كيف يصنع حزب العمال الكردستاني أمته في سوريا؟ (3-1)... دراما القطيع

21 تموز/يوليو 2017
 
مقدمة:

بعد اعتقال عبد الله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1999 اشتدت ضغوط الأمن السوري على أنصار الحزب. انتهى شهر العسل الذي دام قرابة العقدين، وتوج بتوقيع اتفاقية أضنة الشهيرة، الذي رمى لملاحقة الحزب في كل من سوريا وتركيا.
دفع هذا بالكثيرين لتغيير وجهة نظرهم عن الكردستاني. على الأقل كانت التوقعات بتخليه عن سلوكياته العنيفة تجاه الآخر المختلف، وأن يتبنى نهجاً مغايراً لما عرف عنه من تزمت وتسلط. رغم أنه لم يأت بأي منجز كردي، ولم يمتلك على الأرض مقومات السلطة بالمعنى المتعارف عليه. اذ كانت وما تزال سلطاته نابعة عن الرعب من أعمال التصفية والضرب بحق كل من ينتقده.

لم يمض الكثير من الوقت حتى اكتشف الكثيرون ممن تعاطفوا مع الكردستاني نتيجة ظروف تلك المرحلة- ما بعد اعتقال أوجلان- أن الحزب الأم قد عاد للواجهة من جديد في سوريا تحت اسم حزب الاتحاد الديمقراطي PYD. وقد أبدى الحزب في السنوات الأولى من تشكله شيئاً من الليونة والمرونة مع محيطه السياسي السوري والكردي. لاحقاً تبين أنها لم تكن سوى مرحلة لضمان بقائه في مواجهة تبعات اتفاقية أضنة. اذ سرعان ما استعاد أدواته القمعية، ضرب وتصفية؛ ومع بدء المظاهرات السلمية في سوريا، ظهر سريعاً بشكل علني وصريح كقوة منظمة ومتحكم بها.

وبعكس ما يردده البعض حول ظهوره في منتصف 2012، كان الظهور الحقيقي في حلب يعود لمنتصف أذار 2011. يومها أخذت تنطلق المسيرات المؤيدة للكردستاني من شارع عشرين بحي الشيخ مقصود رافعة أعلام الحزب وصور قائده، وبحماية كاملة من مجموعات ملثمة ومسلحة بشكل خفي، كما تذيلت تلك المسيرات سيارات الأمن السوري. كانت الشعارات تقتصر على المطالبة بإطلاق سراح أوجلان مع أغاني حماسية عبر مكبرات صوت محمولة على سيارات ذات صناديق، قيل إن بداخلها مقاتلين قدموا من جبال قنديل. ثم تتوجه تلك المسيرات نحو حي الأشرفية لتصل إلى الدوار الأول، لتعود أدراجها مجدداً إلى شارع عشرين في حي الشيخ مقصود، معقل الكردستاني في حلب.

في تلك الفترة لم تأبه قوى المعارضة السورية السياسية والعسكرية، ومن خلفها الدول المساندة للحراك السوري "للغول" الذي كان يتضخم بسرعة. كانت المقولة الرائجة أن الكردستاني سينتهي مع سقوط النظام الذي يقوم بدعمه ويخلي له المواقع. حتى تركيا العدوة اللدودة للكردستاني لم تكن تتصور في يوم من الأيام كل هذا الصداع نتيجة تمكن الكردستاني من السيطرة على حدودها الطويلة مع سوريا. اذ كانت ترمي الخطة التركية إلى حشر مقاتلي الكردستاني في المحرقة السورية ليتم التخلص منهم، لكن الرياح جرت عكس التوقعات. فقد استطاع الكردستاني بفضل سياسة "تاجر الشنطة"(1)، أن يستفيد من لعبة محاربة الإرهاب ليقدم نفسه للعالم، كما النظام السوري، على أنه محارب عتيد يعتمد عليه في مواجهة الإرهاب الذي بات يقلق العالم.

اليوم عبثاً يسعى الكرد السوريون إلى محاولة إقناع الكردستاني لتوحيد الصفوف من أجل خدمة القضية الوطنية السورية العامة، المتمثلة في الحرية والكرامة والديمقراطية لارتباطها الوثيق مع جزئية عدالة قضيتهم القومية، لكن دونما جدوى تذكر. ذلك أن تحويل وجهة منظمة ميلشياوية باتجاه خدمة قضايا الشعوب أمر لم يسبق وأن حدث عبر التاريخ. فهكذا تنظيمات كما هو معروف، تعتاش بالأساس على الأزمات والقلاقل، كما تتنقل من منطقة لأخرى تبحث عن ساحات ومستنقعات الحروب والمعارك لتقتات عليها.

إذن ما الحل؟ هل المواجهة العسكرية مجدية؟ وهل استطاعت تركيا ثاني أكبر جيش في حلف الناتو من تقليم أظافر الكردستاني خلال صراع دخل عقده الرابع؟ وهل المهاترات والسجالات الصبيانية قد تودي لنتائج مرجوة مع منظومة تعتمد أصلاً على الدعاية المضادة والإشاعة والمراوغة سبيلاً لتحقيق أهدافها؟.

منطلق الحل الحقيقي لمشكلة الكردستاني المستعصية يكمن في إيجاد إرادة جدية لحل القضية الكردية في كل من سوريا وتركيا تحديداً. وللأمانة لا يمكن البدء بالحل مع وجود الكردستاني، نظراً لاحتكاره القضية، مصدر ارتزاقه. فالعلاقة متعدية بين الحل وبين كف يد الكردستاني. كما أن البداية الجادة في تفكيك الكردستاني تبدأ عبر عملية تشريح واسعة لوضع خارطة لمنظوماته المعلنة والخفية، عسكرياً وسياسياً واقتصاديا ومدنياً. هذا التفكيك يسهل الوصول إلى تجفيف المنابع التي يختبئ تحتها الكردستاني، متنكراً بأزياء ومسميات مختلفة يسعى من خلالها لعرقلة الحلول وفرملة النوايا الحسنة، وكذلك للهروب من قبضة القوانين الدولية التي تسعى للحد من تفشي المنظومات التي تعمل دون وازع أخلاقي. مثلاً لا يمكن محاربة ظاهرة تجنيد القصر من الفتية والفتيات لحشرهم في معارك الكردستاني دون معرفة شبكاته التي تعمل على رصد ومتابعة المشاكل الاجتماعية للاستفادة منها في الدفع باتجاه تجنيد المزيد من هؤلاء القصر. لابد من خلق منظمات بديلة ترعى هؤلاء وتقوم على توعيتهم، كما تعمل على إيجاد بدائل. بالإضافة لذلك، لا بد من فضح دوافع وأهداف تلك المنظمات المتخفية بلبوس اجتماعي أو مدني. الأمر ذاته ينطبق على الإعلام. ذلك أن إيجاد مؤسسات إعلامية كردية مهنية وذات مصداقية واستقصائية تستطيع مواجهة زيف وأكاذيب الكردستاني من شأنه أن يقوض هيمنته على الرأي العام الكردي والعالمي. دون ذلك كل الحلول تدخل في خدمة الكردستاني.

ولذلك ضمن سياق التفكيك لمنظومة العمال الكردستاني في سوريا، تأتي هذه الحلقات الثلاث، والتي اعتمدت في جزء كبير منها على التجربة الشخصية من خلال احتكاكي بالكردستاني في حلب وعفرين طيلة عقدين ونيف. مذ كنت طالباً في المرحلة الثانوية، حاولت قدر الإمكان أن اعتمد المثال، النموذج، لتوضيح الفكرة ولكشف المزيد من زوايا الرؤية حتى لا أغلق البحث على شخصنة المواضيع، ولترك الباب مفتوحاً أمام المزيد من المقارنات.

وأخيراً لا بد من الإشارة الى أن هذه الحلقات تطمح إلى ما هو أبعد من التوثيق والتأريخ. إلى التفتيش عن منمنمات صغيرة لا تنتمي إلى المتن بقدر كونها في الهامش، نتيجة أهميتها في بنية منظومة الكردستاني. تفاصيل اعتبرها البعض في مراحل معينة من المعيب تشخيصها أو الوقوف عليها. ترفع عنها المثقفون والساسة وتجاهلوها، لكنها بالنهاية تراكمت وبدت أنها جوهر المعضلة بالنسبة للعمال الكردستاني، وسر تحكمه بشريحة واسعة من الكرد.

لمحة عن نشوء جناح العمال الكردستاني السوري
:

مع بدء جلسات المحاكمة والتحقيق مع عبد أوجلان، طلب الأخير من قادته حل الحزب والتوقف عن الكفاح المسلح ضمن صفقة سرية أبرمت مع بولاند أجاويد، الذي كان يقود الحكومة التركية وقتها، لقاء تخفيف الحكم عليه ووضعه تحت الإقامة الجبرية. وفعلاً تخلى الكردستاني عن اسمه ليشكل ما عرف بمؤتمر الشعب الذي تحول لاحقاً إلى مؤتمر الحرية والديمقراطية الكردستاني أو ما عرف اختصاراً KADEK . تتالت بعدها التغيرات، وتحول إلى اتحاد الجمعيات الكردستانية KKK، ثم رسي على منظومة المجتمع الكردستاني KCK (2). في هذه الفترة تخلى الكردستاني عن الماركسية كفلسفة ونهج ورمى خلفه مشروعه القومي المتمثل في إقامة دولة كردية. صار الحزب أقرب إلى مشروع معارضة مدنية هدفها إجراء جملة إصلاحات سياسية واقتصادية بلبوس ديمقراطي.

في السياق ذاته وتزامناً مع هذه المتغيرات، طلب أوجلان من قادة الحزب في قنديل تأسيس أحزاب بديلة عن الكردستاني في كل من سوريا والعراق وإيران (3)، وبمسميات مختلفة، لغسل ما تبقى من إرثه الذي بات يثقل كاهله في جزيرة إميرالي المعزولة عن العالم.

وهكذا تأسس حزب الحل الكردستاني PGDK في العراق عام 2002، وسعى لأن يظهر كجزء من الحراك السياسي العراقي. فتح مكاتب له في إقليم كردستان وفي العاصمة بغداد، لكنه لم يستطع الاستمرار بسبب قوة الحزبين الرئيسيين - حزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطالباني-.

كذلك في إيران تأسس ما يعرف بحزب الحياة الحرة الكردستاني PJAK عام 2004 كذراع آخر للكردستاني. وهذا الحزب كان له دور فعال في القضاء على الثورة الخضراء في إيران كما تؤكد ذلك مصادر المعارضة الإيرانية (4).

أما في سوريا كلف أوجلان شقيقه عثمان اوجلان ومجموعة من قيادات الحزب مثل كمال شاهين وباهوز أردال، المعروف أيضاً بالدكتور -كان طالباً بكلية الطب بدمشق في وقت ما وهو من كرد سوريا واسمه الحقيقي حسين فهمان- بتشكيل حزب الاتحاد الديمقراطي PYD عام 2003، ويعتبر البعض حالياً حسين فهمان صلة الوصل ما بين جبال قنديل حيث يتمركز قادة العمال الكردستاني وما بين الداخل السوري حيث ينشط الاتحاد الديمقراطي PYD.

في البداية أخذ ينشط الحزب في سوريا تحت مسميات متنوعة. مؤسسات مدنية وفعاليات حزبية محدودة نتيجة تضييق قوى الأمن السوري. لكن مع نهاية عام 2011، أخذ شكله العسكري الواضح من خلال قوات الحماية الشعبية YPG التي ظهرت بعيد تسلل المئات من مقاتلي العمال الكردستاني بين المدنيين في المناطق الكردية أو ذات الكثافة الديموغرافية الكردية، وقسم منها توجه لجبال منطقة عفرين بحكم وعورة الجغرافيا وصعوبة ملاحقتها. شكل هؤلاء نواة ما عرف بقوات الحماية الشعبية، بالتوازي مع هذه القوة تم تشكيل وحدات حماية المرأة YPJ ولها هيكليتها وقيادتها الخاصة. تعرف هذه الوحدات" بكونها قوة عسكرية وطنية، تتمحور حول المجتمع الديمقراطي الإيكولوجي وحرية المرأة، وأنها خط الدفاع المشروع ضد كل الهجمات التي يتعرض لها المجتمع من أجل بناء سوريا ديمقراطية وكردستان حرة، وتناضل بالوقت نفسه ضد النظام التسلطي الذكوري والجنسوي الدينوي والقوموي والعلموي ونظام البطرياركي الدولتي المرسخ لذاته منذ خمسة آلاف عام ومغتصب القيم الاجتماعية؛ فهي القوة المشروعة للمرأة والتي تحمل على عاتقها ضمانة نضال تحرر المرأة "(5)

كيف يصنع حزب العمال الكردستاني أمته في سوريا؟ (3-1)... دراما القطيع
مقاتلات من وحدات حماية المرأة الكردية (ypg)

يظهر من هذا التعريف الخلط بين المفاهيم وهو أسلوب متقصد من قبل الكردستاني لترك المجال للمناورة واللعب مستقبلاً. أما باقي القوى العسكرية تتوزع ما بين الأسايش asays والمهام الخاصة HPK والشرطة العسكرية والمداهمة (6) وغيرها من التصنيفات.

على الصعيد السياسي والمدني وبعيد عام 2011، استطاع الحزب في فترة قصيرة تشكيل عدد هائل من المنظمات والهيئات المدنية والنقابات الملحقة بإدارته الذاتية، ووسمها بالاستقلالية والحياد. علماً أن كل مرجعيات هذه المؤسسات هي عسكرية بالدرجة الأولى وتتبع لقنديل بشكل مباشر، وربما منظمة ستار للمرأة التي سنتطرق لها في الحلقات اللاحقة خير دليل على ذلك. حتى حزب PYD كفرع سوري للعمال الكردستاني عدة أحزاب تتبع له من أجل توسيع جبهته، كما الحزب الشيوعي الكردستاني KKP. ومن مفارقات هذا الحزب أنه يدعي التأسيس منذ ثمانينات القرن الماضي، ومن يقرأ أدبياته يكتشف سريعاً أنه ليس أكثر من فصيل تابع للعمال الكردستاني. نجد مثلاً أن أمينه العام نجم الدين ملا عمر يطالب في اجتماعه المنعقد في القامشلي منتصف يناير 2015 بضرورة العمل على إطلاق سراح أوجلان، ثم يركز على دعم ومساندة كرد تركيا للوقوف بوجه سلطة أردوغان ولم ينسَ أن يتهجم على رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني مطالباً بوضع موارد الإقليم في خدمة الشعب. كذلك يدعي حزب السلام الكردي هو الآخر أنه موجود منذ 2004، وأيضاً حزب التغيير الكردستاني. كل هذه الأحزاب تعمل تحت عباءة ما تعرف بحركة المجتمع الديمقراطي.

وتعتبر المنظمات المدنية ساحة اللعب الخلفية للكردستاني، للتوسع والتمدد والسيطرة على مفاصل الحياة، لذا نلاحظ مدى اهتمامه بها وتركيزه عليها. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد حركة المرأة الشابة الثورية، عقدت مؤتمرها في حزيران 2014، وكذلك اتحاد الشبيبة الديمقراطي في روج افا YCRالذي عقد مؤتمره التأسيسي في مدينة رميلان آذار 2015 وبحضور قيادات من الكردستاني مثل كينجان ولات باريز (7). وكانت مخرجات المؤتمر كما جرت العادة، الدعوة الى حرية أوجلان في المقدمة، مع التنويه أن هذا الاتحاد يختلف عن حركة الشبيبة الثورية وهي نفسها التي هاجمت عدة مرات مقرات منظمات مدنية غير موالية للعمال الكردستاني في مدينة القامشلي. كذلك حركة الثقافة والفن للمرأة في روج آفا TEV-CAND-JIN التي طالبت في مؤتمرها المنعقد صيف 2015 بمدينة الدرباسية بضرورة تشكيل كتيبة عسكرية. كتيبة عسكرية لمؤسسة ثقافية! كما رفعت شعار "حرية القائد أوجلان من حرية المرأة" ونادت بمحاربة ثقافة الراب والأرابيسك والهيب هوب واختتمت المؤتمر بإعادة طباعة كتاب أوجلان "كيف نعيش". وتتواجد أيضاً العديد من مؤسسات عوائل وأمهات الشهداء، واتحاد الإعلام الحر. كذلك رابطة منظمة المرأة الكردستانية الحرة RJAK. وتنسيقية المرأة الكردستانية KJK وهي هيئة عليا تتبع لها عدة منظمات أيضاً. عدا عن عشرات المؤسسات التي تتبع للإدارة الذاتية مثل هيئة الشباب. التعليم. النقابات المختلفة. منظمات حقوق الإنسان. منظمات الأطفال. منظمات النساء المعنفات، مثل منظمة سارا لمناهضة العنف ضد النساء. اتحاد مثقفي روج افا واتحادات الكتاب والصحفيين.

كذلك يمتلك الحزب في أوربا عدة مؤسسات مثل مركز الدراسات الكردي NLK في ألمانيا بقيادة نواف خليل (8).

دراما القطيع وصناعة الذات الكردية "المحاربة":

نتيجة حساسية الوجع الكردي. شعب بلا دولة، استفاد الكردستاني من هذه الخصوصية وسخرها لصالحه وأنتج مفهومه الخاص. دراما القطيع ربما هي حالة لاحقة لنظرية سلوك القطيع في عالم الحيوان (9)، والمصطلح. للأمانة، ليس نتاجاً شخصياً بقدر ما هو تركيب ناتج عن تقاطعات لأبحاث ودراسات إعلامية، وسياسية، واجتماعية، حديثة وقديمة، تمحورت حول سبر أغوار الجمهور وكيفية التحكم به أو إقناعه. بدءاً من غوستاف لوبون صاحب سيكولوجية الجماهير، ومروراً بكارل يونغ الذي أبدع نظرية اللاوعي الجماعي وتايلور وكلود ليفي وهملتون والقائمة تطول. كل هؤلاء شكلوا القاعدة التي لا غنى عنها عند دراسة أية ظاهرة تتعلق بالجمهور وسلوكه. ولذلك حاولت قدر الإمكان تقييم الكردستاني وقياس جمهوره من خلال معايير ونظريات هؤلاء مع ترك هامش لأولوية التجربة من خلال النماذج التي جئت على ذكرها، ولا أنكر هنا شغفي بالمنهج المونوغرافي حول دراسة البيئات المختلفة عبر نماذج مصغرة وشخصيات.

تركز هذه الدراما على الأوساط الشعبية والريفية. ذات السويات التعليمية المتدنية نتيجة سياسات الإفقار والتجويع والغبن (10). تنطلق من أشياء بسيطة. جوهرها يكمن بداية الأمر في تقزيم الذات أمام تضحيات العمال الكردستاني التي تضخم وتعاد على مدار الساعة عبر وسائله الإعلامية، حتى تترسخ وتثبت في الوجدان. بعد ذلك ينقل الشخص لمرحلة رؤية ذاته عبر مرآة الكردستاني، المقعرة. يرى نفسه صغيراً وتافهاً أمام تلك الصورة العملاقة للكردستاني، لدرجة يشعر فيها الشخص المستهدف بعجزه عن الفعل والحركة. ثم تأتي الحركة الثالثة. على الأغلب تكون قاضية. يسند للمستهدف، الضحية، دوراً يشعره بمدى فعاليته وأهميته. قد تكون بداية الأمر أعمالاً بسيطة مثل توزيع منشورات أو مراقبة شخص ما. وهذا ما يفسر كثرة المنظمات التي تتبع للعمال الكردستاني، بما يوفر مساحة شاسعة من الفرص لتولي المهام التي تشعر المرء بأهميته.
هناك أكثر من ثلاثين مؤسسة تتبع للحزب في سوريا وحدها. منظمات المرأة، وعوائل الشهداء، والأطفال، والفتية، والطلاب، والجامعات، والفلاحين، والعمال، والحرفيين، والأطباء، والمهندسين. عدا عن النقابات، وخلايا الحزب، والإعلام، والعسكرة، وكومينات القرى والبلديات. كما أسلفنا، هذه الأذرع خلقت للجميع فرصاً لتحقيق الذات.

ولتوخي الدقة، تحقيق الذات هنا يميل فيما بعد، لاحقاً، نحو تضخيم الذات أكثر من كونه تحقيقاً، ولا ينتج عنه وعياً. بالعموم النظم والأحزاب الشمولية بالنهاية ليست أكثر من منشآت اجتماعية تقوم بنسخ البشر ضمن قوالبها. تحدد لهم خطوط السير وأطر التفكير ومساحات الوعي المحددة سلفاً بحيث لا تتعارض مع السلطات أو تصطدم بها في مراحل معينة. وكما يقول عالم الاجتماع دوركايم: "تبدو الظاهرة وكأنها تفرض فرضاً على العقول كظاهرة قسرية coercive" (11). ربما هذا هو التعبير الأمثل عن الكردستاني. كظاهرة سياسية. تنتج منشآت اجتماعية. تصنع أو تعيد صناعة الشعب. ولذلك المطلوب هو جمهور بمقاسات معينة. له نفس اللون والأفكار ويقدس القائد. التناقض والاختلاف مرفوض. والنقاش من المحرمات وعقوبته سلسلة من التهم الجاهزة التي غالباً ما تنتهي بعقوبات قاسية ومعروفة مثل التصفية؛ ليس عليك سوى تنفيذ الأوامر، أما تحمل التبعات والنتائج ذاك موضوع آخر، لا علاقة لك به. هناك قطيع قادر على حمايتك. معروف في حشود القطيع تنتفي المسؤولية الفردية تماماً. وهذا ما يفسر قسوة الكردستاني على كل من يختلف معه. دون وازع أخلاقي أو حقوقي، حتى عندما يتم مواجهته بالانتهاكات التي يقوم بها. بالأدلة والبراهين، يرمي بالتهمة على مؤسساته. يميع القضية لدرجة أننا بالنهاية نقف مكتوفي الأيدي. لمن تتوجه وأي باب ستطرق ومن يتحمل وزر القضية أو الجريمة. مؤسسة أمهات الشهداء. الأسايش. مؤسسة الشباب. قوات الدفاع المجتمعي. قوات مكافحة الإرهاب. متاهة غايتها تسطيح الجرائم والتنصل منها.

المثال التالي يحيط بفكرة المنشآت البشرية الخاصة بالعمال الكردستاني. هذه المنشآت في طبيعتها أقرب ما تكون إلى الاعتقال. تمرين على الخنوع والرضوخ. الترويض. وقد يظن البعض أنه طوعي وبملء إرادة الفرد.. لكن بمجرد تخطي عتبة الدخول إلى منظومة الكردستاني يصبح الفكاك عنه كارثي.

في أواخر التحق الشاب (ن.ع) من أكراد سوريا اليساريين، بمعسكرات العمال الكردستاني في البقاع اللبناني. اختفى الشاب قرابة العام، ثم عاد الى حلب. بدا كمن عاد للتو من عمل شاق. وهنا اسرد ملخص ما جاء على لسان هذا الشاب" كنا نستيقظ في الصباح الباكر. نقوم ببعض التمارين الرياضية، ثم نتناول فطوراً بسيطاً، ومن ثم نتوجه سيراً على الأقدام إلى الحقول المحيطة بنا. نقوم بجني المحاصيل الزراعية على اختلافها، حتى ينتصف النهار. ثم نعود إلى المعسكر الذي كان عبارة عن هنكار كبير. مستودع نقيم فيه وبنفس الوقت نعمل داخله. نقوم بفرز المحصول. نفصل القطع الصغيرة عن الكبيرة أو المعطوبة. أياً كانت، بطاطا، بندورة، حتى حبات الزيتون. ثم نقوم بترتيبها داخل الصناديق المخصصة لها. كانت تنقل فيما بعد بشاحنات إلى جهات لا نعرفها. بعد الانتهاء من العمل قبيل المساء تأتي فترة الغداء والاستراحة. حوالي الساعتين. بعدها نتلقى دروساً في التوجيه السياسي، حول فكر العمال الكردستاني ونضالاته وسياساته وكل ما يتعلق به. في العاشرة كنا نخلد إلى النوم. استمرت هذه الحالة عدة أشهر. طيلة هذه الفترة ممنوع عليك التحدث مع زملاء المهجع أو تبادل الأحاديث الجانبية أو الدخول في علاقات تعارف. كان التحدث بالإيماء إن جاز التعبير. حتى أثناء المحاضرات ممنوع التحدث والنقاش. عليك أن تسمع وتسمع فقط."(12)

طبعاً هذه الصورة. النموذج. تتطابق إلى حد كبير مع ما روته لي مؤخراً إحدى مقاتلات الكردستاني المنشقات عن جسد التنظيم ( السيدة ز ). والتي استقرت في أوربا مؤخراً. تحدثت عن سيناريو يشبه السيناريو السابق حول بدايات التحاقها بالكردستاني في جبال قنديل. قبل عقدين من الآن.

وبالعموم انطلق العمال الكردستاني من مظلومية الشعب الكردي. عبر حبكة درامية مؤثرة تجذب الوسط الكردي، تتركب من مكونات تبدو بسيطة وغير مكلفة، مثل الأغاني الثورية التي تمجد الشهادة وبطولات مقاتليه، وتضفي قداسة غامضة على قادته. هذه الأغاني ترافقت مع موسيقا ذات مسحة حزينة مستقاة من الإرث الشعبي الكردي. الفلكلور. معظمه يدور حول ملاحم وبطولات. بعضه من نسج الخيال وبعضه الآخر من وقائع تاريخية. لكنه يمتاز بنبرة المظلومية والحزن والشقاء. تلك هي مترادفات الحياة اليومية الكردية عبر التاريخ بكل خيباته. من النادر أن نجد في المخزون الثقافي الكردي الذي ينقل من جيل لآخر شفاهاً ، قصصاً أو ملاحم تخلو من دراما ذات طابع تراجيدي. حتى قصص الحب الملحمية تنتهي بشكل قاسٍ.

وبدراسة الإرث الموسيقي والغنائي الذي كان ومازال ينتجه العمال الكردستاني، نلاحظ أن خطه البياني يتماوج ما بين مستويين. المستوى الأول، ترافق مع بدايات تشكل الكردستاني في أواخر سبعينات القرن الماضي. هنا نجد النبرة الثورية الحماسية واضحة، والمستوى الصوتي مرتفع. أقرب إلى الصراخ. وكأننا في ساحة معركة. مع موسيقا حادة وذات تون حاد، والجملة الغنائية أقرب للغة الخطاب. مثل أغنية ستالين. حيث يعتبره الكردستاني رمزاً للبطولة والقوة على خلاف النظرة العامة التي تعده ديكتاتوراً ومستبداً.

أما المستوى الغنائي الآخر الذي أنتجه الكردستاني. ذو نبرة هادئة تلامس شغاف القلب. تتوجه إلى الأحاسيس والمشاعر. هذا النوع انتشر بعيد تأسيس العمال الكردستاني بسنوات، وترافق مع معارك الكر والفر التي خاضها الحزب. بمجمله يمجد أيضاً الشهداء ويتحدث عن بطولاتهم. بعضها من نسج الخيال وبعضها الآخر ربما وقائع. لكنها كلها تصب في بوتقة واحدة. العاطفة. حيث يتحول المستمع بعد وقت إلى مدمن لهذه الأغاني. لا يستطيع الاستغناء عنها. ويغلب على هذا النمط سوداوية مفرطة لدرجة جلد الذات أو احتقارها، وهنا لابد من حل ما للخروج من الحالة. الحل واضح كما تقول الأغاني: "الالتحاق بصفوف الكردستاني".

ومن يتابع أرشيف نشاطات الكردستاني، في سوريا أو تركيا. سيجد أن كل مظاهراته وتدريبات مقاتليه وهندستهم تترافق في خلفية المشهد مع تلك الأغاني. حتى أنه قبل حوالي عقد أو أكثر خصصت قناة خاصة تبث على مدار اليوم تلك الأغاني الخاصة بمنظومته. قناة mmc مزوبوتاميا(13). وتمتلك القناة أرشيفاً ضخماً من هذا الإرث الذي تراكم خلال العقود الماضية.

كيف يصنع حزب العمال الكردستاني أمته في سوريا؟ (3-1)... دراما القطيعمقاتلات كرديات يرقصن في حفل أعده الحزب،
وفي خلفية المسرح صور لمقاتلات كرديات قتلن خلال المعارك


بقي أن نعرف، أن الحزب يمتلك خبرات وتقنيات عالية لإنتاج هذا النوع من الغناء السياسي" فن دراما القطيع" الجذاب. وكثيراً ما أوفد مقاتليه لتلقي مهارات تقنية وفنية في أوربا وغيرها من البلدان، والكثير من هؤلاء تركوا السلاح، بأوامر من القيادة، للتفرغ للغناء والموسيقى. هنا نجد أن الحزب يقارب في هذا النهج، أو الخط، الجماعات السلفية والجهادية التي كانت ومازالت تتسلل إلى قلوب الشباب عبر الخطب الحماسية والأناشيد الدينية.

بشكل عام لعبت الدراما جانباً مهماً في خلق بطولات وهمية. أو لنقل ضخمت حجم وقوة مقاتلين ومقاتلات العمال الكردستاني. وفي مفاصل مهمة حولت الخسارات إلى انتصارات وبطولات مازال يدور حولها الحديث، بعدما أضفيت عليها أبعاداً درامية. كما في قصة المقاتلة بيريفان ساسون ذات التسعة عشرة عاماً والمنحدرة من مدينة باتمان في تركيا. التي قيل إنه تم محاصرتها من قبل مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في كوباني(عين العرب) وقتلت بظروف غامضة. أرسلت رسالة من كلمة واحدة. وداعاً. فما كان من الكردستاني سوى أن سوق القصة على أنها ظلت تقاوم حتى آخر لحظة ومن ثم قامت بالانتحار حتى لا تقع أسيرة بين أيدي "جلاوزة" داعش. في تلك الأثناء سادت موجة غضب بين أوساط النشطاء على مواقع التواصل حول تخلي العمال الكردستاني عن مقاتليه في الظروف الحرجة، وتحدث البعض عن خيانة رفاقها لها وتخليهم عنها. فما كان منه سوى أن خلق مزيجاً درامياً حول كيفية مقاومتها وانتحارها. الأمر ذاته تكرر في قصة آرين ميركان. هي الأخرى وقعت في حصار داعش وساد اللغط أيضاً حول ظروف مقتلها. قامت الهيئة الإعلامية في قوات حماية المرأة بإنتاج فيلم قصير عن حياتها.
كيف يصنع حزب العمال الكردستاني أمته في سوريا؟ (3-1)... دراما القطيع

تضمن الفيلم رسالة لآرين وهي تخاطب عائلتها وتتحدث عن الثورة والشهادة والحرية ثم تبدي اعتزازها بوجودها مع مقاتلي الكردستاني، وتتمنى من شقيقها أن يحذو حذوها. الرسالة مكتوبة بحرفية عالية وبجرعة درامية من العواطف الجياشة. نص مكتوب لفيلم سينمائي وليست رسالة كما ادعى المكتب الإعلامي. سنأتي على قصة أرين في الحلقات اللاحقة بالتفصيل(14).

بشكل عام يمكن اعتبار دراما القطيع وصناعة الذات الكردية المحاربة خاصتين مترابطتين من خواص العمال الكردستاني لا يمكن له الاستغناء عنهما. الأولى تمهد الطريق للوصول إلى الحالة الثانية التي تتكفل بالترويض وتنفيذ الأوامر دون اعتراض أو تذمر.

المراجع:
(1) - مفهوم تاجر الشنطة ربما اشتق عن فئة العاطلين عن العمل ممن استسهل مهنة التجارة وبحث عن الربح السريع. الغير مكلف. هذه الفئة في واقع الحال لا تخضع لأنظمة قوانين السوق وضوابطها، أي يمكن اعتبارها خارج نطاق سيطرة الدول التي تعمل على مكافحتها والحد من أضرارها، وليس لأخلاقيات المهنة أي اعتبار ضمن ثقافة تاجر الشنطة. تأخذ هذه الفئة الشاردة بمفهوم. الغاية تبرر الوسيلة، للحصول على الربح المنشود. لذا فهي لا تتوانى عن عمليات الغش والخداع والمراوغة وحتى تبديل أصناف تجارتها المحمولة ضمن شنطة. حقيبة.
(2) - موقع حزب العمال الكردستاني.
(3) - موقع يكيتي ميديا. هوشنك اوسي.
(4) - معهد العربية للدراسات. هوشنك اوسي. العمال الكردستاني وايران
(5) - الموقع الرسمي لقوات حماية المرأة.
(6) - الموقع الرسمي لقوات الحماية الشعبية.
(7) - الموقع الرسمي PYD
(8) - المركز الكردي للدراسات NLK.
(9) - راجع نظرية سلوك القطيع لدى الحيوانات. هاملتون.
(10) - راجع محمد طلب هلال. ضابط أمن. دراسة اجتماعية اقتصادية حول الجزيرة. طبع عام 1968.
(11) - للمزيد راجع سيكولوجيا الجماهير. لوسيان لوبون. مقدمة هاشم صالح ص30، دار الساقي.
(12) - مقابلة شخصية مع الشاب جرت في أواخر الثمانينات.
(13) - mmc قناة تابعة للعمال الكردستاني تبث فقط الأغاني الحماسية على مدار الساعة، وتلقى رواجاً بين الفئات الشعبية.
(14) الفيلم متوفر على موقع وحدات حماية المرأة.
عبدو خليل

كاتب وباحث في الشأن السوري والكردي

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.