الفن والفن المضاد: عن الصراع بين الفنان والسلطة في دول ما بعد الاستعمار

27 آب/أغسطس 2017
 
ماهية الفن وغايته

إن من أكثر القضايا جدلاً بين أهل الفن والأدب والنُقّاد هي تلك التي تدور حول أسئلة مثل: مم يتكون الأدب؟ ماهي الغاية أو الهدف من الفن؟ هل الغرض منه هو اللهو والتسلية فحسب؟ أم أنه يحمل قيمة فكرية أو سياسية؟ ولا يزال هذا الجدل قائماً منذ منتصف القرن التاسع عشر على أقل تقدير.
لكن السؤال الجوهري هنا هو: هل يمكن أن يخلو عملٌ فني ما بغض النظر عن نوعه (سواءً كان رواية أو لوحة أو أغنية) من أي قيمة أو معنى فكري أو اجتماعي أو سياسي؟ والجواب المطروح هنا هو أنه ما أن يجد العمل الفني (أو الأدبي) طريقه إلى الجمهور، فإنه ليس للفنان أن يتحكم في كيفية ترجمة أو تذوق الجمهور لعمله الفني. لا شك أن للفنان القدرة والخيار في وضع غرض أو غاية مبدئية وراء إنتاجه الفني، لكن ليس من شأنه إجبار الجمهور على الالتزام بهذا الغرض أو تلك الغاية التي حددها لهم مسبقاً. وبالنظر إلى الأمر من زاوية بارتيّة (تيمّناً بالفيلسوف والناقد الفرنسي رولاند بارت Roland Barthes)، فإنه يمكن إدراك ذلك من خلال مصطلح "موت المؤلف" (la mort de l'auteur)(1)، وصف العمل الفني باعتبار أنه ما أن ينشره المؤلف في الهواء الطلق حتى يصبح فكرة حرة لها كيانها المستقل عنه. ويمكن إيضاح الفكرة أكثر من خلال المثال التالي.

يعد الأديب والناقد إدغار ألان بو من أكثر أعلام الأدب الإنجليزي إثارة للجدل؛ وهو من أوائل من نادوا بفكرة “الفن لأجل الفن” (Art for art’s sake). ففي مقالة له بعنوان "المبدأ الشعري" (The Poetic Principle) والتي نشرت بعد عام 1850م أي بعد موته بعام واحد، يقول بو:

لقد تكون انطباع مسبق لدينا بأننا إذا كتبنا قصيدة لا لشيء سوى لأجل القصيدة ذاتها […] واعترفنا بأن هذا هو هدفنا بالفعل معناه أننا أقررنا بافتقارنا إلى الكرامة والقوية الشعريتين الحقيقيتين: - بيد أن الحقيقة هي أننا لو نظرنا إلى داخل أعماقنا لوجدنا أنه ليس هناك، ولا يمكن أن يكون هناك أي عمل مبجلٍّ ونبيلٍ تماماً أكثر من هذه القصيدة، هذه القصيدة كما هي، هذه القصيدة التي هي قصيدة لا أكثر، هذه القصيدة التي كُتبت حصراً لأجل القصيدة فحسب.(2)

من هنا يتجلى اهتمام ‘بو’ بالقصيدة باعتبارها عملاً فنيًّا خالصاً ولا شيء أكثر من ذلك.وبعبارة أخرى، فهو مهتم بجماليات القصيدة البحتة فحسب، أي تلك العناصر التي تجعلنا نستمتع لتذوًق اللحن وموسيقى الكلمات والصور بمعزل عن أي قيمة تقع خارج حدود الجماليات الخالصة. ويؤدي هذا التركيز على الجماليات الخالصة إلى السؤال: هل يمكن اتباع النهج الجمالي البحت دائماً وتحت جميع الظروف؟ قد يكون الأمر سهلاً على معظم الناس، لكن ماذا لو أصرّ القارئ على محاولة استخراج معنى أو عبرة أو حتى قيمة فكرية أو فلسفية من النص الذي بين يديه بمعزل عن الهدف الحقيقي البسيط الذي وضعه المؤلف؟

القصة القصيرة ‘برميل أمونتيلادو’ على سبيل المثال، يمكن اعتبارها قصة رعب وإثارة لأجل المتعة المجردة، كما ويمكن أيضاً تناولها باعتبارها نصاً خصباً لدراسة معاني إنسانية عميقة كالفرح والرعب والانتقام والشر والفضيلة والموت. ولعل من أبرز معالم القصة التي تسترعي الانتباه والتأمل هو أنها غنية بالصور والرموز. فمثلاً، نجد في القصة تضاداً بين قناع مونتريسور الحريري وزيه القوطي من جهة، وزي المهرج المرح اللعوب الذي يرتديه فورتوناتو من جهة أخرى. أيضاً، ثمة تضاد آخر يتمثل في كون أحداث القصة تجري بين ‘عالمين’ إن صح التعبير، بين عالم الكرنفال والبهجة من جهة، وبين العالم السفلي المظلم والموحش بين عظام الموتى من جهة أخرى.(3)

لقد كُتبت العديد من الدراسات من قبل الدارسين والنقاد في محاولة البحث عن دوافع مونتريسور التي حملته على ارتكاب جريمته. ولعل من تلك الدراسات ما كتبته إليلينا برابان في دراسات عام 2004 بعنوان "دافع الجريمة" (The Motive for Murder)(3)، لكن ذلك خارج سياق هذه الدراسة. ما يهم في سياق هذه الدراسة هو أنه حتى النص الخيالي الذي كُتب لأجل الإثارة والمتعة الخالصين وحسب يمكنه رغم ذلك أن يحمل معانٍ وجودية يمكن التعرف عليها وتأملها.بيد أن قصة "برميل أمونتيلادو" مثيرة للاهتمام من حيث أنها ليست قصة تحري (detective fiction) نظراً لأنه لا توجد فيها شخصية تلعب دور المحقق مثلاً، فضلاً عن أن الجاني معروف ابتداءً لأنه هو الذي يروي قصة جريمته بنفسه فيما يشبه الاعتراف.

وعلى هذا، فإنه في ضوء الصراع بين الفن والسلطة لا يملك الفنان الخيار فيما إذا كان عمله الفني يحمل رسالة سياسية أو أيديولوجية أم لا. يقول الأديب الكيني نغوغي وا ثيونغو "إن مجرد التعبير الجماعي عن معاني الفرح أو حتى الحزن بعيداً عن أعين السلطة قد يعتبر جريمة في حد ذاته في بعض الأحيان.”(4) ووفق هذه الرؤية، قد تتعرض حتى النشاطات البريئة البعيدة عن السياسة للمطاردة والمنع لمجرد أنها ببساطة لم تحصل على إذن السلطة. وهذا يعني أنه في ظل الحكومات السلطوية يختفي الخط الرقيق الفاصل بين الفن والسياسة، إذ يكتسب كل عملٍ فني أياً كان نوعه أو محتواه بعداً سياسياً. فإما أن يكون هذا العمل مرغوباً فيه من طرف السلطة، وبالتالي يحظى بالترحيب والدعم؛ أو أن يكون مخالفاً لمصالح السلطة أو معادياً لها فيتعرض للمنع والرقابة.

والواقع أن الفنان ليس حراً تماماً في جعل أعماله معزولة كلياً عن الأوضاع السياسية التي تحيط به. وتأبى السياسة إلا أن تجد طريقها بشكل أو بآخر إلى أعمال الفنان أو إلى الطريقة التي تُقرأ بها هذه الأعمال سواءً من قبل الجمهور أو من قبل السلطة. بل إن الفنان ذاته كبشر لا يمكنه أن يبقى في عزله عن واقعه السياسي. وفي هذا السياق يذكر نغوغي وا ثيونغو قصة الشاعر النيجيري كريستوفر أوكيغبو "الذي صرّح ذات مرة أنه إنما يكتب الشعر لأجل الشعر فقط، وأنه كان يتمنى لو أنه عاش حياته كاملة بدلاً من إفنائها في الكتابة"، إلا أنه انتهى به المطاف "أن مات في سبيل قضية نضال البيافرا من أجل الانفصال"(5). كما أن الفنان غالباً ما يواجه مسؤولية أخلاقية لأن يدلي برأيه في الوضع السياسي لأمته. وكما هو حال المعلّم، يملك الفنان القدرة على التأثير على عقول جمهوره بطرق عدة. يعمل المعلم على تقديم المعرفة إلى طلابه وفق أسلوب منهجي، أو يقوم بحثهم على التفكير وتطوير أفكارهم بأنفسهم. ففي كتابه الشهير، تعليم المقهورين (Pedagogy of The Oppressed)، يميّز الفيلسوف البرازيلي باولو فريري (Paulo Freire) بين نوعين من التعليم هما: "التعليم البنكي" و"تعليم حل المشكلات"(6). ففي التعليم البنكي، "يقتصر دور الطلاب على تلقي المعلومات وتدوينها وتخزينها كأنها ودائع بنكية.” وبالتالي فإن الطلاب وفق هذا النوع من التعليم ليسوا سوى مجرد متلقين للمعرفة، ولا يملكون فرصة للتفكير والإبداع بأنفسهم.

لكن في أسلوب تعليم حل المشكلات، تختفي العلاقة العمودية "معلم الطلاب، وطلاب المعلم" لتحل محلها علاقة جديدة هي "المعلم الطالب، والطلاب المعلمون"، حيث تكون هذه العلاقة الجديدة مبنية تماماً على أساس الحوار المتبادل بين المعلم وطلابه.


الفن باعتباره سردية سياسية واجتماعية


يدرس هذا المقال بعداً محدداً للفن وهو ذلك المرتبط بالحراك السياسي والاجتماعي. لكن قبل ذلك وجب وضع تعريف محدد لمصطلح الثورة. لا يتسع المجال في هذا المقال لوضع دراسة معمقة لتعريف الثورة، لذا سيُختصر الأمر على تأمل علاقة الثورة بالحرية. ففي معرض دراستها لتعريف الثورة، تقول المنظّرة السياسية الألمانية هانا أرندت (Hanna Arendt):

من المهم لفهم الثورات في السياق المعاصر أن تتصادف فكرة الحرية مع تجربة بداية جديدة. وبما أن فكرة العالم الحر ذاتها تقوم على مبدأ أن الحرية، وليس فقط العدالة والعظمة، هي أعلى مقياس للحكم على الدساتير والأجهزة السياسية، فإن إلى جانب فهمنا لمعنى الثورة، فإن استيعابنا لفكرة الحرية، وهي فكرة ثورية بالأساس، هو الذي من شأنه تحديد مدى تقبلنا أو رفضنا لهذا التصادف.(7)

وتقول أرندت إذن أن جوهر الثورة في السياق المعاصر مرتبط بشكل وثيق بأفكار الحرية والتحرّر. لكن ثمة اختلاف بسيط بين مدخل أرندت إلى دراسة فكرة الثورة وبين الثورة في سياق هذه الدراسة. ففي كتابها "عن الثورة" (On Revolution) تتناول أرندت مفهوم الثورة ضمن سياق الثورتين الأكبر في التاريخ الأوروبي: الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية. أما هذه الدراسة فتتناول الثورة التي تقوم بها الشعوب المستعمرة كشعوب القارة الأفريقية مثلاً في نضالها ضد المستعمر الأوروبي أولاً، ثم نضالها ضد الحكومات المستبدة التي أتت بعد الاستعمار والتي تحتفظ بولائها بشكل أو بآخر لمصالح المستعمر. لكن هذا الاختلاف لا يمنع بقاء فكرة أن الثورة مرتبطة بالحرية والتحرر قائمة.

كذلك ثمة نقطة أساسية جداً في سياق هذه الدراسة وجب بيانها وهي: أي بعد من أبعاد الثورة هو المقصود هنا بالضبط؟ هل هو نزول الناس إلى الشوارع رافعين الشعارات ومنادين بسقوط الحكومة؟ أم أن المقصود هو الثورة العنيفة والصراع المدني المسلح؟

والجواب هنا هو أن أيًّا من النوعين المذكورين هو الذي تتناوله هذه الدراسة. فالثورة الحقيقية، كما تراها هذه الدراسة، لا تتمثل في مجرد نزول الناس إلى الشوارع حاملين الشعارات والأسلحة وعبوات المولوتوف. إنما الفكرة الثورية وفق هذه الدراسة هي عملية تغيير شاملة بطيئة تصاعدية طويلة الأمد تطال الأسس الاجتماعية والثقافية والسياسية وكذلك الأيديولوجية للمجتمع. وهي بلا شك لا تبدأ بالنزول والتظاهر في الشوارع أو العصيان المسلح، ولا تنتهي بهما بكل تأكيد. علاوة على ذلك، فإن هذه العملية (الثورية) قد تتعرض للتسارع أو التباطؤ تبعاً لتطور ظروف الصراع الثوري من حولها. ولتوضيح الأمر أكثر، استُخدمت عبارة "الصراع الثوري" هنا لأن الثورة هي بالفعل علاقة صراع بين أولئك الذين يسعون للتغيير وأولئك الذين يحاربونه. وتتفعل عملية التغيير الشاملة هذه بشكل أساسي من خلال التعليم، سواء كان التعليم من خلال المدارس المؤسسة أو من خلال العناصر والنشاطات الثقافية والاجتماعية المختلفة. وأهم هذه العناصر ضمن سياق هذه الدراسة هو الفن.

فالفن إذن يعتبر سلاحاً قوياً في الصراع الثوري، وهو قوي لدرجة أن الكثير من الفنانين قد واجهوا السجن والمنفى والموت نتيجة تأثيرهم على الجماهير. ويتضح من هنا إذن أنه ثمة قاسم مشترك بين شخصيات مثل نغوغي وا ثيونغو، وفيكتور هارا، وغسان كنفاني، فقد واجه كل واحد منهم بطش السلطة الحاكمة بطريقة أو بأخرى. ولفهم مدى تأثير الفن كسردية سياسية، سنطرح المثال التالي.

في كتابه "فوهة القلم" (Barrel of a Pen)ـ يطرح نغوغي وا ثيونغو مثالاً عن صراع بين سرديتين حول شخصية وطنية كينية تدعى مي كاتيليلي (Me Katilili). السردية الأولى ترسمها مواطنة كينية طالبت بتسمية جسر كان قيد البناء آنذاك على اسم مي كاتيليلي. وفق هذه الصورة، "تحتل مي كاتيليلي مكانة هامة في تاريخ المحافظة الساحلية الكينية.”(8)

الأديب الكيني نغوغي وا ثيونغو

وتتابع المواطنة وتدعى زارينا باتيل بوصفها مي كاتيليلي بأنها كانت "سيدة من الغيرياما قاتلت القوات البريطانية بشجاعة وبلا هوادة خلال الجزء الأول من القرن العشرين"(8). وفي المقابل، في الصورة التي رسمها المستعمر البريطاني عن مي كاتيليلي كانت صورة مشعوذة عملت مع مشعوذ آخر على تأليب السكان الأصليين ضد الحكومة البريطانية، ولذا كان لزاماً القيام باعتقالها وترحيلها.

يوضح هذا المثال البسيط إذن صراعاً بين سرديتين حول شخصية مي كاتيليلي، فبينما يؤمن الشعب المحتل أن ما قامت به كان عملاً ثورياً يبعث على الفخر، هو بالنسبة للقوة المستعمِرة جريمة تستوجب العقاب. في ضوء ذلك، تكون هنا سرديتان متصارعتان: الأولى هي سردية السلطة (أو الكيان الغاصب أو السلطوي أو المستعمر) التي تحاول أن تفرضها على العقل الجمعي للشعب وطريقة تفكيره ونظرته إلى الواقع؛ والثانية هي سردية الشعب الطامح إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.

وفي حالة نغوغي وا ثيونغو، فإن صراع السرديات يحدث كما يلي. من جهة، هناك سردية ما بعد الاستعمار. في هذه السردية، ثمة صورة عن شعب بالرغم من كونه حصل ظاهرياً على استقلاله السياسي، إلا أنه ما زال يعتمد ثقافياً على مستعمِره. وهو بحاجة إليه لأنه، وفق هذه السردية، هو الكيان الأكثر تنويراً ولغته هي الأكثر تقدماً وتحضراً وانتشاراً.

لكن في المقابل، هناك السردية التي يقدمها وا ثيونغو وهي تتعلق بالاستقلال الفكري والثقافي إلى جانب الاستقلال السياسي. في هذه السردية، هناك صورة الشعب الذي يسعى للتمسك بهويته الثقافية واللغوية الحقيقية الأصيلة كخطوة أساسية على طريق تحقيق استقلاله الحقيقي الكامل. فمن خلال أعماله الأدبية يهدف وا ثيونغو إلى إعادة إحياء الروح الكينية الحقيقية وتذكير الإنسان الكيني بإرثه التاريخي والثقافي، وبالتالي بهويته الإفريقية الفريدة.

ويتحدث وا ثيونغو عن هذه النقطة بكل وضوح في مقال بعنوان "الأدب والتعليم وصور الذات”(Literature, Education and Images of The Self). يقول وا ثيونغو إن "التعليم هو بحق مرآة تعكس الكيان الاجتماعي للشعب، كما أنها أيضاً وسيلة لإعادة إنتاج هذا الكيان للجيل القادم”(5). وينوه أيضاً إلى أن التعليم هو "الحصن الأول الذي عمد الجيش الروحي للاستعمار إلى هدمه ممهداً بذلك الطريق إلى ضرب حصار دائم تقوم عليه جميع قوى الاستعمار البريطاني"(المصدر نفسه).

وبذات المنطق، فإن التعليم والتحرر الثقافي من الاستعمار هما جزءان أساسيان من مشروع التحرر الجيو-سياسي. ويمكن رؤية هذه الصورة بكل وضوح في كامل مشروع نغوغي وا ثيونغو الفكري. ولعل روايته التي بعنوان "النهر بين القريتين" (The River Between) تعكس هذه الرسالة بشكل واضح. ففي هذه الرواية، يسعى بطل القصة ويدعى ‘واياكي’ (Waiyaki) إلى تأسيس نظام تعليمي جديد يقوم على التوفيق بين منافع يسميه ‘علم الرجل الأبيض’ من جهة، والالتزام والمحافظة على القيم الدينية والثقافية الأصيلة للقبيلة.


مفهوم الفن المضاد


يتناول هذا الفصل ما يجري على الطرف الآخر من الصراع، والمتمثل بالسلطة. يقول نغوغي وا ثيونغو: “بينما تقوم السلطة على أداء القوة، فإن قوة الفنان تكمن في الأداء فحسب"(4). في هذه العبارة يشير وا ثيونغو إلى ثنائية ما يسميه "أداء القوة" (the performance of power)، وهو الذي تقوم به السلطة من خلال ممارسة سلطاتها وردع كل ما ترى فيه تهديداً لمصالحها، في مقابل "قوة الأداء" (the power of perfomance) وهي ما يقوم به الفنان من خلال أداء أعماله الفنية أو الأدبية أمام الجمهور وما تحمله تلك الأعمال من رسائل وأفكار. وفي هذا الصدد، من الممكن أيضاً قلب عبارة وا ثيونغو آنفة الذكر والقول بأنه: بينما تكمن قوة الفنان وسطوته في فنه فحسب، تسعى السلطة بدورها إلى مكافحة ذلك من خلال يسميه وا ثيونغو ‘أداء القوة’.

ويأخذ أداء القوة هذا واحدة من صورتين. فقد يكون الأداء سلطوياً يأخذ شكل الرقابة والمصادرة، أو عنيفاً من خلال السجن والتعذيب والنفي والموت. ويمكن تصنيف هاتين الصورتين إلى صنفين: صنف مادي، وصنف غير مادي. فأما الصنف المادي فيضم الإجراءات التي تتخذها السلطة بحق الفنان من الإيذاء الجسدي كالسجن أو النفي أو التعذيب أو القتل. ويشمل الصنف غير المادي التحكم، من خلال إجراءات الرقابة (censorship) والرعاية (sponsorship)، بالمواد الفكرية والثقافية التي تصل إلى العامة من خلال المصادر المختلفة كالإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية، وميادين الإنتاج الثقافي (fields of cultural production) الأخرى (بمصطلح بيير بورديو Pierre Bourdieu).

ومما ذُكر، هناك شكل من أشكال أداء القوة ينبغي الوقوف عنده، وهو ما يمكن تسميته بمصطلح "الرعاية" (sponsorship). فمن خلال الرعاية، تعمل السلطة على تبني ودعم وتفضيل مُنتج فني أو ثقافي معيًن أو شكل من أشكال المنتجات الفنية أو الثقافية تراه متماشياً مع خدمة مصالحها أو تغض الطرف عنه إن وجدته غير ضارٍ بتلك المصالح على الأقل. وعلى عكس الرقابة، والتي تعني الإسكات والحذف والمصادرة لأي صوت معارض للسلطة، تعد الرعاية طريقة لتغذية وتنمية الأصوات التي تمتدح السلطة وتسير في فلكها، أو تساهم وتدعم سرديتها بطريقة أو بأخرى.

يوجد هنا إذن سلوك يسعى لبناء سردية مضادة (counter-narrative) لسردية الفنان. بينما ينادي الفنان إلى قيم العدالة والمساواة والحرية، تسعى السلطة إلى فرض قيم التحكم والاستبداد والانصياع التام. وفي ذات السياق، تسعى معظم الأعمال الفنية والمنتجات الثقافية التي يتم إنتاجها هنا إلى غرس مشاعر الوطنية الزائفة والولاء الأجوف للسلطة ويمكن توظيفها كشكل من أشكال الفن المضاد. ولتوضيح الأمر الأكثر وتفادي سوء الفهم، فإن ما يوصف هنا بكونه فناً مضاداً هو كيفية توظيف العمل الفني، وليس العمل الفني ذاته. بعبارة الأخرى، تركز هذه الدراسة على سلوك السلطة تجاه عمل فنّي ما لا على العمل الفنّي ذاته.


حيّز الأداء


في ضوء ما ذكر، يمكن الآن الانتقال إلى الحديث عن مفهو حيّز الأداء (performance space). يصف نغوغي وا ثيونغو هذا المفهوم بأن "حيّز أداء الفنان يعبّر عن الانفتاح، بينما يعبّر حيّز أداء السلطة عن الحبس."(4) ولذا فإن الصراع بين الفنان والسلطة هو صراع بين قوى الانفتاح من جهة وقوى الحبس والانغلاق من جهة أخرى، وتدور أحداث هذا الصراع ضمن مساحة أو فضاء يطلق عليه وا ثيونغو بلغة المسرح ‘حيّز الأداء’.

إذن فإن حيّز الأداء يمكن وصفه مجازاً بأنه المضمار أو الحلبة التي يدور الصراع فيها. وفي هذا المضمار، لدى كلٍّ من الفنان والسلطة حيّزه الخاص، وما يحدث إذن هو التصادم بين هذين الحيّزين، حيّز الفنان وحيّز السلطة، وهو ما يمكن وصفه بالتالي بأنه صراعُ بين الفن والفن المضاد. فمصطلح الفن المضاد إذن هو وصف لما يحدث في حيّز السلطة. فبينما يعمل الفنان على بناء سردية للتحرّر الثقافي والفكري، تعمل السلطة بدورها على إحباط جهوده وإفشالها. وطرق إحباط هذه الجهود تأخذ واحداً من ثلاث طرق: إما عن طريق الرقابة والرعاية، والذي تمثل حادثة مصادرة الحكومة الكينية لرواية ماتيغاري (Matigari) لنغوغي وا ثيونغو مثالاً جيداً عليه.

في البداية، كما يذكر وا ثيونغو، أصدرت الحكومة مذكرة اعتقال عام 1986 بحق الشخصية الأسياسية في الرواية ويدعى ماتيغاري، والسبب في ذلك أنه "وصل إلى مسمع الرئيس الكيني خبر مفاده أن الشعب يتحدث عن رجل يدعى ‘ماتيغاري’ يطرح أسئلة عن الحقيقة والعدالة.”(5) المثير في الأمر، يوضح وا ثيونغو، أنه حتى رجال الشرطة أنفسهم شعروا بالدهشة عندما اكتشفوا أن ماتيغاري هذا ما هو إلا شخصية خيالية في رواية. وكنتيجة لذلك، صدرت الأوامر باعتقال الرواية نفسها، وتمت بالفعل مصادرة كافة نسخ الرواية من على أرفف المكتبات.

أما الطريق الثاني فيتمثل في تبني أو تفضيل أو غض الطرف عن أعمال فنية تخدم مصالح السلطة بشكل أو بآخر. يقول هاورد بيكر (Howard Becker): "تهتم السلطة دائماً بميول العامة نحو الحشد من أجل الحراك الجماعي.”(9) وبالتالي، من وجهة نظر بيكر، فإن بعض الأعمال الفنية كالأغاني الثورية مثلاً أو غيرها قد تولّد أحساسيساً ومشاعر لدى العامة تحثهم على القيام بحراك ثوري ضد السلطة. لكن هناك أنواع أخرى من الفن كبعض الأغاني الوطنية التي من شأنها أن "تعزّز المعتقدات والمنظومات الطبقية السائدة".(9)

كمثال على ذلك، يروي نغوغي وا ثيونغو تفاصيل ما واجهه هو وفريقه من مصاعب في إيجاد مكان للمسرحيتين محاكمة ديدان كيماثي (The Trial of Dedan Kimathi) والتي أنتجها وا ثبونغو بالتعاون مع ميكيري موغو (Micere Mugo) ومسرحية خيانة في المدينة (Betrayal in The City) من إخراج فرانسيس إمبوغا (Francis Imbuga) في المهرجان الإفريقي للثقافة والفنون (FESTAC ‘77) والذي أقيم عام 1977 في مدينة لاغوس النيجيرية. فبينما كان يحاول وا ثيونغو وفريقه الحصول على قبول لهاتين المسرحيتين، كانت إدارة المهرجان تمنح الأفضلية لمسرحيتين أخريين تحملان طابعاً غربياً هما: جون باليه دو فرانس (Jeune Ballet de France) ومسرحية شيء مضحك حصل في الطريق إلى المنتدى (A Funny Thing Happened on The Way to the Forum)(4).

أكثر ما يهم في هذه الحادثة هو ما يمكن وصفه بأنه صراع بين حيّزين. فبالرغم من أن المسرحيتين ذات الطابع الكيني الإفريقي قد حصلتا على الموافقة في نهاية المطاف، إلا أنهما منحتها مدة عرض لا تزيد عن ثمانية أيام فقط، أي أربعة أيام لكل منهما. في المقابل، حصلت المسرحيتان الغربيتان على ما مجموعه 31 يوماً من العرض. لكن رغم كل تلك المضايقات فقد حققت المسرحيتان الكينيتان نجاحاً وإقبالاً باهرين(4).
وأخيراً، يأخذ الطريق الثالث طابعاً حسياً وجسدياً عنيفاً. يتحدث الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن هذا الموضوع بالتفصيل في كتابه المراقبة والمعاقبة (Discipline & Punish). خلال هذا الكتاب، يستحضر فوكو صورة المسرح لوصف طرق وأساليب العقاب المختلفة.

إن السجن والحبس والاعتقال هما من أكثر صور الفن المضاد شيوعاً. فمن خلال الحبس، تؤدي السلطة واحداً من أشد طرق العقاب تدميراً للروح والجسد معاً. و يوفر أدب السجون لمحة عن هذا اللون من ألوان العقاب. فرواية أدب السجون، سواء كان قصة خيالية أم مقتبسة عن الحقيقة، تعتمد بشكل كبير على ما يمكن تسميته بـ'جماليات الحبس’ (aesthetics of confinement). ويقصد بكلمة جماليات هنا الأدوات الأدبية والتصويرية المختلفة التي يستخدمها الكاتب في وصف طبيعة الحياة والصراع النفسي والجسدي داخل حيّز السجن الضيّق الخانق.

وتالياً تفصيل لهذا الأمر من خلال دراسة ثلاث أعمال أدبية مختلفة من أدب السجون. أول تلك الأعمال هي رواية معتقل: مذكرات سجن كاتب (Detained: A Writer's Prison Diary) للكاتب نغوغي وا ثيونغو والتي يروي فيها تفاصيل سجنه الذي دام لعام واحد في سجن كاميتي الكيني شديد الحراسة. أما الرواية الثانية، فهي رواية تلك العتمة الباهرة للكاتب المغربي طاهر بن جلّون. والرواية الثالثة هي رواية يسمعون حسيسها للكاتب الأردني أيمن العتوم.

في رواية معتقل، يسرد وا ثيونغو مشهداً مثيراً للاهتمام وهو أنه في الأسابيع الأولى له في السجن كان يتم الإبقاء عليه معزولاً عن بقية المساجين فيما يشبه العزل الداخلي على حد وصفه، فلم يكن يسمح له بالتواصل مع أحد. حتى عندما كان يجلس لتناول الطعام وحده كان يتم إبقاؤه في معزل الباقين. حتى أنه كان مجبراً على الجلوس وحيداً خلال الفسحة الخارجية. وكل ذلك كان يتم بإشراف الحراس الذين كانت مهمتهم الإبقاء على هذه العزلة والحيلولة دون كسرها(10).

تسعى السلطة إذن إلى التحكم بالتواصل الاجتماعي بين السجناء. علاوة على ذلك، ثمة صورة مجازية هنا تتمثل في أن الفنان محروم من استخدام أكثر سلاح يتقن استخدامه، وهو سلاح التواصل مع جمهوره. فالتواصل هو أشد أسلحة الفنان فتكاً، ولذا تعاقبه السلطة بتجريده من هذا السلاح. فإن كانت تهمة الفنان هي انتقاد السلطة، كانت عقوبته بعزله عن جمهوره.

لكن رغم كل تلك الجهود، لم تسلم تلك العزلة المفروضة من الاختراق تماماً. ذلك أن بعض السجناء حاولوا اختراقها من خلال مناداته بصوت عالٍ من خلف الحراس الذي شكلوا حاجزاً بشريا بينه وبينهم. وفي أحيان أخرى قد يقف رجلان على مسافة آمنة منه لئلا يتهمان بأنهما يقفان معه، ويتحدثان بصوت عالٍ حتى يستطيع سماعهما. إن هذين المشهدين يمثلان تجسيداً مصغراً للصراع بين الفن والفن المضاد. فبنما تسعى السلطة بكل ما أوتيت من قوة إلى إسكات كل صوت معارض لها، يسعى الفنان والجمهور من الجهة الأخرى إلى إحباط جهود السلطة.

بيد أن جماليات الحبس تأخذاً بعداً أكثر عمقاً بكثير في رواية "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلّون. تدور أحداث الرواية حول قصة سالم، طالب مستاء شاءت الأقدار بأن يكون أحد الجنود الستة في المحاولة الفاشلة للإطاحة بالعاهل المغربي الحسن الثاني. وكنتيجة لذلك، تم إرسالهم إلى سجن القنيطرة ثم نقلهم بعد ذلك إلى السجن تازمامارت الصحراوي سيء السمعة المثير للجدل(11).

فالزنازين في تازمامارت هي أقرب ما تكون إلى قبور للأحياء. ولكون السجين محروماً تماماً من أي بصيص ضوء، حتى ضوء الشمس، فإنه يبقى عليه أن يقاتل في معركة يائسة ضد وحوش العمى والجنون والمرض والقذارة والكثير غيرها من العوامل المدمرة للجسد والعقل معاً. في رواية معتقل، يروي نغوغي وا ثيونغو كيف أنه كان يقدم إليه طبق من حساء الشعير والأوغالي (طبق إفريقي شهير) والفول، وإن كانت تملؤها الديدان(10). أما في تلك العتمة الباهرة، لا يحصل سجناء تازمامارت إلا على النشاء وفتات الخبز الجاف. أما خروجهم من الزنزانة فلا يكون إلا لكي يدفنو سجيناً متوفى، ويحدث ذلك في الظلام الدامس بحيث لا يستطيعون رؤية شيء في الخارج، أو أثناء النهار لكن مع وضع عصابة محكمة على أعينهم. ولذلك، فإن الصراع في تازمامارت يدور بشكل كامل داخل روح السجين وكيانه.

لم يبقَ للسجين في تازمامارت إذن إلا ثلاثة أسلحة: إيمانه بالله، وروحه ووجدانه الداخلي، ورفاقه السجناء الآخرون. فيحاول السجين إذن أن يبحث في أعماق روحه عن شيء يتمسك به كي يستطيع الصمود، أو يحاول أن يحلّق بخياله وفتات ذكرياته بعيداً عن جدران زنزانته الموحشة. كما أن السجناء يحاولون التواصل فيما بينهم، وإن من خلال جُدر لأنهم ممنوعون حتى من رؤية بعضهم البعض. وبالتالي فقد استطاعوا تقسيم الأدوار بينهم، فكان أحدهم مكلف بإعلان الوقت والتاريخ بدقة من فترة إلى أخرى، أو حين يطلب منه ذلك. وكان آخر يحكي القصص والحكايات، إما حكايات سمعها من قبل، أو تأليفها من خياله المحض.

الصورة الثالثة والأخيرة التي ستتناولها هذه الدراسة هي رواية "يسمعون حسيسها" للروائي الأردني أيمن العتوم. وكما هو معلوم، فعنوان الرواية مقتبس من قوله تعالى في سورة الأنبياء ﴿ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)﴾. و تصف الآية الكريمة حالة أهل الجنة في الآخرة ونجاتهم من النار وحسيسها وعذابها.

أما عنوان الرواية فينبئ بأن السجون السورية هي الجحيم بعينه، وأن القابعين بداخلها يسمعون حسيسها بالفعل. وتحكي الرواية قصة حقيقية لسجين سابق في سجن تدمر المرعب. وخلال القصة يصف هذا السجين السابق، ويدعى في الرواية باسم "إياد أسعد" رحلته في السجون السورية بالتفصيل بدءً من ظروف اعتقاله عام 1980، مروراً بنقله إلى سجن تدمر وصنوف التعذيب والهمجية التي واجهها وتعرض لها والإعدامات الأسبوعية بالجملة وانتهاءً بإطلاق سراحه عام 1997(12).


لكن لعل أكثر المشاهد التي يجدر تأملها في ظل هذه الدراسة مشهد يجمع بين القتل والتلاعب السيكولوجي الهمجي. ما حدث هو أن إدارة سجن تدمر تقرر فجأة تركيب مكبرات صوت في السجن لتذيع عبرها بعض الأغاني من الراديو. وكانت أكثر أغنية يركزون على إذاعتها هي أغنية "عالحطاونة" الشهيرة للمطربة اللبنانية فيروز، ومطلعها كما هو معلوم:
عالطاحونة شفتك عالطاحونة جرّحوني عيونك جرّحوني

فالأغنية بحد ذاتها بريئة تماماً بكلماتها البسيطة وألحانها المبهجة. لكن طريقة توظيف إدارة السجن لهذه الأغنية كانت شيطانية بالفعل. فوفق ما جاء في الرواية أنه في أثناء الأغنية كانت إدارة السجن تنادي على أسماء بعض المساجين لاستدعائهم من مهاجعهم تمهيداً لشنقهم. فما إن يسمع المساجين تلك الأغنية حتى يتحسس كلٌّ رقبته متوقعاً أن ينادى عليه في أية لحظة. ومن تنتهي الأغنية دون أن يسمع اسمه فكأنما حيزت له الدنيا!

مما لا شك فيه إذن أن قدرة السلطة على تحويل أبسط الكلمات والألحان وأكثرها براءة إلى ألحان رعب وموت أمر يستحق التأمل. إن فكرة قلب معاني كلمات الأغنية أو القصيدة رأساً على عقب بهذه الطريقة تعكس الكثير عن البعد المسرحي لما يسميه نغوغي وا ثيونغ "أداء القوة" الذي تبرع السلطة في القيام به.

يرى ميشيل فوكو أنه "في احتفالات التعذيب، يبدو الشعب كشخصية رئيسية، وحضوره الحقيقي والماثل مطلوب لاستكمالها. فالتعذيب، حتى لو كان معروفاً، إذا جرى بصورة سرية قلما يكون له معنى”(13). بيد أنه في المجتمع السوري، فإن مجرد ذكر اسم سجن تدمر أو أيٍّ من السجون أو فروع المخابرات الأخرى خلال الحديث اليومي كفيل بحد ذاته بإثارة الرعب والرهبة في النفوس، لذا كثيراً ما يتجنب العامة الخوض والحديث في هذه الأمور أو ذكرها. وبالتالي فإن مجرد فكرة أن فئة قليلة جداً من العامة يعرفون على وجه التحديد ما الذي يدور في سجن تدمر أو غيره، إلى جانب سمعة السجن المروعة والمثيرة للرهبة، تكون كفيلة بحذ ذاتها، كما يقول فوكو، "ليس فقط بإيقاظ الوعي في أن أقل مخالفة سوف تلقى العقاب القوي؛ بل بإثارة مفعول الرعب بمشهد السلطة وهي تصب سعار غضبها على الجاني"(13)

يتضح إذن من كل ما سبق أنه حتى السجن يمكنه أن يكون حيّزاً تستعرض فيه السلطة أداءها المسرحي للقوة. لكن يبقى أنه يجب الحذر عند استخدام كلمة "مسرحي" في الحديث عن حيّز السجن، ذلك أن السجن يفتقر فيما يبدو إلى عنصر أساسي من عناصر المسرح وهو الجمهور. لكن الواقع أنه ما إن تخرج قصص السجون وأخباره إلى العلن في صورة أعمال أدبية أو شهادات لسجناء سابقين نجوا من الهلاك، فإن هذه القصص ستصل حتماً إلى مسامع الناس وعقولهم؛ وبهذا يكون غياب الجمهور قد تم تعويضه وإن بصورة غير مباشرة.

المصادر


1. Barthes R. The Death of The Author. Aspen. 1967;
2. Poe EA. The Poetic Principle. 1850;
3. Baraban EV. The Motive for Murder in “The Cask of Amontillado” by Edgar Allan Poe. Rocky Mt Rev Lang Lit. 2004;58(2):47.
4. wa Thiong’o N. Enactments of Power: The Politics of Performance Space. TDR. 1997 Oct 1;41(3):11–30.
5. wa Thiong’o N. Writers in politics: a re-engagement with issues of literature & society. Currey J, editor. EAEP/Heinemann; 1997. 167 p.
6. Freire P. Pedagogy of the oppressed. 30th anniversary ed. New York: Continuum; 2000. 183 p.
7. Arendt H. On revolution. New York: Penguin Books; 2006. 336 p.
8. wa Thiong’o N. Barrel of a pen: resistance to repression in neo-colonial Kenya. Africa World Press, of the Africa Research & Publications Project; 1983. 128 p.
9. Becker HS. Art worlds. 25th anniversary ed., updated and expanded, [Nachdr.]. Berkeley, Calif.: Univ. of California Press; 2011. 408 p.
10. wa Thiong’o N. Detained: a writer’s prison diary. Nairobi: Heinemann; 1981. 228 p. (African writers series).
11. Ben Jelloun T. This blinding absence of light. London: Penguin Books; 2005. 195 p.
12. Al-Otoom A. يسمعون حسيسها, Yasma’oun Hasisaha (They Hear Its Hissing). Third Edition. Beirut: Arab Institute for Research and Publishing; 2013.
13. . ميشيل فوكو. المراقبة والمعاقبة. تحرير: صفدي م. مركز دار الإنماء القومي، بيروت
عمر عبد الحافظ

حاصل على شهادة الماجستير في الدراسات الدولية من جامعة فيينا. مهتم بالدراسات الإفريقية ودراسات ما بعد الاستعمار.

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.