عن مدينة دمشق: أولاد يلعبون بالسكاكين وبيوت لا تحرس سكانها

01 نيسان/أبريل 2017
 
يعد هذا النص الحلقة الأولى من ضمن ثلاث حلقات تنشر تباعاً في ملف أعده معهد العالم للدراسات تحت عنوان "النساء وكتابة يوميات الحرب في سوريا".
وتتطرق فيه ثلاث كاتبات سوريات إلى تجربتهن ومشاهداتهن اليومية لواقع السوريين ومدنهم بعد الحرب (دمشق، الرقة) كما تتطرق لتجاربهن اليومية في مدن إقليمية باتت تعبق برائحة السوريين وأحلامهم في ظل اللجوء (مدينة إسطنبول).

النساء وكتابة يوميات الحرب في سوريا (1-3)
 
عن مدينة دمشق: أولاد يلعبون بالسكاكين وبيوت لا تحرس سكانها
 
شاب تداهمه الكوابيس منذ وطأت قدماه أرض ألمانيا: ثمة من سرق له السرفيس؛ قذيفة ضربت السرفيس؛ مخالفة كبيرة على السرفيس؛ تنزيل محرك للسرفيس. ما يفعله، الآن، يخبئ 3 يورو يومياً في علبة معدنية مكتوب عليها: "حق السرفيس".
هو مصرٌّ على العودة، لكن ليس عند انتهاء الحرب، بل عند اكتمال ثمن السرفيس.
ماهر خايف من العاثفة. مخبي جاكيتو السميك جنبو وجراباتو وبوطو. محضر حالو ع الـ 24. قلتلو لا تخاف هي مو قوية أبداً. قلي مو خايف، لأنو العاثفة ما بتموت، بس خايف ع أمي، من جمعة وهي بتقول اليوم الغدا ثوربة، بث مثان نثتري بيدونين مازوت.
قلتلو قديش بتحبني يا ماهر؟ قللي قد النار تبع الصوبيا!
سيدة لاجئة في ألمانيا تدّخر كل يوم يورو من راتب كل فرد من أفراد عائلتها، أي ستة يورو يومياً، من أجل توفير سعر منزل في دمشق، ولو في الضواحي الهفيانة، والعودة.
العودة بشرط توفر سقف ملك لها، وغير قابل للتواري، أو الموت مرة أخرى.
 
"أنا جني"!
سألت ذات يوم تلميذاً عن مبرر هربه من المدرسة بالقفز من فوق سورها، محذرة إياه من خطر السقوط، أو القبض عليه من قبل الموجِّه.
ضحك مفتخراً بنفسه: "أنا جني!. لكنني لا أحب المدرسة، وسأواصل الهروب حتى لو قيدوني إلى المقعد".
أستفيق مبكرة كعادتي، فأسمع خطواتهم المتسارعة تملأ صبح المكان وسكونه. أبواب تُغلق بصخب، وظهور تعاني من ثقل الحقائب المدرسية. ففي بداية هذا العام الدراسي، وزعت اليونيسيف حقائب مختلفة عن حقائب العام الفائت، باللونين الأزرق الداكن والأحمر، مطبوع عليها خمسة رؤوس لأطفال، يفترض أنهم طلبة مدارس، قماشها أكثر تحملاً وقابلية للغسيل. واحد من كل عشرة يحمل على ظهره الغض تلك الحقيبة، ما يدفع للتساؤل عن آلية التوزيع ومبرراتها والمستفيدين منها. وقلة من الطلاب يجرون حقائب لها دواليب سعرها عشرة أمثال الأولى، وعلى الأب الذي لديه طالبان، أو أكثر، شراء حقائب جرارة لجميع أبنائه الطلبة.
النعاس يداعب العيون المثقلة بالتعب. بعضهم يحمل كتابه، أو دفتره، ويراجع معلومات لم يتمكن من حفظها جيداً، أو أجَّل دراستها بالأمس إلى الصباح، في انتظار باص المدرسة، أو على الطريق وهو سائر، أو في الباحة قبل الدخول إلى الصف. بعضهم يلتهم سندويشته، أو تفاحته، بعد أن ولَّى زمن الموزة الصباحية ووصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى 1200 ليرة سورية. تبدو الآن التفاحة بديلاً منطقياً، لانخفاض أسعار التفاح هذا العام نتيجة غزارة إنتاجه، غزارة كسرت ظهور الفلاحين لارتفاع أسعار النقل والتخزين بالبرادات الخاصة، ما أدى إلى هبوط سعره بشكل لافت، ابتداء من خمسين ليرة للكيلو، حسب الحجم والجودة، ومكان السوق، والقدرة الشرائية لسكان الحي.
 
عنان الحياة
على مفترقات الشوارع، طلاب يسيرون في اتجاهين متعاكسين، بعضهم ذاهب إلى المدرسة، وبعضهم هارب منها، يتلطون خلف جدران الأبنية الفارغة، أو المهدمة، ويتجمعون أمام مدارس الابتدائي المختلطة لتلطيش البنات، أو لافتعال شجارات حامية تلفت الأنظار إلى رجولتهم، وفق قوانين الشارع، وبعيداً عن رقابة الأهل. بعضهم يجمع طلاباً صغاراً مذعورين ويبدأ بضرب الكفوف على وجناتهم، يستولد قوة خلبيّة فاجرة ناتجة من ضعف الصغار، وغياب من يحميهم من المتنمرين.
ابتداءً من السابعة صباحاً، تبدأ كتل الطلاب والتلاميذ بالزحف في فراغ الشوارع والأرصفة، مجتازين عتبات البيوت، وأبواب الأبنية الشاهقة وأدراجها، بينما تنقل السيارات أعداداً غفيرة منهم.
بعضهم يقاوم رغبة عارمة في إشهار سيجارته الرخيصة بين شفاهه اليانعة، لينفخ دخانها كـ"معلّم" عتيق في التدخين. لا تنفع معه كل نصائح وتوجيهات المارة، ويسخر من توبيخ وتهديد الجيران، أو الطلاب الأقارب، لا بل قد يصفهم بالجبن حين يترددون عن اقتراف أفعال الكبار العظماء من أمثاله.
آخر يشهر موس الكباس ويرقصه بين أصابعه منبهاً بصوت المعدن أركان الخوف والوجل عند أقرانه. يلاعبه بين أصابعه كوردة في انتظار صبية تتلقفها بفرح، أو كقلم أعد للكتابة والنجاح.
ينتشرون في الحدائق، أو ما يسمى تجاوزاً بالحدائق العامة، بعد أن استحالت إلى يباس، ومأوى للنازحين المشردين المهددين بالطرد من قبل ناطور الحديقة، أو من عسكري أبرم موعداً صباحياً مع حبيبته. وقد يطردهم رجل مسن، أو امرأة أفقدتها الحرب عقلها وتوازنها النفسي وخوفها من سرقة سقط المتاع الذي تحمله بمشقة على أطراف المدينة، سقط متاعها الذي تحول إلى ثروتها الوحيدة المتبقية من بيت رحل ولن يعود.
يتشارك الطلاب التلطيشات البذيئة والرمزية، ويتضاحكون. أبسط الأشياء توقعهم في فوضى ضحك ماجن ومدوٍّ، وكأنهم يعوضون ضحكات مفقودة في البيت والمدرسة، أو الأحلام.
 
الشارع الرحيم!
سألت أحد أطفال الشوارع المشردين دون أهل وبيت ومدرسة، لماذا لا تذهب إلى المدرسة؟ فقال: أخاف! من ماذا؟ سألته. فأجاب من أن يضحك علي رفاقي حين لا أعرف القراءة، وحين لا أكتب الوظيفة. أضاف أنه يخاف من مسطرة المعلمة، وكفوف المدير، والتهديد بإحضار ولي الأمر!
سألته: وهل الشارع أرحم؟ قال: تعودنا! وأهل الحي وأصحاب الدكاكين يحموننا من المتنمرين.
شابان في السادسة عشرة من العمر يديران ظهريهما للمارة ويتفرجان على مقطع إباحي على جوال أحدهم. يحاول رفيقان آخران التدخل، أو المشاركة في الفرجة، فيعترضان ويتهمان أحد المتدخلين بأنه فسّاد ونمام، ويبتعدان بصمت والجوال مخبأ في عمق الجيب.
ستة أطفال ما بين التاسعة والخامسة عشرة يتوجهون نحو بناء قيد الإنشاء، يسألهم الناطور عن وجهتهم، فيقولون له بأنهم عمال ينتظرون معلمهم! لكن حقائب المدرسة القابعة على ظهور خمسة منهم تكشف كذبتهم. يصرخ فيهم للتوجه نحو مدارسهم مهدداً إياهم بالشرطة! أصغرهم في التاسعة، لكنه يصر على جلب غرض من أخيه الأكبر الذي سمح له الناطور بدخول البناء، ويكون هذا الغرض علبة سجائر اشتراها الأصغر وقرروا تدخينها مجتمعين في تلك البناية قيد الإكساء.
 
تسرب المستقبل
بسهولة واضحة، يمكن رصد تسرب الطلاب من المدارس، أعداد كبيرة تهيم في الأرض بلا هدف ولا رغبة، يخافون مقاعد الدراسة وتعليمات المدرسين، والالتزام حتى بالحفظ، أو التسميع. بعضهم يشعر بأن الصف والطلاب عالم صغير وضيق عليه، فبعد حرمانه من التعليم لسنوات متكررة، بسبب التهجير، أو فقدان الأهل، أو ضياع الأوراق الثبوتية اللازمة، أقنع نفسه بعدم جدوى التزامه بصف لا يتناسب مع عمره، ومع شركاء يفوقهم عمراً وخبرة وعناداً وقسوة وتقبلاً للخسائر، حتى لو كان ذلك خسارة التعليم.
يتعلقون بالشاحنات الصغيرة، كي يملأوا أوقاتهم المهدورة. وعندما أسأل أحدهم إن كان أهلك يعرفون بفرارك من المدرسة، يضحك من كلمة فرار، ويصحح لي: غياب! غياب فقط، ليوم، أو يومين. يتكرر الغياب، وتتكرر أيام القحط التعليمي. بعضهم يقول إن أهله غير مهتمين أصلاً، وأنه يتظاهر بالذهاب إلى المدرسة كي لا يجبرونه على العمل الشاق مقابل ليرات قليلة يأخذونها منه كل مساء. وبعض آخر يدّعي أنه لا يفهم شيئاً، وأن المدرسين والطلاب يسخرون من جهله. بعض ثالث يقول إن طلاباً كباراً يهددونهم بالضرب، أو قد يرغمونهم على السرقة، وخاصة الجوالات. إجابات برسم التدقيق، لكن أحدهم أكَّد بأن طالباً قاسياً ومتنمراً كان يجبره تحت الترهيب على سرقة جوالات رفاقه فقرر ترك المدرسة دون إعلام أهله، أو التفكير بتقديم شكوى لأحد المدرسين، أو إخبار أحد زملائه.
مسببات التسرب العامة تتداخل مع الخاصة، لتربط الحرب بينها بعرىً وثيقة تبيح كل محظور، وتبرر كل فقد، أو خسارة. هي الحرب تميط اللثام عن كل فجور ممكن التحقق، تثبته بقوتها القاهرة، ترغمنا على تقبله، وتذروه في وجوهنا خسارات مكثفة لا تعويض لها إلا بحفظ حق الإنسان في الحياة أولاً، تتلوه كل الحقوق الأخرى، كحق التعليم، تكثيفاً وتأكيداً للحق الأزلي؛ حق الوجود.
 
ميديا المدرسة
رحبت البرامج التلفزيونية الرسمية بالعودة إلى المدرسة، وامتدحت الإعداد المميز والوفير لكل الاحتياجات التعليمية، محذرة الأهل من تسرب أولادهم، كفعل يُعاقب عليه الأهل. لكن ما من سائل، أو متابع.
أما عن تسرب الطالبات فهو تسرب مسكوت عنه في الغالب. لقد عاد تزويج الطفلات إلى الواجهة، دون حسيب، أو رقيب. وأصبحت طفلات رباتِ بيوت يعتنين بأخوتهن في غياب الأم عن البيت، بداعي العمل، أو تأمين المستلزمات الضرورية. طفلات "يحميهن الأهل"، كرهاً، من الفلتان الأخلاقي، بذريعة أن بعضهن يواعدن الطلاب، أو سواهم من الشبان، فيهربن من المدرسة. بعض الأهل يمتنعون عن تسجيل بناتهم في المدارس لأن كلفة التعليم، خلافاً لخرافة المجانية، تفوق قدرة الأهل، بعد مرض الأب، أو فقدانه عمله، أو تراجع القيمة الفعلية لدخله الشهري أمام حمى الغلاء المرعب الذي انتهك كل أولويات الحد الأدنى من العيش. بعض الأمهات تعلن جهاراً أن بناتها وصلن الحد الأقصى المطلوب من التعليم كفتيات، وليس أمامهن سوى بيت الزوج، وتربية الأطفال، أو خدمة الأهل، أو زوجات آباء يصل عددهن في بعض الحالات إلى أربع في بيت واحد.
لا أرقام رسمية عن أعداد المتسربين من المدارس، ولا نواظم لتصنيف التسرب وأشكاله، ولا دراسات تحلل أسبابه، وإن وجدت فهي غير قابلة للنشر، ولا تؤرق بال أحد.
في إحدى مدارس حي مكتظ بأهله وبالمهجرين، لدرجة بات مجرد السير في طرقاته شبه مستحيل، يتكوم أكثر من خمسين طالباً في صف واحد. بعض الطلبة لا يفهم لهجة معلمة انتقلت إلى دمشق بسبب الحرب. وكذلك يعاني الطلاب والمعلمون أحياناً من حالات اغتراب نفسية مردها الأساسي هو الانتقال القسري والفجائي إلى بيئة جديدة في كل شيء، من لون الصف، إلى لهجة الأقران على المقعد الواحد، إلى أفق الشارع المغري والخطير، في آن معاً.
 
الحياة ناس
ــ بدو كيسين نايلون مشان يحطن بقلب البوط يللي عم ينفد مي. قال لي: إدعيلي خالة بكرا ينزل تلج. قلتلو التلج بدو بواط خرجو.
قال لي: لا، أبي وعدني بس ينزل التلج يخليني نايم.
ــ كندرة آية مكسورة من النص. وصاروا إجريها وجراباتها مي، وتكتكت البنوتة. أمها نشفتلا إجريها بطرف المانطو وباستن، وشلحت جراباتها وطوتن دبل ولبستن لآية، وظلت تنفخ وتحط محارم مشان تنشف الكندرة.
آية حطت إجريها بوجه الكل، وقالت: صرت كبيرة! وعيونها عم تضحك.
ــ يجر ولدين متقاربين في العمر ولا يتجاوزان العاشرة. شبه نائمين والأرض جليدية. يتزحلق أحدهما، فيصرخ به أبوه: قلتلك إلبس الجزمة البلاستيك. يتردد الطفل في النهوض، ويبكي من الألم والنعاس والبرد. أصرخ بالأب: إنها السادسة صباحاً، فيقول لي خرجنا من البيت في الخامسة إلا ربع. أكرر صراخي قائلة حرام عليك، لكنه يرد: تسليم الشقة اليوم، ولا بد لهما من مساعدتي. فجأة يقول الابن لوالده: إذهب واتركني عند خالتو، فيعترض الأب بشدة. أستمهله لدقائق، وأنزل إليهم وبيدي شال للابن، وإبريق شاي، ومنشفة لتجفيف ملابس الابن. تلمع عيون الطفلين، فيخرجان سندويشتي زعتر ويقرران الإفطار ترحيباً بوجود الشاي.
منذ قليل أعاد الطفل الإبريق، والكاسات، والمنشفة، وقال لي: خالتو! أنت كل يوم بتفيقي بكير متلنا؟

اترك تعليق*

* إرسال التعليق يعني موافقة القارئ على شروط الاستخدام التالية:

- لهيئة التحرير الحق في اختصار التعليق أو عدم نشره، وهذا الشرط يسري بشكل خاص على التعليقات التي تتضمن إساءة إلى الأشخاص أو تعبيرات عنصرية أو التعليقات غير الموضوعية وتلك التي لا تتعلق بالموضوع المُعلق عليه أو تلك المكتوبة بلهجة عامية أو لغة أجنبية غير اللغة العربية.

- التعليقات المتكوبة بأسماء رمزية أو بأسماء غير حقيقية سوف لا يتم نشرها.

- يرجى عدم وضع أرقام هواتف لأن التعليقات ستكون متاحة على محرك البحث غوغل وغيره من محركات البحث.