من "سوريا الشمالية" إلى "سوريا الجنوبية": مسؤولية النخبة السياسية عما حدث في لواء اسكندرون وفلسطين (3-3)

11 حزيران/يونيو 2017
 
ماذا سيحلّ بالشوارع والمدارس التي تحمل اسم نسيب البكري؟
 
بعد صمت نسبي بدأت تظهر مؤخرا في اللغة العربية بعض الكتب والدراسات التي تتعلق بالعلاقات العربية- الصهيونية المبكرة،
أو محاولات الحركة الصهيونية الحديثة التي تمخضت عن مؤتمر بال 1897 بإحداث اختراق في المحيط العربي لفلسطين لكي يساعدها في إنجاز هدفها (تأسيس دولة يهودية في فلسطين) خلال خمسين عاما، وهو ما حدث بالضبط في 1947 مع صدور قرار الأمم المتحدة الذي نصّ على دولة يهودية وعلى دولة عربية في فلسطين.

وقد أحسن الباحث الفلسطيني د. الياس شوفاني (1933-2013) ، بعد بداية أكاديمية واعدة في الولايات المتحدة وانكفاءه في ساحة النزاعات الفلسطينية- الفلسطينية ما بين بيروت ودمشق ، بمبادرته في ترجمة بعض الكتب من اللغة العبرية التي يعرفها جيدا التي تتعلّق بالعلاقات العربية- الصهيونية المبكرة التي سبقت 1948 ، والتي شملت مجالين مهمين : اختراق الشخصيات والأحزاب السياسية في المحيط العربي لفلسطين (شرق الأردن ولبنان وسوريا) لتحييدها أو لتخفيف معارضتها لمشروع الدولة اليهودية في فلسطين ، وامتلاك أكبر قدر من الأراضي من العائلات السورية واللبنانية التي كانت تمتلك مساحات واسعة من الأراضي في فلسطين.
 
وفي هذا السياق كان الكتاب الأول "العرب والصهيونية: الرؤية الاسرائيلية" للمؤلف يوسف لمدان (دمشق 2010) الذي كان قد صدر عن "الأكاديمية القومية الاسرائيلية للعلوم" في القدس عام 1989. وفي هذا الكتاب يستعرض المؤلف، بالاستناد إلى المصادر الاسرائيلية، المحاولات الصهيونية المبكرة للوصول الى "تفهم عربي" ثم إلى "اتفاق عربي- صهيوني" وصولاً إلى "المؤتمر العربي الأول" في باريس 1913، الذي حضره المبعوث الصهيوني سامي هوخبرغ كمراقب وعاد منه مرتاحا بتصريح من رئيس المؤتمر الشيخ عبد الحميد الزهراوي يؤيد فيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبار أن "اليهود في كل العالم ليسوا سوى مهاجرين مثلهم مثل المهاجرين السوريين المسيحيين في أمريكا". ومن الطبيعي أن هذه المعلومة وغيرها لا ترد في الكتب التي تستعرض أو تمجد "مؤتمر باريس" 1913.

ومن ناحية أخرى فقد ركزت الحركة الصهيونية على ما انبثق من مؤتمر باريس، وبالتحديد الثورة العربية التي قادها الشريف حسين على الحكم العثماني لأجل إنشاء دولة عربية بناء على وعود بريطانية غامضة. ومن هنا رأى رئيس المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان المسارعة لإنجاز اتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين الذي كان في طريقه الى دمشق لإعلان إنشاء الحكومة العربية هناك بناء على فهم الشريف والأمير لوعود بريطانيا. وهكذا فقد التقى وايزمان الأمير فيصل في العقبة في حزيران/ يونيو 1918، وبعد إعلان الأمير فيصل للحكومة العربية في دمشق في تشرين الأول / أكتوبر 1918 توجّه إلى لندن في طريقه إلى باريس للمشاركة في مؤتمر الصلح باسم والده. وخلال وجوده في لندن أخذ الأمير فيصل يعطي إشارات إلى مدى انفتاحه على المشروع الصهيوني الجديد.
 
اذ نشرت له صحيفة "التايمز" في 12/12/1918 تصريحا لوكالة رويتر جاء فيه أنه "بعد تبادل الآراء في مؤتمر الصلح، الذي يسترشد بمبادئ حق تقرير المصير، ستتقدم كل من الأمتين (العربية واليهودية) بنجاح حول تحقيق طموحاتها". وفي هذا السياق جرى اللقاء الأهم بين الأمير فيصل وحاييم وايزمان الذي تمخض عن توقيع اتفاقية فيصل – وايزمان في كانون الثاني/ يناير 1919 التي تضمنت عدة بنود من أهمها:

  • الاتفاق على الحدود بين الدولة العربية وفلسطين.
  • عند وضع دستور لإدارة فلسطين تتخذ جميع الاجراءات التي من شأنها تقديم أوفى الضمانات لتنفيذ وعد الحكومة البريطانية (وعد بلفور) الموقع في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917.
  • اتخاذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدى واسع والحث عليها بأقصى ما يمكن من السرعة لاستقرار المهاجرين من الأرض.

ونظراً لأن "الدولة العربية" لم تكن مضمونة بعد في ظل اتفاقية سايكس – بيكو، وهو ما كان واضحاً في أروقة مؤتمر الصلح في باريس، فقد وضع الأمير فيصل تحفظه المعروف بالعربية على هامش الاتفاقية الذي ربط فيه تنفيذ هذه الاتفاقية بشرط حصول العرب على استقلالهم، وهو ما لم يتحقق بعد معركة ميسلون في تموز/يوليو 1920 التي أسقطت الدولة العربية التي أُعلن استقلالها في 8 آذار/ مارس 1920 واختيار الأمير فيصل ملكاً دستورياً عليها.

أما الكتاب الآخر الذي ترجمة شوفاني عن العبرية فقد صدر أيضاً في دمشق عام 2010 بعنوان "مذكرات سمسار أرض يهودية" ليوسف نحماني، ولم يلفت الانتباه على الرغم من أهميته ربما لكونه صدر عشية "الربيع العربي" الذي آل إلى ما آل إليه. وفي الحقيقة إن الكتاب عبارة عن يوميات ناشط يهودي كان يعمل في "الصندوق القومي اليهودي" وبرع في شراء الأراضي من العائلات السورية واللبنانية التي كانت تملك مساحات كبيرة من الأراضي في فلسطين، واتخذ مقراً له في طبريا ليكون على مقربة من هذه العائلات الكبيرة المقيمة في بيروت ودمشق. ونظراً لأنه ترك يومياته الحافلة باللقاءات والصفقات كما هي فقد قام صديقه يوسف فايتس بتحريرها وإصدارها عام 1969. وعلى الرغم من أهمية الكتاب فقد بقيت معرفته محصورة بحلقة ضيقة من المعنيين الفلسطينيين، وقد كان من سوء حظه أيضا أن يصدر في دمشق 2010 ليلقى مصير الكتاب الأول.

في هذا الكتاب لدينا تفاصيل اللقاءات والصفقات مع العائلات الكبرى اللبنانية والسورية التي كانت تشكل حاضنة للنخبة السياسية الجديدة في لبنان وسورية (آل سلام والأسعد وتويني وبيهم والصباغ والأحدب وغيرها في لبنان، وآل القوتلي والشمعة والمارديني واليوسف وغيرها في سوريا). ومن هذه العائلات لدينا شخصيات مهمة كانت متعاونة مع يوسف نحماني مثل الأمير خالد شهاب وخير الدين الأحدب في لبنان وأمير عشائر الفاعور في سوريا وغيرهم. ويكفي هنا القول أن "الصندوق القومي اليهودي" اشترى من هذه العائلات أكثر من مليون دونم حتى 1947 بنيت فيها عشرات المستوطنات التي تحولت إلى الأرضية المؤسسة للدولة اليهودية التي أعلنت ليلة 14 أيار 1948.

وعلى حين أن هذه الكتب وغيرها تعبّر عما هو موجود من مصادر إسرائيلية لدينا في الفترة الأخيرة نتاج لجيل جديد من المؤرخين الفلسطينيين (محمود محارب وعبد الحميد الكيالي الخ) الذين يتميزون بتكوين منهجي ونتاج متميز في الدراسات التاريخية نتيجة لمعرفتهم باللغة العبرية (وغيرها) والمصادر الإسرائيلية (الأرشيف الصهيوني المركزي وأرشيف الصحافة اليهودية التي واكبت إنشاء المستوطنات الخ). في هذا السياق تجدر الإشارة بشكل خاص إلى الدراسة الأخيرة لـ د. محارب التي نشرها في العدد الأخير من مجلة "أسطور" المتخصصة في الدراسات التاريخية (عدد 5، الدوحة 2017) والتي تكشف مدى الاختراق الصهيوني للنخبة السياسية في سورية سواء للكتلة الوطنية الحاكمة أو للمعارضة التي كان يقودها عبد الرحمن الشهبندر (1879-1940).

وفي الحقيقة كانت "الوكالة اليهودية" (التي تحولت الى حكومة في 15 أيار/ مايو 1948) مهتمة بإحداث اختراق في النخبة السياسية السورية (الموالاة والمعارضة) منذ صيف 1936، لحصار ثورة 1936 التي اندلعت في فلسطين على اعتبار أن دمشق كانت المصدر والمورد للرجال والسلاح. ولأجل ذلك فقد عقدت جولة أولى من المباحثات في صيف 1936 مع زعماء الكتلة السورية (شكري القوتلي وجميل مردم بك وغيرهما) ثم عاد الياهو ساسون (المولود في دمشق والمهاجر الى فلسطين في 1920 ليصبح مديرا لـ "القسم العربي" أو جهاز المخابرات في الوكالة اليهودية) في مطلع 1937 للقاء القوتلي ومردم بك بحجة تسليم محاضر اللقاء السابق. وقد سلّم ساسون مردم بك رسالة من حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية وموسى شرتوك رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية (التي تحولت الى وزارة الخارجية في 15/5/1948)، وقال مردم بك في هذه المناسبة إنه "مادام هناك رجل سياسي مثل وايزمان ورجل محنك مثل موشيه شرتوك.. فإنه متفاءل بأن قضية العلاقات بين العرب واليهود ستجد لها الحل المرغوب فيه". وفي هذا السياق أيضاً تم ترتيب اجتماع بين زعيم المعارضة عبد الرحمن الشهبندر وحاييم وايزمان في شباط/فبراير 1938.
 

جميل مردم بك

 ولكن النجاح الأكبر للوكالة اليهودية كان في تجنيد بعض الشخصيات السياسية والدينية والإعلامية لكي تورد معلومات عن جمع الأموال وتهريب السلاح الى فلسطين وتخفف من تأييد السوريين للثورة في فلسطين. ولا شك أن "الصيد الأكبر" للوكالة كان الشخصية العروبية نسيب البكري (1888-1966) الذي أصبح من قادة الكتلة الوطنية في سوريا. فقد شارك البكري في تأسيس جمعية "العربية الفتاة" وأصبح سكرتيراً لها والتحق بالثورة العربية ليصبح مستشار الأمير فيصل، ثم برز في الحركة الوطنية في سوريا ليشارك في تأسيس "الكتلة الوطنية" ويصبح نائباً في البرلمان ووزيراً في عدة حكومات للعدل والزراعة والاقتصاد. اذ قبل البكري منذ شباط/ فبراير 1938 بالتعاون مع "الدائرة العربية" (جهاز المخابرات) للوكالة اليهودية مقابل مبالغ سخية لإرسال تقارير وافية عن جمع الأموال والسلاح وطرق ومواعيد انطلاق القوافل إلى فلسطين ليكون في انتظارها هناك القوات اليهودية.

وبفضل المبالغ السخية التي كان يتلقاها فقد جنّد البكري ثلاثين رجلاً لكي يأتوه بأخبار جمع التبرعات وشراء السلاح وطرق ومواعيد تهريبه الى فلسطين، كما استفاد البكري من كون أخيه مظهر البكري مديراً لشرطة دمشق فوضع في تصرفه عشرين مخبراً لمساعدته في مهمته لصالح الوكالة اليهودية. وبالاستناد إلى التقارير المفصلة التي كان يرسلها البكري بشكل دوري فقد أصبحت أجهزة الوكالة الأمنية والعسكرية على علم دقيق بأماكن شراء السلاح من الدول المجاورة (لبنان والعراق واليونان وألمانيا.. الخ) وطرق تهريبه إلى دمشق ثم أسماء الرجال والسائقين وطرق ومواعيد التهريب إلى فلسطين الخ. ولا شك أن مثل هذه المعلومات كانت مهمة بالنسبة للوكالة اليهودية لكي تقلّل من حدة الثورة خلال 1938-1939.

ومع الكشف الآن عن التقارير التي كان يرسلها نسيب البكري إلى الياهو ساسون في "المكتب العربي" للوكالة اليهودية والتي أضرّت بثورة 1936-1939 في فلسطين يطرح السؤال: ما الذي سيحدث مع الشوارع والمدارس التي تحمل اسم نسيب البكري سواء في "سوريا الشمالية" أو في "سوريا الجنوبية"؟
محمد م. الأرناؤوط

مؤرخ كوسوفي / سوري ، اشتغل في جامعة بريشتينا وفي عدد من الجامعات الأردنية (1974-2017) . يشتغل في تاريخ بلاد الشام والبلقان خلال الحكم العثماني والعلاقات العربية- البلقانية . من مؤلفاته "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر" و "دراسات في بلاد الشام في القرن السادس عشر" و "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920" و "ودراسات في الصلات العربية – البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" و"البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الخ .

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.