
قصدتني زائرتي ما قبل الأخيرة بعد محاولة شاقة للوصول من إدلب إلى تركيا عبر حدود محروسة بالخطر من الجانبين، فوصلت إلي جسداً هزيلاً متعباً يغطي الطين ثيابها. وقبل أن أعرف اسمها دعوتها للاستحمام من الطين، ومن تفاصيل مشوارها. وبعد أن تناولت عشاءها، أرسلتها لتنام في سريري. أخبرتني أنها تلاحق حلمها وحياتها مع خطيبها، بعد انتظار أكثر من عام ونصف دون موعد واضح لبداية حياتها الزوجية، فاستعجلت المغامرة لتختصر الانتظار الطويل.
عند إقامتها عندي، كانت تسرد لأهلها عبر الاتصالات ما حدث لها، فكررت الحكاية مرات عديدة. وظلت تنتظر إشارة البدء لرحلتها الجديدة إلى أن جاء الاتصال بعد أسبوع. وحين عدت من عملي وجدت المنزل فارغاً إلا من روح قطتي "دادو".
 
وحيدي
عندما تركت حمص، هربت بوحيدي الشاب، خوفاً عليه من القتل إذا استمر في المشاركة في المظاهرت، أو خوفاً من تجنيده في الجيش أو الفصائل المقاتلة المعارضة، مع أنه صغير على الحالتين. وفي اسطنبول، استغرقت وقتاً طويلاً قبل أن أتدبر له مدرسة لم ينتظم فيها كما يجب، فضيع أكثر من سنتين دراسيتين، وأنا وهو ننتظر السفر إلى أميركا. لم نسافر معاً، لكنني حققت هدفي بسفره وحيداً، ليكمل دراسته الثانوية هناك ويلتحق بالجامعة.
 
زائرتي الأخيرة
بعد محاولات عدة للوصول إلى اليونان عبر إزمير، اختارت ضيفتي الأخيرة أن تأتي إلى اسطنبول وتحاول الوصول إلى اليونان عبر البر، لكن مرضها ووحدتها، وعدم وجود رحلة خلال أسبوع قضته في بيتي خائفة من قطتي، جعلها تعود إلى أورفة لزيارة ابنتها، وفي انتظار أن تسترد صحتها لتعاود محاولة الوصول إلى أولادها في ألمانيا.
 
اختطاف أوروبا
في إحدى أشهر تراجيديات شكسبير، تظهر ثلاث ساحرات لماكبث، ويتنبأن أنه سيصبح ملكاً على اسكوتلندا. تنتهي المسرحية بتحقق لعنة الساحرات التي تؤدي بماكبث الملك في النهاية إلى أن يكون مقتولاً.
"الساحرات" المحلقات فوق سوريا منذ ست سنوات وصلن بكثير من السوريات إلى براري أوروبا. والمُلك الذي تبحث عنه السوريات الجديدات يشبه في ملمح أسطوري ما اختطاف الأميرة الفينيقية "أوروبا" من قبل الإله اليوناني زيوس، اختطافاً معكوساً، أو لعل هؤلاء السوريات الهائمات تحت سماء من البرق والرعود ذاهبات لإنقاذ الأميرة الأسطورة، فوق بر متوحش يمتد ترابه من سوريا إلى أعالي القطب الشمالي.
سهير ياغي

صحفية سورية تقيم حاليا في مدينة إسطنبول.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.