سوريا: حكاية ثلاث مدن

29 آب/أغسطس 2017
 
ترجمة: يسرى مرعي.

ترجمت ونشرت هذه المادة بعد أخذ موافقة الكاتبة. الرابط الأصلي للمادة: Ft.com

تحكي لنا إيريكا سولومون عن دمشق وحمص وحلب، حيث تعثر على سكان منكوبين بوجهات نظر مختلفة جداً حيال مستقبل بلدهم.
دمشق:

في ظهيرة يوم حار من حزيران/يونيو، وتحت ظلال مآذن الجامع الأموي القديم، تطهو مجموعة رجال ونساء أرز وخضروات لإطعام الفقراء حين يأتي الأذان معلناً نهاية صيام يوم رمضاني. يقف قربهم لتقديم المساعدة علي عقيل، وهو جندي نحيل يرتدي الزي العسكري، ولكنه يلاحظني –صحفية أجنبية- فيستهل ما افترضت أنه سيكون دفاعاً نموذجياً عن الرئيس بشار الأسد ضد الثوار الذين يقاتلونه منذ ما يزيد عن ست سنوات من أجل الإطاحة به.
يقول لي: "أي متمرد رفع سلاحه بوجه الجيش السوري لم يعد سورياً بعد الآن. هذه حقيقة غير قابلة للجدل!" وبينما يضرب قبضته على يده الأخرى الموشومة باسم واحد من الأحباب ال 37 الذين فقدهم في الحرب يتابع: "إنني ادعو أي أحد يقوم بذلك إرهابي –حتى لو كان شقيقي بذاته!".
يشتّت الصراخ انتباه الرجال في مقهى النوفرة القديم في أسفل الجامع ولكنهم سرعان ما يعودون إلى جلبة لعبة الطاولة خاصتهم. أسأل عقيل إن كان أحد من أصدقائه قد انضم للثوار. فيجيب "نعم" ويهز كتفيه مستهجناً. "ما زلت أتواصل معهم. أنا لا ألومهم. الحرب مُربِكة". ونظراً إلى أنه قد قال للتو أن كل الثوار إرهابيين، افترض أنني اسأت فهمه. ولكن عقيل يهز رأسه. ويقول "لا لم تسيئي فهمي. ما زلت أتواصل معهم". "كانت هناك أوقات تقاسمنا فيها رغيف الخبز وكأس الماء. لقد فقدت شقيقاً، وهم أيضاً فقدوا أشقاء. يجب أن أغفر لهم، وهم يجب أن يغفروا لي. يجب علينا أن نمضي قدماً في حيواتنا".
لا يستطيع عقيل التوفيق بين المعتقدات المتضاربة في قلبه، وبعد كل إراقة الدماء هذه التي تألّب الجار ضد الجار، لا يستطيع ذلك بقية أبناء بلده أيضاً –ذلك من أعراض الجروح النفسية التي ستكافح سوريا للتخلص منها-. أولاً جاءت احتجاجات الشارع في عام 2011 ضد دولة الأسد البوليسية. ومن ثم الحملة الحكومية لفرض النظام، ومن ثم الحرب الأهلية. الآن، قُتِل حوالي 400 ألف شخص. بينما فرّ نصف السكان الذين يبلغ عددهم 21 مليوناً من منازلهم.
سوريا اليوم هي أحجية تركيب قطع، يبدو أنه من الصعب أن تتناسب أجزاؤها معاً من جديد. فالقليل من الشمال تحت سيطرة الثوار برعاية تركية، بينما يجوب مقاتلو المعارضة المدعومون من الولايات المتحدة الأمريكية الجنوب. وإلى الشرق، اقتطعت القوات الكردية جيباً متاخماً للأراضي الواسعة التي تسيطر عليها داعش، والتي تتقلص ببطء نتيجة مواجهتها لهجوم من كل من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وقوات النظام. وفي الوقت ذاته، استردّ الأسد المدعوم من روسيا والمقاتلين الأجانب بقيادة إيران ما يقارب من 40% من البلد، ومعظم ذلك منذ تدخلت روسيا عسكرياً في عام 2015.


جندي سوري عند حاجز في دمشق القديمة. تصوير عمر صناديقي© Omar Sanadiki

سافرت هذا الصيف عبر دمشق وحمص وحلب بتأشيرة حكومية نادرة، لأرى كيف تُكافح مدن سوريا الرئيسية (والتي تمتلك رؤى مختلفة لماضيها ومستقبلها) مع هذه الأسئلة. في العاصمة، وجدت سكاناً توّاقين للمضي قدماً حتى لو عنى ذلك أن يخلّفوا أجزاء من البلد وراءهم. بينما تكافح حمص في قلب الأراضي الغربية من سوريا، لنسيان نزيفها الطائفي. وإلى الشمال في حلب، مدينة سوريا الثانية، حيث جرت بعض أحلك فصول الحرب، تزداد صعوبة إخماد جمرةالكراهية. غالباً ما رافقني حارس حكومي، وتجولنا في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لذلك فهذه هي قصة الموالين –وليست قصة ملايين فروا من أرضهم وواجهوا مستقبلاً حتى أكثر قتامة.
في سوريا الأسد، لا ينقسم الناس فقط عن بقية بلدهم، بل من الداخل، لم تنته الحرب بعد، ولكن انتصاره المفترض أثار أفكاراً جديدة حول المعركة. ماذا عنت؟ كيف سيتماثل الناس للشفاء؟ هل يمكنهم حتى أن يجتمعوا سوية مرة أخرى؟ تسمع في أنحاء البلد، تبادلاً مستمراً لقصص حول المعاناة، والفقدان والبقاء –وهي عملة وطنية لمجتمع يتصارع مع تغيير غامض،

الجندي علي عقيل متحدثاً مع إريكا سولومون، تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

في زيارتي الأولى إلى دمشق منذ بداية الحرب، كان من الواضح أن النزاع قد انهك العاصمة. كل من الشقق ذات الطراز السوفياتي والمباني الاستعمارية المطرّزة بالياسمين، تبدو أكثر سمرة. وعند توقّف المرور، تجد نفسك في بحر من أبواب السيارات المتضررة والمصدّات المثقّبة بالرصاص. تسدُّ الحواجز شوارع عريضة وأزقة ضيقة على حد سواء.كما لا يزال من الممكن سماع دوي إطلاق الصواريخ من جيوب الثوار، المندفعة إلى الضواحي.
ومع ذلك ما زالت صور الرئيس وأبيه الراحل حافظ، تحدّق بالمارة أسفلها كما كانت دائماً. والشعارات نفسها، وبالنسبة للكثير من المسؤولين الحكوميين، فإن الأشرار هم نفسهم أيضاً: إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. هم يرون أن الداعمين الرئيسيين في الحرب (دول الخليج العربي وتركيا) مجرد دُمى في المؤامرة الأوسع. وعلى أية حال فقد تغير السوريون.
أسفل زقاق متداعٍ في المدينة القديمة، يوجد بار اسمه كوزيت Cosette. يرتشف فيه رجال بلحى عصرية البيرة وتنفث نساء بسراويل جينز ممزقة السجائر تحت عبارة من رواية "البؤساء" مخربشة على الجدار. بوسعها تقريباً أن تكون شعاراً للمدينة: "الموت لا شيء. من المخيف عدم العيش".
ازدهرت البارات والحياة الليلية وسط الحرب، كجزء من موقف الاستهتار واللامبالاة الذي لم يكن معتاداً في دمشق، وهي مكان حيث (كما يمزح أصدقائي السوريون) يمكن أن تلتقي فيها شخصاً يقود سيارة سيدان (صالون) قديمة لتكتشف أنه يمتلك مئات الألوف من الدولارات لأطفاله في المدخّرات. الآن ينفق الناس ما يملكون، سواء اشترى لهم ذلك سيارة دفع رباعي فخمة أو كان كافياً فقط للاستمتاع بكأس واحدة من البيرة. كما أن تعاطي المخدرات، بين الشباب الذين يستطيعون تحمّل تكاليف ذلك، آخذ في الارتفاع، كما هو الأمر بالنسبة للجراحة التجميلية -ربما تكون اللوحات الإعلانية الخاصة بالإجراءات التجميلية هي الأكثر انتشاراً بعد لوحات الأسد.
"يحاول الجميع أن يجد سبيلاً ليكون سعيداً، ولكن هناك شيئ مفقود" تقول مارلا عواد، واحدة من زبائن كوزيت، وهي تنقر بسيجارتها على المنفضة، ثم تتابع: "لقد أدركت في إحدى اللحظات، أنني حتى عندما أضحك، لا أكون سعيدة فعلاً".
***
لم يصب وسط دمشق أبداً بالتمرد المسلح بشكل كامل ولكن العديدين الذين عاشوا هنا خلال الحرب يصفون نوعاً من الحزن الذي يخيّم فيها. وربما هذا هو السبب في الرغبة الملحّة للمضي قدماً، حتى لو عنى ذلك ترك أجزاء من البلد تعصف بها الحرب خلفهم. أخبرني أحد السياسيين سراً "توجد سوريتان الآن. واحدة هي سوريا النظام، الجزء الذي يمكننا أن نحاول تحسينه، والأخرى هي منطقة الحرب، ولا يمكننا القلق بشأنهم بعد الآن. علينا المضي قدماً".
ولكن حتى هنا، يواجه العديد خطر أن يُتركوا في الخلف. قبل النزاع، عُرِفت سوريا بطبقتها الوسطى الكبيرة. أما اليوم، فإن حوالي 86% من السكّان يعيشون تحت خط الفقر. وقد امتصّت هجرة الأدمغة الأشخاص الذين تشتد الحاجة إليهم، مثل الأطباء الذين غالباً ما يسافرون إلى عدة مدن كل أسبوع بسبب نقص الطاقم الطبي.

سوق في دمشق، تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

والتفاوت في الثروة بات فاضحاً . إذ تضجّ الأحياء الراقية بأصوات المولدات الضخمة التي تنتج الطاقة للمطاعم المزدحمة برجال بقمصان بولو ونساء بالكعب العالي، بينما في الخارج أطفال بثياب رثّة ومسنّون تنقصهم أطراف يستجدون الفكّة. وكما يقول وضاح عبد ربه (رئيس تحرير صحيفة الوطن السورية الموالية للحكومة) "الناس إما أغنياء جداً أو فقراء جداً جداً. إنها كارثة حقيقية".

ويقول بعض الاقتصاديين أن عام 2017 قد يكون العام الأول منذ الحرب الذي سينمو فيه الناتج الإجمالي المحلي لسوريا، وإن كان ذلك على الأرجح بنسبة 1% فقط. ولكن ذلك لن يكون كافياً لمساعدة نسبة كبيرة من الطبقة الوسطى، التي انزلقت إلى الفقر بسبب البطالة أو الأجور التي تعادل قيمتها أقل من ثلث ما كانت عليه قبل الحرب.
في سوق ساروجة، يقترب رجل بوجه عابس من أحد التجار ليسأله عن بعض البيض ولكنه يبتعد ما أن يسمع السعر. وفي مكان قريب تبيع أم سوسن (امرأة ذات يدين متشققتين وحجاب أخضر باهت( زجاجات عطر صغيرة –كبديل عن الدخل الذي خسرته عندما أُغلِقت المدرسة التي كانت تدرّس فيها ودُمِّر منزلها. وهي تخوض معركة يومية للحفاظ على سقف فوق رأس ابنتها. تمزح قائلة: "أشعر أنني أعيش في المقولة العربية القديمة ’رضينا بالهم والهم ما رضي فينا’، نحن نسقط في هاوية، حين لا يشعر المواطن بالانتماء في بلده".
واستشعاراً بالإحباط العام، أعلن الأسد عن برنامج إصلاح في ظهور تلفزيوني حديث. وأشار إلى الفساد بين مسؤولي الحكومة ومُحدثي النعمة من مستغلي الحرب، الذين أشرفوا على تجارة السوق السوداء التي أبقت الاقتصاد عائماً تحت وطأة سنوات من العقوبات الغربية ولكنهم أصبحوا شديدي القوة لدرجة أن الموالين باتوا يرونهم أكبر تهديد على مستقبل سوريا. كما تعهد الرئيس بإيجاد خط ساخن للتبليغ في حال وجود شكاوى.
يقول أحد الأصدقاء الموالين: "قد تكون فكرة جيدة، ولكن من سيتمتع بشجاعة كافية ليتصل ويُبلغ عن مسؤوله المحلي؟". إنه يتوقع صراعاً متزايداً بين النظام وطبقة أمراء الحرب هذه التي ستكون "أكبر وأعمق وأقذر".
عندما منعت قوات الأمن سلسلة من السيارات المفخخة من ضرب مركز المدينة في تموز/يوليو هذا (في نفس اليوم قالت الحكومة أنها قد تقلص عدد الحواجز) سرعان ما تفشّت نظرية مؤامرة بين بعض السوريين مفادها أن الجناة هم الميليشيات المبتزّة التي اغتنت باستخلاص رسوم عند الحواجز (ليس الارهابيين، كما أفادت وسائل إعلام حكومية).
لهذا يقول بعض الدمشقيين أن النظام الآن حذر من أنصاره أكثر مما هو حذر من المعارضة. وكما قال لي أحد رجال الأعمال: "تصفية الحسابات الحقيقية ستأتي من الداخل، يشعر الناس أنهم ضحّوا بالكثير، وهم لا يريدون تحمّل هذا أكثر من ذلك –ولا يمكنكم وصفنا بالخونة، نحن قاعدتكم!".
"كل شيء بات مكشوفاً" أصبحت لازمة معتادة. يُبقي بعض سائقي الحافلات كيساً مملوءاً بالنقود بالقرب من مقود القيادة من أجل تقديم الرشاوي على الحواجز. أما أنصار النظام الذين أصرّوا ذات يوم أن احتجاجات 2011 هي مجرد أسطورة، باتوا يعترفون الآن بوجودها. ولم يعد الجنود، مثل علي عقيل، يصرّون على أن المدنيين ليسوا من ضمن ضحاياهم.
الجميع تقريباً تواق للمصالحة، ولكنه ليس بالأمر الهيّن. أولاً، لأن المجتمع الدولي يبدو أنه قد استسلم الى عملية سلام متعثرة. والسبب الثاني نفسي. ففي الوقت الذي تغيّرت فيه سوريا، لم تتغير الحقائق الأساسية للنزاع: فهؤلاء المؤيدون أو المعارضون للثورة، بقيوا على حالهم.
إحدى صديقاتي (مهتمة نشيطة بمجال الأزياء) من عائلة موالية ولكنها على المستوى الشخصي متعاطفة مع الانتفاضة، تخبرني أن الطريقة الوحيدة التي استطاعت بها أن تحل سنوات من النزاع الداخلي كانت بالتخلي عن فرضية أن جانباً واحداً فقط على حق. تقول: "لا وجود ل’حقيقة’ في سوريا، هناك حقيقتان".
في ليلتي الأخيرة في دمشق، وعلى العشاء في بيت حجري عتيق في دمشق القديمة، طرحتُ نظريتها على رجل يجلس بجانبي، فضحك وهو يقول: "يوجد الآن في سوريا أكثر من حقيقتين بكثير".

صبي ينظر إلى لوحة لبشار الأسد في سوق في حمص. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

حمص:

توصِلُك قيادة 163 كم بالسيارة شمال العاصمة إلى مدينة في وسط سوريا "حمص"، حيث الحياة نابضة، رغم أن ذكريات ما حصل هنا في كل مكان. فبرج الساعة الأبيض الذي أطّل يوماً على حشود المتظاهرين، يلوح الآن فوق حركة مرور ثابتة تشق طريقها أمام واجهات المحلات المملوءة بندوب الرصاص. قد يكون أحد الشوارع المرممة محشوراً بالمشاة، ولكن انتقل إلى التالي، لتجد أن العلامة الوحيدة على الحياة هي الأشجار المنبثقة من الأنقاض. وعند التوغل في الداخل في قلب حمص، البؤرة الأصلية للثورة السورية المسلحة، لا تجد سوى البقايا الهيكلية للمباني التي تبدو وكأنها تتعفّن بعيداً.
في أحد هذه المباني يقع بيت عائلة جبّور، ومن الشارع، يمكنك أن تتجسس عليهم وهم يعيشون حيواتهم. ويستطيع عصام جبور من هيكل طابق علوي أن يمسح ويراقب كل شيء أدناه وهو يتعرّق وينفخ سيجارة.
فيما مضى كان هذا الشارع يُسمى وادي السايح. يقول: "منذ الحرب، اسميناه وادي الموت، لأنهم تخلصوا من جثث هنا، اتذكر التاريخ الذي وجدنا فيه أول جثة، لأنه كان صباح عيد الميلاد في عام 2011".
كانت الجثة تعود لموزع خبز حكومي، الذي كان من طائفة الأقلية العلوية السورية- وهي تفرع عن الإسلام الشيعي - وينتمي إليها الأسد. يقول جبّور: "أنا متأكد من أن من قتله، قد اعتاد على أكل خبزه، كان شخصاً من الحي". ثم يخبرني أن ذلك كان بداية دوامة عمليات القتل الطائفية وعمليات الاختطاف التي لم تهدأ إلا مؤخراً فقط.
الطائفية هي موضوع مشحون في الحرب. وكلا الجانبين حساس للاتهامات بها، وكلاهما يشير وعن صواب إلى المدة التي عاشها السوريون المنتمون إلى أديان لا تعد ولا تحصى في تناغم نسبي. ولكن في حمص (وهي موطن لعدد كبير من السنة والعلويين والمسيحيين) سرعان ما أجّجت الانتفاضة التوترات الطائفية.

عصام جبّور في ما بقي من منزل عائلته في حمص. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

واحدة من الغرف المتضرّرة في منزل عائلة عصام جبور في حمص. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

شكّلت الأغلبية السنية العمود الفقري للتمرّد، بينما الأقليات (خشية صعود الإسلاميين) وقفوا غالباً مع الأسد (لا سيما طائفته من العلويين). فانضم بعض العلويين لعصابات الموالين التي هاجمت المتظاهرين، واتُّهِموا بالقيام بمجازر في الأحياء السنية. والعلويون بدورهم يمكن أن يضعوا قوائم طويلة بالجيران، مثل موزّع الخبز، الذين يقولون أنهم أبرياء ولكن انتهى بهم المطاف جثثاً مرمية في وادي الموت.
من المرجح أن أكثر من نصف حمص قد تضررت بفعل الحرب، وتحتفظ الطائفية بوجود مادي. فالمناطق السنية عبارة عن أطلال فارغة. بينما تعرضت الأحياء العلوية للضرب لكنها كاملة، مملوءة بمكاتب تجذب الشباب إلى الميليشيات الموالية. وعلى طول حديقة في حي الزهراء العلوي، يُوجد جدار تغطيه صور أكثر من 1200 قتيل ، يسمى الآن جدار الشهداء. لقد أصبح نوعاً من ضريح، حيث تصلّي الأمهات للأبناء الذين لم يعودوا أبداً من أرض المعركة. ويمسح الصبية الصور، بحثاً عن أب أو عم.
وبسبب صلتهم بالأسد، فغالباً ما يتهم العلويون أنهم طائفة ذات امتيازات، ولا سيما في حمص، حيث يحتلون العديد من المناصب الحكومية العليا. ولكنهم يأتون من كل الخلفيات والعديد منهم شديد الفقر. ومن المعتقد على نطاق واسع (بصورة تناسبية) أن العلويين قد ضحوا بالكثير من الأرواح دفاعاً عن النظام. فلا يوجد أي علوي من الذين أجريت معهم مقابلات لم يفقد ما لا يقل عن سبعة أقارب.

جدار الشهداء في حمص، المغطى بأكثر من 1200 صورة قتيل، تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

في الزهراء، يُصلح منير حسين، وهو رجل بعينين زرقاوين ثاقبتين، دكانَ البقالة حيث يعزم أن يقضي تقاعده بعد انتهاء خدمته كطيار في سلاح الجو الذي دمّر أحياءً بكاملها والمتّهم بقتل عشرات آلاف المدنيين. ويتذكّر بفخر "تحطيم رؤوس ’الارهابيين’"، ويتوقف فقط ليبتسم لأحد المارة ويصرخ "أهلاً جار!".
يقول "الناس في هذه المناطق المتمردة هم شعبنا –ولكن بعضهم جنّده الارهابيون. كان من واجبنا القيام بالضربات، حتى لو فقدنا بعض الشهداء" ويعني بذلك المدنيين. ومع ذلك، فهو يكافح مع كيفية التعايش. يضيف: "الغفران ليست مجرد كلمة. يمكن للحكومة أن تصدر عفواً. لكننا بحاجة إلى وقت لننسى. بعض الأمور لا يمكن أن تحدث بسرعة. هناك جيل يجب أن ينتهي".
واعتماداً على الطريقة التي يُعاد بها بناء حمص، قد يكون النسيان صعباً. إذ يقول بعض السكان أن تخطيط المدينة، بطوائف مختلفة في أحياء مختلفة، يشجّع القطيعة والاضطراب. وقد تكون هذه الدورة محكوم عليها بتكرار نفسها إذا لم يُخطّط لإعادة الإعمار بعناية.
قبل الانتفاضة، خطّط محافظ حمص السابق لإعادة تصميم بعض المناطق المركزية والأحياء الفقيرة لمشروع يحمل اسم "حلم حمص". واتّهمه العديد من السكان المحليين باستخدام التخطيط الحضري لدفع السنّة والمسيحيين خارج المناطق المركزية، بينما بقيت المناطق العلوية دون مساس. والعديد من هذه المناطق التي اختيرت للهدم دُمّرت لاحقاً في القتال من أجل هزيمة المتمردين، بما في ذلك حي الخالدية بالقرب من منزل جبّور. الذي يمزح قائلاً: "يمكنك القول أننا سنحصل على مشروع البناء ذلك بجميع الأحوال، ولكن ليس بالطريقة التي كنا نتوقعها".
أما المحافظ الجديد، طلال البرازي، فقد صاغ مشروعاً، مرتبطاً بقانون التشاركية بين القطاعين العام والخاص السوري الجديد كاستجابة من قبل الحكومة لاعادة الاعمار. يسمح القانون للمحافظات والبلديات بإنشاء شركات قابضة لتنظّم المستثمرين من القطاع الخاص لإعادة الإعمار. ومثل مشروع "حلم حمص"، فإن مشروع البرازي يتصور بجرأة أبراجاً فاخرة شاهقة الارتفاع لتحل محل الأحياء الفقيرة التي كانت هنا فيما مضى. يُطلق النقاد عليه تهجير مبطّن، لأنه ما من أحد عاش هنا سيتمكن من تحمل تكاليف العودة.
يقول جهاد يازجي الذي يرأس موقع "تقرير سورية" (نشرة اقتصادية على الانترنت): "كلّما وُجِدت مشاريع مصادرة الملكية هذه، كان التعويض منخفضاً بشكل كبير. إنه انتزاع ملكية واضح من هؤلاء الناس. إنه نقل للأصول العامة، ومن دون ضرائب، إلى الشركات الخاصة –وسيكون هذا دفعة كبيرة للمقربين من النظام".

رجال يزيلون ركام منازلهم المدمّرة في حي الوعر في حمص. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

إحدى المناطق المخصصة هي بابا عمرو، المعقل الأول للثورة المسلحة والمنطقة الأولى التي استعادها النظام. وهي أفظع المناطق دماراً. يرتفع ملصق ضخم لبشار الأسد فوق الحاجز الذي يقع عند مدخل الحي. وأسفل الطريق، منصة استخدمها المتظاهرون فيما مضى محاطة الآن بأعشاب جافة. وخلف ذلك يوجد مجمع تلو الآخر من مباني فارغة. وهذا هو المكان الوحيد الذي لا يرافقني فيه حارس حكومي فحسب، بل أيضاً سيارة من قوى الأمن، مما يشير إلى مدى سيطرتهم بإحكام على المنطقة. لم أجد سوى حفنة من العائدين (أطفال ونساء، رجالهم إما في السجن أو يقاتلون على الجبهة لصالح الأسد، وهو خيار يقولون أنه عُرِض عليهم بدلاً من السجن. أثناء مغادرتي، صافحت امرأة ترتدي السواد يدي بإحكام شديد حتّى تخيّلت أنني سأجد رسالة صغيرة في راحة يدي. ولكن لم يكن هناك شيء.
***
من ضواحي دمشق، وعبر حمص وإلى الأعلى باتجاه حلب، يوجد عدد لا يُحصى من المناطق والقرى مثل بابا عمرو، وعند القيادة أمامهم عبر الطريق السريع، يتملّك الشخص إحساساً بأنه يمر أمام بلد أشباح وليس أمام مدينة أشباح وحسب. هناك الملايين من النازحين مبعثرين في أنحاء المنطقة والبلد، يجاهدون لتأمين كفافهم في مرائب ومباني غير مكتملة –ومعظمهم من السنة.
ويقول دبلوماسيون أن هذا يثير أعصاب الداعم الأساسي للأسد، أي روسيا، التي تخشى أن يقود ذلك إلى جيل متطرّف. ويقولون أن روسيا لذلك السبب أصبحت أكثر اشتراكاً في المفاوضات في المنطقة، في محاولة لضمان بقاء عدد أكبر من السكان المحليين.
وفي ضواحي حمص، أُخضِعت منطقة الوعر (التي كانت غنية ذات يوم) عبر ثلاث سنوات من الحصار والتدمير، وكانت المنطقة الأخيرة الخاضعة للمعارضة التي قبلت ما تدعوه الحكومة "اتفاق المصالحة الوطنية"، والتي هي أساساً تفاوض على الاستسلام. يُنقل المتمردون وأنصارهم، الذين يريدون الاستمرار رغم ما جرى، بالحافلات إلى جيوب أخرى. أما المدنيون والمقاتلون الذين يقبلون التسجيل لل"التسوية" تنظف سجلاتهم من قبل الأمن لكن قد ينتهي بهم المطاف أيضاً مجندين إلزامياً في الجيش. وتعتبر المعارضة في المنفى هذا الأمر إهانة كبيرة، بينما يجادل العديد ممن يود البقاء في سوريا بأنه لا توجد خيارات أخرى.
ووفقاً لما يقوله البرازي، فقد غادر حوالي 15 ألف شخص (متمرد ومدني) من حمص، بينما بقي ما يقارب من 28 ألف شخص. يقول السكان أن معظم من هربوا أرادوا ابقاء ابنائهم الذين هم بسن الخدمة العسكرية خارج الجيش. بينما خشي آخرون من مذابح طائفية لم تتحقق ويريدون الآن العودة إلى موطنهم. وقد سمح المحافظ لبعض الحافلات الممتلئة بالعودة في الأسابيع القليلة الماضية .
ولكن البعض من الذين اشتركوا في هذه المفاوضات يشتكون أن الحكومة تجعل العودة أكثر صعوبة من خلال مطالبة العائدين بالظهور على التلفاز الحكومي –والذي اعتُبِر كشكل من أشكال الإهانة العلنية- أو من خلال اشتراط جلب أبنائهم الذين بسن الخدمة العسكرية. ويجادل النقاد أن النظام لا يريد عودة هذه الأجزاء "الإشكالية" من البلد. وكما يقول أحد الدبلوماسيين "لديهم عدد سكان أكثر قابلية للانقياد، وتركيبتهم الديموغرافية طيّعة أكثر. يبدو قاسياً، قد يناسبهم هذا لفترة ليست بالقصيرة".

أفراد من عائلة طعمة المسيحية التي تقطن حمص. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

كما أن هذا يناسب العديد من أنصار الحكومة، مثل عائلة طعمة، وهي واحدة من الأسر المسيحية القليلة التي بقيت في الوعر طوال الحرب والتي أخبرتني أنه لا يمكن التصالح مع جزء كبير من المعارضة. كانت رولا، الأصغر من بين ثلاث اخوات في عائلة طعمة، تعمل كمعلمة في المدرسة طوال فترة الحصار. تقول أن تعاطف بعض طلابها مع المتمردين كان يغيظها.
في أحد الأيام، اتصل صوت غامض على الهاتف، طالباً من أسرتهم مغادرة الوعر، لأنهم كفّار. كانت محطمة القلب. بيد أنه عندما سمع اثنان من طلابها السابقين والذين انضموا للمتمردين الخبر، توسلوا إليها ألا تغادر، وانضموا لجيرانها في تنظيم دورية لضمان أمن عائلة طعمة. أثّرت فيني هذه القصة، ولاحقاً عندما كانت رولا تُريني صوراً عائلية قديمة، حاولت أن استدرجها. ألم يكن ذلك أملاً بالتعايش؟ لا تستطيع حمل نفسها على الموافقة. يبدو بصيص الأمل هذا واهياً وسط كل قصص الكراهية التي تستذكرها، وبالتالي فإن الحل الوحيد كما تقول هو مسح كل هذه الذكريات.
تقول: "أول شيء علينا فعله: ينبغي أن ننسى. يجب أن أنسى، لأنه ما الذي يمكنني فعله غير ذلك؟ الحياة ستستمر. لا يمكننا البقاء غاضبين أو مستائين. ينبغي أن ننسى".

التموضع من أجل التقاط الصور عند قلعة حلب. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

حلب:

أسافر من حمص أربع ساعات إلى حلب، على طريق تشاهد على طوله ألسنة الدخان على بعد بضعة كيلومترات فقط، كتذكير بمدى قرب الحرب، حتى عندما تبدو بعيدة جداً. إن الجانب الغربي من حلب، هو معقل للحكومة خلال أربع سنوات من الحرب مع الجانب الشرقي الذي يسيطر عليه الثوار، وهو (الجانب الغربي) مملوء بملصقات تعلن "سوف نعيد البناء". وعلى طول كورنيش التسوق الشعبي، تثرثر فتيات بحجاب أبيض مع أصدقاء وهن يرتدين قمصاناً ضيقةً وأقراطاً كبيرة، كما يرفع الآباء ابناءهم أمام نافذة متجر آيس كريم من أجل اختيار نكهة ما.
وفي مقهى مغلّف بسحب الدخان والعطر، التقي بفراس شهابي، وهو عضو برلماني وصناعي، الذي يريني صوراً لمعمله الدوائي المقصوف في حلب الشرقية، التي اتخذها مقاتلو داعش كمقر لهم لفترة من الزمن.
كانت حلب المركز،االصناعي والاقتصادي لسوريا قبل الحرب، تنتج أشياء مثل المنسوجات والمواد البلاستيكية. وفي أدنى مستوى لها في عام 2013، عمِل 1200 معمل وورشة فقط من أصل 40 ألف في حلب. بينما عاد اليوم العدد إلى 10 آلاف. يصرخ فراس ليتجاوز ضجيج الموسيقى: "منذ ستة أشهر لما تواجد ثلث هؤلاء الناس هنا أصلاً. إن حلب تعود".
بيد أنه عبر المدينة وفي شرق حلب، المعقل الحضري الأخير للثوار قبل أن تستعيده قوات الأسد، فالشوارع صامتة. وأولئك الذين يغامرون في الظلمة، يستخدمون هواتفهم النقّالة لإضاءة طريقهم. أما خلال النهار، فيطغى مشهد الدمار. أشجار نيلة متفحّمة ومقطوعة الرأس تصطف في الشوارع. لم يتقبل العديد في حلب الشرقية الثوارَ أبداً عندما اقتحموا نصف مدينتهم في عام 2012، فهربوا إلى القسم الغربي. ولكن بقي آخرون طوال الحرب، رافضين مغادرة منازلهم.
وفي كانون الأول/ديسمبر عام 2016، وبدعم من القصف الروسي، أجبرت قوات النظام المعارضةَ على الانسحاب، مع آلاف المناصرين، إلى الجيوب الأخيرة للمعارضة في الريف الشمالي أو إلى تركيا، وهي موطن ثلاثة مليون سوري في المنفى. ومما لا شك فيه أن هذه اللحظة حوّلت الحرب لصالح الأسد، ولكن على حساب آلاف الأرواح. وعلى أحد الجدران المندفعة من بين الأنقاض، يمكنك أن تقرأ رسالة تقول: "نأسف لعدم تمكننا من استقبالك، لقد نُقِلنا إلى الجنة".

فراس شهابي، برلماني وصناعي من حلب. تصوير: عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

في الأيام الأخيرة للمعركة، حاول أبو أحمد، وهو رجل ببشرة داكنة وعينين بنيتين مضطربتين، الهروب إلى غرب حلب الواقع تحت سيطرة الحكومة (حتى حين دكّت قنابلهم حيّه). فقبض عليه الثوار أولاً. وجروه عبر الشوارع، إلى قاعة زفاف قديمة. ولمدة ثلاثة أيام، ضربوه بأشرطة إطارات، على ظهره العاري، وسكبوا مياهاً مجمّدة عليه.
وهو يشارك قصته شريطة ألا اذكر اسمه الحقيقي –لكن ليس خشية من انتقام الثوار. بل خشية من الجيش، وحواجزه التي تتقاطع عبر حيّه. كما يخشى الميليشيات الموالية التي تضرب وتبتز جيرانه. ولأول مرة منذ سنوات، يستطيع أبو أحمد العبور بسهولة إلى حلب الغربية ولكنه يهاب جداً المحاولة.
يسأل أبو أحمد: "ما الفرق بين ثائر يحمل سلاحاً أو جندي يحمل سلاحاً إن وجّهه الاثنان نحوك؟". دوى صوته المرتجف قبلاً "الشرق والغرب مازالا منقسمين. لا نزال نُعامل كما لو أننا لسنا جزءاً من ذات المدينة".
ومقارنة بتصميم الدمشقيين على المضي قدماً أو بفقدان الذاكرة المفروض ذاتياً في حمص، فإن مشاعر الاستياء هنا تقدّم اختباراً حقيقياً أكثر كآبة لمستقبل سوريا. ويمكن لحالة حلب أن تخلق وضعاً ديناميكياً شبيهاً ببيروت: فتقريباً بعد ثلاثة عقود على الحرب الأهلية في لبنان المجاورة 1975-1990، لا تزال المدينة تشعر بانقسام نفسي بين الشرق والغرب، ويفضّل العديدون الانغلاق في جانبهم.
كما أن شعور بعض الحلبيين الغربيين بالإيذاء قوي جداً، فيبدو أنهم مخدّرون أمام معاناة القسم الشرقي. ويذكرون كيف أنهم أيضاً حُوصِروا في وقت سابق في الحرب وضُربوا بصواريخ فتّاكة مصنوعة من قنابل غاز، سُمّيت "مدافع الجحيم"ولكن الضرر لا يمكن مقارنته بما لحق القسم الشرقي، حيث سوّت الضربات الجوية المباني بالأرض.
والتقي في مبنى مهجور يشرف على الأطلال، بقائد ضخم يجلس في كرسي مقصوف. ويأمر مرؤوساً أن يحضر لي عصيراً مبرداً، ومن ثم يحاضر بي حول المؤامرة ضد سوريا. وكما يقول فهو لا يثق بالحلبيين الشرقيين الذين عادوا، ولكن من وظيفته ألا يثق بأي أحد.
يتابع قائلاً: "أتظنين أننا لا نعرف أن هؤلاء هم زوجات وأطفال وآباء وأعمام المسلحين؟ بالطبع نحن نعرف. لقد خسرنا الكثير بسبب هؤلاء. ولكن حكومتي أمرتني بالترحيب بهؤلاء الناس، والسماح لهم بالعودة إلى منازلهم، والتعامل معهم بإنصاف، وهذا ما أفعله. لكن من الداخل، لا يمكنني القبول بذلك أبداً".

أطفال يلعبون في شوارع حلب الشرقية. تصوير عمر صناديقي. © Omar Sanadiki

أما بالنسبة للمحليين، فإن القلق الأكبر هذه الأيام هو الميليشيات الموالية، التي يقولون أن قادتها يتجولون بسيارات دفع رباعي ذات لوحات أرقام مسوَّدة، ويضربون أو حتىى يطلقون النار على المارّة في الطريق. يقول أحد أقرباء أبو أحمد، وهو رجل واهن بصوت أجش يصف نفسه بالأسدي المخلص ، يقول أنه صُدِم كيف بدا اقرباؤه محطّمين نفسياً أثناء زيارته الأولى بعد التماسه اللجوء في الساحل السوري. لقد دعا أصدقاء في الحكومة للشكوى لكنهم قالوا أنه لا يوجد شيء لفعله –لقد احتاجوا هذه الميليشيات لإنهاء الحرب. يقول: "إنهم مخطئون. إننا نعمّق الانقسام والغضب. هذا سيخلق الثورة المقبلة".
بينما يقول اقتصاديون مثل شهابي أن إنعاش الاقتصاد سيخفف من هذه التوترات. بيد أن ذلك يتطلب أموالاً ضخمة من أجل إعادة الإعمار، والتي من غير المرجّح أن تأتي طالما تطلب الدول الغربية تسوية معتمدة دولياً لإزالة العقوبات. أما المسؤولون السوريون فيقولون أنهم لا يريدون أموالاً أوروبية أو أميركية ويتطلّعون إلى دول البريك (البرازيل، وروسيا، والهند والصين) لسدّ الفراغ. لكن هنا يصرّ دبلوماسيون أن هذه الدول لا ترى العديد من المكاسب –فقد سُلّمت بالفعل امتيازات الموراد الطبيعية الرئيسية السورية إلى روسيا والصين.
ومن العوائق الأخرى، العداء المزمن تجاه سكان الريف الذين شكّلوا العمود الفقري لليد العاملة الصناعية –والجزء الأكبر من الثوار الذين اجتاحوا حلب. وكما يقول بعض رجال الأعمال أن عمالهم نهبوا مصانعهم. ويسأل أحدهم "هل يمكن أن تتخيلي الحقد؟".
وفي حلب، ينظر الغربيون بعين الريبة إلى الشرق الفقير، ولكن الجميع في المدينة يشيرون بإصبع الاتهام نحو الريف. وقد صدم التفاوت بين المدينة والريف حتى بعض الثوار المحليين، الذين وصفوا لقاء عائلات في الريف لا تملك كهرباء منذ عام 2002، والذين لا يستطيعون تحمل كلفة غسالة. وقد عملوا بوظائف في المصانع ستة أيام في الأسبوع لصالح رجال بمنازل فاخرة.
حتى هذا اليوم، يتناقش السوريون حول السبب الذي أجّج الانتفاضة. فيلوم البعض منهم الطائفية. بينما يلقي آخرون بالمسؤولية على الانقسام الطبقي. وقد أشار آخرون إلى أن السكان الريفيين –اليائسين بعد سنوات من الجفاف، والمتدفقين إلى ضواحي تتداعى للسقوط سعياً وراء فرص عمل- كانوا أول من حمل السلاح. ويكمن تحت كل هذه التأويلات كفاحٌ في سبيل موارد في بلد يعاني من نقص فيها، ولا يوزعها بأي إنصاف. وفي أماكن مثل حمص، يقول السنة أن وظائف الدولة هي من نصيب العلويين. وفي مدن سنيّة مثل دمشق وحلب، مُنِحت امتيازات حكم الأسد للطبقات الأغنى والحضرية.
هذا يوفر ثغرة للمصالحة: الموالون هنا يستندون على تأويل للانتفاضة بوصفها تُقاد من قبل الجهل واليأس. يقول شهابي: "كان عليهم أن ينضموا، ولكن داخلاً في العمق لم يكونوا معتنقين، نريدهم أن يعودوا. إنهم ضحايا حرب، مثلنا".
وفي حي السكري في حلب، حيث يوجد حوالي 20 ألف شخص، عاد ثلث عدد السكان الأصليين، يشتري المتسوقون الخضراوات ويبيع الباعة المتجولون الأحذية المستعملة. يقوم عدنان الدقس وهو رئيس إداري محلي، بتوزيع عبوات غاز للطهي. وبنغمة يمكن التعرف عليها فوراً لأي شخص على دراية بحكم حزب البعث التابع للأسد قبل الحرب، يصف مهمته بوصفها توعية للمواطنين الضالين. فيقول: "نحن نفسّر للناس أنهم جزء من كيان يدعى الجمهورية العربية السورية. لدينا رئيس، وعلم، ونشيد وطني. يدرك الناس ذلك، ويعرفون أنهم كانوا على خطأ".
كما يحث بعض السوريين أحباءهم في المعارضة على استغلال هذه الفرصة للعودة: أن يقولوا أنه قد غُرِّر بهم، ويوافقوا على "التسوية". ولكن المعارضة في المنفى تجادل بأن هذا قبول بالراحة على حساب المبادئ. ويصرّون على انتظار اتفاق سلام برعاية دولية.
وفي الوقت ذاته، يتعمّق انسلاخهم أيضاً. ففي زيارتي الأخيرة إلى تركيا، وفي مدينة تقع على بعد ساعات قليلة من حلب، يصف ثائر مشاهدة أطفاله يكافحون للكتابة بلغتهم العربية الأصلية. وفي بعض الأيام، يدندن ابنه النشيد الوطني التركي بينما يسير إلى المنزل –مما يلفت انتباه الأتراك في الشارع، ويضيف مع ضحكة، قبل أن يدفن وجهه في يديه: "أطفالي يصبحون أتراكاً".
ولكن حتى بالنسبة لأولئك الذين في الداخل السوري، يبقى الوطن مكاناً بعيد المنال. تذكّرت القائد العسكري في كرسيه، يطلّ على الشوارع التي تتناثر الأنقاض فيها. حين كافح مع أسئلتي حول المصالحة، طرحت سؤالاً مختلفاً: ماذا تعلّم من الحرب؟ اتّكأ إلى الخلف، وحدّق في وجهي طويلاً.
"لا أعلم إن قدمت لي الحرب درساً. لكنها أعطتني أمنية، آمل أن تتحقق. أريد العودة إلى قريتي. أريد أن أكون مع أهلي ومع أصدقائي. أريد أن تكون لي حياة بسيطة، وأن أكون شخصاً بسيطاً" متى يستطيع الذهاب إلى المنزل؟ ضحك وهز رأسه وأضاف: "حين لا يتبقى المزيد من الارهابيين".

يسرى مرعي
مترجمة من سوريا، تترجم عن اللغتين الإنجليزية والروسية. تركز في ترجماتها على الدراسات التي ترصد علاقة الحداثة بالعمارة في الشرق الأوسط. إضافة إلى الاهتمام بالدراسات حول الإسلام اليومي والاستشراق.
إيريكا سولومون

مراسلة جريدة الفايننشال تايمز لشؤون الشرق الأوسط.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.