حشد في المنفى: الحياة الجمعياتية السورية في تركيا ولبنان
ترجمة: يسرى مرعي
يقع حي نارليجا (Narlica) على مشارف مدينة أنطاكية الصغيرة في تركيا، وهو عبارة عن انتشار لمباني منخفضة الارتفاع، من قرميد واسمنت ومفصولة عن بعضها بطرق غير معبدة، كانت نارليجا ضاحية للطبقة العاملة غير مزدحمة السكان قبل اندلاع الحرب الأهلية عبر الحدود في سوريا.
يقع حي نارليجا (Narlica) على مشارف مدينة أنطاكية الصغيرة في تركيا، وهو عبارة عن انتشار لمباني منخفضة الارتفاع، من قرميد واسمنت ومفصولة عن بعضها بطرق غير معبدة، كانت نارليجا ضاحية للطبقة العاملة غير مزدحمة السكان قبل اندلاع الحرب الأهلية عبر الحدود في سوريا.
اليوم، مع دخول الحرب عامها السادس، اكتسب الحي هوية جديدة باعتباره "سوريا الصغيرة" في أنطاكية. إذ زاد عدد السكان إلى أكثر من الضعف، مع قدوم السكان السوريين الذين فاق عددهم حالياً الأتراك؛ كما أن معظم لافتات واجهات المحلات بالعربية؛ والمدارس المفتتحة حديثاً تدرّس المنهاج السوري. وقد كانت نارليجا جذّابة في البداية بسبب إيجاراتها المعقولة وقربها من وسط المدينة، ولكنها اليوم تقدم لسكانها السوريين شيئاً ملموساً ليس بأقل أهمية- وهو إحساس بالانتماء إلى المجتمع والمكان.
مع ذلك تبدو الحياة في نارليجا صعبة اليوم. إذ تستضيف تركيا لاجئين سوريين أكثر من أي بلد آخر في العالم –تقريباً 3مليون- و80% من السوريين يعيش في أحياء اسطنبول أو المدن الحدودية مثل أنطاكية. مع ذلك تخصص الحكومة التركية موارد أكثر ويخصص الإعلام اهتماماً أكبر لل 25 مخيم لجوء في البلد مما للاجئين القاطنين في المناطق الحضرية. كما تميل المنظمات الدولية غير الحكومية التي افتتحت مكاتباً في أنطاكية إلى توجيه جهودها الإغاثية إلى داخل سوريا بدلاً من مساعدات اللاجئين. ولذلك سرعان ما سقط كثير من الوافدين الاوائل الى نارليجا في أوقات صعبة، بحكم الحصول على القليل من الرفاه والعجز عن تأمين وظائف.
وفي ظل هذا الفراغ ظهرت جمعية نارليجا. فقد تأسست المبادرة خلال شهر رمضان من عام 2012، عندما شرع متطوعون مدنيون (من المجتمع المحلي) بإعداد ولائم إفطار للعائلات المحتاجة. وسرعان ما توسعت هذه الجهود. اليوم، هذه الجمعية عبارة عن مؤسسة خيرية مزدهرة بتمويل متواضع من صدقات (مؤسسات خيرية) تركية وإقليمية، حيث تزود لاجئي نارليجا بطيف واسع من الخدمات بما فيها الرعاية الصحية، والمعونات الغذائية والتدريب المهني. ولذلك تعد اليوم المنظمة غير الحكومية(NGO) الوحيدة العاملة في المنطقة، التي تعد موطناً لأكبر تجمع لاجئين سوريين في المدينة.
إن جمعية نارليجا ما هي إلا مثال واحد من ظاهرة منتشرة: في مدن وبلدات في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، فقد انبثقت مبادرات غير رسمية –يقودها ويديرها سوريون- لخدمة الجاليات السورية في المنفى. كما تشكلت الآلاف من المنظمات في محافظات جنوب تركيا كغازي عينتاب وأورفة ومرسين وكلس، وكذلك في منطقة أكسراي في اسطنبول. في لبنان، الذي يستقبل ثاني أكبر عدد من اللاجئين، حيث الحياة الجمعياتية السورية نابضة بالحياة بشكل مماثل، وتسد في العديد من الحالات فراغات الحكومة التي لا تبدي رغبة وكذلك تبدو عاجزة عن الاستجابة لأزمة اللاجئين السوريين على حد سواء.
يوجد الآن تقريباً 5 ملايين سوري يعيشون كلاجئين في الشرق الأوسط. وبالرغم من التحرك على الجبهة الديبلوماسية في ربيع عام 2016، إلا أنه لا توجد خطة طويلة الأمد لإنهاء الحرب وإعادة بناء البلد، مما بات يثير تساؤلات مقلقة حول متى سيكون بإمكان السوريين الذين فروا العودة إلى وطنهم؟. وإزاء هذه التحديات، فإن الجهود الشعبية للناشطين السوريين في المنفى ملفتة للنظر. إذ لم يقتصر عمل هؤلاء الناشطين على إيصال المساعدات أو الإغاثة إلى حيث تغيب أو تنقص، بل ساهموا أيضاً في إعادة تكوين الحياة المجتمعية السورية، التي تُحاك في نسيج المدن في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
حشد سوري في أنطاكية:
أنطاكية هي أكبر مدينة في محافظة هاتاي. هي تاريخياً جزء من محافظة حلب السورية، وقد كانت نقطة خلاف بين سوريا وتركيا منذ عام 1939، ثم أصبحت تحت السيطرة التركية من خلال استفتاء حول صحة الخلاف. ومازالت سوريا تعتبر المنطقة جزءاً من أراضيها، فتبدو الإدانة واضحة في العديد من الخرائط السورية. وقد انعكست هذه الموروثات السياسية في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية عبر الحدود، إذ مازال العديد من سكان هاتاي من ذوي الأصل العربي يحتفظون بعلاقات قرابة مع سوريين فلهم أقارب يعيشون في حلب وفي مدينة اللاذقية الساحلية المطلة على البحر المتوسط. ومع موجة السكان السوريين الجدد الفارين من الحرب، فإن النكتة في أنطاكية تقول أن المدينة عملياً قد أُعيدت لسوريا.
يتتبع السكان المحليون في أنطاكية جذورهم إلى كلا من سوريا والأناضول، وينتمون إلى طوائف دينية مختلفة، كما يتكلمون كلا اللغتين العربية والتركية، بالإضافة لبعض الآرامية والآشورية. ويقدّم العديد من السكان بفخر هذا التنوّع كدليل على تفرّد مدينتهم، وفي الواقع فإن التعددية مغروسة في البيئة العمرانية للمدينة بحد ذاتها. ففي الجزء الجنوبي من البلدة يعيش العلويون والمسيحيون من أصول عربية في مجمّعات شقق حديثة متوسطة الارتفاع. أما عند الضفة الغربية للنهر يجد المرء حياً أكثر كثافة لعائلات الطبقة العاملة السنية العربية والتركية عموماً. واليوم بات يتجمع السوريون أيضا في نارليجا.
تأسست جمعية نارليجا من قبل حميد، وهو طاه وصاحب مطعم من اللاذقية، غادر سوريا منذ عام 2012. ولأن حميد يتقن الطبخ لأعداد كبيرة، فقد طلبت منه مجموعة من المحسنين سريعاً أن يدير مطبخ حساء خلال شهر رمضان. وقد وافق حميد بسعادة على استخدام مطبخه الخاص، حيث شرع بإعداد ولائم يومية لخمسين عائلة تعيش في الحي. وبنهاية الشهر كان يحضّر الإفطار ل 350 عائلة.
عندما انتهت حملة الطعام، قرر حميد عقد اجتماع لقياس الفائدة من حملة معونة مستمرة. علق منشورات باللغة العربية في المساجد والمحلات الرئيسية. وقد حضر حوالي 250 شخصاً الاجتماع؛ مع ذلك 26 منهم فقط، ممن كانوا مهنيين من الطبقة الوسطى في سوريا، كانوا مقتنعين أن المجتمع يمكنه أن يفعل الكثير من دون مساعدة خارجية أو إعانة مالية. التقت الجماعة بانتظام لمدة عامين في شقة حميد، ولكن عندما اشتكى الجيران الأتراك، طالبهم مالك الشقة بالتوقف. ثم وجدوا محلاً فارغاً -بجدران غير مدهونة، وبلا أبواب أو إطارات نوافذ –متوفراً بمبلغ متواضع مقداره 350 ليرة تركية في الشهر (حوالي 115 دولار). وبرغم مواردهم المالية غير المستقرة، جمع ال 26 متطوعاً الأساسيين المبلغ من أموالهم لدفع أجار الشهر الأول وتجديد المكان بأيديهم. "فعلنا كل شيء بأنفسنا. عملت هنا بثياب عملي،" أوضح حميد بينما يقلب لنا في صور المشروع. "لم يكن هناك أي عمال أو كبار عمال. لقد اهتممنا بكل شيء".(1) وعند انتهائهم، كانوا قد بنوا مكاتب عمل لما يسمى حالياً جمعية نارليجا لإغاثة السوريين (للمساعدات الاجتماعية والتضامن).
كانت مهمة الجمعية الأولى إجراء مسح للعائلات في نارليجا لتقدير حاجات المجتمع. توجهت لجان من متطوعين اثنين من باب لآخر لتسجيل معلومات أساسية، ولإصدار بطاقات عائلية لاستخدامها عند توزيع المساعدات. وبعد تقييم البيانات، قرر المتطوعون، أولاً وقبل أي شيء، أن المجتمع بحاجة إلى وحدات رعاية صحية. ففي حين أن السوريين في باقي المناطق داخل تركيا، يستطيعون دخول المشافي التركية الحكومية مجاناً، إلا أنه لا توجد مشفى في نارليجا، والعيادات التركية الأصغر الموجودة ليست مخولة بعلاج السوريين. كما أن الرحلة إلى المشافي في أي مكان آخر قد تكون مكلفة، والقليل من الأطباء الأتراك يستطيعون التواصل بالعربية. وقد حوّلت الجمعية اثنين من مكاتبها إلى غرف معاينة، ومساحة التخزين إلى صيدلية بسيطة. لكن بقيت الجماعة بحاجة لإيجاد أطباء، بالإضافة لأموال للرواتب، والإيجار والدواء. ومن أجل الأطباء، عاد حميد إلى نتائج مسح الأسر وحدّد جميع الأطباء في الحي. وافق اثنان منهم على العمل في العيادة. أما الدواء فتبرعت به مؤسسة غير حكومية صحية تركية. وأما بالنسبة لأموال رواتب الأطباء والإيجار، تواصل حميد مع أصدقاء في اللاذقية، والذين وعدوا بإرسال 1000 دولار شهرياً.
وعلى هذا الأساس الهش كان مستوصف نارليجا الطبي قادراً على معاينة المرضى لسبعة أشهر، إذ عند هذه النقطة أمرت السلطات التركية بإغلاقه، بحجة أنه لم يتلق ترخيصاً حكومياً. واستمرت العيادة بالعمل سراً لثلاثة أشهر ولكنه أغلق في نهاية المطاف عندما ظهرت الشرطة لتختم الباب (بالشمع الأحمر). وفي صيف عام 2015 أُخبرت الجمعية أن بإمكانها إعادة الافتتاح بشرط توظيف طبيب تركي واحد على الأقل وبراتب يساوي ثلاث مرات راتب طبيب سوري. وعلى الرغم من التكاليف الإضافية المرتفعة بقي حميد متفائلاً بأنه والمجموعة سيتمكنون بطريقة أو بأخرى الإبقاء على عمل العيادة.
يضرب مشروع نارليجا مثلاً عن نمط تنظيم سوري وتأمين الرعاية (الاجتماعية) التي انبثقت في جنوب تركيا على الرغم من الصعوبات. في الريحانية المجاورة، وهي بلدة ب 60000 نسمة، حدّدت مؤسسة غير حكومية دولية 47 مبادرة سورية شعبية، بما في ذلك عيادات طبية، ومدارس، ودور أيتام ومراكز مساعدات قانونية. وفي يايلاداغي التي تقطنها 6000 نسمة، يخمّن المحافظ أن هناك 16 جمعية سورية مستقلة.
لا تركّز كل الحياة الجمعياتية السورية في تركيا على الإغاثة والمساعدات. ففي شارع سكني هادئ في وسط أنطاكيا يوجد مركز ثقافي يدعى بيت قامشلو. عند الدخول، ترحب خريطة من الورق المقوى لسوريا بالزوار، محاطة بعبارات تحتفل بالتركيب العرقي-الديني المتنوع في البلد ("أنا سوري مسيحي"، "أنا سوري عربي"، "أنا سوري كردي"). في أحد الزوايا توجد منصة تعرض مجلات وصحف سورية، معظمها منتج من قبل الشبكة السورية للإعلام المطبوع ومقرها في غازي عينتاب وجنوب تركيا، تروّج في كل من تركيا والمناطق الحدودية في سوريا.
كما تغطي رسومات ملونة للأطفال الجدار المقابل. الموظف الدائم الوحيد هو فرهاد، القاطن مع زوجته في الشقة الخلفية. مع أنه كان يعيش في دمشق، إلا أنه بالأصل من القامشلي وهي بلدة شمال شرق سوريا تضم وجوداً كردياً وقد سمى مركزه تيمناً بها. كما أن فرهاد مصور هاو وغالباً ما يوثّق أمسيات المركز الثقافية، بما في ذلك، عروض أفلام السبت، والحفلات الموسيقية والأنشطة النهارية للأطفال. ويؤكد فرهاد على أهمية بناء مكان تجمّع للسوريين في المدينة (يحضر حميد من جمعية نارليجا الأمسيات من آن لآخر). "هذا مكان لكل السوريين" كما يوضّح.
الحياة الجمعياتية في لبنان:
خلافاً لتركيا، فإن تمركز الجمعيات السورية في لبنان هو في العاصمة بيروت، حيث انتقل العديد من أبناء الطبقة المتوسطة الدمشقيين عندما تصاعدت الحرب الأهلية في عام 2012. وبعضهم كان من نشطاء حركة "ربيع دمشق" عام 2001، كما شاركوا في المظاهرات السلمية ضد النظام في الأيام الأولى لانتفاضة 2011. وبعضهم كان أقرب إلى النظام ومشارك في المؤسسات غير الحكومية المتصلة بالأمانة السورية للتنمية التابعة لأسماء الأسد زوجة الرئيس، قبل أن تحولهم الانتفاضة إلى مؤيدين للمعارضة. وقد تجمعوا في بيروت في مناطق مثل الحمرا وجيتاوي معيدين بذلك تشكيل شبكات كونوها في سوريا، كما صاغوا روابط جديدة مع شباب اخرين منفيين. وبسبب منعهم من العمل حسب سياسات الإقامة اللبنانية للسوريين، فقد كرس العديد منهم نفسه للعمل التطوعي، فهم يساعدون اللاجئين الأفقر الذين غالباً ما يعيشون في ظروف مروعة في أحياء بيروت الفقيرة أو في المخيمات المؤقتة في المناطق الريفية.
لعل هشام خير مثال، وهو شاب من دمشق انتقل إلى بيروت عام 2012. فقد عمل هشام كمصور في دمشق ولكنه واجه صعوبة بالعثور على عمل مشابه في بيروت. وبعد وقت قصير من وصوله، أوائل عام 2013، اشتد القتال حول دمشق، مرسلاً موجات من السوريين الفارين عبر الحدود إلى لبنان. شرع هشام مع ستة أصدقاء سوريين التقاهم في بيروت بحملة فيس بوك لجمع ملابس وبطّانيات، ومن ثم التوجه إلى منطقة "عرسال " المعزولة، قرب الحدود السورية، لتوزيع السلع المُتَبرّع بها. وعندما عادوا إلى بيروت استهلّوا حملة أخرى، ثم أخرى. في نهاية المطاف، قرروا أن مجموعتهم تحتاج لاسم –فأسموها عيون سوريّة.
تختلف عيون سوريّة عن أغلب المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية في لبنان. –ليس لديها وضع تسجيل رسمي في لبنان- في الواقع، إذ أن السوريين محظورون من تسجيل منظماتهم الخاصة بهم. أساساً هي شبكة من متطوعين سوريين ولبنانيين تجمّعوا لتنفيذ مشاريع عندما يملكون وقتاً أو مصادر يمكنهم الاستغناء عنها. هشام هو أحد الأعضاء المتفرغين بشكل كامل. وهم يستقبلون تمويلاً صغيراً من مجموعة نساء سوريات تسكنّ ألمانيا، وبين حينة وأخرى يتشاركون مع منظمة غير حكومية لبنانية أو دولية من أجل مسعى معين.
ومثل جمعية نارليجا، تختلف عيون سوريّة في فلسفتها تجاه المساعدات والرعاية (الاجتماعية). في لبنان، اتّخذت الحكومة عن عمد نهج عدم التدخل إزاء أزمة اللاجئين، وفوّضت معظم الأعمال الإغاثية للأمم المتحدة وشركائها، الذين أنشأوا نظاماً بيزنطياً (عقيماً) تنقسم به المسؤوليات بين القطاع والمنطقة. ومما فاقم المشاكل أنماط المستوطنات المتناثرة التي شجعتها الحكومة اللبنانية. وعلى ضوء تاريخ لبنان المشحون مع مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، فقد منعت الحكومة نشاط اللاجئين السوريين من التركّز بثقل كبير في أي مكان واحد، وهذا يعني تناثر آلاف المخيمات الصغيرة في كل أنحاء الريف في الشمال ووادي البقاع. وبينما معظم المنظمات غير الحكومية الكبيرة مكلّفة بتأمين خدمات لعشرات أو مئات من هذه المستوطنات، أدرك مؤسسو عيون سوريّة بسرعة أنهم لا يستطيعون أن يأملوا بهذا الاتساع في التزويد بالخدمات. فبدلاً عن ذلك قرروا الاستثمار في مستوطنة واحدة فقط.
اختار هشام وزملاؤه مخيماً سريع النمو في البقاع، إذ لاحظوا أنه مهمل من قبل المنظمات غير الحكومية الدولية. ولذلك بدأوا بزيارة المكان بانتظام، والتعرف على السكان والزعماء المحليين. وقد افتتحوا مركز جمعية، استخدموه لعقد لقاءات، وتوزيع المساعدات، واستضافة الأمسيات، وتقديم دروس فن وعروض للأطفال. في نهاية المطاف، جاءهم أفراد من المستوطنة بفكرتهم الخاصة: بناء مخبز صغير الذي من الممكن أن يكون مصدراً لكل من الخبز والدخل لأعضاء المخيم. كان المخبز ناجحاً جداً لدرجة أن المنظمات غير الحكومية الأخرى كررته في مستوطنات مجاورة.
ووفقاً لهشام فإن هذا المستوى من التعامل مع مستوطنة لاجئين واحدة نادر: "اعترف لدينا علاقة خاصة مع المخيم. في البداية، حتى لو لم يكن لدينا مال أو لم يكن لدينا ما نوزعه، كنا نبقى نتردد على المخيم. لم يكن لدينا المال لإنشاء المركز على الفور. فكنا نذهب ونقيم حفلة؛ كنا نبقى هناك لثلاثة أيام؛ نمنا في خيام الناس. المنظمات غير الحكومية الأخرى لا تحاول فعل ذلك. وهو ما تسمعه من السوريين في المخيم: {إنهم لا يعرفوننا. إنهم لا يعرفون أي شيء عنا}".
الجمعيات السورية الأخرى في بيروت تبنّت عن طيب خاطر نموذج المنظمات غير الحكومية الغربي الاحترافي، لكن العديد منهم نجح في الاحتفاظ بروح شعبية. بسمة وزيتونة، التي تتخذ من مخيم شاتيلا للاجئين مقراً لها، خير مثال على ذلك. شاتيلا واحد من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، محاط بالمدينة تقريباً بشكل كامل. وبدأ يجتذب المهاجرين السوريين بعد بداية الحرب بفترة وجيزة بإيجاراته الرخيصة، والآن تضاعف عدد سكانه إلى ما يقارب ال 40000 نسمة.
بدأت بسمة وزيتونة بصديقين اثنين (قس يسوعي من حلب، ومدرّس من دمشق) يوزعون مساعدات في شاتيلا، حيث كانت الاحتياجات مرتفعة بشكل خاص. علموا أن أكبر قلق للسوريين في المخيم، قلة خيارات العمل للنساء، فكثيرات منهن ممن فقدن أزواجهن في الحرب عليهن إطعام أسرهن بأنفسهن. لذلك أسس المتطوعان ورشة عمل، حيث تستطيع النساء صنع أشغال يدوية تقوم المنظمة غير الحكومية ببيعها في الأسواق المحلية. المنظمة غير الحكومية اليوم مسجلة رسمياً (رغم أن التسجيل يجب القيام به تحت اسم شركاء لبنانيين)، وتدير مركز مجتمعي من مبنيين في شاتيلا بالإضافة إلى ثلاثة مراكز صغيرة في الشمال وفي البقاع. لديها 110 موظف بدوام كامل وعشرات البرامج، ويتلقى آلاف الفلسطينيين والسوريين مساعداتها. وتبقى المنظمة غير الحكومية الوحيدة العاملة في شاتيلا.
غالباً ما تتعاون عيون سوريّة وبسمة وزيتونة مع منظمات غير حكومية أخرى سورية أو سورية-لبنانية مقرها في بيروت ولكن تعمل في جميع أنحاء البلد. بسمة وزيتونة، على سبيل المثال، تتشارك مع منظمة تدعى "النساء الآن" في البقاع لإدارة ورشة عمل تطريز للنساء. في نفس مخيم البقاع حيث بنت عيون سوريّة مركز مجتمعي، تشاركت المنظمة غير الحكومية الدولية جسور، المتخصصة في التعليم، مع المنظمة غير الحكومية السورية اللبنانية "سوا للتنمية" لافتتاح مدرسة. وبالقرب منها، تدير سوا مدرستها الخاصة وفرناً مشكّلاً على غرار نموذج عيون سوريّة. بين فينة وأخرى تنخرط هذه المنظمات غير الحكومية في السياسة، على الرغم من أنها يجب أن تكون حريصة على عدم معاداة السلطات اللبنانية، التي تستطيع أن تضع حداً لأنشطتها بكل سهولة. وفي وقت مبكر من العام 2015، عندما أقرّت الحكومة اللبنانية قانوناً يحد بشدة من قدرة الأمم المتحدة على تسجيل لاجئين جدد، وقّعت 17 منظمة غير حكومية لبنانية وسورية عريضة تبين اعتراضاتهم(2).
تمثّل المنظمة غير الحكومية التي ترأّست العريضة تياراً آخر من الحياة الجمعياتية السورية في لبنان، فهي تعنى بحقوق وواجبات المواطنين في سوريا التي يتصورونها للغد. ووفقاً لأحد المتطوعين في الرابطة السورية للمواطنة، التي تعقد ورش عمل ودورات تدريبية وتنشر كتيبات، فإن منظمات غير حكومية لبنانية ودولية تنتقد أحياناً جهوداً كهذه وتعتبرها هدراً للوقت. "بالطبع نعتقد أن الإغاثة مهمة"، يقول الناشط، "ولكنك يجب أن تعمل على القضايا الأخرى بالتوازي. لأن هذه الحرب ستنتهي في نهاية المطاف، ستتوقف. وعندما يحدث ذلك فإن الناس ستعود إلى ديارها ويجب عليك أن تعيد بناء هذا البلد. كيف سنفعل ذلك؟ هذا هو ما نركّز عليه؛ نريد أن نبني مواطنين جيدين في المستقبل ".
تجتاح أخلاقيات مشابهة عمل معظم المنظمات غير الحكومية السورية، حتى تلك المكرسة للإغاثة التقليدية. على سبيل المثال، في عام 2015، أدارت عيون سوريّة مشروعاً أسمته سوريا ببالي(3). سافر المتطوعون في عيون سوريّة، بشراكة مع منظمة غير حكومية لبنانية، في مختلف أرجاء لبنان لتعليم الأطفال في المخيمات عن تراثهم. "الكثير منهم غير مرتبط بسوريا بعد الآن. بعضهم لا يستطيع تذكرها"، يوضّح هشام، "لذلك نجلس اليوم كله على خريطة لسوريا-حرفياً لنكون في سوريا. لدينا سيارة صغيرة تتحرك على طول الخريطة، مما يعطيهم المساحة للتفكير والتخيّل: {نحن ذاهبون من الجبال إلى الشاطئ في اللاذقية ومن ثم إلى الفرات}".
تحديات مؤسساتيّة وسياسية:
حتى في الأماكن المُرحّب بهم فيها، يجب على اللاجئين الذين يسعون لتنظيم أنفسهم التغلب على عقبات كبيرة. إن تجارب العنف، والطرد والصدمات النفسية، مقرونة بنقص الموارد وبوضع قانوني هش غالباً، تجعل من مهمة تشكيل جمعيات جديدة مهمة شاقة. لكن واجه السوريون أيضاً أدغالاً من حواجز إضافية تقدمها البيئات المؤسساتية والسياسية للبلدان المضيفة.
أكبر هذه التحديات هي تحديات قانونية. في لبنان، حيث لا يستطيع السوريون تسجيل منظماتهم رسمياً، يجب عليهم التسجيل كمنظمة لبنانية (مما يتطلب شريكاً لبنانياً)، أو التسجيل في بلد ثالث أو تحاشي التسجيل الرسمي. ولكن من دون تسجيل رسمي تصبح حتى النشاطات الروتينية شبه مستحيلة. كما صاغها أحد الناشطين، "كيف أستطيع أن أدير منظمة غير حكومية عندما لا أستطيع حتى فتح حساب مصرفي؟" حتى في تركيا، حيث مُنِح السوريون حقوقاً قانونية أكثر وحيث وضع إقامتهم أقل غموضاً، تجبر اللوائح الحكومية أحياناً المنظمات غير الحكومية على الإغلاق. السبب الذي منع عيادة جمعية نارليجا من التسجيل لدى السلطات التركية هو أنها لا تستطيع تحمّل توظيف الطبيب التركي المطلوب من قبل التعليمات الحكومية.
أحياناً يواجه الناشطون عداءً علنياً من أفراد المجتمعات المضيفة الذين يشعرون بالتهديد من الأعداد المتزايدة للسوريين في أحيائهم. كمثال على ذلك، اعتاد بيت قامشلو، على تشغيل مركزٍ ثانٍ في منطقة أخرى من أنطاكية، حتى ظهر المؤسس في صباح أحد الأيام ليجد النوافذ محطمة. "في تركيا، هكذا هي الحال"، هز كتفيه مستهجناً. "إذا اشتكى شخص تركي إلى الشرطة على شخص سوري، فإنهم يعتقلون السوري. وإذا اشتكى شخص سوري على شخص تركي، فإنهم يعتقلون السوري أيضاً". في لبنان، عداء الدولة للسوريين أكثر وضوحاً. اتُهمت الحكومة اللبنانية بمحاولتها جعل البلد غير مضياف للسوريين إلى أبعد حد ممكن، على أمل تشجعيهم للعودة إلى سوريا، أو الانتقال إلى بلد شرق أوسطي آخر أو تجربة واحد من طرق الهجرة الخطرة إلى أوروبا. إحدى الأساليب هي التغيير الدائم المرهق لقوانين الإقامة –على سبيل المثال، يطلب من السوريين إيجاد كفيلين لبنانيين أو اشتراط دفع رسوم عالية من أجل تجديد تصاريح مؤقتة كل 6 أشهر. وأوضح مستشار وزير الداخلية اللبناني أن الشرطة غالباً ما تحتجز سوريين من دون تصاريح إقامة لمدة 4 ساعات، تطلق سراحهم وتعيد اعتقالهم بعد عدة أيام. "إن هذا غير منطقي قليلاً"، يقر المستشار، "ولكن علينا أن نطبق القانون". ويبدو أن هذه الاستراتيجية تعمل، ولو بشكل جزئي، إذ غادر لبنان العديد من السوريين الذين يملكون الوسائل لذلك إلى بلدان أخرى. أثرّت هذه المغادرات أيضاً على المنظمات غير الحكومة السورية: فمن أصل 7 مؤسسين لعيون سوريّة، بقي 3 فقط في لبنان –البقية يعيشون الآن في ألمانيا أو السويد.
التمويل هو مأزق آخر. إذ سرعان ما أنفق الناشطون مدخراتهم الخاصة، فضلاً عن تبرعات الأصدقاء والجيران، ثم أصبح عليهم البحث عن مساعدة طرف ثالث. لكن مشهد المانح يختلف من بلد مضيف لآخر بدرجة كبيرة. في لبنان، حيث يوجد مجتمع مدني مزدهر وتاريخ طويل من عمل منظمات غير حكومية دولية، يكون السوريون أوفر حظاً في العثور على دعم خارجي. لكن لدى تركيا خبرة معاصرة أقل مع الأزمات الإنسانية والحرب وما إلى ذلك، للمفارقة، فإن القطاع الخيري المستقل فيها أقل تطوراً من اللبناني. لذا فإن المجموعات السورية قد تذهب مباشرة إلى الحكومة، وفي أحيان كثيرة، إلى واحدة من بضع منظمات شبه حكومية معنية بالإغاثة. على سبيل المثال، تلقّت جمعية نارليجا أموال من جمعيات خيرية مثل (IHH, Yeryüzü Doktorlari, Deniz Feneri Derneği and Kimse Yok Mu)، ولدى الأربع صلات مع الحكومة التركية.
من بين كل الفاعلين المستجيبين لأزمة اللاجئين، لدى المنظمات غير الحكومية الدولية ربما العلاقة الأعقد مع الناشطين السوريين. ففي كل من لبنان وتركيا، تزود المنظمات غير الحكومية الدولية اللاجئين بالخدمات، وإن كان دورها في لبنان أهم بكثير. في بعض الحالات، تلقت المبادرات السورية منحاً ضخمةً من المنظمات غير الحكومية الدولية. قدّم المجلس الدنماركي للاجئين أموالاً لجمعية نارليجا للدفع لوجبات الإفطار ولترميم ملعب في المنطقة، وموّلت اليونيسيف برنامج عيون سوريّة: سوريا ببالي. ولكن يشعر الناشطون السوريون أيضاً بالإحباط بسبب الطرق التي يمكن أن تقوّض بها هذه المنظمات غير الحكومية الدولية جهودهم بغير قصد. كتب مؤسس بسمة وزيتونة، فادي حليسو في عام 2014 "بدلاً من تمكين المجتمع المدني السوري ومساعدته لبناء قدراته، فإن مجتمع المساعدات يجعلنا أكثر هشاشة"، وناشد المنظمات غير الحكومية الدولية أن تفكر ملياً بالنتائج غير المقصودة المترتبة عن نشاطاتهم(4). توق المنظمات غير الحكومية الدولية لتوظيف السوريين المحليين يُبعِد الموظفين أو المتطوعين من الجمعيات السورية. على سبيل المثال، استقال محلل البيانات في جمعية نارليجا ليلتحق بمنظمة غير حكومية دولية بارزة تعمل في أنطاكية والتي عرضت عليه راتباً أعلى (ورغم ذلك يبقى أدنى بكثير من رواتب الموظفين الدوليين). أيضاً غالباً ما يستاء السوريون من التراتبية الضمنية الموجودة بين المنظمات غير الحكومية السورية والدولية. يروي أحد الناشطين قصة شراكة بين منظمته غير الحكومية وممول منظمة غير حكومية دولية والتي تأزمت عندما أزالت المنظمة غير الحكومية الدولية النفقات العامة من ميزانيتهم المقترحة. "لا بأس لديهم بأن يضعوا ميزانية نفقات عامة ضخمة لهم –للسيارات، والفنادق والمطاعم والمصورين- ولكن لا يسمح بالنفقات العامة للمنظمات غير الحكومية السورية والمحلية". علاوة على ذلك، فإن منح المنظمات غير الحكومية الدولية غالباً ما تأتي مشروطة، لاسيما متطلبات تقديم التقارير التي تجبر المنظمات غير الحكومية السورية على تحويل الوقت والطاقة من نشاطاتها الأساسية. يرى البعض أن الضغط لتبنّي نموذج المنظمات غير الحكومية الغربية البيروقراطية يستنزف الجمعيات السورية من روابطها الشعبية ومرونتها التي جعلتها فعالة جداً بالمقام الأول. رغم ذلك، يعترف معظم الناشطين أن مبادراتهم من دون التمويل الغربي قد تذهب سدى، ولذلك فإن التعاون يستمر رغم التوترات.
تنظيم على المدى الطويل؟
لعل أكبر سؤال يواجه السوريين في المنفى هو الغموض الكامن حول المستقبل: متى ستنتهي الحرب؟ متى ستكون العودة ممكنة؟ هل يجب عليهم زرع جذور في أوطانهم الشرق أوسطية الجديدة، محاولة العبور الخطر إلى أوروبا أم التحلي بأمل العودة إلى سوريا؟.
لا توجد إجابات جيدة. لكن هناك شيء واحد أكيد: لم يبق السوريون خاملين في أوطانهم المؤقتة. على الرغم من الاحتياجات الهائلة والحواجز الهيكلية الكبيرة، أظهر السوريون الذين استقروا في مدن المنطقة إصراراً ومرونةً مفاجئين في تشكيل شبكات مساعدة ذاتية جماعية. لا ينبغي تصوير هذه الجهود برومانتيكية أو المغالاة فيها، بالتأكيد؛ لاتزال ظروف السوريين رهيبة. لكن على العكس من الصور الكاريكاتيرية الإنسانية للاجئين كضحايا سلبيين (لا فاعلين) بحاجة إلى رعاية دولية، فإن السوريين يقاتلون لإبقاء مجتمعاتهم سليمة والاحتفاظ بكرامتهم.
وبصرف النظر عما يخبئه المستقبل، فإن معظم الفاعلين المعنيين في الاستجابة لأزمة اللاجئين مهتمين برؤية هذه المبادرات ناجحة. إذ أن مجتمع المساعدات الدولي متعب بالفعل من الأزمة، كما بدأت الأموال تذوي. وبدأت المنظمات غير الحكومية الدولية بتقليص عملياتها وتقليل موظفيها وإغلاق مكاتبها. ولكن عدد السوريين لا يتضاءل –ومهمة التوفير لهم ستُلقى على عاتق الدول المضيفة، والمنظمات غير الحكومية المحلية والمنظمات المجتمعية الخاصة بهم. وإن بناء قوة هذه المجتمعات سيسمح لهم بالدعم الأفضل لأنفسهم في المنفى، وفي نهاية المطاف، المساهمة في إعادة بناء سوريا ما بعد الحرب.
الهوامش:
1- إن كل الاقتباسات في المقال من مقابلات أجراها كاتبا المقال في لبنان وتركيا في صيف عام 2015، مالم يذكر خلاف ذلك. وغُيّرت كل أسماء من تم مقابلتهم.
2- تتوفر العريضة على الرابط
3- للمزيد انظر الرابط
4- Fadi Hallisso, “Syrian Civil Society in Lebanon: Challenges and Opportunities,” Open Democracy, October 27, 2014.
المصدر:
Mobilizing in Exile | Middle East Research and Information Project
ترجمة: يسرى مرعي
مترجمة من سوريا، تترجم عن اللغتين الإنجليزية والروسية. تركز في ترجماتها على الدراسات التي ترصد علاقة الحداثة بالعمارة في الشرق الأوسط. إضافة إلى الاهتمام بالدراسات حول الإسلام اليومي والاستشراق.
كيليان كلارك - غوزدي غوران
كيليان كلارك:
طالب دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة برينستون، مهتم بكيفية إشتراك الناس العاديين في السياسة، لا سيما من خلال الوسائل المثيرة للجدل وغير المؤسسية مثل الاحتجاج، التظاهر والإضراب ...
غوزدي غوران:
طالبة دكتوراه في علم الاجتماع في جامعة برينستون.
اترك تعليق*
* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:
- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.
- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.
- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.