الإعلام البديل كمجال عام

19 آب/أغسطس 2018
 
في مطلع التسعينات، تحديدًا حين بدا أن النظام السوري قد ثبّتَ عناصرَ حكمه ولن ينازعه أحد بعد قمعه العنيف لانتفاضة الثمانينيات؛ طُلب من أحد الرسامين أن يرسم لوحة ليتم تعليقها في مكتب الرئيس السوري حافظ الأسد.
اختار هذا الرسام تصوير معركة حطين، التي هزمَ فيها صلاحُ الدين الصليبين و استعاد القدس، وأضاف فوقها صورة كبيرة لوجه الأسد، مضيفا عبارة:  "من حطين إلى تشرين" - في إشارة إلى حرب تشرين/ أكوبر عام ١٩٧٣ -. وُزِّعَتْ هذه اللوحة على نطاق واسع أثناء الاستفتاء الشعبي لإعادة انتخاب الرئيس عام ١٩٩١ [1] والتي فاز بها بنسبة ٩٩,٩٩ %.

تختصر القصة السابقة إلى حد كبير ملامح الدولة السورية تحت حكم نظام الأسد، وتحديدا ملامح الخطاب الإعلامي و الدعاية للنظام السوري، والمرتبط مباشرة بأجهزة الدولة وسياساتها القمعية، إذ تتحول الصور والخطاب الرسمي إلى شكل من أشكال القوة بحد ذاتها، الذي يقرن العنف الرمزي - كما يسميه بيير بورديو Pierre Bourdieu - بالعنف المادي، وهو ما يجعل الحالة السورية عصية أحيانا على التفسير، فإما أن  "سوريا حالة استثنائية للنماذج التفسيرية المطروحة من قبل الدارسين، و إما أن مفاهيمهم المحورية غامضة إلى درجة أنها لا تقدم تفسيرا واضحا تماما"، فلا يمكن للدراسات  التي تركز على الجوانب المادية ببساطة أن تفسر لماذا تنفق الحكومة السورية مبالغ باهظة من المال وموارد مادية نادرة لصياغة الرموز، بدلا من حشد مواردها لزيادة قدرتها على الإكراه أو على العكس، الشراكة مع المواطنين بالموارد والخدمات.
 
لم ينافس النظام السوري على المصالح المادية بقدر ما نافس على العالم الرمزي وإدارة المعاني و المشاعر لدى السوريين. إذ توضح البروفسور ليزا وادين  في كتابها المؤسس "السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب، والرموز في سوريا المعاصرة"، كيف نجحت استراتيجية النظام السلطوي السوري، باستخدام الرموز والبلاغة لإنتاج السلطة السياسية، للمساهمة في استمراره.
 
تتمركز هذه الظاهرة في سوريا بشكل كبير على ظاهرة "تقديس الأسد". فالسيطرة بالمطاوعة تتم عبر المشاركة الإجبارية في فعاليات الامتثال، سواء من صانعيها أو مستهلكيها. لتصبح هذه الظاهرة أداة ضبط تفرز سياسة الخداع العام التي يتصرف المواطنون بها " كما لو" أنهم يحترمون قائدهم، رغم أن الغالبية العظمى من السوريين لا يثقون به. ولا يهم النظام السوري أن يصدق السوريون هذه العروض.

وبدا ذلك واضحا بتغير الخطاب السريع بحسب الأحداث السياسية، وبطريقة متناقضة بكثير من الأحيان، مثل وصف حافظ الأسد “فارس الحرب” و”رجل السلام” في الوقت نفسه، مع دخول لبنان عام ١٩٦٧، ومشاركة النظام الاشتراكي لجانب الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية، بالإضافة لاستدخال مصطلح “المبايعة” الديني للاستعداد لعملية توريث النظام العلماني، بل المهم أن يتصرفوا "كما لو" أنهم كذلك. [2]
 
سياسة المطاوعة بدل الشرعية فعالة سياسيا بالنسبة للنظام. إنها تعيد تشكيل الحياة السياسة، برسم خطوط عريضة للحديث والسلوك المقبولين، وتضع قواعد العضوية الوطنية (من هو المواطن، أو من هو المتهم بـ"توهين نفسية الأمة"، بحسب التهمة الدارجة لدى النظام السوري)، كما أنها، بالتقاطع مع السياسات الأمنية، تعزل السوريين عن بعضهم البعض، وتزحم الفضاء العام بشعارات وإيماءات زائفة و متعبة لمن ينتجها و يستهلكها على حد سواء.
 
هذه الخطابية- السياسية أدت بالنتيجة إلى الدخول في الخطاب الرسمي، بأبعاد ثلاثة: قتل السياسة بالإظهار الدائم للولاء، وتقويض قدرة الفعل لأولئك الذين يكذبون بشكل منظم، وتحول النقاش السياسي العلني من التحدي والمحاسبة إلى التملق والتزلف. فتحولت المقاومة إلى حالات فنية واجتماعية، رمزية كذلك، برضا النظام أو رغما عنه، مثل مسرحيات “ضيعة تشرين” التي حضرها نظام الأسد، وبالنكات الدارجة وبرامج التلفزيون - أشهرها "مرايا" و"بقعة ضوء" - والكاريكاتير - مثل رسومات علي فرزات، الرسام السوري الذي كسر النظام السوري أصابعه مطلع الثورة كتعبير رمزي وتخويف مادي -، والتي بلغت حالة غير مسبوقة من “الحرية” النسبية في عهد بشار الأسد الابن، ترافقت مع حالة العولمة وثورة الاتصالات وخطاب النظام الجديد على أنه إصلاحي و"حديث" ومختلف عن نظام الأب.
 
يقع الأسد في قلب الخطاب والدعاية السياسية، بما تركز وادين على تسميته بـ"تقديس الأسد"، إذ لا يمثل الأسد الشخصية الاستثنائية و"الأب" الرسمي و"الفارس" و"القائد الخالد"؛ وحسب، بل هو أيضا: "رجل من الجماهير"، و"أخ الآخرين"، و"وواحد منكم"، ويأتي حوله ثلاثة اعتقادات شائعة في الخطاب الرسمي:

أولاً: فكرة الممانعة، وأحد معانيها أن النظام السوري يحمي السوريين من المؤامرة الإمبريالية والعالمية، وفي قلبها إسرائيل،

ثانياً: فكرة المقاومة، وتعني أن هضبة الجولان، الأرض السورية المحتلة، ستعود لسوريا، وأن سوريا تمثل منصة انطلاق ودعم لحركات المقاومة الفلسطينية تحديدا، والعالمية بشكل عام، وثالثا: أن النظام السوري جلب لسوريا استقرارا غير مسبوق، وهي ما تجلى بعد الثورة السورية بخطاب الشبيحة الشهير: الأسد أو نحرق البلد.
 
وحول الأسد كرمز مقدس؛ تبنى نظام الأسد رموزا تخضع لتفسيرات متباينة، ذات قيمة تاريخية وثقافية للمواطنين، يربط الأسد بينها وبين نفسه، ليربط نفسه بها وبذكريات المجد الجماعي، مثل معركة حطين تاريخيا، وصلاح الدين، لارتباطها بفلسطين ورموز المقاومة الفلسطينية التي تقع في عمق الخطاب للنظام السوري.
 
 
سوريا الأسد: ”سوريا المتوحشة“
 
مثلما فشلت وادين بإسقاط نظرية اجتماعية- سياسية على فكرة ”عبادة الأسد“؛ لم يستطع الباحث الفرنسي ميشيل سورا Michel Seurat إسقاط نظرية علوم سياسية على النظام السوري في حقبة حكم حافظ الأسد، الذي كانت سوريا تحت ظله بها: ”سوريا المتوحشة“، كما يصفها [3]، إذ رأى سورا أن حنة أرندت فشلت بتطبيق مفهوم " الإرعاب"، كما لم ينطبق "طغيان" ليو شتراوس تماما على الحالة السورية.

ويرى سورا  بمنطق العصبية الخلدونية، أن حافظ الأسد عمل على اختزال الجيش بالطائفة العلوية، ثم اختزال الدولة السورية بالجيش، ثم اختزال الدولة في شخصه، مستخدما العنف والترهيب والقمع لآخر درجاته، مما أخلى المجال العام تماما من أي محاولة سياسية أو ثقافية.
 
هذا المزيج النادر[4] والذي سار تدريجيا ومؤسساتيا، بين الشخصنة، التي تتمحور بها إنجازات الدولة، من ناحية، و“المأسسة“، للأدوات القمعية والرقابية التي تدير الشؤون العامة والخاصة، على مستويي و نمطي القيادة التي رآهما ماكس فيبر: الكاريسما - الرمزية والمعنوية - والتنظيم - الملموس والمادي -، بدا واضحا في الشعار الرمزي ”سوريا الأسد“، الذي ملأ الشوارع في فترة من الفترات.
 
فعلى مستوى التنظيم، ارتبطت الأجهزة الأمنية الكثيرة (وعلى رأسها المخابرات الجوية)، متفاوتة الصلاحيات والمتنافسة فيما بينها، ومراكز القوى المختلفة، سياسيا واقتصاديا، بشخص الأسد وأمره مباشرة. واخترقت المجتمع بكل امتداداته وطبقاته، وعملت على ممارسة العنف باجتياح حياة المواطنين الخاصة، ومنعهم من التعاطي بالحياة العامة، باستخدام أدوات العنف المادي الخالص، التي تبدأ بالسجون وتنتهي بالمقابر. فاستطاعت من خلال هذا العنف المادي المفرط أن تتحول، مرة أخرى، إلى العنف الرمزي، واستطاعت أن تنجح بإخافة الناس من بعضهم ومراقبتهم لبعضهم البعض، كي يستتبّ الأمر للأجهزة وتطمئن الى سيطرتها.
 
على الجانب الآخر، ملأت الأجهزة والتنظيمات المرتبطة بالنظام، وبالتالي مباشرة، المجال والحياة العامة، إذ شكّل حزب البعث، بموازاة الجيش والبيروقراطية والقوى المخابراتية المختلفة، أداة أخرى للنظام، إضافة لارتباطه بالمنظمات الشعبية من اتحادات نقابية وشبابية ونسائية وفلاحية، وإيلاء فروعه مهمة مراقبة المدارس ومناهجها والإعلام العام وبرامجه، وتقديم منح التخصص وتوفير فرص العمل، ليستتب المجال العام تماما للنظام السوري، وتتحول الدولة إلى نظام، والإعلام إلى دعاية، والسياسة إلى مطاوعة.
 
لعبت سياسة ”كما لو“، المرتبطة بـ“تقديس الأسد“، مترافقة مع القمع والخوف، دورها على أكمل وجه، إذ استطاع الخطاب والبلاغة والرموز "الناجحة" خلق حالة "المطاوعة" للنظام، ولو كانت بدون "شرعية" أو "كاريزما" أو "سلطة قانونية "، فما يهم النظام السياسي، في النهاية، هو "الطاعة"، لا صدق الحب أو الانتماء.
 
لم تكن حالة "سوريا الأسد" حلا لمعضلة الحكم بلا شرعية أو كاريزمية وحسب؛ بل اختارها الأسد حلا لإشكال الأزمة التي تعاني منها الدول حديثة الاستقلال؛ والتمثلة ببناء دولة فاعلة ذات نظام سياسي قادر على فرض سيطرته واحتكار العنف. وفي الوقت ذاته قادرة على الحصول على دعم من قواعد واسعة، وإيجاد حس بالانتماء الوطني، فكان على النظام السوري أن يختار بين الضرورات المتصارعة للدلة ولبناء الأمة، بين بعض الممارسات التي تستثني البعض من الانتماء لفرض السيطرة، والسياسات التي تشمل الجميع لإيجاد هوية جماعية وطنية، في مجتمع متعدد الأعراق والطوائف والولاءات القبلية والعالمية، وأدبيات قومية عربية تعقد المشهد، من خلال آمال وتطلعات كبيرة تتعارض مع الاستقرار والسياسة الداخلية. [5]
 
 
كانت حالة "سوريا الأسد" ممثلا للتناقض بين تشكيل الدولة وبناء الأمة [6]، إذ يمثل تقديس الحاكم محاولة للتميز بين النخبة المقدسة، وبقية الجماهير البسيطة المفتقرة إلى خاصية القداسة.

وهذه الحالة "سوريا الأسد" استطاعت جزئيا، أن تكون حلا لإشكالية بناء الأمة والدولة على المستوى الرمزي، ولكنها فشلت بذلك على المستوى العملي، فاستطاع ملأها باستخدام فرض الطاعة، عوضا عن الشرعية والكاريزما.
 
إعلاميا، لم يخرج الإعلام الرسمي إطلاقا عن هذه المنظومة المؤسساتية- الشخصية؛ إذ عملت الصحف والقنوات والإذاعات الرسمية، في عهد الأسد الأب، كناطق رسمي باسم النظام وخطابه ولغته، بينما منعت أي ممارسة إعلامية خارج هذا الإطار، ولم تمنح أي مؤسسة إعلامية خاصة تصريحا بالعمل. وفي عهد بشار الأسد بالترافق مع ”اللبرلة“ الاقتصادية وطرح نفسه على أنه ”رائد مسيرة الإصلاح و التحديث“، وانتشار الاتصالات والتقنية، وجد استثناء: ففي عام ٢٠٠٠حصلت صحيفة ”الدومري“ لصاحبها الفنان السوري علي فرزات على تصريح بالنشر ، والذي زاره بشار الأسد عدة مرات في معارضه الفنية ووعده بهذا الترخيص، قبل أن تغلق الصحيفة عام ٢٠٠٣ بمرسوم قضائي.
 
الإعلام الوظيفي والثورة
 
كان انفجار الثورة السورية هو انفجارا لكل هذه التناقضات، بين المادي والرمزي، والدولة والأمة، والخطاب والسياسة، إضافة للتناقضات والمفارقات الاجتماعية والسياسية، كما كان انفجارا لكل الكوامن والمكبوتات التي لم تجد مجالا عاما أو إعلاميا يتلقاها على مدى أربعين عاما. وكان انفجار اعتياديا، ليس على المستوى المجازي وحسب؛ بل تجلى حرفيا، بتوجه المتظاهرين إلى التماثيل والصور والرسوم المنتشرة للأسد، الأب والابن، وحرقها وتحطيمها، حتى قبل حرق أو استهداف النقاط الأمنية أو العسكرية على سبيل المثال.
 
كان المجال العام - أي الإطار المفتوح المستند إلى شبكة تواصل تؤمن تبادل المعلومات ووجهات النظر والمواقف حول موضوعات محددة، بحسب تعريف هابرماس [7]. أو المجال العام الذي قد يتسع أو يضيق، وقد يكون له اهتمام بما يجري داخل العائلة وبالمثل على الجانب الأخر للدولة[8] - غائبا أو شبه ميت كما في لحظة اندلاع الثورة السورية.
 
احتل النظام السوري العام من خلال مؤسساته الحزبية والمنظمية والنقابية، بما يمنع تبادل الآراء، كما أبقت ما استطاعت المنتديات الفكرية للمهتمين بالشأن العام ضيقة ومحدودة جدا، وهشة لتعرض أفرادها للإيقاف الأمني والمساءلة في أي وقت، ناهيك عن الخوف المشترك من الاختراق الذي زرعه النظام في سياسة العنف الرمزي التي انتهجها. [9]

استعاضت الثورة السورية والثوار السوريون عن هذه المساحة بجانبين اثنين:

 الأول: قد خلقوه خلقا في الساحات والشوارع والميادين. والثاني: اخترقوا به مساحة الفضاء الافتراضي، وحولوها إلى مجال عام، ممثل لأصوات المتظاهرين، ومعبر عن تطلعاتهم، وباعث لرسائل جديدة بالتفاعل مع المجال الأول.
 
لم تكن المظاهرات السورية في الساحات والميادين مجرد حالة تعبيرية عن رفض سياسي ومواجهة حادة مع النظام الحاكم، بل كانت محاولة استبدالية للسلطة والهيمنة والرموز السابقة، بدءا من إعلان المظاهرات تبنيها لعلم الاستقلال كعلم للثورة ومعبر عن الثوار، ومتمايز عن حاضر وتاريخ ورموز النظام، ومرورا بالرسائل الغنائية والمرسومة التي خلقها السوريون، بما يصفها الزيات بأنها ”أبدع حدث سياسي - فنّي في تاريخ البلاد منذ عهد الرومان تقريبا“ [10]، وشكلت الخطاب السياسي- الاجتماعي الشعبي للثورة السورية، ووصولا إلى كونها طقس عبور، وكإعلان للردة عن الطقس الرسمي المتمثل بـ“تعظيم الأسد“.
 
لعب الإعلام الثوري في هذه المساحة دورا توثيقيا بالدرجة الأولى، واستطاع المتظاهرون خلق شبكاتهم الصحفية والميدانية على الأرض، ثم تنظيم عملهم الإعلامي ضمن شبكات إعلامية أوسع، تنشر بذاتها هذه الخطب والرسائل، وتتصل مع الشبكات الإعلامية الأكبر والأقدم سعيا لإيصال الصوت، انتقالا من شاهد العيان إلى المواطن الصحفي إلى الصحفي، كمحاولة لتعويض الفراغ الشاسع والذي ساد قبل اندلاع الثورة، فكان الإعلام البديل، بالأدوات والخطاب واللغة، متمايز عن إعلام النظام ومغاير له.
 
أما حول الفضاء الثاني، فقد ساهمت سياسة "الإصلاح والتحديث" التي اتبعها نظام الأسد الابن، ضمن تحوله من الاقتصاد الاشتراكي إلى النيوليبرالي والسوق المفتوح، بترسيخ ثقافة التقنية الحديثة وتطوير وسائل الاتصال، كامتداد لنشر المعلوماتية منذ بداية التسعينات من خلال ما أطلق عليه "البرنامج الوطني لنشر المعلوماتية"، الذي أدمج في التعليم الأساسي، مترافقا مع الانفتاح الاقتصادي الذي جعل التقنية ووسائل الاتصال الحديثة جزءا رئيسا من عمل القطاع الخاص والخدمات.
 
إلا أن درجة تأثير المجتمع الافتراضي بقيت مرتبطة بالسياسات الحكومة وقيودها المفروضة، إذ وصل عدد المواقع التي حجبتها السلطات السورية إلى ١٦١ موقعا [11]، تضم المواقع الرسمية أو المحسوبة على الجهات المعارضة للنظام السوري بكل أطيافه، اليسارية والإسلامية (الإخوان والتحرير مثلا) والكردية، داخل وخارج سوريا (حركة ١٤ آذار على سبيل المثال، وصحيفتي إيلاف والشرق الأوسط السعوديتين)، إضافة لموقعي فيسبوك ويوتيوب، وأمازون.
 
عندما رفعت السلطات السورية الحجب عن موقع فيسبوك في شباط/ فبراير ٢٠١١، بلغ عدد مشتركي الموقع أربعمائة ألف مشترك من سوريا خلال أسبوعين فقط، بما يعكس الحاجة لاستخدام هذا الموقع.
 
وبنظرة اجتماعية، سنجد أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يكثر في أوساط الشباب، إضافة للفئات الوسطى من المجتمع التي تكيفت وظيفيا مع هذه التقنيات، بكونها جزءا من تفاعلها، بامتلاكها القدرة الاقتصادية، مما يجعل فئة الكادحين أقل استخداما لها.
 
ولطبيعة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كانوا أكثر وأكثر تفلتً من سطوة الإعلام الرسمي والخاص، وكانوا هم المؤثرين بدرجة كبيرة في الخطاب السياسي الثوري الافتراضي، الذي وجد صدى وكان رد صدى للميادين والساحات، دون أن يكون هو الرافعة الأساسية لهذا الحراك، بما يمثل امتدادا وتكرارا للتجربة التونسية والمصرية بدرجة كبيرة.
 
ولكن على خلاف مصر وتونس، فقد لعب المهاجرون والمنفيون السوريون دورا فاعلا في هذا المجال، لانفتاحهم واستخدامهم هذه الوسائل بشكل كبير، والذين وصل عددهم التقريبي إلى ملايين نسمة بالحد الأدنى المضبوط. وجد المتفاعلون منهم مع الثورة السورية إمكانية الدخول والاختراق عبر الصفحات التي كان قسم كبير منها يدار من الخارج، وأبرزها "صفحة الثورة السورية"، التي كانت مسؤولة عن تسمية أيام الجمع.
 
وبالتفاعل بين هذين المجالين، الميداني والافتراضي، تشكل الخطاب السياسي والاجتماعي للثورة السورية، بالأدوات والرموز، إذ أصبحت سوريا ميدانا ” لأكثر صراع استخدم به الإعلام الاجتماعي في التاريخ“ [12]، لا لتوثيق ونقل الحوادث وحسب، ولا للتحريض والدعاية والحشد فقط، بل لخلق الخطاب واختراق البنية المغلقة التي كان النظام السوري مهيمنا عليها، وأخيرا تجد طريقها إلى خارج سوريا عن طريق القنوات أو الصحف، ثم نقاش تبعاتها والتفاعل معها افتراضيا كما هو ميدانيا، وبينهما، ضمن شبكة متشظية، سواء على المستوى الجغرافي بحسب المناطق والمجتمعات المحلية الصغيرة، أو عمليا بتنسيق وترتيب العمل الميداني.
 
تطورت هذه الشبكة الاجتماعية- السياسية- الافتراضية مع الوقت، و“تصفت“ شيئا فشيئا سواء باستهداف فاعليها (المنسقين، الإعلاميين، الميدانيين) مباشرة من قبل النظام السوري، أو بالتنافس والتطور بين هذه الشبكات، ليقتصر المشهد الإعلامي على بضعة شبكات كبيرة مركزية ضمن الشبكة اللامركزية الأكبر (مثل شبكة شام)، دون تنظيم وخلق لهذا الخطاب إلا على المستوى الفردي بالأشخاص والشبكات، مترافقة مع تحول في المشهد السوري العام من طابع المظاهرات إلى السلاح، ومن المجتمعات إلى الفاعلين (مدنيا أو عسكريا)، مما خلق إعلاما يمكن وصفه بـ“الإعلام الوظيفي“، المرتبط بهؤلاء الفاعلين تحديدا، ليهيمن شيئا فشيئا على الخطاب العام الثوري، مع اختزال واختصار مساحة النقاش والتفاعل الثوري العام، وغياب الفاعلين السياسيين والمدنيين والمنظرين للثورة التي تحولت في تلك الأثناء إلى حرب.
 
 
خلاصة: من "كما لو“، إلى ”لُعنت لولا “  
 
لعل البعد الأهم والأبرز الذي لعبه ”الإعلام البديل“ لم يكن مجرد توثيق الحالة الثورية والحشد لها، بل مثل محاولة تجاوز واختراق لكل البنية السياسية والاجتماعية السابقة، وكان ”مجالا عاما بديلا“.

ففي الوقت الذي قام به النظام السوري بتثبيت نفسه مستخدما سياسة مطاوعة ”كما لو“، القائمة على تعظيم الأسد، الذي تتجسد به الدولة ومؤسساتها وفضاءاتها؛ عملت الثورة السورية، المتمثلة بكلمة الشاعر العراقي مظفر النواب: ”لولا، لعنت لولا؛ ملعون من يتبعها“، على كسر المجال والتحرر من التبعية، وخلق المجال العام البديل.

لقد اعتنت الثورة بمواصلة تطوير الفرد والمؤسسات. وكانت امتدادا عموديا للتاريخ والتجربة الاجتماعية والسياسية السورية، وأفقيا، متقاطعا مع ثورات الربيع العربي الأخرى، لكنه لم ينضج ولم يكتمل بعد، وإنما فتح كوة وثغرة هامة واختراقا في جدار الصمت والخوف المتوحش.

الهوامش:

[1] ليزا وادين، Lisa wedeen , السيطرة الغامضة: السياسة والخطاب والرموز في سورية المعاصرة، ترجمة نجيب غضبان، ط١ (بيروت: رياض الريس للنشر والتوزيع، ٢٠١٠)، ص٤٥.
[2] انظر: المصدر السابق، الفصل الأول، ص٣٧- ٧٨.
[3] انظر: ميشيل سورا، الدولة المتوحشة، ترجمة أمل سارة، مارك بيالو، ط١ (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ٢٠١٧).
[4] زياد ماجد، ”كيف نجح الاستبداد في الإطباق على سوريا خلال حقبة نظام الأسد؟“، مدونة زياد ماجد، انظر الرابط.
[5] وادين، المصدر السابق.
[6] أنظر: برهان غليون، المحنة العربية: الدولة ضد الأمة (باريس: دار طبعات لا دوكوفرتيه، ١٩٩١).
[7] أنتوني غدنز، علم الاجتماع (مع مدخلات عربية)، بمساعدة كارين بيردسال، ترجمة فايز الصياغ، ط٤ (بيروت: المنظمنة العربية للترجمة، ٢٠٠٥)، ص٥١٠.
[8] انظر: عزمي بشارة ، المجتمع المدني: دراسة نقدية، ط٦ (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٢).
[9] انظر: حمزة المصطفى Hamzah Al Mustafe، المجال العام الافتراضي في الثورة السورية، ط١ (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).
[10] ياسر الزيات، "أغنيات الثورة السورية.. من الأرض لأجل الإنسان"، ألترا صوت، انظر الرابط.
[11] قائمة بالمواقع المحجوبة من قبل المؤسسة العامة للاتصالات، انظر الرابط.
[12] Marc Lynch, Deen Freelon, Sean Aday; “Syria’s Socially Mediated Civil War”, United States Institute of Peace
عبيدة عامر - ليلى الرفاعي


عبيدة عامر:
كاتب ومترجم سوري، مهتم بالتاريخ الاجتماعي والسياسي لسوريا. عمل كاتباً في عدد من الصحف، وصدرت له ترجمة اثنين من الكتب، الأول «نفط الدم» عن دار جسور، والآخر «ما وراء الغرب العلمانيّ» عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

ليلى الرفاعي:
باحثة ومدوّنة سورية. مشتغلة بالعمل على تأريخ الحراك الثوريّ السوريّ، ودراسة المكونات الدينية السورية في سوريا ما قبل وما بعد الثورة.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.