من الأرشيف الشخصي لمحسن البرازي (1902-1949): من الأكاديميا إلى رئيس حكومة الانقلاب العسكري الأول في سوريا (1-3)

12 تموز/يوليو 2017
 
تنويه: صورة غلاف المادة هي لمحسن البرازي في عام 1934، وتنشر لأول مرة على موقع معهد العالم للدراسات بالتعاون مع د. محمد م. الأرناؤوط.
تعود أصول أسرة البرازي (ذات الجذور الكردية) إلى جنوب شرق الأناضول، وقد أصبحت في العقود الأخيرة للحكم العثماني من أكبر الأسر الإقطاعية في سوريا الوسطى (حماة)، ومن الأسر التي برزت بقوة في الحياة السياسية الجديدة لسورية منذ 1918 (الحكومة العربية والانتداب ثم الاستقلال) على اختلاف توجهات الشخصيات البارزة فيها التي جمعت بين التقليدية والحداثة، بين القومية والوطنية ، بين التعاون مع الانتداب والنشاط ضده ، بين التعاون مع الانقلاب العسكري الأول لحسني الزعيم في 1949 وبين رفضه. وإذ كانت هناك من مفارقة مُرّة في 14 آب 1949 فهي تتمثل في وجود رئيس الحكومة السابق حسني البرازي في سجن المزة ووجود ابن عمّه محسن البرازي رئيسا للحكومة، حيث تم في ذلك اليوم إعدام الثاني بالقرب من سجن المزة وخروج الأول من السجن مع نجاح الانقلاب الثاني الذي قاده سامي الحناوي.

وبالمقارنة مع الشخصيات الأخرى في هذه الأسرة، كان محسن البرازي الأكثر ثروة ًوثقافةً والأعلى شهادةً (دكتوراة في الحقوق من جامعة السوربون في 1929) ومناصب ( أستاذ في معهد الحقوق بجامعة دمشق ثم وزير معارف ووزير داخلية ورئيس وزراء الخ )، ولكنه يمثل المصير الأكثر درامية بالنسبة للأسرة. فقد برز محسن البرازي ناشطاً عروبياً خلال دراسته في باريس 1922-1929 فترأس "الجمعية السورية العربية" في باريس وكتب بالفرنسية والعربية مطالباً بإنهاء الانتداب، كما شارك في 1933 بمؤتمر قرنايل في لبنان  لتأسيس "عصبة العمل القومي"، وهي الفترة التي أصبح فيها أكاديمياً معروفاً بعمله في معهد الحقوق ومؤلفاته في القانون، ولكن السياسة اجتذبته منذ 1941 ليصبح وزيرا ًللمعارف في حكومة خالد العظم الأولى ويتابع صعوده إلى أن أصبح رئيساً للوزراء في 1949.

وعلى الرغم من أهمية هذه الشخصية في الحياة الأكاديمية والسياسية في سوريا خلال الربع الثاني للقرن العشرين، إلا أنها بقيت مغبونة وشبه مجهولة لاعتبارات كثيرة . ومن هنا تأتي أهمية البجث في الأرشيف الشخصي لمحسن البرازي للكشف عن جوانب جديدة لهذه الشخصية التي تستحق أكثر من ذلك، مع الأمل أن تكون هذه المادة المنشورة على ثلاث حلقات نواةً لكتاب عنه.

  • النشأة والدراسة والأكاديميا( الحلقة اللأولى).
  • من الأكاديميا الى السياسة( الحلقة الثانية).
  • الانقلاب الأول في سوريا والمآل(الحلقة الثالثة).
 
من النشأة إلى الأكاديميا

تعتبر عشيرة البرازية من العشائر الكردية التي كانت تنتشر في جنوب شرق الأناضول، ويرتبط وجودهم في سوريا الوسطى بتسلّم أحد أفرادها (حمو آغا) في مطلع القرن التاسع عشر مقاطعة مصياف التي كانت تمتد من موطن الإسماعيليين (السلمية) حتى جبال العلويين ، وخلفه في ذلك محمد آغا بن باكير آغا بن جمعة بن علي البرازي (1834-1891) ، الذي كان له دوره في قدوم أفراد العشيرة للخدمة والإقامة في المنطقة ، وخاصة في حماة التي أصبح لهم فيه "حارة البرازية". وقد بسط محمد آغا بفضل قواته الأمن في المنطقة وأقام بعض المنشآت التي لا تزال تذكر باسمه، واستفاد من منصبه ليضع يده على الكثير من القرى التي تركها لأولاده وأحفاده الذين عرفوا أيضا بـ "آل باكير". وبعبارة أخرى كان محمد آغا مؤسّس مجد الأسرة البرازية مع أولاده الثلاثة (سليمان وخالد ونجيب) الذين أنجبوا لاحقاً رئيسين للوزراء : حسني البرازي (1895-1975) ومحسن البرازي (1902-1949).

في هذا السياق يعتبر ابنه خالد البرازي (1865-1913) ممثل الجيل الأول من البرازية المتعلّمين الذين ارتقوا ووصلوا إلى أعلى الهرم العثماني. فقد درس في حماة في المدرسة الأميرية وانخرط في الإدارة العثمانية المحلية حتى أصبح رئيساً لبلدية حماة في   1912. وفي السنة ذاتها نجح في الانتخابات لمجلس النواب العثماني (مجلس المبعوثان) وأصبح ممثل حماة في العاصمة استانبول. ولدينا في الأرشيف الشخصي نسخة في اللغة العثمانية للكلمة التي ألقاها في مجلس النواب العثماني بتاريخ 19 حزيران 1912 بمناسبة العدوان الايطالي على ولاية طرابلس الغرب ودعوته إلى دعم صمود المقاومة هناك ضد هذا العدوان.

وحسب الأرشيف الموجود فقد كان النائب خالد البرازي يعبّر عن مشاعر سكان منطقته الانتخابية (حماة)، اذ نعثر على قصيدة لأحد شعراء حماة قالها وهو يودعه في محطة حماة للقطار المتجه إلى استانبول:

أخالد إنما الطليان جـــاؤوا            على أهل المساجد والمعابد
فإما الموت أو صلح شريف          ولا تركن لأرباب المكائـــــــــد

ولكن الموت لم يمهل النائب خالد البرازي. فقد توفي في يوم الأربعاء 31/10/1913 ، وشيّعه الشعراء بقصائد عديدة تشيد بمواقف. ويضم الأرشيف قصائد كثيرة قيلت في رثائه منها قصيدة للشاعر محمد الأسعد مقدّمة إلى "سليمان آغا الباكير وأخوته الأماثل".

وقبل وفاته بتسع سنوات (1902) كان قد ولد له محمد محسن (سيشتهر لاحقاً بمحسن) الذي تابع مسيرة أبيه في التعليم والمناصب إلى أن وصل إلى منصب رئيس الوزراء في 1949.

أكمل محسن تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس حماة العثمانية، ويدل سجل دراسته المحفوظ في الأرشيف على تفوقه في المواد المختلفة. ونظراً لأنه أنهى المدرسة الإعدادية العثمانية (التي كانت تعادل الثانوية بعد الرشدية والابتدائية) في السنة الأخيرة للوجود العثماني فقد استحصل من "المدرسة التجهيزية" في حماة في 1922 على وثيقة تفيد بأنه "أنهى التحصيل الثانوي في حزيران 1334 إلا أن انسحاب الأتراك حال بينه وبين أخذ الشهادة المذكورة". وبهذه الوثيقة المصدقة والمترجمة إلى الفرنسية تمكن من الالتحاق بكلية الحقوق في جامعة ليون ثم إكمال الدكتوراة في الحقوق بجامعة السوربون في باريس في حزيران 1929.

كانت سنوات محسن في فرنسا حافلة بالنشاط الفكري والسياسي، كما سنرى ، ولذلك اختار لأطروحته موضوعاً رائداً : "الاسلام والاشتراكية" الذي نشر في الفرنسية . ولدينا في الأرشيف قصاصات صحف في الفرنسية والعربية تشيد بالقيمة العلمية لهذه الأطروحة. وقد أقامت له الجالية العربية حفلة تكريمية أشادت به وأطروحته باعتباره "أول كاتب من كتاب العرب طرق هذا البحث الاجتماعي من هذه الناحية، وقد أوفاه حقه حتى أنه حاز به تقدير أساتذته وإعجابهم بموضوعه ومناقشتهم فيه".

خلال وجوده في فرنسا (1922-1929) انشغل محسن في النشاط الفكري والسياسي في الوسط العربي والفرنسي، وعبّر عن موهبة مبكرة في الكتابة الأدبية والسياسية. فقد انضم محسن الى "الجمعية السورية العربية" التي تأسست في 1922 ورأسها أولاً حيدر مردم بك ثم محسن البرازي. ويضم الأرشيف القانون الأساسي للجمعية ثم بعض البيانات التي وجّهها محسن البرازي باسم الجمعية لمجلس النواب الفرنسي، أو للصحافة الفرنسية دفاعاً عن حق السوريين في الاستقلال.
 
 
الصفحة الأولى من القانون الأساسي لـ " الجمعية السورية العربية" في باريس
تنشر لأول مرة على موقع معهد العالم بالتعاون مع د. محمد م. الأرناؤوط
         
وتبدو ميول محسن المبكرة في الوطنية ومعارضة المتاجرة بالدين في مقال مطول كتبه في 31 آب 1928 بالأحرف الأولى من اسمه (م. ب طالب سوري في فرانسه) ونشر في جريدة "الشرق" اللبنانية بعنوان "دعاية الملكيين في الشام ووطنيتهم" موجود في الأرشيف، حيث تبدو فيه ثقافته القانونية والسياسية.

في هذا المقال ينطلق محسن من أنه "لا غرابة في أن يكون في أمة ما أحزاب مختلفة، يسعى كل منها لتأييد شكل من الحكم مباين لما يؤيده الآخر، وليس لاختلاف كهذا من ضرر عظيم إذا كانت الأمة مستقلة استقلالاً حقيقياً، إذا أن أشكال حكم المعروفة الآن وأهمها الجمهورية والملكية الدستورية في البلاد المستقلة" ، ولكنه يصل إلى أن "الجدل يتوسّع نطاقه حينما تكون الأمة غير طليقة، لا تزال في عهد جهادها للوصول إلى استقلالها وهذا شأن أمتنا السورية اليوم". هنا يوضح أن "الوطنيين السوريين متفقون من حيث الغاية الأولى وهي الاستقلال، أما شكل الحكم فهو في  حقيقة الأمر وسيلة بجانب المثل الأعلى مادمنا غير مستقلين" . ومن هنا رأي الوطنيون في سورية بمناسبة الدعوة إلى تأسيس الجمعية التأسيسية في 1928 في النظام الجمهوري "أضمن لتحقيق الغاية، ولذلك قام "الأحرار في مشروع دستور البلاد بتأييدهم الجمهورية".

ولكن بعض أصحاب المصالح الخاصة دعوا إلى النظام الملكي آنذاك، وهو لا  ينكره محسن البرازي المتحمس للنظام الجمهوري "على بعض أخواننا أن يكون لهم رأي واجتهاد غير رأينا واجتهادنا". ولكن البرازي يأخذ على هؤلاء متاجرتهم بالدين بزعمهم أن "الإسلام وهو دين الأكثرية لايتفق مع الحكم الجمهوري، وهو قول لا يفتري به إلا الجاهل" ، واستعانتهم بفرنسا لأجل ذلك. ولذلك يعترف البرازي أن مشرعي الدستور السوري الجديد "اضطروا لأن ينصّوا على وجوب إسلام رئيس الدولة" بسبب "هذه الدعاية المؤسفة تحت ستار الدين"، ويتوجه البرازي في نهاية القول إلى المتاجرين بالدين قائلا "ليس لكم ما دمتم تدّعون الوطنية أن تطلبوا من دولة أجنبية إرغام سورية على قبول ملكيتكم".

وبعد أسابيع من عودته إلى سوريا عُيّن البرازي معيداً في معهد الحقوق في الجامعة السورية (التي تأسست بهذا الاسم في 1923 وضمّت آنذاك فقط الطب والحقوق). ولدينا في الأرشيف قرار تعيينه بتوقيع وزير المعارف محمد كرد علي في 5/11/1929 ، حيث بدأ بتدريس القانون الروماني ومقارنة الحقوق المدنية. كما نعثر في الأرشيف على قرار رئيس مجلس الوزراء محمد جميل الألشي في 3/3/1943 بتعيينه في كرسي الحقوق الأساسية وتاريخ الحقوق "الذي شغر بعودة المسيو استيف إلى وطنه".

في هذا المجال الأكاديمي اشتهر محسن البرازي كأستاذ ناجح ومؤلف للكتب المرجعية مثل "دروس في الفقه الروماني" و "دروس في الفقه المدني الفرنسي" و "محاضرات في الحقوق الرومانية" و "محاضرات في الحقوق المدنية الفرنسية". ولدينا في الأرشيف مسودة كتاب لم يكمله (وصل فيه إلى بداية الفصل الرابع) بعنوان "الشرع الدستوري" أو القانون الدستوري بلغة اليوم، وهو ما يستحق النشر بطبيعة الحال لقيمته التاريخية. ويلاحظ هنا أن البرازي كان يؤلف في مواضيع مستجدة بالنسبة للثقافة القانونية والسياسية الموجودة في سوريا، ولذلك نجد في المخطوطة بعض المصطلحات التي يضع الأصل الفرنسي لها إلى أن يعتمدها أو يجد بديلاً أفضل لها.
 
 
   مقدمة مخطوطة كتاب "الشرع العام / تنشر لأول مرة على موقع معهد العالم بالتعاون مع د. محمد م. الأرناؤوط
 
 
في مقدمة هذا الكتاب يميز المؤلف بين "الشرع العام" و"الشرع الخاص" حيث يتناول "الشرع الخاص العلائق الاجتماعية في الحياة المدنية والتجارية والصناعية، ولئن كانت هذه العلائق الآن في حماية الدولة بيد أنها وجدت في عهود تاريخية أخرى في حماية هيئات سياسية من نوع آخر كالقبائل والإمارات الإقطاعية". و"على نقيض ذلك الشرع العام ، فهو شرع الدولة ، وموضوعه العلائق في الحياة العامة ، تلك العلائق المكونة لنظام وفعالية الدولة ، تلك الهيئة السياسية التي تحمي الآن الحياة المدنية في البلاد المتمدنة (المتحضرة)" .

في غضون ذلك دخل محسن البرازي مجالين مختلفين: المحاماة والسياسة.

فنظراً لكونه قد درس القانون في جامعة ليون وحاز على الدكتوراة من جامعة السوربون، فقد تقدم ليحصل على الإجازة أو رخصة العمل في المحاماة. ولدينا في الأرشيف قراراً موقعاً من وزير العدلية ومصدق من رئيس الدولة تاج الدين الحسيني في 12/12/1934 لإجازته "بتعاطي مهنة المحاماة والمرافعة أمام جميع المحاكم الشرعية والنظامية".

ومن ناحية الأخرى فقد بقيت الخلفية الفكرية السياسية، التي برزت خلال دراسته في فرنسا، حاضرةً لدى محسن البرازي مع توسعها الان في المجال العربي. فقد شارك البرازي في تأسيس "عصبة العمل القومي" مع مجموعة من الشخصيات المعروفة (قسطنطين زريق وزكي الأرسوزي وعبد الرزاق الدندشي وصبري العسلي وجورج طعمة وجلال السيد وغيرهم) في المؤتمر الذي عقد في بلدة قرنايل بلبنان في 24 آب 1933. وقد أسست هذه العصبة فروعاً لها في الأقطار العربية المجاورة، ونادت بالعمل على استقلال الدول العربية ووحدتها. كما تعاونت العصبة مع حزب "الكتلة الوطنية" الذي كان قد تأسس آنذاك في سوريا ، ولكن أعضاؤها تفرقوا فيما بعد لينضموا إلى أحزاب موجودة (الكتلة الوطنية الخ) أو جديدة (حزب البعث الخ).
محمد م. الأرناؤوط

مؤرخ كوسوفي / سوري ، اشتغل في جامعة بريشتينا وفي عدد من الجامعات الأردنية (1974-2017) . يشتغل في تاريخ بلاد الشام والبلقان خلال الحكم العثماني والعلاقات العربية- البلقانية . من مؤلفاته "معطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر" و "دراسات في بلاد الشام في القرن السادس عشر" و "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920" و "ودراسات في الصلات العربية – البلقانية في التاريخ الوسيط والحديث" و"البلقان من الشرق إلى الاستشراق" الخ .

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.