من الأرشيف الشخصي لمحسن البرازي (1902-1949): من الأكاديميا إلى رئيس حكومة الانقلاب العسكري الأول في سوريا (2-3)

14 آب/أغسطس 2017
 
تعود أصول أسرة البرازي (ذات الجذور الكردية) إلى جنوب شرق الأناضول وأصبحت في العقود الأخيرة للحكم العثماني من أكبر الأسر الاقطاعية في سوريا الوسطى (حماة) ومن الأسر التي برزت بقوة في الحياة السياسية الجديدة لسورية منذ 1918 (الحكومة العربية والانتداب ثم الاستقلال) على اختلاف توجهات الشخصيات البارزة فيها التي جمعت بين التقليدية والحداثة، بين القومية والوطنية، بين التعاون مع الانتداب والنشاط ضده، بين التعاون مع الانقلاب العسكري الأول لحسني الزعيم في 1949 وبين رفضه.
وإذ كانت هناك من مفارقة مُرّة في 14 آب 1949 فهي تتمثل في وجود رئيس الحكومة السابق حسني البرازي في سجن المزة ووجود ابن عمّه محسن البرازي رئيساً للحكومة، حيث تم في ذلك اليوم إعدام الثاني بالقرب من سجن المزة وخروج الأول من السجن مع نجاح الانقلاب الثاني الذي قاده سامي الحناوي.

وبالمقارنة مع الشخصيات الأخرى في هذه الأسرة كان محسن البرازي الأكثر ثروةً وثقافة والأعلى شهادة ً (دكتوراة في الحقوق من جامعة السوربون في 1929) ومناصب (أستاذ في معهد الحقوق بجامعة دمشق ثم وزير معارف ووزير داخلية ورئيس وزراء الخ)، ولكنه يمثل المصير الأكثر درامية بالنسبة للأسرة. فقد برز محسن البرازي ناشطاً عروبيا ًخلال دراسته في باريس 1922-1929 فترأس "الجمعية السورية العربية" في باريس وكتب بالفرنسية والعربية مطالباً بإنهاء الانتداب. وشارك في 1933 في مؤتمر قرنايل في لبنان لتأسيس "عصبة العمل القومي"، وهي الفترة التي أصبح فيها أكاديميا ًمعروفاً بعمله في معهد الحقوق ومؤلفاته في القانون، ولكن السياسة اجتذبته منذ 1941 ليصبح وزيرا للمعارف في حكومة خالد العظم الأولى ويتابع صعوده إلى أن أصبح رئيسا للوزراء في 1949.

وعلى الرغم من أهمية هذه الشخصية في الحياة الأكاديمية والسياسية في سوريا خلال الربع الثاني للقرن العشرين إلا أنها بقيت مغبونة وشبه مجهولة لاعتبارات كثيرة. ومن هنا يفيد الآن اكتشاف الأرشيف الشخصي لمحسن البرازي في الكشف عن جوانب جديدة لهذه الشخصية التي تستحق أكثر من ذلك، مع الأمل أن تكون هذه المادة المنشورة على ثلاث حلقات نواة لكتاب عنه.

2- من الأكاديميا إلى السياسة
خلال عمله في معهد الحقوق بالجامعة السورية اكتسب محسن البرازي سمعة أكاديمية بحكم تخرّجه من جامعة السوربون وتدريسه لعديد من المواد ومؤلفاته الرائدة عن تلك المواد ("الفقه المدني الفرنسي" و"الحقوق المدنية الفرنسية"  الخ) التي كانت تمثل مرجعية في اللغة العربية في تلك الفترة ، التي كانت تناقش فيها المفاوضات مع فرنسا والمعاهدة التي يفترض أن تحلّ محل الانتداب الفرنسي ، ومصير لواء الاسكندرون عبر حق تقرير المصير وصولا ًإلى الاستفتاء في الفترة (1936-1938) التي كان فيها ابن عمه حسني البرازي محافظاً على اللواء.

أما عن علاقة محسن البرازي بالسياسة فقد كانت متدرجة. فقد كان كما رأينا من المشاركين البارزين في "الجمعية السورية العربية" بباريس 1922-1929 وكان خلال رئاسته لها يلتقي النواب ويكتب للبرلمان الفرنسي عن حقوق السوريين بالحرية والاستقلال. وبعد عودته إلى سورية برز ضمن المشاركين في المؤتمر التأسيسي لـ “عصبة العمل القومي" في قرنايل بلبنان عام 1933.

ولكن المشاركة السياسية له بمعنى المشاركة في الحكومات السورية تأخرت حتى 1941 حين شكّل خالد العظم حكومته الأولى (4 نيسان/أبريل -21 أيلول/ سبتمبر 1941) التي دخل فيها د. محسن البرازي وزيراً للمعارف. وبحكم خلفيته الأكاديمية وعمله في التعليم كانت هذه الحقيبة الوزارية الأولى غير بعيدة عن طبيعته وسمعته مع أنها لم تستمر سوى خمسة أشهر تقريبا.

كانت سنة 1941 مهمة بالنسبة للتاريخ السوري المعاصر كما هو معروف. ففي مطلع حزيران من تلك السنة قام الحلفاء (بريطانيا و"فرنسا الحرة") بالهجوم على سوريا لانتزاعها من القوات الفرنسية الموالية لألمانيا النازية، التي استسلمت في 18/6/1941. ومع وصول ممثل "فرنسا الحرة" الجنرال كاترو إلى دمشق أعلن في 20/7/1941 عن أن الوقت قد حان للاعتراف باستقلال سوريا بالاتفاق مع النخبة السياسية السورية. وفي هذا السياق أعيد العمل بالدستور السوري المجمّد واختير تاج الدين الحسني رئيساً للدولة في 12/9/1941، وجرى في 28/9/1941 احتفال كبير بإعلان استقلال سوريا في دار البلدية بالمرجة، وهو المكان الذي جرى فيه إعلان استقلال "المملكة السورية" في 8 آذار/ مارس 1920. وقد سارعت بريطانيا ومصر إلى الاعتراف بسورية المستقلة، وبقيت بريطانيا تضغط على حليفتها "فرنسا الحرة" لإجراء انتخابات برلمانية، وهو ما تمّ في عام 1943 بعد الوفاة المفاجئة للرئيس تاج الدين الحسني. ونظراً لأن "الكتلة الوطنية" حققت فوزاً كبيراً في هذه الانتخابات فقد فتح ذلك الطريق لانتخاب مرشحها شكري القوتلي (1891-1967) رئيساً لـ “الجمهورية السورية" في 17/8/1943.

وإلى تلك السنة تعود النقلة الحقيقية للبرازي من الأكاديميا إلى السياسة بحكم العلاقة الوثيقة التي جمعته مع الرئيس القوتلي (وهو من أصل كردي أيضاً). فقد نقله القوتلي الى جانبه في القصر الجمهوري خلال 1943-1947، حيث عمل مستشارا ًقانونياً وأميناً عاماً للقصر ومبعوثاً خاصاً لرئيس الجمهورية إلى الدول العربية، حيث كان يحملّه رسائل خاصة إلى الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود في الفترة التي أخذ يتشكل فيها المحوران الجديدان: المحور الهاشمي (العراق والأردن) مع مشاريعه التي تشمل المنطقة (مشروع الهلال الخصيب ومشروع سوريا الكبرى) والمحور المعادي لذلك الذي أصبح يضم سوريا ومصر والسعودية. ومن الواضح هنا أن الثنائي القوتلي- البرازي كانا يمثلان التيار المعادي للمحور الهاشمي داخل النخبة السورية، التي وجد فيها من يتعاطف مع المحور الهاشمي ومشاريعه بمن فيهم ابن عمه حسني البرازي.

وبحكم موهبته في اللغة والأدب، وهو ما يستحق دراسة خاصة، فقد أصبح البرازي كاتب خطابات القوتلي في تلك الفترة العصيبة التي كان فيها التوتر سيّد الموقف سواء مع فرنسا أو مع العراق والأردن. ومن تلك الخطابات المهمة في الأرشيف لدينا مسودة الخطاب الذي ألقاه القوتلي في أول احتفال جرى بمناسبة جلاء القوات الفرنسية عن سوريا في 17 نيسان/ أبريل 1947، حيث تبدو في الصفحة الأولى (من أصل 18 صفحة) المنشورة هنا بعض الرتوشات التي أدخلت والتي تحمل مغزاها.

الصفحة الأولى من مسودة خطاب القوتلي بأول احتفال للجلاء،
تنشر لأول مرة على موقع معهد العالم للدراسات بالتعاون مع د. محمد م. الأرناؤوط
 
 
ومن سنوات القصر الجمهوري لدينا في الأرشيف وثيقة مهمة تنشر هنا لأول مرة ألا وهي استقالة البرازي المكتوبة بخط يده بعد خلافه مع رئيس الوزراء سعد الدين الجابري (1891-1948). ومن الملاحظ هنا أن لدينا أكثر من مسودة للاستقالة، حيث كان البرازي يتأنى في اختيار الألفاظ المناسبة، ثم انتهى الأمر إلى تقديم استقالتين: واحدة موجزة من ثلاثة سطور يدّعي فيها أن الاستقالة هي بسبب "الحالة الصحية"، وأخرى مطولة يشرح فيها الأسباب الحقيقة التي أرّخها في 7/10/1945. ومن الواضح هنا أن سبب الاستقالة كان اللقاء الذي جرى قبل ذلك التاريخ بعدة أيام ومع القوتلي والجابري والبرازي، حيث وجّه الجابري ألفاظاً مستفزة للبرازي اعتبرها ماسة بكرامته لأنه "لا يجوز أن يخاطب بها من كان مثلي وفي منصبي الرسمي ولاسيما في مجلس فخامتكم". ومع أنه صبر على "الطعنة" في حضور الرئيس وفشل بعد خروج الجابري في إقناع القوتلي بقبول استقالته فقد رأى أن يكتب للجابري عبارات مماثله لما تفوه به، وأعلم الرئيس القوتلي بذلك وترك له أن يعلن الاستقالة لـ "أسباب صحية" مع استعداده لقبول أي منصب آخر يراه القوتلي مناسباً له.

استقالة البرازي بخط يده الى الرئيس القوتلي،
وتنشر لأول مرة على موقع معهد العالم للدراسات بالتعاون مع د. محمد م. الأرناؤوط
 
ولكن هذا المنصب الجديد كان مفاجئا. ًاذ تم اختيار البرازي وزيراً للداخلية في حكومة جميل مردم بك (1894-1960) التي استمرت من 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1947 إلى 19 آب / أغسطس 1948. ومن هذه الفترة بالذات لدينا وثائق مهمة في الأرشيف. فقد كانت تصل للوزير في مغلفات خاصة موجودة في الأرشيف تقارير المخبرين سواء من داخل سوريا أو من الدول العربية المجاورة، ويبدو أن الوزير كان يأخذ نسخة منها (النسخة الثانية للتقارير المطبوعة على الانديغو) في ذلك الوقت.

وواضح من هذه التقارير أن عمل الوزارة كان يركز على متابعة أحزاب بعينها في سوريا (حزب البعث الخ) وعلى أوضاع السلطة والمعارضة في العراق والأردن بحكم الخلاف بين المحورين المذكورين الذي وصل إلى ذروته خلال 1947-1948. ومن هذه الوثائق أو تقارير المخبرين لدينا واحدة بعنوان "الموظفون المنتسبين لحزب البعث بحمص" التي يرد فيها اسم شاكر الفحام (1921-2008)، الذي أصبح لاحقاً مثل البرازي سفيراً ثم وزيراً للتعليم.


من التقارير المرفوعة إلى وزير الداخلية محسن البرازي في عام 1947،
وينشر لأول مرة على موقع معهد العالم للدراسات بالتعاون مع د. محمد. م الأرناؤوط
 
 ومما يلاحظ أيضاً أن الاهتمام كان كبيراً بالوضع الداخلي للأردن بسبب التوتر بين البلدين الذي وصل إلى ذروته آنذاك، وبالتحديد عن أحوال النخبة المحيطة بالملك عبد الله بن الحسين (1882-1951) وما بينها من اختلاف وسعي كل شخص إلى التخلص من الآخر ونشر بيانات كاذبة وتحقيقات عن فضائح تمس بعض أفراد هذه النخبة، وعلاقة كل هؤلاء مع بريطانيا وتحرك الضباط الانكليز والقوات العسكرية الخ. ومن ذلك لدينا تقرير بتاريخ 20/12/1947 عن الخلاف المتنامي بين وزير المالية سليمان النابلسي ورئيس الوزراء سمير الرفاعي، وقيام الرفاعي وأخوته بالإيعاز لأعوانهم بنشر نداء "موقع بإمضاء الرأي العام" يتضمن اتهامات للنابلسي بأنه نهب أموال الأمة ويعمل ضد مصلحة الملك ورئيس الحكومة، وأرسل هذا "النداء المصطنع" إلى الملك وكبار رجال الدولة والشعب في البريد. وينتهي كاتب التقرير إلى أن الملك سيقوم تقريباً بتعديل وزاري يخرج فيه النابلسي من الحكومة، وهو ما حصل لاحقاً.

ومن هذه التقارير لدينا أيضا ً واحداً يحمل الكود الخاص بكاتبه (رقم 381) ويعود إلى تاريخ 20/12/1947، اذ يرد فيه أن "قيادة القوات العسكرية البربطانية ومشتقاتها في فلسطين والأردن تبذل جميع الجهود للوقوف على حركات التطوع والتدريب العسكري في سوريا ولبنان ولاسيما في معسكر قطنا ودرجة الاعتناء بتسليح المتطوعين والمتدربين. وقد علمتُ أن هذه القيادة تتفنّن في إرسال الجواسيس إلى سوريا ولبنان لهذا الغرض، فمنهم من يحضر بألبسة ملكية (أي مدنية – م. الأرناؤوط) باسم شراء السلاح أو التطوع ليتسنى له الوصول إلى معسكرات التدريب".

ولكن البرازي خرج من هذه الحكومة ليعود بعد أيام في الحكومة الجديدة لجميل مردم بك (23 آب/أغسطس – 2 كانون الأول/ديسمبر 1948) في منصب مناسب أكثر ألا وهو وزير الخارجية، وخاصة في تلك الفترة التي أعقبت هزيمة دول الجامعة العربية في حرب 1948. فقد شارك البرازي آنذاك في اجتماعات اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية التي تضمنت تجليات الخلاف بين المحورين المذكورين في المنطقة، حيث قام المحور المعادي للهاشميين آنذاك بدعم إعلان "حكومة عموم فلسطين" في أيلول / سبتمبر 1948 برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي (1883-1963)، التي أعلنت استقلال فلسطين في 1/10/1948 في غزة، وذلك لمناكفة أو معارضة الملك عبد الله لضم الضفة الغربية إلى شرق الأردن.

ولكن هزيمة 1948 أخذت تنعكس الان على سوريا بشكل متزايد ضمن الاتهامات المتبادلة بين السياسيين والعسكريين سواء في المجالس الخاصة وحتى في البرلمان. وفي مسعى من الرئيس القوتلي لاحتواء الموقف قام بتكليف السياسي المخضرم خالد العظم بتأليف حكومة جديدة في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1948. ونظراً لأن العظم أخذ أيضاً وزارة الخارجية فقد أوكلت إلى البرازي وزارة المعارف التي بدأ بها حياته السياسية في 1941. ولكن هذه الوزارة لم تكن مريحة آنذاك نظراً لمشاركة طلاب الجامعة وتلاميذ المدارس الثانوية في المظاهرات، تحت تأثير حزب البعث الذي برز بقوة آنذاك، ضد المسؤولين عن هزيمة 1948 من المدنيين والعسكريين.

ولكن هذه الحكومة تحت ضغط الأحداث لم تعمّر طويلا، اذ أنها سقطتت مع الانقلاب العسكري الأول في سوريا الذي قاده العميد حسني الزعيم (1897-1949) في 30 آذار/ مارس 1949. ولم تكن المفاجأة في الانقلاب الأول فقط الذي عمل فوراً على إرغام رئيس الجمهورية القوتلي ورئيس الحكومة خالد العظم على الاستقالة، بقدر ما كانت أيضا في قبول البرازي (المعروف بصلته الوثيقة بالرئيس القوتلي) التعاون مع قائد الانقلاب حسني الزعيم (وهو من أصل كردي أيضاً) لتعويم الانقلاب العسكري على الشرعية الدستورية محلياً وعربياً، حيث تولى رئاسة الحكومة بعد أن تولى الزعيم رئاسة الجمهورية.
محمد م. الأرناؤوط

مؤرخ كوسوفي / سوري ، اشتغل في جامعة بريشتينا وفي عدد من الجامعات الأردنية (1974-2017) . يشتغل في تاريخ بلاد الشام والبلقان خلال الحكم العثماني والعلاقات العربية- البلقانية . من مؤلفاته "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر" و "دراسات في بلاد الشام في القرن السادس عشر" و "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920" و "ودراسات في الصلات العربية – البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" و"البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الخ .

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.