الطائفيّة في العراق: صراع بين الهويّة وسياسات القضيّة
ترجمة: مصطفى الفقي.
تنويه من هيئة التحرير - موقع العالم للدراسات
تحوي هذه المادة الملف الثاني من ورشة عمل (Workshop) حول الطائفيّة في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي قام بكتابتها باحثون متخصّصون في الشرق الأوسط للجنة وزارة الخارجيّة بالبرلمان الأوروبيّ. وتُنشر الأوراق بعد التواصل الشخصي مع رئيس الورشة، الدكتور توبي ماثيسن، صاحب كتاب"الخليج الطائفيّ.
مقدمة:
يُشير الكثير من الباحثين إلى الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 باعتباره أحد المثيرات الرئيسة لتطييف الشرق الأوسط الحديث، بالإضافة إلى الثورة الإيرانية عام 1979 والانتفاضات العربية في العام 2011.[1] يربط هذا الحجاج المُثار انهيار الدولة العراقية المركزية التي أسستها بريطانيا عام 1920 بظهور الجماعات المسلحة الفاعلة من غير الدول المدفوعة طائفياً والمنافسة الإقليمية بين إيران والمملكة العربية السعودية التي تأخذ شكلا من أشكال الصراع الشيعيّ-السنّي.
وفي حين تتناول هذه السردية الأحداث في العراق كمصدر ونموذج مُصغَّر للطائفية في المنطقة، فإن هذه الورقة تركز على الطائفية داخل العراق. وسوف تجادل بأن الطائفية مؤسِسَت في دولة ما بعد عام 2013 من خلال حملة الحكم التوافقي المرتكزة على سياسات الهوية. ومن ثمَّ، سوف تنظر في عسكرة الطائفية مقابل ظهور الميليشيات والقوات شبه العسكرية والاضطرابات المدنية. وأخيرا، ستحلل الورقة التحديات التي تواجه الخطاب الطائفي في العراق من خلال التركيز على الصراع داخل الطوائف نفسها. وتجادل هذه الورقة بأن الطائفية نمت في عراق ما بعد 2003 لسببين رئيسيين: أولا، القيادة الجديدة التي عادت من المنفى بعد عام 2003 واعتمدت على الوصاية والمكوّن المركزي الطائفي، وثانياً، أدى انهيار الدولة الوحدوية (وغياب دولة قوية فيما بعد)، إلى إضعاف الهوية الوطنية، وبالتالي بروز الهويات غير الوطنية؛ الطائفية بشكل خاص. ومع ذلك، مما زاد هذه السردية تعقيداً، ظهرت المظالم الداخلية الشيعية والسنية على هيئة احتجاجات، ولم يُلق المواطنون الغاضبون اللوم على "الآخر" فحسب بل على قياداتهم أيضاً. ويفتح هذا الموقف الباب أمام احتمالات السّياسات القائمة على القضايا issue-based politics.
من أين تنشأ الطائفيّة؟ مأسسة الطائفيّة في الدولة العراقية الجديدة
فى العام 2003، ادّعت الولايات المتحدة وحلفاؤها أنهم يريدون مواصلة تغيير النظام فى العراق من أجل الإطاحة بصدام حسين. في حين ذكرت مؤخرا وزيرة الخارجية السابقة كوندليزا رايس ما نصّه: "لم نذهب إلى العراق لتحقيق الديمقراطية في العراق، بل ذهبنا إلى العراق للإطاحة بصدام حسين".[2] وبدلا من إسقاط النظام فحسب، انتهى الأمر بالقوات الغازية إلى تدمير معظم جهاز الدولة أيضا، ووجدوا أنفسهم بحاجة إلى بناء دولة جديدة. وأصدر بول بريمر، الذي أصبح رئيسا سياديا فعليا للعراق بوصفه رئيسا لسلطة الائتلاف المؤقتة، قرارين بارزين حددا ملامح الدولة العراقية الجديدة. فقد حلّت سلطة الائتلاف المؤقتة حزب البعث الحاكم وأدى ذلك إلى طرد الآلاف من موظفي الخدمة المدنية ممن كانوا مسؤولين عن تسيير شؤون الدولة. كما أمرت سلطة الائتلاف المؤقتة بحل الجيش وهيئة الاستخبارات العراقية. قوّض هذان القراران أركان الدولة، وحوّل عملية تغيير النظام إلى تغيير للدولة.
منذ شهر حزيران/يونيه 2004، تولت نخبة جديدة من القادة العراقيين مسؤولية الحكومة. وخلال هذه العملية، برزت الطائفية كسمة أساسية للسياسة العراقية. وتم تحديد ملامح الدولة الجديدة من خلال خطوط توافقية، وهذا يعني أن أنصار الفاعلين السياسيين يحتشدون الآن على أساس طائفي أو إثني. وقامت تلك الثلة الحاكمة الجديدة بتشييد الدولة بين عامي 2003 و 2005.[3]
أصبحت الطريقة الأولى لمأسسة الطائفية تمر عبر الأحزاب التي بدأت حكم العراق بعد العام 2003. وكان معظم المعارضين السياسيين الذين تسللوا إلى الفراغ السياسي بعد العام 2003 قد أمضوا عقودا في المنفى (في إيران وسوريا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وأماكن أخرى). والحال كذلك، فإن كثيرا منهم لم يعمل كممثل للشعب العراقي على أرض العراق. وبدلا عن ذلك، استندت دوائرهم الانتخابية إلى جماعات متخيلة مرتبطة بهويتهم الطائفية أو السياسية. وهذا لا يعني أن الأحزاب الشيعية الكبرى لم توظف الخطاب الطائفي بشكل خاص قبل العام 2003، ولكن كان لديهم مكاتب سياسية ومجالس قيادية شيعية فقط. ومع انهيار الدولة العراقية، بدأت هذه الأحزاب وقتئذ الاعتماد على الهويات دون الوطنية لاكتساب الشرعية. في هذه المرحلة، اعتمدوا على السرديات الطائفية وسياسات الهوية التي ظهرت في مواجهة الدولة المنهارة. باختصار، تم حصر التعبئة السياسية في هذه الخطوط الحزبية. وكانت المكاتب السياسية لهذه الأحزاب تتشكل من ذات الطائفة.
خلال عملية بناء الدولة، بين عامي 2003-2005، ظلت القيادات الشيعية والأكراد تكتلات متجانسة في المفاوضات. بالنسبة إلى الشيعة، تضمنت الأحزاب السياسية الرئيسية المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي سمي لاحقا المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، وحزب الدعوة الإسلامية، وحزب الفضيلة الإسلامي. وتوحدت جميع المجموعات الشيعية الكبرى وشكلت الائتلاف العراقي الموحد (الذي سمي لاحقا الائتلاف الوطني العراقي). وتلقت هذه المجموعات دعما ضمنيا من آية الله العظمى علي السيستاني، القائد الروحي الرئيسي للشيعة العراقيين. ولذلك، ظلت الأحزاب الشيعية متحدة وعملت على تحقيق مصالحها في مقابل قائمة كردستان المنافسة (التي تكونت أيضا من دمج الأحزاب الكردية الرئيسية: الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني).
ومع ذلك، خلال هذه الفترة، صارعت القيادة السنية من أجل إيجاد تمثيل سياسي. وسمحت الانقسامات الداخلية السنية وجزء كبير من المعترضين السنّة، الذين رفضوا الانخراط في اللعبة الجديدة أو الاشتباك مع مفاهيم مثل الفيدرالية، للشيعة والأكراد ببناء الدولة الجديدة بأقل قدر ممكن من المشاركة السنيّة[4]. بينما تمثلت الطريقة الثانية لمأسسة الطائفية في نظام المحاصصة، الذي كان يهدف إلى تشكيل حكومة شاملة من شأنها أن تمثل جميع الهويات العرقية-الطائفية في العراق. وعلى الرغم من الهدف الذي يبدو نبيلا المتمثل في محاولة إيجاد تمثيل عابر للعرق والطائفة، فقد مأسس ذلك سياسات الهوية. فالتقسيم الكبير للكعكة يقتضي تقسيم مناصب الدولة، وبالتالي تقسيم الموارد، وباقي خطوط المجتمع. وبموجب نظام المحاصصة الجديد، نظرت كل قيادة إلى وزارات ووظائف الدولة كوسيلة للوصول إلى المال والسلطة لتوزيعها بطريقة زبائنية. وبذلك، أصبح في الدولة وظائف لقادة الشيعة والسنة والأكراد، وأصبحت هذه القيادات جميعا ثرية للغاية في عراق ما بعد 2003.
ومن أجل الحفاظ على الشرعية، وضمان استمرار الوصول إلى الموارد، واصلت تلك القيادات إنفاذ سياسات قائمة على الهوية. وهكذا، خيَّم التنازع بين الطوائف المحلية على عملية بناء الدولة. وحاز السياسيون الأصوات الانتخابية من خلال طوائفهم الخاصة، كما لعبوا بورقة التهديدات الخارجية تجاه هذه الطوائف.
التمثُّل الثالث للطائفية المُمَأسسة في عراق ما بعد 2003 هو مسألة اجتثاث البعثية de- Baathification. على الرغم من كوننا في العام 2017، أي بعد مضي 14 عاما على تغيير النظام، إلا أن الحكومة العراقية لا تزال تستضيف هيئة تعمل على اجتثاث حزب البعث. وبالنسبة إلى بعض القيادات الشيعية، كان ذلك يعني تصوير المعارضين المحتملين من السنّة على أنهم "بعثيون" أو عملاء مدعومين من دول الخليج. وبدأ نوري المالكي، خلال ولايته الثانية كرئيسا لمجلس الوزراء (2010-2014)، في استهداف المعارضين السنة، مثل نائب الرئيس طارق الهاشمي ووزير المالية رافع العيساوي. وهكذا، تم استخدام آلية مشروعة كوسيلة للنيل من المعارضين المحتملين ومن أبناء الطائفة السنية تحديدا.
بينما كانت العسكرة هي الطريقة الرابعة لمأسسة الطائفية. مرة أخرى، عبَّدت دولة ضعيفة الطريق أمام الجماعات شبه العسكرية والميليشيات السنية والشيعية على السواء. وفي شباط/ فبراير عام 2006، أدى هجوم على مسجد العسكري، أحد أقدس مراقد الإسلام الشيعي، إلى إشعال حرب أهلية طائفية. وتم اتهام تنظيم القاعدة في العراق بتدبير الحادث، وتنظيم القاعدة في العراق هو منظمة سلفية جهادية ذات صلات ضعيفة بتنظيم القاعدة المركزي ولكنه تنظيم قويّ في مواجهة النفوذ الشيعي والإيراني المتنامي في العراق. من ناحية أخرى، بدأت الجماعات شبه العسكرية الشيعية المرتبطة بفيلق بدر وجيش المهدي تنفيذ عمليات العقاب خارج إطار القانون، وليس من خلال أجهزة الأمن في الدولة. وخلال الحرب الأهلية 2006- 2008، تم ارتكاب الأعمال الوحشية الطائفية من قبل الجانبين.[5]
أدى فشل القطاع الأمني للدولة إلى الاعتماد على الجماعات شبه العسكرية والجماعات المسلحة التابعة للدولة، والتي تم تحديدها مرة أخرى بناءً على خطوط الهوية. وأصبح جيش المهدي ميليشيا ذات أغلبية شيعية ترتكب فظائع ضد السنة (وكذلك الشيعة). بينما حاول تنظيم القاعدة في العراق، وتنظيم الدولة الإسلامية في وقت لاحق، تمثيل السنّة من خلال استهداف الجماعات الدينية غير السنية، سواء كانت شيعية (مثل مجزرة معسكر سبايكر) أو إيزيدية أو مسيحية.
وقد أدى ظهور قوات الحشد الشعبي، التي أنشأها رئيس الوزراء السابق المالكي بدعم من فتوى آية الله العظمى علي السيستاني، إلى قيام الدولة بالاعتراف بعدد كبير من الميليشيات وشرعنتها. واستخدمت بعض ميليشيات قوات الحشد الشعبي خطابا طائفيا. على سبيل المثال، ادعى قيس الخزعلي، الذي يتزعم عصائب أهل الحق، أن معركته لاستعادة الموصل من داعش كانت "انتقاما لمقتل الإمام الحسين وتمهيدا لدولة العدل الإلهي".[6]
مسائلة استمرار الطائفية (الخلافات البينية الطائفية)
جادلت الورقة حتى الآن بأن الطائفية نشأت عن إخفاقات بناء الدولة في عراق ما بعد عام 2003. ولكن في الوقت نفسه، غالبا ما يوجد قصور في تحليل ديناميكية التباين داخل الطائفة الواحدة. فالكتل السياسية القائمة على الهويات التي سعت إلى بناء الدولة كانت متماسكة بشكل مؤقت. وقد تصاعدت حدّة النزاعات الداخلية على السلطة والموارد على كافة المستويات، مما أدى إلى تعقيد السردية البسيطة للتنافس السني-الشيعي. فعلى سبيل المثال، يكشف استطلاع للرأي، سينشر قريبا، أجراه المعهد الوطني الديمقراطي أنَّ في شهر نيسان/أبريل 2017، كان التحدي الأكثر أهمية بالنسبة إلى 43٪ من العراقيين هو الفساد، في حين حلت مسألة الطائفية في المرتبة الرابعة، حيث اعتبرها 15٪ فقط من العراقيين أولوية قصوى.[7]
بعد إجراء الانتخابات البرلمانية الأولى في العام 2005، بدأت الأحزاب الشيعية المختلفة تتنافس مع بعضها البعض للحصول على المقاعد. وفي الانتخابات البرلمانية لعام 2010، قرر رئيس الوزراء نوري المالكي الانشقاق عن الائتلاف العراقي الموحد (المُسمّى الآن الائتلاف الوطني العراقي) الذي ضم جميع التكتلات الشيعية الرئيسية في العام 2005، وشكّل ائتلاف دولة القانون، القائم في الأساس على حزب الدعوة، الذي كان المالكي عضوا فيه لفترة طويلة. بعد ذلك، وخلال انتخابات العام 2014، أمعنت الكتلة الشيعية في الانقسام حيث انقسمت إلى ائتلاف دولة القانون وكتلة الأحرار الصدرية وائتلاف عمار الحكيم ‘المواطن‘. وبصرف النظر عن فترة ما بعد الغزو مباشرة، لم يكن قادة الشيعة صوتا موحدا بل نافس بعضهم بعضا على الأصوات الانتخابية.
اتخذ الصراع داخل الكتلة الشيعة منحى عنيفا في بعض الأحيان. في عام 2008، أطلق المالكي عملية عسكرية بالتعاون مع الجنرال الأمريكي ديفيد بيتروس للتصدي للميليشيات الشيعية في البصرة وجنوب العراق. وعلى هذا النحو، اندلع صراع بينيّ شيعي عندما سعى المالكي إلى صدّ التيار الصدري. وقد اضطر الصدر للبحث عن منفى مؤقت فى إيران.
ومؤخرا، ثمّة ظاهرتان تتحديان السردية التي تركز على طائفية عراق ما بعد 2003 من خلال صرف التركيز إلى المشاكل القائمة داخل الطائفة الواحدة والعرق الواحد: حركة احتجاجات ما بعد عام 2011 ، والصراع بشأن قوات الحشد الشعبي.
أولا، تمثل حركة الاحتجاجات بدايات التحول من السياسة القائمة على الهوية إلى السياسة القائمة على القضايا. في بغداد وجنوب العراق، احتج المواطنون الشيعة على قياداتهم الشيعة منذ تموز/يوليو 2015.[8] وفي السليمانية وغيرها من إقليم كردستان، يستمر الأكراد في الاحتجاج ضد زعمائهم الأكراد منذ عام 2009، عندما برزت حركة غوران (التغيير) كحركة مناهضة للحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني. وقد سلطت هذه الاحتجاجات الضوء على أن القادة الطائفيين يجدون صعوبة في بعض الأحيان في تطييف السياسة كليا بالنسبة إلى طائفتهم تحديدا، أي الفشل في توظيف الطائفية لضمان تأمين الولاءات السياسية. والأهم من ذلك، أن هذه الخلافات البينية داخل الطوائف اندلعت على الرغم من التهديد الذي تشكله داعش، التي تحتل ما يقرب من ثلث أراضي العراق وسعت إلى استغلال حالة التوترات الطائفية.
وفي احتجاجات بغداد، أصبح شعار "الإرهابي يساوي الفاسد" شائعا. الكثير من المتظاهرين أقل اهتماما بالسرديات الطائفية وأكثر اهتماما بالحصول على خدمات أفضل وتمثيل من الحكومة المركزية. في كانون الأول/ديسمبر 2016، على سبيل المثال، قطع المتظاهرون الشيعة الطريق على المالكي في البصرة حيث كان من المفترض أن يتحدث في لقاء مقرر إلى قادة سياسيين وعشائريين مؤثرين.[9] وفي أماكن أخرى أثناء الاحتجاجات، هتف المتظاهرون ضد إيران، وهي خطوة أخرى في الابتعاد عن مركزية السردية الشيعية.[10] أما رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي عاد في عام 2011 بعد فراره، يتطلع حاليا إلى أن يصبح قائدا للحركة الاحتجاجية، وخطابه الآن هو "نحن جميعا عراقيون". ويواصل الآن اعتماد خطاب مناهض لإيران ويعمل مباشرة ضد القادة الشيعة الآخرين، وعلى رأسهم المالكي وحلفائه المدعومين من إيران. علاوة على ذلك، يتطلع الصدر إلى تشكيل ائتلاف عابر للطائفية، كما فعل عندما انضم إلى قوات بقيادة الزعيم العلماني إياد علاوي والزعيم الكردي مسعود برزاني في العام 2012 لمحاولة الإطاحة بالمالكي من رئاسة الوزراء.
في المناطق السنية أيضا، تشير الدراسات الاستقصائية إلى تزايد سخط السكان ضد قادتهم الذين واصلوا العيش في "فيلات" في أربيل وعمان وغيرهما من أماكن المنطقة، في حين عانى السكان من وطأة حكم تنظيم الدولة الإسلامية.[11] وبذلك، لم تعد هذه الاحتجاجات تستهدف الحكومة المركزية في بغداد فحسب، بل ربما تركز أيضا على التناقضات داخل الطائفة السنّية وخاصة النخبة السنية نفسها من القادة السياسيين والعشائريين والدينيين الذين لم يتمكنوا من تقديم الخدمات وتمثيل الناخبين بشكل مرض منذ عام 2003.
ثمّة توجه رئيسي آخر يسلط الضوء على الخلافات البينية الشيعية وهو ظهور قوات الحشد الشعبي. فعلى الرغم من كونها غالبا ما تُصوَّر في وسائل الإعلام بوصفها جماعة واحدة -"الميليشيات الشيعية الطائفية"- إلا أن قوات الحشد الشعبي تنظيم متداخل معقد يتكون من أكثر من 60 ميليشيا شبه عسكرية.[12] الأكثر أهمية من ذلك، وبعيدا عن مسألة تجانس التنظيم، فإنه يمثل الصراع الشيعي الداخلي من أجل السلطة. ويمكن تقسيم الفصائل العديدة التي تشكّل قوات الحشد الشعبي إلى ثلاث فصائل فرعية متمايزة، استنادا إلى ولاءات كل فصيل منهم سواء إلى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، أو آية الله العظمى علي السيستاني، أو مقتدى الصدر.
وتتنافس هذه الفصائل الثلاث مع بعضها البعض على السلطة والموارد ولها مصالح وأجندات متباينة. على سبيل المثال، يتنافسون على دفع الرواتب، حيث تمتلك الفصائل الموالية لخامنئي حرية السيطرة على المخصصات المالية التي تدفعها الحكومة كونها تسيطر على هيئة الحشد الشعبي المكلفة بتوزيع الرواتب. بينما تتذمر الفصائل الموالية للصدر والسيستاني من عدم منحهم حصة عادلة.[13]
علاوة على ذلك، ترغب فصائل السيستاني والصدر في انضمام قوات الحشد الشعبي إلى القوات المسلحة العراقية في المستقبل. ومع ذلك، فإن القادة المدعومين من خامنئي، مثل المالكي، وهادي العامري، والخزعلي، يسعون إلى توظيف قواتهم شبه العسكرية من أجل الطموحات السياسية. كلٌ من العامري والخزعلي نواب في البرلمان، ويسيطر الأخير على وزارة الداخلية.[14]
باختصار، التركيز الطائفي ليس هو الأداة الوحيدة التي يمكن استخدامها عند تحليل موقف قوات الحشد الشعبي، وهي مجموعة ميليشيات ذات أغلبية شيعية. فالخلافات الشيعية الداخلية مسألة أساسية أيضا (على سبيل المثال، يشير الصدر إلى الميليشيات المتحالفة مع المالكي بأنها ميليشيات وقحة).[15] وفي الانتخابات المحلية والبرلمانية المقبلة، من المرجح أن تتطلع هذه الفصائل المختلفة إلى التنافس ضد بعضها البعض من أجل الحصول على أصوات الناخبين ثم في عملية تشكيل الحكومة. وسوف تكون فصائل قوات الحشد الشعبي ودورها في محاربة داعش مؤشرا هاما في ترجيح كفة من يأتي أولا.
خاتمة
يعكس الصعود البطيء للاعتبارات القائمة على القضايا الفشل المستمر لبناء الدولة في عراق ما بعد 2003. ومع ذلك، يكشف أيضا عن حدود سياسات الهوية بعد عام 2003. أصبحت الهويات الطائفية مسألة ضمنية في مؤسسات الدولة، سواء في السلطات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية للحكومة، أو الأجهزة الأمنية، واللجان المستقلة التي تشمل لجان الانتخابات والنزاهة وحقوق الإنسان، أو البنك المركزي. وأدى فشل الدولة وسياسات الهوية إلى ظهور حركة احتجاجية تدعو إلى إنهاء المحاصصة الطائفية والفساد رغم الانتماء الطائفي.
وعلى الرغم من سيطرة السياسيين الشيعة على المشهد السياسي في بغداد بعد عام 2003، كان السنة والأكراد أيضا جزءا من الحكومة في أوقات مختلفة. ومع ذلك، تكمن مشكلة التمثيل السياسي والشرعية في خلفية المشهد. وفي عراق ما بعد داعش، قد يتقلص دور الطائفية في تهميش طائفة لصالح أخرى (تهميش السنة من قبل الشيعة بشكل أساسي منذ عام 2003) ويتعاظم دورها بحيث تُوظَّف من قبل بعض الفاعلين للوصول السلطة ومحاولة خلق تكتلات انتخابية موالية. ومع ذلك، فإن غياب التكتلات المتجانسة يعني أن التنافس الداخلي الشيعي والسني سوف يعقّد السردية الطائفية التي تبدو بسيطة.
توصيات للاتحاد الأوروبي
- التركيز على إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية عن طريق مكتب رئاسة الوزراء الذي لازال في حالة تنافس مع الجهات الفاعلة غير الحكومية والإقليمية والدولية. ويسعى رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى التوصل إلى حلول وسط مع طيف واسع من الفاعلين ذوي النفوذ في العراق، ولكنه بحاجة إلى دعم لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
- دعم مطالب المتظاهرين العراقيين المتطلعين إلى مزيد من الشفافية والمساءلة. يعتقد معظم العراقيين الآن أن الفساد، وليس الطائفية، هو الذي أدى إلى ظهور داعش. وهكذا، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يكون حذرا من الوقوع في معضلة بناء الدولة الدولية بدعم القادة الفاسدين. جزء من هذه المشكلة ينطوي على تحديد القيادات الشرعية، على ما في ذلك من صعوبة.
- دعم إصلاح القطاع الأمني في أعقاب معركة تحرير الموصل. وسوف تشمل هذه العملية العمل على إدماج العديد من الفاعلين غير الحكوميين في مجال الأمن، بما في ذلك قوات الحشد الشعبي ذات الأغلبية الشيعية والقوات العشائرية السنية. ويجب أن يتم هذا الاندماج على المستوى الفردي، لا الجماعي، من أجل تجنب توزع الولاءات بين الدولة والانتماء شبه العسكري.
- دعم الحوار بين الحكومة المركزية ومجالس المحافظات. على سبيل المثال، يجب العمل على تحسين العلاقات بين بغداد وحكومة إقليم كردستان لتجنب وقوع النزاعات العنيفة المحتملة في المناطق المتنازع عليها في شمال العراق وضمان حل مشاكل تقاسم العائدات. كما توجد حاجة أيضا إلى تعزيز علاقات بغداد مع المحافظات الأخرى.
- التصرف بمثابة بديل عن المنافسة الأمريكية الإيرانية التقليدية في العراق. حيث ينظر العراقيون إلى كل من الولايات المتحدة وإيران باعتبارهما فاعليْن إشكاليين يتدخلان في الشؤون الداخلية لبغداد. على هذا النحو، هناك مجالا يسمح للاتحاد الأوروبي بدعم عملية إعادة بناء الدولة باعتباره فاعلا دوليا أقل تورطا في المنطقة.
الهوامش:
[1] نادر هاشمي وداني بوستيل، تطييف: رسم خرائط السياسات الجديدة في الشرق الأوسط (لندن، 2017).
[2] Tom O’Connor, “U.S. Wars in the Middle East Were Not Supposed to Bring Democracy,” Newsweek, 12 May 2017, (accessed 23 May 2017).
[3] Toby Dodge, “Iraq: The Contradictions of Exogenous State-Building in Historical Perspective,” Third World Quarterly 27 (2006): 187-200; Charles Tripp, “The United States and state-building in Iraq,” Review of International Studies 30 (2004).
[4] Fanar Haddad, “Shia-Centric State Building and Sunni Rejection in Post-2003 Iraq,” Carnegie Endowment for International Peace, 7 January 2016, (accessed 23 May 2017).
[5] Fanar Haddad, Sectarianism in Iraq: Antagonistic Visions of Unity (London: Hurst, 2011)
[6] Middle East Eye, “Shia militia leader vows 'revenge for Hussein' in Mosul battle,” 12 October 2016, (accessed 23 May 2017).
[7] Greenberg Quinlan Rosner Research, "Improved Security Provides Opening for Cooperation: March - April 2017 Survey Findings," National Democratic Institution (NDI), forthcomig.
[8] Faris Kamal Nadhimi, The Psychology of Protest in Iraq: The Decline of Islamism and the Emergence of National Identity (sikalujiya al-ihtijaj fi al-iraq) (Baghdad: Dar Sutour, 2017).
[9] Middle East Online, “Protests Prevent Maliki from Moving in the Most Important City in the South,” (al-ihtijajat tamna' al-maliki min al-taharruk fi aham mudun al-janub), 11 December 2016 (accessed 23 May 2017).
[10] Ali Mamouri, “Why Shiites are divided over Iranian role in Iraq,” Al-Monitor, 12 May 2016, (accessed 23 May 2017).
[11] راجع:
Greenberg Quinlan Rosner Research, "Improved Security Provides Opening for Cooperation: March - April 2017 Survey Findings," National Democratic Institution (NDI), forthcoming.
[12] Jack Watling, “The Shia Militias of Iraq,” Atlantic, 22 December 2016, (accessed 23 May 2017).
[13] Renad Mansour and Faleh Jabar, “The Popular Mobilization Forces and Iraq’s Future,” Carnegie Endowment for International Peace, 28 April 2017, (accessed 23 May 2017).
[14] Kirk Sowell, “Abadi and the Militias’ Political Offensive,” Carnegie Endowment for International Peace, 14 May 2015, (accessed 23 May 2017).
[15] ."Mansour and Jabar, “The Popular Mobilization Forces and Iraq’s Future
مصطفى الفقي
كاتب ومترجم مصري.
كاتب ومترجم مصري.
تحميل المادة بصيغة PDF:
- الرابط (1154 تنزيلات)
ريناد منصور
حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة كامبريدج وهو زميل برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في Chatham House. تركز أبحاثه على استكشاف آفاق عملية التحول في العراق والمعضلات التي تفرضها عملية بناء الدولة. وهو أيضا محاضر زائر في كلية لندن للإقتصاد يحاضر عن العلاقات الدولية في الشرق الأوسط. كما يعمل باحثا في مركز كارنيغي للشرق الأوسط وحائز على منحة العريان.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.